عرض وقفات أسرار بلاغية

  • ﴿وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ﴿٣٢﴾    [لقمان   آية:٣٢]
{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)} هذه آية عظيمة من آيات الله في الإنسان، فقد فطره الله على الإيمان به وتوحيده، ولكن الإنسان قد تغطي فطرته أتربة الحياة وركامها فينكر وجود الله أو يشرك به، فإذا وقع في مهلكة أو أصابه مرض وبيل وانقطعت به أسباب الرجاء وأيقن بالهلاك وخاب أمله في كل من كان يرجو منه العون وعجز الجميع عن تنجيته والأخذ بيده، انزاح عن فطرته ما كان قد غطاءها من الأتربة والركام وظهرت الفطرة التي فطره الله عليها على حقيقتها مستغيثة بالواحد الأحد، وهي آية من آيات الله عظيمة لو كان الناس يفقهون. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 506 إلى ص 507. * * * {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ} الظلل: جمع ظلة، وهي الجبل أو السحاب أو كل ما أظلك، والمعنى: إذا جاءهم الموج كالجبال وغطاءهم وقد أيقنوا بالهلاك دعوا الله عند ذلك مخلصين له الدين، فلما نجاهم إلى البر كان منهم المقتصد. والمقتصدون أقسام: فمنهم المقتصد في الإخلاص، أي لم يكن على إخلاصه الذي كان عليه حين دعا ربه فقد قل إخلاصه، ومنهم المقتصد في الكفر، أي لم يبق على غلوائه في الكفر والبغي فقد انزجر بعض الانزجار. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 507 إلى ص 507. * * * {وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} الجحود: إنكار ما تعلم من الحق، فإن الإنسان إذا علم شيئًا وأنكره كان جاحدًا. ومنه قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} {النمل: 14}. وهؤلاء الذين أنجاهم الله من مخالب الموت واستخلصهم من بين أسنانه ثم جحدوا بآياته ليسوا إلا غادرين للعهد الذي أخذوه على أنفسهم بالإخلاص لله، كافرين بنعمه. فإنه كان عليهم أن يفوا بما عاهدوا الله عليه ولكنهم ختروا، أي غدروا ونكثوا. وكان عليهم أن يشكروا نعمة الله ولكنهم كفروا وجحدوا. والختر أشد الغدر والخيانة. جاء في (الكشاف): "يرتفع الموج ويتراكب فيعود مثل الظلل، والظلة كل ما أظلك من جبل أو سحاب أو غيرهما... {فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} متوسط في الكفر والظلم، خفض من غلوائه، وانزجر بعض الانزجار، أو مقتصد في الإخلاص الذي كان عليه في البحر، يعني أن ذلك الإخلاص الحادث عند الخوف لا يبقى لأحد قط، والمقتصد قليل نادر، وقيل: مؤمن قد ثبت على ما عاهد عليه الله في البحر. والختر: أشد الغدر" (1). وجاء في (المحرر الوجيز): "الختار: القبيح الغدر، وذلك أن نعم الله تعالى على العباد كأنها عهود ومنن يلزم عنها أداء شكرها والعبادة لمسديها، فمن كفر بذلك وجحد به فكأنه ختر وخان" (2). وقد تقول: لقد قال هنا: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ}، وقال في العنكبوت: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} فما السبب؟. والجواب: أن سياق كل آية يوضح السبب. فقد قال في لقمان: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)} {لقمان: 32}. وقال في العنكبوت: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} {العنكبوت: 65}. فأنت ترى أن الخطر في آية لقمان أعظم والهول أكبر، ذلك أن الموج غشيهم كالظلل. أما في آية العنكبوت فلم يذكر هولًا ولا خطرًا، فإنه قال: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ} وهو خوف يعتري راكب البحر. فلما كان الهول في آية لقمان أكبر وأعظم وكانوا من الموت بمنزلة من ضيغمه الأسد ونجا، أو بمنزلة من استخلص من فم التمساح، انزجروا بعض الشيء فاقتصدوا في الذنوب بعد أن كانوا مسرفين فيها، أو اقتصدوا في الطاعة بعد أن كانوا منها بعد المشرقين. وليس الأمر كذلك في العنكبوت. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن سياق الكلام في العنكبوت على المشركين. قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) .... وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} {العنكبوت: 61 – 67}. فقد قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} يعني المشركين، ثم يستمر الكلام عليهم إلى أن ذكر الآية {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ}، ثم قال بعدها: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا}. فسياق الكلام - كما ترى - إنما هو على المشركين فقال: إنهم إذا ركبوا البحر أخلصوا دينهم لله، فلما نجاهم إلى البر عادوا إلى شركهم فجأة، ولذا جاء بإذا الفجائية للدلالة على ذلك. أما السياق في لقمان فيختلف، إذ هو ليس في الكلام على المشركين. قال تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} {لقمان: 28 – 33} إلى آخر السورة. فاختلف السياقان فناسب كل تعبير مكانه الذي ورد فيه. جاء في (التفسير الكبير): "قال في العنكبوت: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ}، ثم قال: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} {العنكبوت: 65}، وقال ههنا: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ }فنقول: لما ذكر ههنا أمرًا عظيمًا وهو الموج الذي كالجبال بقي أثر ذلك في قلوبهم فخرج منهم مقتصد أي في الكفر وهو الذي انزجر بعض الانزجار، أو مقتصد في الإخلاص فبقي معه شيء منه ولم يبق على ما كان عليه من الإخلاص، وهناك لم يذكر مع ركوب البحر معاينة مثل ذلك الأمر فذكر إشراكهم حيث لم يبق عنده أثر" (3). لقد ذكر في هذه الآية والتي قبلها أصناف الناس ممن يركبون البحر، فذكر التيار الشكور، وذكر المقتصد، وذكر المختار الكفور. ثم نادى الناس جميعًا بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ....}. وهناك ملاحظة نود أن نشير إليها في هذه الآية، وهي أنه قدم الجار والمجرور (له) على (الذين) فقال: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وهذا هو الشأن في كثير من الآيات نظائرها، فإنه يقدم الجار والمجرور على الدين، إلا في آية واحدة قدم الدين وأخر الجار والمجرور وهي قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} {النساء: 146}، فإنه قال: {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} ولم يقل: (وأخلصوا الله دينهم) فما السر في هذا الاختلاف؟ من المعلوم أن التقديم والتأخير إنما يكون بحسب ما يقتضيه السياق، والسياق في سورة النساء في الكلام على المنافقين، فقدم ما يتعلق بهم وهو (دينهم) أي الدين مضافًا إلى ضميرهم، وأما الآيات الأخرى فالكلام على الله سبحانه فقدم ما يتعلق به وهو ضميره المجرور. وإيضاح ذلك أن الكلام على المنافقين في سورة النساء بدأ من قوله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} {النساء: 138}، إلى الآية (146)، فقال لذلك: {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ}، والضمير في (دينهم) يعود على المنافقين، فقدم ما تعلق بهم. أما الآيات الأخرى فالكلام فيها على الله سبحانه، ومن ذلك قوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} {الزمر: 1 – 3}. ويستمر الكلام على الله إلى أن يقول: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} {الزمر: 11 – 15}. فقدم الجار والمجرور (له) وفيه الضمير الذي يعود على الله في ثلاثة مواضع لما ذكرنا. ونحوه قوله تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {غافر: 65}، فقدم الجار والمجرور وذلك لأن الكلام على الله، وذلك ابتداء من قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} {غافر: 60} إلى الآية (۷۷) بل يستمر الكلام على الله إلى نهاية السورة وهي الآية الخامسة والثمانون، فناسب تقديم الضمير الذي يعود عليه، والله أعلم. (1) الكشاف 2/520. (2) المحرر الوجيز 11/518. (3) التفسير الكبير 9/132. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 507 إلى ص 512.
  • ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴿٣٣﴾    [لقمان   آية:٣٣]
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)} لقد أمر الله الناس أن يتقوا ربهم فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ}، وقال: (ربكم) بإفراد الرب وإضافته إليهم ليدل على أن لهم ربًا واحدًا، فليس ثمة أرباب ولا هو رب فئة دون فئة أو شعب دون شعب، وإنما هو رب الناس جميعًا. واختيار لفظ الرب ههنا له دلالته، ذلك أن الرب هو المربي والمالك والسيد والمنعم والقيم، وهذا يعني أن بيده النفع والضر، فعلى الناس أن يتقوا من بيده ذاك لئلا يمسك نفعه عنهم ويوقع بهم الضر. والناس عادة يحذرون من بيده نفعهم أو يمكن أن يضرهم، بخلاف من لا يملك شيئًا إزاءهم، فذكرهم بربوبيته لهم لأن ذلك من موجبات الاتقاء. واختيار لفظ الرب مناسب أيضًا لذكر الوالد والولد بعده، ذلك أن الرب هو المربي والمعلم والمرشد والقيم، وكذلك الوالد مع ولده فإنه القيم عليه والموجه له والمربي، فهو تناسب لطيف. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 512 إلى ص 512. * * * {وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} معنى (لا يجزي): لا يقضي، والمعنى لا ينفعه بشيء ولا يدفع عنه شيئًا (1). لقد قال ههنا: {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ}، والتقدير (لا يجزي فيه)، غير أنه لم يذكر الجار والمجرور، فلم يقل: (لا يجزي فيه). بخلاف آيات أخرى فإنه ذكر الجار والمجرور فيها، فقد قال: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} {البقرة: 281}، وقال: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} {النور: 37 – 38}. والسبب - والله أعلم - أن الحذف يفيد الإطلاق، ذلك أن النفع والدفع في قوله: {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ .....} لا يختص بذلك اليوم فقط، فإنه إذا جزى أحد عن أحد فإنه لا يقتصر أثر ذلك على ذلك اليوم، بل سيمتد إلى الأبد لأنه سيكون في الجنة، ولو قال: (فيه) لربما أفهم أن أثر ذلك مقتصر على ذلك اليوم. ولذا حيث قال: (لا تجزي) لم يقل: (فيه) وذلك نحو قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} {البقرة: 48}، وقوله {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} {البقرة: 123}. بخلاف قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} {البقرة: 281}، فإن ذلك مختص بيوم الحساب، يدل على ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ}. ويوم الرجوع إلى الله وتوفية الحساب هو يوم القيامة، فذكر (فيه) للتخصيص. ونحوه قوله تعالى: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} {النور: 37 – 38}، فإن ذلك مختص بيوم القيامة الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار وهو يوم الجزاء فذكر (فيه) لذلك، والله أعلم. وقال ههنا: {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ}، فذكر الوالد والولد، وقال في البقرة: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} فذكر عموم النفس وذلك لأكثر من مناسبة. فقد ذكر في السورة الوالدين والوصية بهما ومصاحبتهما بالمعروف، فبين بقوله: {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ ....} أن الإحسان إليهما ومصاحبتهما بالمعروف إنما هو مختص في الدنيا ولا يمتد إلى الاخرة. ثم من ناحية أخرى أنه لما ذكر الرب بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} ذكر أنه لا يجزي الوالد عن ولده، لأن الوالد مرب لابنه، فناسب ذكر الرب ذكر الوالد والولد، ولم يرد مثل ذلك في البقرة، فذكر عموم النفس. وقدم الوالد على الولد فقال: {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} لأن الأب أكثر شفقة على الولد وأحرص على الدفع عنه فقدمه لذلك. جاء في (البحر المحيط): "لما كان الوالد أكثر شفقة على الولد من الولد على أبيه بدأ به أولاً" (2). وجاء في (التحرير والتنوير): "وابتدئ بالوالد لأنه أشد شفقة على ابنه فلا يجد له مخلصًا من سوء إلا فعله" (3). وقال في الوالد: {لَا يَجْزِي وَالِدٌ} بالفعل، وقال في الولد: {وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ} بالاسم، ذلك أن الله وصى الإنسان بوالديه إحسانًا، وهو مكلف بذلك على جهة الدوام والثبوت، بخلاف الوالد فإنه غير مكلف بولده بعد البلوغ، وإنما يدفع عنه أو ينفعه بدافع الشفقة، ففرق بين الجزاءين، فجعل المكلف بالصيغة الاسمية وجعل غير المكلف بالصيغة الفعلية؛ لأن الاسم يدل على الثبوت، وهو أثبت وأدوم من الفعل. ثم إنه لما مر في السورة توصية الإنسان بوالديه ومصاحبتهما بالمعروف ولم يذكر مثل ذلك في معاملة الآباء للأبناء ذكر جزاء الوالدين بالصيغة الاسمية الدالة على الثبوت. جاء في (التفسير الكبير): "الابن من شأنه أن يكون جازيًا عن والده لما له عليه من الحقوق، والوالد يجزي لما فيه من الشفقة وليس بواجب عليه ذلك، فقال في الوالد: (لا يجزي) وقال في الولد: {وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ}" (4). وقال أحمد بن المنير في الانتصاف من الكشاف): "إن الله تعالى لما أكد الوصية على الآباء وقرن شكرهم بوجوب شكره عز وجل، وأوجب على الولد أن يكفي والده ما يسووه بحسب نهاية إمكانه، قطع ههنا وهم الوالد في أن يكون الولد في القيامة مجزيه بحقه عليه. ويكفيه ما يلقاه من أهوال القيامة كما أوجب الله عليه في الدنيا ذلك في حقه. فلما كان إجزاء الولد عن الوالد مظنون الوقوع لأن الله حضه عليه في الدنيا كان جديرًا بتأكيد النفي لإزالة هذا الوهم، ولا كذلك العكس" (5). وعبر عن الولد بالمولود في قوله: {وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا}، قيل: لأن الولد يقع على الولد وولد الولد، بخلاف المولود فإنه من ولد منك، فإن "الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه لم تقبل شفاعته، فضلاً أن يشفع لمن فوقه من أجداده" (6). وقيل: إنه عبر بمولود دون (ولد) "لإشعار (مولود) بالمعنى الاشتقاقي دون (ولد) الذي هو اسم بمنزلة الجوامد لقصد التنبيه على أن تلك الصلة الرقيقة لا تخول صاحبها التعرض لنفع أبيه المشرك في الآخرة وفاء له بما تومئ إليه المولودية من تجشم المشقة من تربيته، فلعله يتجشم الإلحاح في الجزاء عنه في الآخرة حسمًا لطمعه في الجزاء عنه" (7). وقوله: (شيئًا) يحتمل معنيين: المصدرية، أي لا يجزي الولد عن والده شيئًا من الجزاء، ويحتمل المفعولية، أي لا يجزي عنه شيئًا من الأشياء. والمعنيان مرادان، فهو لا يجزي عنه شيئًا من الجزاء ولا شيئًا من الأشياء. (1) انظر المحرر الوجيز 11/519، روح المعاني 21/103. (2) البحر المحيط 7/189. (3) التحرير والتنوير 12/193. (4) التفسير الكبير 9/133. (5) الانتصاف من الكشاف بحاشية الكشاف 2/521. (6) الكشاف 2/521. (7) التحرير والتنوير 21/194. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 513 إلى ص 516. * * * {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} يدخل فيه كل وعد وعد به، ومنه ما وعد به عباده في الآخرة. {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} فتنسوا الآخرة وتشتغلوا بالدنيا. وقد أسند الفعل إلى الحياة الدنيا، والمعنى: لا تغتروا بالحياة الدنيا إهابة بهم إلى أن يأخذوا حذرهم منها، هذا إضافة إلى ما في ذلك من المجاز، فكأن الحياة تنصب الشرك لغير الناس. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 516 إلى ص 517. * * * {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} الغرور: صيغة مبالغة، وقد وصف بها الشيطان لكثرة غره الناس. وقد اختار (الغرور) على (الشيطان) ليشمل كل ما يغر وأول ذلك الشيطان. وقد أكد الفعلين بالنون الثقيلة التوكيد النهي، ولتوكيد أن الدنيا والشيطان مما يغران الناس غرورًا مؤكدًا، بل هما أكبر مدعاتين إلى الغرور، والله أعلم. وقدم الحياة الدنيا على الشيطان لأنها هي مبتغى الإنسان وهي همه ومطلبه، وهو يكدح من أجلها. ولأن الشيطان قد يغرهم بها ويجعلها شرك الغرور. وقال: (الحياة الدنيا) ولم يقل: (الدنيا) لأن الحياة هي المطلب الأول للإنسان ومراده، والله أعلم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 517 إلى ص 517.
  • ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴿٣٤﴾    [لقمان   آية:٣٤]
{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} ذكرت هذه الآية مفاتح الغيب. فبدأت بعلم الساعة وهو أمر اختص الله به فلم يطلع عليه أحدًا كما قال تعالى: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} {الأحزاب: 63} وقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} {الأعراف: ۱۸۷}. وقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} {النازعات: 42 – 44}. لقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} فقدم الخبر (عنده) على المبتدأ (علم الساعة)، وهذا التقديم يفيد الاختصاص، أي لا يعلمها إلا هو، وقد أكد ذلك بإن. ثم قال: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} فعطف على جملة الخبر، والمعنى: وأن الله ينزل الغيث. فجعل الخبر جملة فعلية مسندة للاسم، وهذا يفيد الاختصاص أيضًا. لقد قال: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} فذكر تنزيل الغيث، ولم يقل: (ويعلم نزول الغيث) أو نحو ذلك؛ لأن تنزيل الغيث هو الذي يعني الخلق، إذ به تبدأ حياتهم وبه تتم مصالحهم. فاختار ما هو أدل على النعمة. وقال: (ينزل) بالمضارع؛ لأن ذلك يتكرر ويتجدد. ثم قال: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} وهذا العلم عام يشمل الجنس وغير ذلك من نحو كونه تامًا أو ناقصًا، وذكيًا أو بليدًا، وطويلًا أو قصيرًا، وبعلم استعداده الجسمي والنفسي وكل ما يتعلق بأحواله، فلا يختص العلم بالجنس. وهذا يعم جميع ما في الأرحام على مدى الدهر. وجاء بالفعل المضارع للدلالة على تكرار هذا العلم واستمراره. جاء في (روح المعاني): "{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} أي أذكر أم أنثى، أتام أم ناقص، وكذلك ما سوى ذلك من الأحوال... وخولف بين {عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} وبين هذا، ليدل في الأول على مزيد الاختصاص اعتناء بأمر الساعة ودلالة على شدة خفائها، وفي هذا على استمرار تجدد المتعلقات بحسب تجدد المتعلقات مع الاختصاص، ولم يراع هذا الأسلوب فيما قبله، بأن يقال: ويعلم الغيث مثلًا إشارة بإسناد التنزيل إلى الاسم الجليل صريحًا إلى عظم شأنه لما فيه من كثرة المنافع لأجناس الخلائق وشيوع الاستدلال بما يترتب عليه من إحياء الأرض على صحة البعث المشار إليه بالساعة في الكتاب العظيم" (1). وجاء في (التحرير والتنوير): "وفي كلمة (عنده) إشارة إلى اختصاصه تعالى بذلك العلم؛ لأن العندية شأنها الاستئثار، وتقديم (عنده) وهو ظرف مسند على المسند إليه يفيد التخصيص... وجملة {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} عطف على جملة الخبر، والتقدير: وإن الله ينزل الغيث، فيفيد التخصيص بتنزيل الغيث... وفي اختيار الفعل المضارع إفادة إلى أنه يجدد إنزال الغيث المرة بعد المرة عند احتياج الأرض... وإذ قد جاء هذا نسقا في عداد الحصر كان الإتيان بالمسند فعلًا خبرًا عن مسند إليه مقدم مفيدًا للاختصاص بالقرينة... وعطف عليه: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} أي ينفرد بعلم جميع أطواره... وجيء بالمضارع لإفادة تكرر العلم بتبدل تلك الأطوار والأحوال" (2). (1) روح المعاني 21/109. (2) التحرير والتنوير 21/196 – 197. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 517 إلى ص 519. * * * ثم قال: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}. فذكر الغد لينفي القياس على كسب يومه فلا يقول: سأكسب غدًا مثل كسب اليوم، فإن قسمًا من أصحاب الأجور الثابتة قد يظن أن كسبه غدًا ككسبه اليوم وهو لا يعلم ماذا يخبئ له الغد. ثم إن الكسب لا يتعلق بأمور المعاش فقط، وإنما هو عام في عموم ما يكسب، فقد يكون الكسب في أمور المعاش وما يتعلق به، وقد يكون في الأعمال من الحسنات والسيئات فذلك كله كسب. وقد سمى الله الحسنات والسيئات كسبًا، قال تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} {البقرة: 286}، وقال: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّار} {البقرة: 81}. والكسب قد يكون للقلب وقد يكون لغيره، قال تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} {البقرة: 225} فأثبت الكسب للقلب، وقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} {الشورى: 30} فأثبته لغيره. فمن يعلم ماذا يكسب غدا؟! ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 519 إلى ص 520. * * * {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} وهذا مما لا يعلمه أحد إلا الله، فإنه حتى المريض على فراشه قد ينتقل إلى الحمام فيموت، وقد ينتقل من مكان إلى آخر داخل البيت فيموت. فلا يعلم بأي أرض يموت، فكيف بالصحيح الذي لا يدري أيموت في بيته أم في مكان عمله أم في الطريق أم خارج بلده. ثم لننظر الآية من حيث التقديم والتأخير، فإنه بدأ بذكر الساعة وهي رأس المغيبات وقد جعلها بعد قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ }وهو يوم القيامة فناسب ذكرها ما سبق. ثم ذكر بعدها تنزيل الغيث، وهو أسبق المذكورات بعده وجودًا، فنزول الغيث يسبق في الوجود ما في الأرحام فإنه به يتحصل المشروب والمطعوم لما في الأرحام. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه كثيرًا ما يستدل القرآن بنزول الغيث على الساعة والنشور، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} {ق: 9 – 11}، فجعله بعد الكلام على الساعة. ثم ذكر بعد ذلك ما في الأرحام وهو ما قبل الولادة، فقوله: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} له ارتباط بذكر الساعة قبله وارتباط بما في الأرحام بعده. ثم ذكر بعده الكسب وهو فيما بعد الولادة، فإن الكاسب لا يكسب إلا بعد الولادة. ثم ذكر الموت آخرًا. فرتبها بحسب الأسبقية. ثم لننظر من ناحية أخرى في هذه الآية، فإن فيها إثباتًا لعلم الله ونفيًا لعلم من عداه، فقد قال: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} وهو إثبات لعلم الله وقدرته. ثم قال: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} وهذا نفي لعلم المخلوقات. ثم ختم الآية بقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} فأثبت له العلم والخبرة، وهذا يتناسب مع ذكر علمه بمفاتيح الغيب. واجتماع العلم والخبرة من كمال الاتصاف، فإن من تمام العلم وكماله أن تكون معه الخبرة. وقد ذكر الوصفين بصيغة المبالغة للدلالة على كثرة علمه وخبرته وسعتهما. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 520 إلى ص 522.
  • ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴿٢٤﴾    [يونس   آية:٢٤]
سلسة الأمثال القرآنية إنما مثل الحياة الدنيا كماء
روابط ذات صلة:
  • ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴿١﴾    [الفلق   آية:١]
{قل أعوذ برب الفلق}{قل أعوذ برب الناس} ما الفرق بين الاستعاذة في {برب الفلق} و{برب الناس}؟ بصورة عامة: الاستعاذة في سورة الفلق هي الحماية من الشرور الخارجية الظاهرة، فكما أن الفلق والصبح يزيل ظلمات الليل فالاستعاذة تدفع كل ما يخشاه الإنسان مما يؤذيه ويؤلمه. وبصورة عامة الاستعاذة في {برب الناس} من الشرور الداخلية وأعظمها الوسواس الخناس الذي يوسوس في الصدور وهو الشيطان عياذا بالله تعالى، فهو العدو الأكبر للإنسان، وطرده يكون بذكر الله تعالى، ومن أعداء الإنسان شياطين الإنس أيضا. والسؤال هنا: أيهما أعظم الاستعاذة في سورة الفلق أو سورة الناس! الشرور الخارجية يسهل التخلص منها والابتعاد عنها وهذه تتمثل في سورة الفلق، بخلاف الشرور الداخلية فمن الصعب الخلاص منها والانفكاك عنها وهذه تتمثل في سورة الناس. لذا كانت الاستعاذة في ‎سورة الفلق بأمر واحد وهو {برب الفلق} والاستعاذة في ‎سورة الناس بثلاثة أمور لخطورتها وهي: {برب الناس}{ملك الناس}{إله الناس} ولا ريب أن الاستعاذة في سورة الناس أعظم.
روابط ذات صلة:
  • ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ ﴿١٠٧﴾    [هود   آية:١٠٧]
س/ قال تعالى: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ الذي نعرفه أن السماوات والأرض تفنى بعد يوم القيامة وتنتهي فكيف يحدد بقاء الناس في الجنة أو النار ببقاء السماوات والأرض؟ ج/ هذه كلمة تقال عند العرب للدلالة على الخلود وإن لم يلزم ذلك.
  • ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴿٩٤﴾    [هود   آية:٩٤]
  • ﴿قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ﴿٨٨﴾    [الأعراف   آية:٨٨]
  • ﴿فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ﴿١٨٧﴾    [الشعراء   آية:١٨٧]
  • ﴿فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ﴿١٨٩﴾    [الشعراء   آية:١٨٩]
(أمة) عذبت بـ (ثلاث نقم)؛ قال الله تعالى: ﴿وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ﴾: • ذكر هاهنا أنه أتتهم صيحة. • وفي الأعراف رجفة. • وفي الشعراء عذاب يوم الظلة. وهم أمة واحدة، اجتمع عليهم يوم عذابهم هذه النقم كلها. وإنما ذكر في كل سياق ما يناسبه، ففي الأعراف لما قالوا: (لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا) [الأعراف: ﴿٨٨﴾]، ناسب أن يذكر هناك الرجفة، فرجفت بهم الأرض التي ظلموا بها، وأرادوا إخراج نبيهم منها، وهاهنا لما أساءوا الأدب في مقالتهم على نبيهم ناسب ذكر الصيحة التي أسكتتهم وأخمدتهم، وفي الشعراء لما قالوا: (فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِّنَ السَّمَاءِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [الشعراء: ﴿١٨٧﴾]، قال (فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) [الشعراء: ﴿١٨٩﴾] ، وهذا من الأسرار الغريبة الدقيقة، ولله الحمد والمنة كثيرا دائما.
  • ﴿دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴿٩٦﴾    [النساء   آية:٩٦]
  • ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴿١﴾    [النحل   آية:١]
  • ﴿قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِّنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا ﴿٢١﴾    [مريم   آية:٢١]
﴿وَكَانَ أَمْرًا مَّقْضِيًّا﴾ • ﴿وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ • ﴿أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ﴾
روابط ذات صلة:
  • ﴿وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا ﴿٩٩﴾    [الكهف   آية:٩٩]
  • ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ ﴿٦٨﴾    [الزمر   آية:٦٨]
  • ﴿وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ ﴿١٦﴾    [الحاقة   آية:١٦]
  • ﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ ﴿٩١﴾    [الشعراء   آية:٩١]
  • ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا ﴿٢٢﴾    [الفجر   آية:٢٢]
﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا﴾ • ﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ﴾ • ﴿وَانشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ﴾ • ﴿وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ﴾ • ﴿وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا﴾
روابط ذات صلة:
  • ﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ ﴿٢٢﴾    [فاطر   آية:٢٢]
﴿وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ﴾: من أقوى وسائل الإيضاح لتقريب المعنى وتوضيح الصورة: التشبيه. وهنا تبرز البلاغة البيانية في اختيار المشبه به، وكذلك أسلوب السياق البياني (وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَن يَشَاءُ وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ) شبه الله تعالى انتفاع الكفار المعاندين الصادين عـن دعـوة الرسول صلى الله عليه وسلم بالأموات المدفونين في قبورهم الذين لا يتفاعلون مع من يخاطبهم. وقبل ذلك أوضح بأجزل العبارة الفارق بين الحي والميت لتقريب المعنى، مع بيان قدرته سبحانه وتعالى في أن يُسمع من لا يسمع (إن الله يُسمع من يشاء).
روابط ذات صلة:
إظهار النتائج من 11291 إلى 11300 من إجمالي 11693 نتيجة.