عرض وقفات أسرار بلاغية

  • ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴿١٢﴾    [لقمان   آية:١٢]
{وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)} الحكمة: هي وضع الشيء في محله في القول والعمل، وقيل: هي" عبارة عن توفيق العمل بالعلم. فكل من أوتي توفيق العمل بالعلم فقد أوتي الحكمة" (1). فالحكمة لها جانبان: جانب القول وجانب العمل، ولا يكون الفرد حكيما حتى يحسن القول والعمل. وقد أسند الله إيتاء الحكمة إلى نفسه (آتينا)؛ وذلك لأن إيتاء الحكمة من الخير، ومن الشائع في القرآن الكريم أن ربنا سبحانه يسند الإيتاء إلى نفسه في الخير، بل يسند أفعال الخير إلى نفسه في العموم (2). قال تعالى: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} {الجن: 10}، فأسند الخير وهو الرشد إلى نفسه فقال: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} وبنى مريد الشر للمجهول فقال: {أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ}. والواو في أول الآية "عاطفة قصة لقمان على قصة النضر بن الحارث في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} باعتبار كونها تضمنت عجيب حاله في الضلالة من عنايته بلهو الحديث ليضل عن سبيل الله ويتخذ سبيل الله هزوا، وباعتبار كون قصة لقمان متضمنة عجيب حال لقمان في الاهتداء والحكمة، فهما حالان متضادان" (3). {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} ذهب كثير من المفسرين إلى أن (أن) في الآية تفسيرية (4) فيجعلون (آتينا) متضمنًا معنى القول دون حروفه. جاء في (التفسير الكبير): "فإن (أن) في مثل هذا تسمى المفسرة، قسر إيتاء الله الحكمة بقوله: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} وهو كذلك" (5). وذهب بعضهم إلى أن قوله: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} تفسير للحكمة لا للفعل. جاء في (التحرير والتنوير): "و(أن) قوله: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} تفسيرية وليست تفسيرًا لفعل (آتينا) لأنه نصب مفعوله وهو الحكمة. فتكون (أن) مفسرة للحكمة باعتبار أن الحكمة هنا أقوال أوحيت إليه أو إليهما فيكون في الحكمة معنى القول دون حروفه فيصلح أن تفسر بـ (أن) التفسيرية... وأيضًا فإن شكر الله من الحكمة" (6). والأقرب إلى المعنى فيما يبدو أن يقال: إن التقدير: آتينا لقمان الحكمة وأوصيناه أن اشكر لله، فيكون المعنى أنه أتاه الحكمة وأوصاه بالشكر وأمره به. أو بتقدير: وآتيناه أن اشكر الله. أي آتيناه الحكمة وآتيناه أن اشكر لله، أي أوحينا إليه ذلك وألهمناه إياه، ولا يشترط ذلك أن يكون وحي نبوة بل قد يكون وحي إلهام كقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} {القصص: 7}، وقوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} {النحل: 68}، فكما أوحى الرب إلى أم موسى الأمر بالإرضاع، وأوحي إلى النحل الأمر بالاتخاذ، آتى لقمان وأوحى إليه الأمر بالشكر، وهذا أولى من جعل (أن) تفسيرية، وذلك لأن التفسير يجعل الحكمة هي الشكر فحسب، مع أن الشكر إنما هو من الحكمة وليس هو الحكمة كلها. إن هذا التعبير يعني أيضًا أن من الحكمة التي أوتيها لقمان أن يشكر ربه. فشكر الله إنما هو من الحكمة، ويعني أيضًا أن يشكر ربه على ما آتاه من الحكمة، فإن الحكمة نعمة ينبغي أن يشكر ربه عليها، كما تقول: إن من الحكمة أن تشكر ربك، وقد آتاك الله الحكمة فاشكره على ما آتاك. فهذا التعبير يفيد عدة معان في آن واحد: اتينا لقمان الحكمة، وآتيناه أن اشكر لله، أو: وأوصيناه به، ومن الحكمة أن تشكر ربك، واشكر ربك على ما آتاك من الحكمة. وقد تقول: لم يقل: ولقد آتينا لقمان الحكمة فاشكر لله؟ فنقول: لو قال ذاك لم يفد هذه المعاني وما أفاد إلا معنى واحدًا وهو أن تكون الحكمة سببًا للشكر. ولكان فيه ضعف في الدلالة، ذلك أن المعني سيكون أن الذي أوتي الحكمة لقمان، والمأمور بالشكر غيره. فيكون المعني: لقد آتينا لقمان الحكمة فاشكر أنت أيها المخاطب الله، فيكون قد طلب منه الشكر للإنعام على غيره لا عليه. وقال: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} لهم ولم يقل: (أن اشكر لنا) فالتفت ليدل على أن مؤتي الحكمة هو الله. ومن المطرد في التعبير القرآني أنه ما عبر الله عن نفسه بضمير الجمع إلا ذكر بعده أو قبله ما يدل على الإفراد ليدل على أنه واحد لا شريك له، وذلك أمر مطرد في جميع القرآن لم يتخلف عنه موطن واحد وذلك نحو قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} {الكوثر: 1-2}، فذكر بعد ضمير الجمع في: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} الرب بصورة الإفراد فقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}، ثم قال بعد ذلك: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}، فذكر الرب بعد ضمير الجمع. (1) التفسير الكبير 9/118. (2) انظر معاني النحو 2/89 وما بعدها. (3) التحرير والتنوير 21/148. (4) انظر التفسير الكبير 9/119، البحر المحيط 7/181. (5) التفسير الكبير 9/119. (6) التحرير والتنوير 21/151 – 152. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 409 إلى ص 412. * * * {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} جاء بفعل الشرط (يشكر) مضارعًا للدلالة على أن الشكر يتكرر، وذلك لأن كل نعمة تمر بك تشكر الله عليها وهو ينبغي أن يتكرر، وجاء بفعل الشرط في قوله: {وَمَنْ كَفَرَ} ماضيًا، لأن الكفر لا يتكرر تكرر الشكر، بل قد يحصل ابتداء ويبقى صاحبه عليه إلا إذا شاء الله.. ومن الظاهر في استعمال الشرط في القرآن الكريم أنه يؤتي بفعل الشرط مضارعًا فيما يتكرر حدوثه، ويؤتى به ماضيًا فيما لا يتكرر حدوثه، وهذا الأمر جاء كثيرًا في القرآن الكريم (1). جاء في (التفسير الكبير) في هذه الآية: "قال في الشكر: {وَمَنْ يَشْكُرْ} بصيغة المستقبل، وفي الكفران: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} وإن كان الشرط يجعل الماضي والمستقبل في معنى واحد كقول القائل: من دخل داري فهو حر، ومن يدخل داري فهو حر، فنقول فيه إشارة إلى معنى وإرشاد إلى أمر، وهو أن الشكر ينبغي أن يتكرر في كل وقت لتكرر النعمة، فمن شكر ينبغي أن يكرر، والكفر ينبغي أن ينقطع، فمن كفر ينبغي أن يترك الكفران" (2). ومن الملاحظ أنه قدم الشكر على الكفر في هذه الآية، في حين قدم الكفر على العمل الصالح في آية أخرى، قال تعالى في سورة الروم: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} {الروم: 44}. وبالنظر في الآيتين نجد أكثر من اختلاف في التعبير: 1- فقد قدم في آية الروم الكفر وأخر العمل الصالح، وقدم في آية لقمان الشكر وأخر الكفر كما أشرت. 2- ذكر في الروم عاقبة كل من الفريقين فقال: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}، في حين قال في لقمان: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}، فذكر عاقبة الشكر ولم يذكر عاقبة الكفران. 3- ذكر في الروم فعلي الشرط بالماضي فقال: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا}. في حين ذكر في لقمان فعل الشكر بالمضارع وفعل الكفر بالماضي. 4- ذكر في لقمان مقابل (من كفر): (من يشكر)، وذكر في الروم مقابل (من كفر): (من عمل صالحًا). ولكل ذلك سبب اقتضاه. أما تقديم الكفر في الروم على العمل الصالح فذلك لأن السياق هو في ذكر الكافرين ومآلهم، فقد قال قبل هذه الآية: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} {الروم: 41 – 44}. فالسياق في ذكر الكافرين فقدمهم. وأما آية لقمان فوقعت في سياق الأمر بالشكر، قال تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ}، فناسب تقديم الشكر. جاء في (التفسير الكبير): "قال تعالى هنا: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ}، بتقديم الشكر على الكفران. وقال في سورة الروم: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}. فنقول: هناك كان الذكر للترهيب لقوله تعالى من قبل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ}. وههنا الذكر للترغيب؛ لأن وعظ الأب للابن يكون بطريق اللطف والوعد" (3). وأما ذكر عاقبة الكفر في الروم فلما تقدم من ذكر عاقبة من كفر في الدنيا وعاقبة ذلك في الآخرة، فقد قال فيمن أظهر الفساد في البر والبحر: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)}، وقال: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)}، فوجهنا للنظر في عاقبة الكافرين. ثم هدد بما سينالهم في الآخرة، ولذا ناسب ذكر عاقبة من كفر فقال: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ}، ولم يذكر شيئًا من ذلك في لقمان فاكتفى بقوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }. وبالنسبة إلى اختلاف فعلي الشرط في المضارع والمضي فإن آية لقمان فيمن هو في الدنيا، فذكر فعل الشرط بالمضارع لأن الشكر يتكرر، وذكر الكفر بالماضي لأنه لا يتكرر تكرر الشكر كما أسلفنا. وأما آية الروم فهي في الآخرة، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا ..... } {الروم: 43 – 44}، فذكر الكفر والعمل الصالح بالماضي؛ لأنه ليس عمل ثم، وإنما هو جزاء على ما قدم من عمل. وأما ذكر الكفر بمقابل الشكر في لقمان فلأنه ذكر الشاكرين أولاً فقال: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}. وأما في سورة الروم فقد ذكر الكافرين والمشركين فناسب ذكر من آمن وعمل صالحًا فقال: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} {الروم: 44 – 45}، فناسب كل تعبير موطنه. وقال: {فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} فجاء بـ (إنما) للدلالة على أن الشكر لا ينفع إلا صاحبه حصرًا ولا يفيد الله سبحانه، فإن الشكر ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة. وقد قضى ربنا بأن يزيد الشاكر من نعمه، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } {إبراهيم: 7}. {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} لا ينفعه شكر ولا يضره كفر، فهو الغني المحمود في غناه. والحميد هو الذي يستحق الحمد على الدوام. والجمع بين الغني وكونه محمودًا أحسن جمع وألطفه، فقد يكون الشخص غنيا غير محمود، أو محمودًا غير غني، فربنا غني محمود على الدوام. وقد تقول: لقد جاء في سورة إبراهيم. {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} {إبراهيم: 8}، فأكد الجملة بإن واللام، فقال: {فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ}، في حين أكدها في آية لقمان بـ (إن) وحدها فقال: {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} فما الفرق؟. والجواب: أن كل تعبير مناسب لما ورد فيه، فقد قال في لقمان: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}، فقد قسم العباد إلى من يشكر ومن كفر. أما في سورة إبراهيم فافترض كفر أهل الأرض جميعًا فقال: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}، فالاختلاف في التعبير من ثلاث نواح: 1- أنه في آية لقمان جرى على التبعيض، وجرى في سورة إبراهيم على الشمول. 2- أنه قال في لقمان: {وَمَنْ كَفَرَ} فجعل فعل الشرط ماضيًا، وقال في سورة إبراهيم: {إِنْ تَكْفُرُوا} بالمضارع للدلالة على تكرر الكفر وتجدده، أي إن تستمروا على الكفر وتداوموا عليه. 3- وأكد ذلك بالحال المؤكدة فقال: (جميعًا). فاقتضى ذلك زيادة التأكيد في آية إبراهيم. وقد تقول: لقد قال في آية أخرى في سورة لقمان: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} {لقمان: 26}، فعرف الوصفين وجاء بضمير الفصل، في حين قال في هذه الآية: {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} من دون تعريف ولا فصل. فما الفرق؟ والجواب واضح في سياق كل منهما. فقد قال في آية لقمان الأولى: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}، فلم يذكر سبحانه له ملكًا. والمعنى: فإن الله غني عن شكره. وهو كما يقول الشخص ولله المثل الأعلى: أنا غني عنك وغني عن مدحك وثنائك، ولا يعني أنه ذو مال أو ثروة، ونحوه ما قال الخليل: أبلغ سليمان أني عنه في جدة وفي غنى غير أني لست ذا مال أما في الآية الثانية فقد قال: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} فقد ذكر ملكه وهو ما في السماوات والأرض. ومن المعلوم أن الغني فيما تعارف عليه الناس من يملك الأموال. ثم إن الأغنياء يتفاوتون، فمن يملك ثروة أكبر كان أغني. وقد ذكر ربنا أن له ما في السماوات والأرض فلا ملك أكبر ولا أوسع من ملكه، فعرف وجاء بضمير الفصل للدلالة على أنه هو الغني دون سواه. ومن المعلوم أن قولك: (فلان هو الغني) أدل على الغنى من قولك: (فلان غني)؛ لأن قولك: (فلان غني) يعني أنه أحد الأغنياء، وأن هناك أغنياء آخرين. أما قولك: (فلان هو الغني) فيدل على أنه لا غني في الحقيقة سواه. ولا شك أن من له ما في السماوات والأرض هو الغني الذي لا غني سواه. (1) انظر معاني النحو 4/66. (2) التفسير الكبير 9/119. (3) التفسير الكبير 9/119. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 412 إلى ص 418.
  • ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴿١٣﴾    [لقمان   آية:١٣]
{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)} الواو عطفت هذه العبارة على قوله: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ}، أي آتيناه الحكمة في شكره لله وفي وعظه لابنه، فإن وعظ الأبناء من الحكمة. وفي هذا توجيه للآباء أن يتعاهدوا أبناءهم بالموعظة والإرشاد، وأن لا يتركوهم للشوارع والطرقات ومعلمي السوء والجهال يأخذون عنهم ما سقط من القول والفعل، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم. جاء في (التفسير الكبير) أن قوله: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ ....} "عطف على معنى ما سبق، وتقديره: آتينا لقمان الحكمة حين جعلناه شاكرًا في نفسه، وحين جعلناه واعظًا لغيره. وهذا لأن علو مرتبة الإنسان بأن يكون كاملاً في نفسه ومكملاً لغيره، فقوله: {أَنِ اشْكُرْ} إشارة إلى الكمال، وقوله: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ} إشارة إلى التكميل" (1). وجاء في (التحرير والتنوير) أن قوله سبحانه هذا "عطف على جملة {آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} لأن الواو نائبة مناب الفعل، فمضمون هذه الجملة يفسر بعض الحكمة التي أوتيها لقمان. والتقدير: وآتيناه الحكمة إذ قال لابنه، فهو في وقت قوله ذلك لابنه قد أوتي حكمة فكان ذلك القول من الحكمة لا محالة، وكل حالة تصدر عنه فيها حكمة هو فيها قد أوتي حكمة. و(إذ) ظرف متعلق بالفعل المقدر الذي دلت عليه واو العطف، أي والتقدير: وأتيناه الحكمة إذ قال لابنه... ويجوز أن يكون (إذ) ظرفًا متعلقا بفعل (اذكر) محذوفًا" (2). لقد جاءت موعظة لقمان بعد قوله تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ}، وكان من الممكن أن يبدأ بالموعظة من دون هذا التصدير، فيقول بعد قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ .....} ولكن هذا التصدير له أكثر من غرض: من ذلك أنه يتبين منه أن الحكمة يتعلق جانب منها بإصلاح النفس وجانب بإصلاح الآخرين، وأن أولى موجبات الحكمة أن يعلم الأب أبناءه ويوجههم ويرشدهم، هذا إضافة إلى ما قاله لقمان من الحكمة. ثم إن الحكمة - كما أسلفنا - إحسان القول والعمل، أو وضع الشيء في محله في القول والعمل، فلما قال: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} دل ذلك أن لقمان أوتي الحكمة في قوله وعمله، وأنه كان يطبق ما يقول على نفسه، إذ ليس من الحكمة أن تناقض أقوال الشخص أفعاله وإلا كان قوله ساقطة ولو نطق بأعلى الحكمة. وفيه توجيه للدعاة والواعظين أن يبدؤوا بأنفسهم قبل وعظ الآخرين. (1) التفسير الكبير 9/119. (2) التحرير والتنوير 21/153 – 154. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 418 إلى ص 419. * * * {وَهُوَ يَعِظُهُ} الواو في قوله: {وَهُوَ يَعِظُهُ} تحتمل أن تكون للحال، أي: قال لقمان لابنه واعظًا له، وتحتمل أن تكون للاستئناف، أي وهذا شأنه، أي من شأن لقمان أن يعظ ابنه. فقوله: {وَهُوَ يَعِظُهُ} يفيد أنه قال ذلك واعظًا لابنه، وأن من شأن لقمان أن يعظ ابنه فلا يترك توجيهه. ولو قال: (وإذ قال لقمان لابنه واعظًا لم يفد إلا معنى واحدًا. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 420 إلى ص 420. * * * {يَا بُنَيَّ } بدأ وعظه بمناداة ابنه مناداة تحبيب ورفق وتلطف ولين (يا بني) بالتصغير والإضافة إلى النفس ليعطف قلبه، وليزيل كل حجاب مانع من قبول التوجيه بينه وبينه. واللين في القول يفتح القلوب المقفلة والأبواب الموصدة ويلين النفوس العصية وهو أدعى إلى الاستجابة والقبول. وهو توجيه للآباء والواعظين أن يرفقوا في القول وأن يمزجوا كلماتهم بالرحمة والحنان، فتؤثر الرحمة ولين القول ما لا يؤثر القول نفسه. وقد أمر ربنا موسى وأخاه عليهما السلام أن يقولا لفرعون قولًا لينًا فقال: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} {طه: 43 – 44}. جاء في (التحرير والتنوير) في قوله: {يَا بُنَيَّ}: "والتصغير فيه لتنزيل المخاطب الكبير منزلة الصغير كناية عن الشفقة به والتحبب له، وهو في مقام الموعظة والنصيحة إيماء وكناية عن إمحاض النصح وحب الخير، ففيه حث على الامتثال للموعظة" (1). (1) التحرير والتنوير 21/155. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 420 إلى ص 420. * * * {لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} بدأ النصح بالنهي عن الشرك لأنه رأس الإيمان ورأس الدين، ولأن أول ما ينبغي أن يغرس في النفوس هو التوحيد لأنه أساس صلاحها ونجاتها. ومن الملاحظ أنه نهاه عن الشرك قبل أن يأمره بالعبادة وذلك لأكثر من سبب: منها: أن عدم الشرك مقدم على العبادة، فلا تنفع عبادة مع الشرك، فبدأ بما هو أهم ولأن النهي عن الشرك يعم الصغير والكبير، أما العبادة فيكون التكليف بها بعد البلوغ، فبدأ بما هو أعم. ثم إن الانتهاء عن الشرك أيسر من القيام بالعبادات والطاعات، ولذا نجد كثيرًا من الناس موحدين، غير أنهم لا يأتون بالعبادات من صلاة وصيام وغيرهما. فبدأ بما هو أهم وأعم وأيسر، حتى إذا قام بغرس العقيدة وتصحيحها أمره بعد ذلك بالعبادات. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 421 إلى ص 421. * * * {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} كون الشرك ظلمًا لأنه يسوي بين القادر والعاجز، والعالم والجاهل، والخالق والمخلوق، والمنعم المتفضل والمحتاج إلى النعمة. وهذا ظلم عظيم، فإنك في الحياة لو سويت بين هؤلاء كنت ظالمًا ظلما عظيمًا، فإنه لو تقدم مثلاً جماعة إلى طلب عمل فأجري لهم اختبار فكان منهم من يحسن كل جزئيات ذلك العمل بأدق تفاصيله على أكمل وجه وأحسنه، يخبر عن ذلك بأبلغ الكلام وأحسنه، ومنهم من لا يحسن شيئًا، ولا يعلم شيئًا، في عي وقصور فهم وإدراك ولا يحسن النطق أيضًا، وكنت سويت بينهم كنت ولا شك ظالمًا ظلمًا عظيمًا. فإن الشرك بالله أعظم بكثير من هذا الظلم، فإن التفاوت بين الخالق والمخلوق لا يصح فيه قياس. جاء في (روح المعاني): "وكون الشرك ظلمًا لما فيه من وضع الشيء في غير موضعه، وكونه عظيمًا لما فيه من التسوية بين من لا نعمة إلا منه سبحانه ومن لا نعمة له" (1). ثم إن الشرك كما سبق أن ذكرنا ظلم للنفس من جهة أن المشرك يعبد من هو أقل منه شأنًا، أو من لا يستحق العبادة البتة، فيكون ظالمًا لنفسه حاطًا من قدرها وقد كرمه الله سبحانه. ثم إنه ظلم للنفس من ناحية أخرى، ذلك أنه يوردها موارد الهلكة، فإن الشرك يورد صاحبه النار خالدًا مخلدًا فيها. ولذا وصف هذا الظلم بأنه عظيم، وأكد ذلك بإن واللام فقال: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}. ثم إن اختيار وصف الشرك بالظلم اختيار له دلالته من ناحية أخرى، ذلك أن فطرة الإنسان تكره الظلم والظالمين، وحتى لو كان الشخص ظالمًا فإنه يسيغه لنفسه ولا يسيغه من غيره، ولذا تجد عموم الناس يكرهون الظالم وينتصرون نفسيًا للمظلوم حتى في التمثيل، فوصف الشرك بما تكرهه النفوس ولا تنحاز إلى صاحبه لينأى عنه ويتركه. ولعل من المفيد أن نذكر أيضًا أن قوله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} فيه تعليل للنهي عن الشرك، وهو إشارة إلى أن الناصح والموجه ينبغي أن يعلل كلامه ويذكر السبب الموجب، وألا يذكر الأمور من دون تعليل، وذلك ليقتنع السامع ويسلم له عقله و نفسه، والله أعلم. (1) روح المعاني 21/85. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 421 إلى ص 423.
  • ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴿١٤﴾    [لقمان   آية:١٤]
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} هذا الكلام كلام رب العالمين وضعه بين كلام لقمان؛ وذلك لأنه أراد أن يأمر هو بوصية الوالدين ومصاحبتهما بالمعروف، لا أن يقول الأب ذلك، وذلك لعظم منزلة الأبوين عند الله، فالذي وصى بالوالدين هو الله. ولئلا يذهب ذهن الابن إلى أن الأب إنما يأمره بطاعته وحسن صحبته لأنه يريد أن يستفيد منه وأن يجعله تابعًا له، فالله هو الذي أوصى ولا مصلحة له في هذا. وقد تقول: ولم لم يدع لقمان يتم كلامه ثم يذكر الله وصيته بالوالدين بعد ذلك؟ والجواب: أنه وضع الوصية بالوالدين بعد الشرك بالله وذلك لعظيم منزلتهما عند الله، فهو لا يريد أن يضعهما في آخر الوصايا بعد قوله: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} فإن منزلتهما تأتي بعد توحيد الله والأمر بعبادته. وهذا شأن القرآن في الوصية بالوالدين، فإنه يجعل ذلك بعد الشرك بالله والأمر بعبادته، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} {النساء: 36}، وقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} {الإسراء: 23}. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 423 إلى ص 424. * * * {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)} من الملاحظ في هذه الآية: 1- أنه استعمل الفعل (وصى) بتشديد الصاد لا (أوصي)، وذلك للتشديد على الوصية والمبالغة فيها. ومن الملاحظ أن القرآن يستعمل الفعل (وصى) في أمور الدين والأمور المعنوية، وأما (أوصى) فيستعمله للأمور المادية، قال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} {البقرة: 132}، وقال: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا} {النساء: 131}. في حين قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} {النساء: 11}، وهي في المواريث. وقال: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} {النساء: 11}، وهي في الأمور المادية. ولم يرد (أوصى) في القرآن الكريم للأمور المعنوية إلا في موطن واحد اقترن فيه بأمر مادي وهو قوله تعالى على لسان السيد المسيح: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} {مريم: 31}، فإنه قال: (أوصاني) لما اقترنت الصلاة بالزكاة، والزكاة أمر مادي يتعلق بالأموال (1). ولعل ذلك يعود أيضًا إلى أن المسيح عليه السلام كان لا يزال في المهد غير مكلف عمليًا بعبادة فاستعمل أخف الفعلين، والله أعلم. 2- ثم إنه أسند التوصية إلى الله سبحانه فقال: (ووصينا)، والله إنما يسند الأفعال إلى نفسه في أمور الخير وفي الأفعال المهمة، فإسناد ذلك إلى الله يدل على عظم شأن هذه التوصية، وقد أسند هذا الفعل إلى ضمير الجمع للتعظيم ثم أفرد بعد ذلك فقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}، ولم يقل: (أن اشكر لنا... وإلينا) وقد ذكرنا أن هذه طريقة التعبير في القرآن، فإنه يفرد قبل أو بعد ضمير الجمع المعظم للدلالة على أنه واحد لا شريك له. وقد يكون ههنا مع ذلك أمر آخر وهو أن هذه الوصية أمر الله بها سبحانه، ونزل بها الملك، وبلغها الرسل، فجاء الفعل بضمير الجمع لذلك أيضًا، والله أعلم. 3- وقال: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} ولم يقل بـ (أبويه) لأكثر من سبب، فإن كلمة (الوالدين) تثنية الوالد والوالدة وغلبت فيها لفظ الوالد ولذا ثنيت بالتذكير. وإن كلمة (الأبوين) تثنية الأب والأم وغلب فيها لفظ الأب ولذا قبل الأبوين، ومع أن الكلمتين فيهما تغليب للمذكر إلا أن لفظ (الوالدين) مأخوذ من الولادة، والولادة في الحقيقة تقوم بها المرأة إلا أنه غلب فيها لفظ الوالد في التثنية. وههنا أكثر من مناسبة تدعو إلى اختيار لفظ الوالدين على الأبوين، منها: أنه ذكر الحمل والفصال وهو الفطام من الرضاع فقال: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ}، وقال: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} وبين الحمل والإرضاع الولادة. وفيه تذكير الإنسان بولادته ومجيئه إلى الدنيا عاجزًا ضعيفًا، وقد رباه والداه وحمياه وأحسنا إليه، مما يدعو إلى رد الجميل والإحسان إليهما. وفيه إلماح إلى إحسان الصحبة إلى الأم أكثر من الأب لما ذكر من لفظ الوالدين وذكر حمل الأم والإرضاع. ولذا كان في القرآن خط عام لا يتخلف وهو أنه حين يذكر الإحسان إلى الأب والأم والبر بهما يذكر ذلك بلفظ (الوالدين) ولا يذكره بلفظ الأبوين تذكيرًا للإنسان بأمر الولادة، فلم يقل مرة واحدة: (وبالأبوين إحسانًا) بل إن كل مواطن الأمر بالمصاحبة بالمعروف والإحسان إليهما والبر بهما والدعاء لهما يأتي بلفظ الوالدين. وفيه إلماح إلى أن الأم لها النصيب الأوفى في ذلك. قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} {البقرة: 83}. وقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} {النساء: 36}. وقال: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} {الأنعام: 151}. وقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} {الإسراء: 23}. وقال: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} {لقمان:14}. وقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} {لقمان: 14}. وقال: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} {العنكبوت: 8}. وقال: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} {الأحقاف: 15}. وقال: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} {مريم: 14}. وقال: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} {إبراهيم: 41}. وقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} {نوح: 28}. وغير ذلك وغيره. قد يأتي لفظ (الأبوين) في المواريث ونحوها مما لم يكن فيه ما ذكرنا من الأمر بالإحسان ونحوه، ولعل ذلك لأن نصيب الأب أكثر من نصيب الأم في الميراث. وقد يأتي لفظ الأبوين لمثنى الجد كما قال تعالى: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} {يوسف: 6}. وقد يأتي لفظ الأبوين لآدم وحواء، إذ هما أبوا البشر، قال تعالى: {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} {الأعراف: 27}. قد تظن أن ذلك تخلف في قصة يوسف وذلك في قوله: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} {يوسف: 99}، وقوله: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} {يوسف: 100}، فإنه استعمل لفظ الأبوين في موطن الإكرام والإحسان ولم يستعمل لفظ الوالدين. والحق أنه لم يتخلف، بل إن استعمال لفظ (الأبوين) في قصة يوسف هو المناسب وهو أيضًا يتفق مع الخط القرآني. ذلك أنه جاء بلفظ (الأبوين) لأنه في هذه القصة لم يرد ذكر لأم يوسف ولا وصف لحالتها، بل كلها تدور حول الأب وأبنائه ويوسف عليهم السلام، فالأب هو المحزون الكظيم، وهو الذي فقد بصره حزنا وأسفًا كما قال تعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} {يوسف: 84}، وهو الدائم الذكر له حتى خشي عليه الهلاك كما قال تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} {يوسف: 85}، فكان من المناسب تغليب الأب ههنا لا تغليب الوالد. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن قوله: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} فيه إلماح إلى إكرام الأم، ذلك أن السجود للشخص إعظام له فاختار لفظ الأب على الوالد، فإن الابن هو الذي يعظم أبويه في العادة، وهنا عظم الأبوان ولدهما بالسجود له وهو خلاف المألوف والمعتاد، فغلب لفظ الأب الذي هو دون الأم في حق حسن الصحبة. ولعله إلماح إلى شيء آخر وهو أن العرش إنما ينبغي للرجال لا للنساء فغلب ذكر الأب، والله أعلم. وربما يحسن الاستطراد هنا قليلًا، فقد تقول: ألم يدرك الحزن أم يوسف فلم لم يرد لها ذكر؟ والجواب: - والله أعلم- أن يعقوب هو أبوهم كلهم، أما أم يوسف فليست أمهم، وإنما هي أم يوسف وأخيه، فلا تستطيع أن تؤنبهم وتذكر ذلك لهم على الدوام لما في ذلك من الحساسية، فربما أسمعوها ما لا ترضى من القول ولا يكون كلامها بتلك المنزلة عندهم. وهذا من حسن تقديرها لما هي فيه، ولذا لم يرد لها ذكر في القصة، والله أعلم. 4- ذكر الأم في هذه التوصية ولم يذكر الأب فقال: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} وهو إشارة إلى أنها أولى بحسن الصحبة. 5- قال: {وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} فذكر الضعف المستمر المتزايد، ولم يقل: (وهنًا) فقط ليدل على أن الوهن ليس على وتيرة واحدة، بل هو يثقل عليها دائمًا ويوهنها باستمرار. 6- ذكر مدة الفصال فقال: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} ولم يذكر مدة الحمل، ذلك أن الفصال بيد المرأة وهو توجيه إلى تمام مدة الإرضاع. أما الحمل فليس بيد المرأة. ثم إن مدة الحمل قد تتفاوت كما هو معلوم، فقد تكون ستة أشهر أو سبعة أشهر أو تزيد على ذلك. 7- وصاه بالشكر للنعم الأول وهو الخالق الذي أوجده من العدم، وهيأ له أسباب الوجود، وهيأ له من يحمله ويرضعه ويتعاهده وهو ضعيف عاجز. ثم وصاه بالشكر لوالديه لما علم من أمرهما. ثم أشار إلى أن الحياة لا تنتهي في الدنيا وإنما المصير إلى الله سيحانه، وهو إشارة إلى الحياة الآخرة. وقد قدم الخبر الجار والمجرور على المبتدأ فقال: {إِلَيَّ الْمَصِيرُ} للدلالة على الحصر، فإن المصير إليه حصرًا لا إلى غيره. وفي هذا إبطال لعقيدة الشرك فإن المصير إليه وحده لا إلى غيره. (1) انظر التعبير القرآني 19. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 424 إلى ص 429.
  • ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ﴿١٥﴾    [لقمان   آية:١٥]
{وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)} أي وإن بذلا جهدهما لحملك على أن تشرك بالله فلا تطعهما. وقال: (بي) بضمير الإفراد، ولم يقل: (بنا)؛ لأن الموطن موطن توحيد ونفي الشرك. وفي مثل هذا الموطن لا يستعمل إلا ضمير الإفراد. وقوله: {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} أبطل الشرك من جميع نواحيه، ذلك أن الأشياء على قسمين: إما أن يكون له بها علم أو لا يكون له بها علم، فالذي يعلم أنه لا يصلح أن يكون شريكًا له هو قد علم به، وعلم أنه لا يكون لله شريكًا. وأما الذي ليس له به علم فقد نهى عن اتخاذه شريكًا لله، وبذا يكون قد نهى عما له به علم، وعما ليس له به علم. {فَلَا تُطِعْهُمَا} فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 429 إلى ص 430. * * * {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} المصاحبة بالمعروف إنما هي في الدنيا، أي في الحياة الدنيا، وقيل: إن المصاحبة بالمعروف إنما هي في أمور الدنيا لا في أمور الدين. جاء في (روح المعاني): "{فِي الدُّنْيَا} ... قيل: للإشارة إلى أن الرفق بهما في الأمور الدنيوية دون الدينية " (1). وقال: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} ولم يقل: بمعروف أو بالمعروف، كما قال في الأزواج مثلاً: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} {البقرة: 231}، ذلك أنه أراد أن تكون المصاحبة هي المعروف بعينه وليست مصاحبة للمعروف أو بمعيته. وفي هذا من المبالغة في التوصية بهما ما فيه، فإن المرء قد يزجر زوجته أو ينهرها أو يضربها أو يعضلها مما لا يصح بحال من الأحوال أن يكون مع الوالدين، فقال فيهما: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} أي مصاحبة هي المعروف بعينه. وقد تقول: لم يرد هذا الأمر فيما يبدو شبيهًا بهذا الموطن وهو قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} {العنكبوت: 8}. وقوله: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ} {الأحقاف: 15}. فلم يرد في هاتين الآيتين قوله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} فما السبب؟ فنقول: لقد ورد ذلك بتعبير آخر لم يرد في آية لقمان، فقد قال في آية العنكبوت: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا}، وقال في الأحقاف: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} {الأحقاف: 15}، ولم يرد مثل ذلك في لقمان، فذكر في كل موطن ما لم يذكره في الآخر، فذكر المصاحبة بالمعروف في لقمان، وذكر التوصية بالحسن والإحسان في آيتي العنكبوت والأحقاف. وكل تعبير هو المناسب فيما ورد فيه. فقوله: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} أنسب في آية لقمان؛ ذلك لأن السياق في قصة لقمان في المصاحبة والمعاشرة ومعاملات الناس، فقد بدأت الوصية بمصاحبة الأب لابنه وحسن معاشرته وتوجيهه، ثم في أصول معاشرة الناس ومصاحبتهم من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعدم التكبر عليهم والفخر عليهم والاختبال مما يبغضه الناس من الصفات والأفعال. لقد شملت هذه الوصية حسن المصاحبة والمعاملة في عموم المجتمع: مصاحبة الأب لابنه، ومصاحبة الابن لوالديه، ومصاحبته للأخرين ممن يعيش معهم. ولم يرد مثل ذلك في سياق آيتي العنكبوت والأحقاف، فكان الأمر بمصاحبة الوالدين بالمعروف هنا أنسب. وذكر الحسن والإحسان في آيتي العنكبوت والأحقاف أنسب، بل إن ذكر كل لفظة في مكانها أنسب، فذكر الخشن في آية العنكبوت أنسب، وذكر الإحسان في آية الأحقاف أنسب. ذلك أنه ذكر في آية لقمان افتراض أن أبويه يجاهدانه على أن يشرك بالله فلم يذكر الإحسان أو الحسن. وقد تقول: لقد قال في العنكبوت ذلك أيضًا، فإنه قال: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} {العنكبوت: 8}، فما الفرق؟ والجواب: أن المجاهدة في قوله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي} أشد منها في قوله: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي}، فإن في قولنا: (جاهده على أن يفعل) معنى الحمل على الشيء وشدة المجاهدة، وهي أقوى من قولنا: (جاهده ليفعل). ونحوه أن تقول: (أنفقت عليه لينجح) و(أنفقت عليه على أن ينجح) فإن الجملة الأولى تفيد أنه أنفق عليه لغرض النجاح، أما الثانية فإنها تفيد أنه أنفق عليه باشتراط النجاح، فإن النجاح شرط للإنفاق. ونحوه أن تقول: (زوجتك ابنتي لتعينني) و(زوجتك ابنتي على أن تعينني)، فإن الجملة الأولى تفيد أنه زوجه ابنته لغرض إعانته وليس ذلك اشتراطًا عليه. أما الجملة الثانية فإنها تفيد أنه زوج ابنته بشرط أن يعينه. ونحوه قوله تعالى: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} {القصص: 27}. جاء في (التحرير والتنوير): "قال هنا: {عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي} وقال في سورة العنكبوت: {لِتُشْرِكَ بِي} فأما حرف (على) فهو أدل على تمكن المجاهدة، أي مجاهدة قوية للإشراك، والمجاهدة شدة السعي والإلحاح" (2). فذكر الحسن في آية العنكبوت ولم يذكره في لقمان وإنما ذكر ما هو أنسب. وقد تقول: ولم قال في آية الأحقاف: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} فما الفرق بين آيتي العنكبوت والأحقاف حتى ذكر الحسن في إحداهما، والإحسان في الأخرى؟ والجواب: أن الأمر ظاهر في سبب الاختلاف بينهما، فإن (الإحسان) أمكن في الإكرام من (الحسن) ذلك أن الإحسان مصدر (أحسن). تقول: أحسن إليه إحسانًا، والحسن مصدر (حسن الشيء) أي حسن في نفسه. فالإحسان يتعدى خيره إلى الآخرين، تقول: (أحسنت إليه) يعني فعلت له خيرًا. أما (الحسن) فلا يتعدى خيره إلى الاخرين بل هو حسن في نفسه، فتقول: (عاملته حسنًا) أي معاملة حسنة من كلام جميل ولقاء حسن. أما الإحسان فأن تفعل له خيرًا، فالإحسان أمكن من الحسن في فعل الخير ونفع الآخرين، فما في الأحقاف أكثر إكرامًا وأكبر نفعًا للوالدين، وذلك لأكثر من سبب: 1- منها أنه قال: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} فذكر الحمل والوضع وكلاهما كره. فقد يحمل الإنسان شيئًا كرهًا ويضعه هينًا بيسر، أما ههنا فكان الحمل كرهًا والوضع كرهًا. ولا تخفى آلام الوضع عند الولادة. أما في آية لقمان فإنه ذكر الحمل وقال: إنه وهن على وهن، ولم يذكر الوضع ومشقته، فما في الأحقاف أشد، فإنه ذكر كره الحمل وكره الوضع. وأما في العنكبوت فلم يشر إلى ذلك. 2- الوالدان في الأحقاف مؤمنان، بدليل قوله تعالى: {قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ} {الأحقاف: 15}. والآية وقعت في سياق الأبوين المؤمنين، فقد قال بعد هذه الآية: {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آَمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} {الأحقاف: 17}، فالأبوان هنا مؤمنان يعدانه بالبعث ويدعوانه إلى الإيمان، بخلاف آيتي لقمان والعنكبوت من مجاهدتهما له على الشرك. ولذا لم يذكر في آية الأحقاف: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي}. جاء في (ملاك التأويل): أنه لم يرد في سورة الأحقاف: (وإن جاهداك لتشرك بي) أو {عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي} "لأن آية الأحقاف فيمن كان مؤمنًا، ألا ترى قوله: {أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} إلى ما بعد هذا، ولا مدخل هنا للشرك" (3). فناسب ذكر الإحسان في آية الأحقاف وليس مجرد الحسن. ثم إن ذكر الحسن والإحسان في آيتي العنكبوت والأحقاف أنسب من جهة أخرى، ذلك أنهما ذكرا في سياق الحسن من الأعمال، فقد قال قبل آية العنكبوت: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} {العنكبوت: 7 – 8}. وقال بعد آية الأحقاف: {أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ} {الأحقاف: 16}، فناسب حسن معاملة الوالدين ما حسن من الأعمال، ولم يرد مثل ذلك في سورة لقمان. فناسب كل تعبير موطنه من كل وجه، والله أعلم. (1) روح المعاني 21/87. (2) التحرير والتنوير 21/160. (3) ملاك التأويل 2/764. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 430 إلى ص 435. * * * {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} لا سبيلهما ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 435 إلى ص 435. * * * {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} لا ترجعون إلى غيري. وتقديم الخبر هنا كتقديمه في {إِلَيَّ الْمَصِيرُ} للحصر، وفيه إبطال للشرك. وقد جمع الضمير في (مرجعكم) لأنه ذكر الابن والوالدين ومن أناب إليه. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 435 إلى ص 435. * * * {فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وقال: (أنبئكم بما كنتم تعملون) ولم يقل: (فأجزيكم)؛ لأنه قد ينبئ الإنسان بما عمل ثم يغفر له. ثم إن المؤمن يجزيه ربه بخير مما عمل، كما قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} {النمل: 89}، وقال: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} {العنكبوت: 7}، ألا ترى أنه عندما ذكر الذين كفروا في آية أخرى من السورة لم يكتف بأن يذكر أنه ينبئهم بما عملوا، بل ذكر أنه يعذبهم بذلك فقال: {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} {لقمان: 23 – 24}. وجاء بضمائر المتكلم في الآية بالإفراد {أَنْ تُشْرِكَ بِي... سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ}؛ لأن الموطن موطن نفي الشرك وإثبات التوحيد، فلا يجمع الضمير في مثل هذه المواطن. ونحوه قوله تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} {العنكبوت: 8}. وهو قد يأتي بضمير المتكلم مجموعًا للتعظيم في غير هذا الموطن وذلك نحو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} {يونس: 23}، وقوله: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} {يونس: 46}، وقوله: {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} {يونس: 69 – 70}. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 435 إلى ص 436.
  • ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴿١٦﴾    [لقمان   آية:١٦]
{يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)} عاد الآن إلى وصية لقمان لابنه بعد أن اعترض كلامه بوصيته سبحانه بالوالدين فقال: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ ...} فكرر نداءه بقوله: (يا بني) ليعطف قلبه ويصغي إلى ما يقول. ثم ضرب له مثلًا يبين فيه قدرة الله وإحاطته بالأشياء فلا يند شيء عنه وعن قدرته بمثقال حبة من خردل يأتي بها الله أينما كانت، في السماوات أو في الأرض. والخردل نبات معروف حبه أصغر من السمسم يضرب مثلًا في الصغر. لقد قال: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} بحذف النون من (تكن)، ثم قال بعد ذلك (فتكن) بإثبات النون، ولعل من أسباب ذلك أنه قال: {إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} فلم يعين مكانها ثم عين مكانها فيما بعد فقال: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ}، فإن الأولى أبعد في الوجود، أي هباءة تائهة لا مكان لها فحذف النون، بخلاف الثانية فإنه عين مكانها فأثبت النون، والله أعلم (1). جاء في (البرهان) للزركشي أن قوله: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} {النساء: 40}، حذفت النون من (تكن): "تنبيهًا على أنها وإن كانت صغيرة المقدار حقيرة في الاعتبار فإن إليه ترتيبها وتضاعيفها، ومثلها: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ}" (2). ثم إن ثمة قراءة هي (فتكن) بكسر الكاف وشدة النون وفتحها، وثمة قراءة أخرى وهي (فتبين) بفتح التاء وكسر الكاف وسكون النون من (وكن يكن) (3) وكلتا القراءتين فيها معنى الاستتار، ذلك أن معنى (كن يكن) استتر. ومعنى (وكن الطائر) دخل عشه، والوكن: هو عش الطائر، فيكون المعنى: أنها إن تك مثقال حبة من خردل فتستتر في صخرة. وهذا مما يفسر ثبوت النون في (تكن) وذلك لتعطي معنى الاستتار أيضا، والله أعلم. وقال: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} مع أن الصخرة لا بد أن تكون في السماوات أو في الأرض، وذلك لأن استخلاص الشيء من باطن الصخرة عسير في العادة. من المعلوم أنه إذا أراد شخص أن يحفظ شيئًا ويصونه من الضياع لا يكتفي أن يضعه في ساحة الدار، بل يضعه في غرفة من غرف الدار ويضعه في صندوق أو محفظة، وقد يضع المحفظة داخل صندوق أو خزانة، وقد يضع المحفظة داخل محفظة. فالصخرة مثلها مثل المحفظة الصغيرة التي يحفظ بها الشيء. وإذا أردت المبالغة في حفظ الشيء تعمل للمحفظة قف يصعب فتحه، وكلما كان الشيء ثمينًا أو مهما بالغت في حفظه وعدم الوصول إليه. والناس يتفننون في حفظ الأشياء وعدم الوصول إليها. وأمكن شيء في الحفظ أن يودع في مكان أمين ليس له مفتاح ولا يمكن الوصول إليه. وعند ذلك يكون استخراجه عسيرًا أو مستحيلًا إلا بإتلاف المحفظة. وقد ضرب الله مثلًا لذلك بمثقال حبة من خردل في صخرة، والصخرة ليس لها مفتاح، وربنا يستخرج هذه الحبة من الصخرة مع أنها ليس لها مفتاح من دون أن يحطم الصخرة. وقال: {فِي صَخْرَةٍ} ولم يقل: (على صخرة) للدلالة على خفائها وأنها في داخلها. وقال: (في الأرض) ولم يقل: (على الأرض) ليدل على أنها في باطن الأرض. ثم قال: {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} ولم يقل: (يعلمها الله) لأن مجرد العلم لا يدل على القدرة، فقد تعلم أن شيئًا داخل صندوق أو خزانة ولكنك لا تقدر على فتحه، فقوله: {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} يدل على العلم وبالغ القدرة. وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} أي يتوصل إلى الأشياء الخفية بأمر خفي فلا يحتاج إلى تحطيم الصخرة أو تكسيرها، بل يخرجها من داخلها بلطفه وخبرته. والإتيان بالشيء من مثل هذا الحفظ يحتاج إلى خبرة وإلى لطف بحيث يستخرجها من داخلها والصخرة كما هي. جاء في (التفسير الكبير): "لو قيل: إن الصخرة لا بد من أن تكون في السماوات أو في الأرض فما الفائدة من ذكرها؟... خفاء الشيء يكون بطرق، منها أن يكون في غاية الصغر، ومنها أن يكون بعيدًا، ومنها أن يكون في ظلمة، ومنها أن يكون من وراء حجاب. فإن انتفت الأمور بأسرها بأن يكون كبيرًا قريبًا في ضوء من غير حجاب فلا يخفي في العادة. فأثبت الله الرؤية والعلم مع انتفاء الشرائط. فقوله: {إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} إشارة إلى الصغر. وقوله: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} إشارة إلى الحجاب. وقوله: {أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ} إشارة إلى البعد، فإنها أبعد الأبعاد. وقوله: {أَوْ فِي الْأَرْضِ} إشارة إلى الظلمات، فإن جوف الأرض أظلم الأماكن. وقوله: {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} أبلغ من قول القائل: (يعلمها الله)، لأن من يظهر له الشيء ولا يقدر على إظهاره لغيره يكون حاله في العلم دون حال من يظهر له الشيء ويظهره لغيره، فقوله: {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} أي يظهرها للإشهاد. وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} أي نافذ القدرة. {خَبِيرٌ}: أي عالم ببواطن الأمور" (4). إن ضرب هذا المثل بعد قوله: {لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} أنسب شيء؛ لأنه إذا كان الله يأتي بمثقال حبة الخردل من السماوات أو الأرض ومن كل مكان فماذا يفعل الشريك؟ وأين ملكه؟ وما قوته؟ وما قدرته إذا كان لا يستطيع أن يمنع استخلاص هذا الجزء الحقير اليسير؟ ولم الشرك؟!. وهذا من أظهر الحجج على إبطال الشرك وانتفاء الشريك. لقد جاء لقمان بهذا المثل لابنه ليبين له أنه لا يصح أن يكون الله شريك، ولم يكتف بمجرد النهي وذلك ليقتنع ابنه بما يقول، وفي هذا توجيه للآباء والمرشدين أن لا يوغلوا في الأوامر والنواهي من دون ذكر حجة أو دليل أو تعليل، والله أعلم. قد تقول: لقد قال هنا: {إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}. وقال في مكان آخر: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} {الأنبياء: 47}. فكان بينهما بعض اختلاف في التعبير، من ذلك: 1- إن فعل الشرط وجوابه في لقمان مضارعان، وفي الأنبياء ماضيان. 2- وإن فعل الكينونة في لقمان مسند إلى مؤنث {إِنْ تَكُ}. وفي الأنبياء مسند إلى مذكر: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ}. 3- ذكر أماكن وجود مثقال الحبة في لقمان ولم يذكرها في الأنبياء. 4- كما اختلفت خاتمة كل من الآيتين. فما السبب؟ والجواب: أن سياق كل من الآيتين يوضح ذلك. أما سياقها في لقمان فهو واضح. وأما في سورة الأنبياء فالآية في الكلام على اليوم الآخر، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} {الأنبياء: 47}. فاتضح بذلك سبب الاختلاف: 1- أما من حيث الاختلاف في فعل الشرط وجوابه فإن آية لقمان فيما يفعله الإنسان في الدنيا. والدنيا لا تزال باقية والأفعال فيها مستمرة، فكان فعل الشرط وجوابه مضارعين. وأما آية الأنبياء فالكلام فيها على موقف من مواقف القيامة وهو موقف الحساب ووزن الأعمال، وقد انقطعت الأعمال وأحضرت للوزن فعبر عن ذلك بالماضي فقال: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا}. ٢- وأما الاختلاف في إسناد فعلي الكينونة فإنه قال في آية لقمان: {إِنَّهَا إِنْ تَكُ} فكان اسم (إن) ضميرًا مؤنثًا، أي الفعلة أو "الخصلة من الإساءة والإحسان لفهمها من السياق" (5) أو ضمير القصة (6). فكان الفعل مسندًا إلى مؤنث. في حين كان الكلام في الأنبياء على المذكر قال: {فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ} أي الشيء، فأسند الفعل إلى المذكر. 3- وأما ذكر أماكن وجود مثقال الحبة في لقمان فذلك لبيان قدرة الله وشمولها ليعرف لقمان ابنه بذلك ويبطل عقيدة الشرك. وأما في الأنبياء فالسياق مختلف، وهو سياق الحساب ووزن الأعمال وليس ذكر أماكنها. 4- وأما اختلاف خاتمة كل من الآيتين فسببه واضح أيضًا، ذلك أن آية الأنبياء في الحساب فقال: {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}. وفي لقمان في استخلاص مثقال الحبة من أماكن وجودها الخفية فقال: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}. فناسب كل تعبير موطنه. وقد تقول: كيف جرى التقديم والتأخير في هذه الآية، فقد ذكر الصخرة أولًا ثم ذكر السماوات بعدها ثم ذكر الأرض، فما سبب ذلك؟. والجواب: أنه ذكر الصخرة أولًا، والصخرة قد تكون في السماء، وقد تكون في الأرض، فقد تكون في الأجرام السماوية صخور كالقمر والمشتري وغيرهما، وقد تكون صخور سابحة في الفضاء. فذكر الصخرة التي يشترك وجودها في السماء والأرض. ثم ذكر السماوات وقدمها على الأرض، وهو الخط الجاري في السورة، فحيث اقترنت السماوات بالأرض قدم السماوات وذلك في أكثر من موطن: قال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} {لقمان: 10}. وقال: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ} {لقمان: 16}. وقال: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} {لقمان: 20}. وقال:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} {لقمان: 25}. وقال: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} {لقمان: 26}. وحيث قدم السماوات وأخر الأرض في السورة ذكر بجنب الأرض أمورًا تتعلق بالأرض أو بسكان الأرض وذلك نحو قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ....} {لقمان: 10}. وقوله: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ ...... يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ} {لقمان: 16 - 17}. وقوله: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ ...} {لقمان: 20}. وقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} {لقمان: 25}. وقوله: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ }{لقمان: 26 – 27}. فكان تقديم السماوات على الأرض في الآية جاريا على نسق ما ورد في السورة. (1) انظر معاني النحو 1/290. (2) البرهان 1/407 – 408. (3) ينظر البحر المحيط 7/182. (4) التفسير الكبير 9/121. (5) روح المعاني 21/88. (6) انظر البحر المحيط 7/182. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 436 إلى ص 443.
  • ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴿١٧﴾    [لقمان   آية:١٧]
{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)} بعد أن نهى لقمان ابنه عن الشرك وبين له أسس العقيدة السليمة، أمره بالعبادات، وبدأ بأهم العبادات وأوجبها وهي الصلاة، وهي العبادة التي لا تسقط عن المكلف بحال من الأحوال، وهي أول ما يسأل عنه المرء يوم القيامة، وكرر نداءه المحبب (يا بني) لأن ذلك مظنة الاستجابة. وقال له: {أَقِمِ الصَّلَاةَ} ولم يقل له: (صل) ذلك لأن إقامة الصلاة تعني الإتيان بها على أتم حال وأكمله من قيام وركوع وسجود وخشوع وقراءة قرآن وذكر. ثم أمره بعد إقامة الصلاة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فأمره بنوعين من العبادات: ما يتعلق بالنفس وما يتعلق بالمجتمع. فالصلاة تكميل للنفس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكميل للمجتمع. ذلك أن من حق المجتمع على الفرد أن يحفظه ويرسى فيه قواعد الخير والقوة، ويجتث منه عناصر الهدم والفساد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أبرز ما يؤدي إلى ذلك. ثم قال له: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} لأنه يعلم أن من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر تعرض للأذى والمكاره، فأمره بالصبر على ما يلقى. ومن حكمة لقمان أن أمر ابنه بذلك مع علمه أنه قد يصيبه من جراء ذلك أذى ليس بالقليل، وهذا خلاف المعهود من عموم الآباء، فإن الآباء عادة يخشون على أبنائهم ويطلبون منهم عدم التعرض للناس من أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، لأنه قد يلحقهم من جراء ذلك أذى يرهقهم. أما لقمان فأدرك بثاقب حكمته أن بقاء المجتمع وحفظه وصيانته من عوامل التخريب أولى من راحة ابنه وسلامته، فحث ابنه ليقوم بهذه المهمة على حبه له، وأوصاه بالصبر على ما يصيبه من المكاره. وفي هذا توجيه للآباء عظيم أن يوجهوا أبناءهم للقيام بهذه المهمة الشاقة ويحثوهم عليها مهما لقوا في سبيل ذلك من عنت وأذى، فإن الخير الذي يعود عليهم وعلى المجتمع من القيام بذلك أعظم بكثير من الأذى الذي قد يلحقهم منه. {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}، أي من الأمور الواجبة المقطوعة التي لا ينبغي أن يتراخى المرء فيها أو يتهاون. جاء في (التفسير الكبير): "يعني أن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يؤذي فأمره بالصبر عليه. وقوله: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}، أي من الأمور الواجبة المعزومة، أي المقطوعة" (1). وقد تقول: لقد قال هنا: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} فأكده بإن، وقال في موطن آخر: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} {الشورى: 43} فأكده بإن واللام فما الفرق؟ والجواب: أن المقامين مختلفان، ذلك أنه قال في لقمان: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}، فأمره بالصبر. وقال في الشورى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} فأضاف المغفرة إلى الصبر، أي أن تصبر على ما أصابك وتغفر لمن أساء إليك. وهذا أشق على النفس من مجرد الصبر، فاحتاج إلى زيادة التوكيد فقال: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (2). (1) التفسير الكبير 9/121 – 122. (2) انظر التعبير القرآني 201. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 443 إلى ص 445.
  • ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴿١٨﴾    [لقمان   آية:١٨]
{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)} "انتقل لقمان بابنه إلى الآداب في معاملة الناس فنهاه عن احتقار الناس وعن التفاخر عليهم، وهذا يقتضي أمره بإظهار مساواته مع الناس وعد نفسه كواحد منهم" (1). فنهاه عن التكبر عليهم والإعراض عنهم. ومعنى تصعير الخد إمالته عنهم تكبرًا وإعراضًا. والمرح هو النشاط مع الزهو والخيلاء "فالمرح مختال في مشيته" (2). والاختبال: "من الخيلاء، وهو التبختر في المشي كبرًا" (3). و(مختال) مفتعل من (خال) يقال: خال الرجل واختال إذا تكبر. والمختال: الصلف المتباهي الجهول المعجب بنفسه (4). و(اختال) أبلغ من (خال) في التكبر والإعجاب بالنفس؛ لأنه على وزن (افتعل). وإن من معاني (افتعل) المبالغة في معنى الفعل. فالمختال هو المبالغ في التكبر والتباهي والإعجاب بالنفس وفي سائر معاني الوصف. و(الفخور) من الفخر، وهو تعداد ما أعطي من مال أو نسب أو غير ذلك والمباهاة في ذلك. جاء في (روح المعاني): "الفخور من الفخر، وهو المباهاة في الأشياء الخارجة عن الإنسان كالمال والجاه، ويدخل في ذلك تعداد الشخص ما أعطاه لظهور أنه مباهاة بالمال" (5). وجاء في (المحرر الوجيز): "قال مجاهد: الفخور هو الذي يعدد ما أعطى ولا يشكر الله تبارك وتعالى، قال: وفي اللفظ الفخر بالنسب وغير ذلك" (6). والفخور على زنة فعول، وهو من صيغ المبالغة للدلالة على الإكثار من إظهار ذلك والمبالغة فيه. وقال: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ}، ولم يقل: (على الأرض) كما قال في وصف عباد الرحمن: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} {الفرقان: 63}، ذلك أن (في) تفيد الظرفية، أي كأنه يريد أن يخرق الأرض برجليه من شدة مرحه، كما قال تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} {الإسراء: 37} وأما (على) فتفيد الاستعلاء فقال: {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ}، وذلك لأنه قال: (هونًا) أي على مهل بسكينة ووقار، فناسب كل حرف موضعه. إن الأبنية التي وردت في الآية كلها تفيد المبالغة: فقوله: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} ما يدل على المبالغة في المرح، ذلك أنه جاء بالحال مصدرًا وهو يدل على المبالغة. وقوله: (مختال) يدل على المبالغة في الوصف، لأن صيغة مفتعل تفيد المبالغة. وقوله: (فخور) يدل على المبالغة في الفخر. وقد تقول: ولم جاء بالوصفين على المبالغة، أفترى أن الذي لا يبالغ في الوصف لا يشمله انتفاء الحب؟ والجواب: أنه ليس الأمر على ما توهمت، فإخباره أن الله لا يحب المبالغة في الوصف السيئ لا يعني أنه يحب غير المبالغ، وإنما هو إخبار عن الوصف في المقام الذي ورد فيه. فقولك: (أنا لا أحب الكذوب) لا يعني أنك تحب الكاذب. وقولك: (إني أحب الصدوق) لا يعني أنك لا تحب الصادق. فقد تقول في مقام: (أنا لا أحب الكذوب)، وقد تقول في مقام آخر: (أنا لا أحب الكاذب). وقد تقول في مقام: (أنا أحب الصدوق)، وقد تقول في مقام آخر: (أنا أحب الصادق) بحسب ما يقتضيه المقام. والبلاغة - كما هو معلوم - إنما هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال. ولذا قال الله مرة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} {النساء: 107}، بصيغة المبالغة {خَوَّانًا}، وقال مرة أخرى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} {الأنفال: 58}، بصيغة اسم الفاعل لا بصيغة المبالغة. وأخبر الله عن نفسه مرة فقال: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} {الشورى: 23}. فقال: (شكور) بصيغة المبالغة، وقال مرة أخرى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} {البقرة: 158}، بصيغة اسم الفاعل بحسب المقام الذي اقتضى كلا منهما. فإنه قال في سورة النساء: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} {النساء: 107} فقال: (يختانون) بوزن (يفتعلون) الذي يفيد المبالغة في الخيانة فقال: (خوانًا) بصيغة المبالغة. ثم ذكر صفات هؤلاء الخوانين بقوله: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} {النساء: 108 – 112}. فقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} ولم يقل: (خائنًا) لأن هؤلاء خوانون، أي مبالغون في الخيانة. في حين قال تعالى في الأنفال: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} {الأنفال: 58}، فلم يذكر أنهم خانوا وإنما خيفت منهم الخيانة فقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} ولم يقل: (إنه لا يحب الخوانين) فإنهم لم يخونوا أصلاً، فإذا خان هؤلاء فسيكونون خائنين، والله لا يحب الخائنين. فصفات السوء بعضها أشد من بعض والله يبغضها جميعًا، ولكن يبغض المبالغ فيها أشد. وصفات الخير بعضها أشد من بعض والله يحبها جميعًا، ولكنه يحب المكثر منها أشد. فالذي يصعر خده للناس ويمشي في الأرض مرحًا هو مبالغ في الصفات المذمومة، فأخبر أن الله لا يحب المبالغين في الصفات المذمومة، ولو قال: (إن الله لا يحب كل خائن فاخر) لم يفهم أن من تقدم مبالغ في الصفات المذمومة. ونحو ذلك أنه قد يبالغ إنسان في الكذب، ويكذب مرة بعد مرة فنقول له: (أنا لا أحب الكذاب) إشارة إلى أنه كثير الكذب. وتقول: (أنا لا أحب الكاذب) لمن كذب مرة ولم يعتد الكذب. لقد جمع الله في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} بين وصفين أحدهما في السلوك وهو المختال، والآخر في القول وهو الفخور. فأخبر بذلك أنه يبغض الذميم من الفعل والقول. وهذا جاء بعد قوله: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ}، ذلك لأن الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر عليه قبل غيره أن يكون متواضعًا حسن القول والفعل لا يختال ولا يفخر، وهذا من ألزم الأشياء للدعاة والمرشدين. إن هذا لازم على كل فرد، وهو على الدعاة ألزم وأوجب. قد تقول لقد قال هنا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}، فأكد الجملة بإن، وقال في سورة الحديد: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} {الحديد: 23} من دون توكيد، فما الفرق؟ والجواب: أن المقام مختلف، فإن المقام في لقمان في بيان آداب المعاملات وحسن التصرف مع الناس فقال: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} {لقمان: 18 – 19}. فنهاه عن الكبر وعن المشي في الأرض مرحًا وطلب منه القصد في المشي وعدم رفع الصوت فناسب ذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} بالتوكيد. وأما في سورة الحديد فليس الكلام على ذلك، فهو ليس في بيان آداب المعاملة ولا في العلاقات بين الناس فلم يؤكد ذلك، قال تعالى: {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} {الحديد: 23}. ألا ترى أنه لما كان الكلام في سورة النساء على العلاقات بين الناس وإحسان المعاملة لهم أكد التعبير بان كما أكده في لقمان فقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} {النساء: 36}. فأمرنا بإحسان المعاملة مع من ذكر من الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين وإحسان المعاملة إلى الجار حتى انتهى إلى ملك اليمين فناسب أن يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} بالتوكيد. فناسب كل تعبير مكانه. والله أعلم. (1) التحرير والتنوير 21/166. (2) المحرر الوجيز 11/503. (3) روح المعاني 21/90. (4) ينظر لسان العرب (خول) 11/226 – 228. (5) روح المعاني 21/90. (6) المحرر الوجيز 11/503. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 445 إلى ص 451.
  • ﴿وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ ﴿١٩﴾    [لقمان   آية:١٩]
{وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)} {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} أي توسط في المشي بين الإسراع والإبطاء. والمشي إنما يكون بقدر الحاجة، فإن احتجت إلى الإسراع أسرعت، وإلا فتوسط في مشيك، ولا يكن سمتك التماوت في المشي فإنه مذموم. {وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} أي اخفض منه، وقال: (اغضض من صوتك) ولم يقل: (اغضض صوتك) لأنه ليس المطلوب أن يخفض صوته كله فلا يسمع، وإنما المطلوب منه بقدر ما يحتاج إليه السامعون، فلا يكون أعلى من ذلك فيزعجهم، ولا يكون أقرب إلى الهمس فلا يسمعون.. وهذا كما ترى إشارة إلى التوسط والاعتدال فيما ذكر. جاء في (التفسير الكبير): "لما قال: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} وعدم ذلك قد يكون بضده، وهو الذي يخالف غاية الاختلاف، وهو مشي المتماوت الذي يرى من نفسه الضعف تزهدًا فقال: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ} أي كن وسطًا بين الطرفين المذمومين... {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} إشارة إلى التوسط في الأفعال والأقوال" (1). {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} أي أقبحها، فذكر من يرفع صوته أكثر مما ينبغي بصوت الحمار ونكره في النفوس ليغض منه. فإن قلت: لم و صوت الحمير ولم يجمع؟. قلت: ليس المراد أن يذكر صوت كل واحد من آحاد هذا الجنس حتى يجمع، وإنما المراد أن كل جنس من الحيوان غير الناطق له صوت، وأنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس، فوجب توحيده" (2). فإن قلت: ولم قال هنا: (لصوت الحمير) ولم يقل: (لصوت الحمر) وكلاهما جمع الحمار، مع أنه قال في موطن آخر: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} {المدثر: 50}، فجمع على الخمر؟ فنقول: إن القرآن استعمل (الحمير) جمعًا للحمار الأهلي، واستعمل (الحمر) جمعًا للحمار الوحشي فقال: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} (النحل: 8}. وما عرفه عموم الناس من الأصوات المنكرة صوت الحمر الأهلية وهي التي تعيش معهم فجمعه على الحمير. هذا علاوة على فواصل الآية، والله أعلم. (1) التفسير الكبير 9/122 – 123. (2) الكشاف 2/518. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 451 إلى ص 452.
  • ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ ﴿٢٠﴾    [لقمان   آية:٢٠]
{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)} انتهت وصية لقمان لابنه وبدأ الآن كلام آخر وهو كلام الله يخاطب عباده قائلًا: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ....} وهذا الكلام متصل بكلامه سبحانه قبل الوصية وهو قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ ... هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي} فذكر هناك خلق السماوات وإلقاء الرواسي في الأرض وبث الدواب وغير ذلك، وذكر هنا النعم التي أنعمها الله علينا في السماوات والأرض بتسخير ما فيها لنا وإسباغ النعم علينا فهو الخالق وهو المسخر وهو المفيض بالنعم. وكان المظنون والمتوقع أن معرفة هذا الأمر تدعو الناس إلى عبادته وطاعته سبحانه، لكن قسمًا من الناس مع ذلك كله يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. إن هذه الآية مرتبطة بأول السورة، ذلك أنه قال في أول السورة: {تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} فوصف الكتاب بأنه حكيم، وذكر أنه هدى ورحمة للمحسنين، وذكر أن هؤلاء يجادلون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. فقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} يقابل وصف الكتاب بأنه حكيم. وقوله: {وَلَا هُدًى} يقابل وصف الكتاب بأنه هدى. وقوله: {وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} نفى وجود الكتاب المنير عندهم، وقد أثبته في الابتداء وأشار إلى آياته فقال: {تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}. وقال: {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} وهؤلاء لم يحسنوا في الجدال لأنهم جادلوا بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. وأما الرحمة المذكورة في أول السورة فتقابلها رحمته سبحانه بخلقه في تسخيره لهم ما في السماوات وما في الأرض وإسباغ النعم الظاهرة والباطنة عليهم. ثم لنلاحظ التعبير في هذه الآية فإنه جاء بأحسن ترتيب. فقد قال: {أَلَمْ تَرَوْا} والخطاب لعموم العقلاء من الخلق، ولم يقل (ألم تر) بخطاب المفرد. وقال: {سَخَّرَ لَكُمْ} فذكر نعمته بالتسخير لعموم الخلق. وقال: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فشمل عموم ما فيهما، وهذا أعم تسخير وأشمله، فلم يقل كما قال في مواطن: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}، {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ}، {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}. وقال: (أسبغ) والإسباغ هو الإفاضة في العطاء وغيره، والزيادة في ذلك، وليس مجرد العطاء. وقال: (نعمه) فجاء بجمع الكثرة، ولم يقل: (أنعمه) وذلك للدلالة على كثرة النعم. وقال: (ظاهرة وباطنة) للدلالة على شمول النعم بكافة أنواعها. وهو أوسع شمول وأعمه. وقال: {بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} فأفاض في ذكر مركب الجهل وعناصره. فأوسع وأفاض في المسخر لهم وهم عموم الخلق بقوله: (لكم). وأوسع وأفاض فيما سخره لهم وهو ما في السماوات وما في الأرض. وأوسع وأفاض في الفعل بقوله: (أسبغ). وأوسع وأفاض في النعم بقوله: (نعمه). وأوسع في الشمول والعموم وهو قوله: (ظاهرة وباطنة). وأوسع وأفاض في ذكر عناصر الجهل وهو قوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ}. ثم إن عناصر الجهل هذه تشمل عناصر الجهل الباطن والظاهر. فقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} نفى عنهم العلم، والعلم إنما هو في النفوس، وهو لا يظهر للرائي وإنما تظهر آثاره أو بعض آثاره، فأنت لا تعلم ماذا يحمله الشخص من علم ولا مقداره من مجرد رؤيته، فهو من الأمور الباطنة. وقوله: (ولا هدى) نفى عنهم الهدى، والهدى يكون ظاهرًا وباطنًا. فمن الهدى الظاهر الكتب، ولذلك سمى القرآن كتاب الله هدى، فقد قال: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} {البقرة: 2}، وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ }{النحل: 89}. ومن الهدى الظاهر أدلاء الطريق وعلاماته، ومنه قوله تعالى على السان موسى عليه السلام: {لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} {طه: 10}. وذكر القرآن النجوم والجبال والسبل للهداية فقال: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} {النحل: 16}، وقال: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} {النحل: 15}. ومن الهدى الباطن توفيق الله للإنسان لاتباع الحق بما يقذفه في قلبه من نور وذلك نحو قوله تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} {الكهف: 13}، وقوله: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} {مريم: 76}، وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} {السجدة: 13}، وقوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} {القصص: 56}، فهذا توفيق من الله ونور يقذفه في قلب من يشاء من عباده فيهتدي أو يزداد هدى. وقوله: {وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} نفى وجود الكتاب المنير عندهم والكتاب ظاهر مقروء. فنفى عنهم كل عناصر العلم والهداية ما ظهر منها وما بطن. وقد تدرج في ذكر العناصر من الباطن إلى المشترك إلى الظاهر. ثم وصف الكتاب بأنه منير؛ لأن هؤلاء قد يرجعون إلى كتب غير منيرة مثل ذلك الذي يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله، أو يرجعون إلى الكتب المحرفة، فهذه الكتب لا تهدي الضال. جاء في (التفسير الكبير ): "قال في الكتاب: {وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} لأن المجادل منه من كان يجادل من كتاب ولكنه محرف مثل التوراة بعد التحريف، فلو قال: (ولا كتاب) لكان القائل أن يقول: لا يجادل من غير كتاب، فإن بعض ما يقولون فهو في كتابهم ولأن المجوس والنصارى يقولون بالتثنية والتثليث من كتابهم، فقال: {وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} فإن ذلك الكتاب مظلم" (1). إن المجادلة في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير أنكر المجادلات، وهي منكرة في العقول كإنكار صوت الحمير في الأذان أو أشد نكرًا. ومن لطيف الموافقات أن تكون هذه الآية بعد قوله: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (1) التفسير الكبير 9/124. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 452 إلى ص 456.
  • ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ ﴿٢١﴾    [لقمان   آية:٢١]
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)} أراد أن يبين ضلالهم وجهلهم وقلة فهمهم وإدراكهم فلم يقل: (وإذا قيل لهم اتبعوا سبيلنا) أو ما عندنا أو كتابنا لئلا تأخذهم العزة بالإثم، بل قال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ} الله الذي خلقهم وسخر لهم ما في السماوات وما في الأرض وأسبغ عليهم نعمه. وقال: (إذا قيل لهم) ولم يذكر فاعلًا معينًا لأنه لا يتعلق غرض بذكره، ولئلا يظن أن رفضهم بسبب هذا القائل، ولو كان القائل غيره لم يكن جوابهم كذلك، بل يكون هذا جوابهم أيا كان القائل. {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا} فجعلوا آباءهم بإزاء الله سبحانه. إنهم لم يقولوا: (لو نعلم أن هذا أنزله الله لاتبعناه)، ولو قالوا ذلك لكان معهم حديث آخر ولعذرهم السامع حتى يقيم عليهم الحجة، ولكنهم آثروا اتباع آبائهم على ما أنزل الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. ثم قال تعالى: {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} وهذا السؤال تعجيب من حالهم، ذلك أن كل معتنق فكرة أو دعوة أو عقيدة يبتغي بذلك عاقبة حسنة ومآلًا سعيدًا. وقد ذكر أمرين كل واحد منهما ينبغي الفرار منه. فقد ذكر أن الشيطان هو الذي يدعوهم إلى ذلك، وأن عاقبة من اتبعه عذاب السعير، فكيف يتبعونه ولا يتبعون ما أنزل الله؟. وهذا إهابة بكل عاقل لأن ينجو بجلده مما هو عليه ويفر منه إلى الله ويسلم وجهه إليه سبحانه. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 457 إلى ص 457.
إظهار النتائج من 11271 إلى 11280 من إجمالي 11693 نتيجة.