عرض وقفات أسرار بلاغية

  • ﴿وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ ﴿٧٣﴾    [يس   آية:٧٣]
{وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) } قدم الضمير العائد عليهم في الجار والمجرور (لهم) على ضمير الأنعام في قوله: (فيها) لأن الكلام إنما هو عليهم وهي مخلوقة لهم. فهم سبب وجودها والعلة المسببة لخلقها، ثم ذكر ضمير الأنعام بعد ذلك. ثم ذكر أن لهم فيها منافع عدا الركوب والأكل كالجلود والأوبار والأصواف وغيرها، وكالحراثة وما إلى ذلك (1). والمشارب تعم شيئين: اللبن وأدوات الشرب، فإن من الجلود ما يتخذ أواني للشرب والأدوات من القرب وغيرها (2). فجمع بقوله: (مشارب) معنيين، ولو قال: (لهم فيها شراب) لم يفد إلا معنى واحدًا وهو اللبن. وذكر المشارب بعد المنافع من باب ذكر الخاص بعد العام، وذلك لأهميتها واعتناء العرب بها. وقدم الأكل على الشرب كما هو في سائر القرآن الكريم من تقديم الأكل على الشرب كقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} {الأعراف: 31} وذلك الأهمية الأكل وصعوبة الحصول عليه. ولأن الأكل من الأنعام أعم من الشرب، فإن الأكل يكون من إناثها وذكورها صغارها وكبارها، أما الشرب فيكون من الإناث خاصة وفي حالات خاصة، فقدم ما هو أهم وأعم. وقد أخر ذكر المشارب عن بقية المنافع؛ لأن ما تقدم من المنافع يمكن الانتفاع به متى شاء صاحبها إلا المشارب فإنها لا تكون إلا في وقت معين وهو وقت الإرضاع ولا يكون في غيره، فأخرها لمحدودية الانتفاع بها والله أعلم {أَفَلَا يَشْكُرُونَ} أي ألا يكون ذلك سببًا لشكرهم لاستدامة النعم عليهم؟ وقال ذلك بصيغة الاستفهام لأن الاستفهام في نحو هذا أدعى إلى الحث واستثارة النفوس إلى مقابلة النعم بالشكر وأدل على بيان سوء صنيعهم إن لم يفعلوا. وجاء بالفاء الدالة على السبب؛ وذلك لأنه تقدم ما يستدعي الشكر وهو ما ذكره من النعم. وأطلق الشكر ليتناول المنعم والنعمة كما مر بيان ذلك في آية سابقة في السورة. (1) ينظر الكشاف 2/594، التفسير الكبير 26/106، روح المعاني 23/51. (2) ينظر التفسير الكبير 26/106. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 352 إلى ص 353.
  • ﴿وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ ﴿٧٤﴾    [يس   آية:٧٤]
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) } بعد أن ذكر ما خلق لهم من الأنعام وأسبغ عليهم من النعم التي تستدعي عبادة الخالق وشكره ذكر أنهم اتخذوا من دون الله آلهة. وفي ذلك من التوبيخ والتبكيت على مقابلة الإحسان بالإساءة ما فيه. فهم بدل أن يشكروا الخالق المنعم اتخذوا من دونه آلهة عاجزة لا تضر ولا تنفع على رجاء أن ينصروهم. جاء في (التفسير الكبير): " {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ }إشارة إلى بيان زيادة ضلالهم ونهايتها، فإنه كان الواجب عليهم عبادة الله شكرًا لأنعمه فتركوها وأقبلوا على عبادة من لا يضر ولا ينفع، وتوقعوا منه النصرة مع أنهم هم الناصرون لهم كما قال عنهم: {حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ}، وفي الحقيقة لا هي ناصرة ولا منصورة" (1). وأطلق النصر والجهة التي ينصرون عليها، فهم على أية حال يريدون النصر في كل موطن يستدعي النصر، وأن ينصروهم عند الله بأن يكونوا شفعاء لهم عنده يقربونهم إليه. (1) التفسير الكبير 26/107. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 353 إلى ص 354.
  • ﴿لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ ﴿٧٥﴾    [يس   آية:٧٥]
{لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} لم يقل: (لا ينصرونهم) لأن ذلك قد يدل على أنهم قادرون على النصر ولكن لا يفعلون ذلك وإنما قال {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} ليدل على عجزهم وضعفهم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 354 إلى ص 354. * * * {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} قيل: المعنى أن الآلهة لا يستطيعون نصرهم وإنما هم؛ أي: عابدوهم جند لهم يدافعون عنهم وينصرونهم، فهم بدل أن ينتصروا بهم صاروا جنودًا لهم يدافعون عنهم وينصرونهم، فهم بدل أن ينتصروا بهم أنفسهم، وهذا أسوأ ما يكون من خيبة الأمل وانقطاع الرجاء. جاء في (روح المعاني): "(وهم) أي أولئك المتخذون المشركون (لهم) أي لآلهتهم {جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} أي معدون لحفظهم والذب عنهم في الدنيا" (1). وجاء في (فتح القدير): "أي والكفار جند للأصنام محضرون، أي يحضرونهم في الدنيا. قال الحسن: يمنعون منهم ويدفعون عنهم، وقال قتادة: أي يغضبون لهم في الدنيا. قال الزجاج: ينتصرون للأصنام وهي لا تستطيع نصرهم. وقيل: المعنى: يعبدون الآلهة ويقومون بها فهم لها بمنزلة الجند. هذه الأقوال على جعل ضمير (هم) للمشركين وضمير (لهم) للآلهة" (2). وقيل: بل المعنى أنهم جند لهم، أي جند للآلهة محضرون للعذاب في الآخرة، وذلك أن هذه الآلهة توقد بها النار يوم القيامة فتتقدمهم إلى النار وهم يتبعونهم إليها كما يتبع الجند قائدهم. أو أن الآلهة تكون جندا لهم محضرة للعذاب. جاء في (الكشاف): "اتخذوا الآلهة طمعًا في أن يتقووا بهم ويعتضدوا بمكانهم، والأمر على عكس ما قدروا، حيث هم جند لآلهتهم معدون (محضرون) يخدمونهم ويذبون عنهم ويغضبون لهم، والآلهة لا استطاعة بهم ولا قدرة على النصر، أو اتخذوهم لينصروهم عند الله ويشفعوا لهم، والأمر على خلاف ما توهموا، حيث هم يوم القيامة جند معدون لهم محضرون لعذابهم؛ لأنهم يجعلون وقودًا للنار" (3). وفيه معنى لطيف آخر وهو أن هذه الآلهة لا تستطيع نصرهم في حال أن لهم جندا محضرين، أي هي لا تستطيع النصر ولو كان لهم أي للآلهة جند محضرون معدون فكيف إذا لم يكن لهم ذلك؟ فلا شك أنهم سيكونون أعجز وأذل وأضعف، وعلى هذا تكون الواو واو الحال. وذكر الفخر الرازي معنى آخر: وهو أن الآلهة لا تستطيع نصرهم، ولو كانت هي جندًا محضرين لنصرتهم أي: حتى لو اجتمعت الآلهة وكانت جندًا معدة لنصرهم لم تستطع أن تنصرهم فكيف إذا لم تكن كذلك؟ جاء في (التفسير الكبير): في قوله: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} "وهو يحتمل معنيين: (أحدهما): أن يكون العابدون جندًا لما اتخذوه آلهة كما ذكرنا. (الثاني): أن يكون الأصنام جندًا للعابدين، وعلى هذا ففيه معنى لطيف وهو أنه تعالى لما قال: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} أكدها بأنهم لا يستطيعون نصرهم حال ما يكونون جندًا لهم ومحضرون (4) لنصرتهم، فإن ذلك دال على عدم الاستطاعة، فإن من حضر واجتمع ثم عجز عن النصرة يكون في غاية الضعف، بخلاف من لم يكن متأهبًا ولم يجمع أنصاره" (5). وهذه المعاني كلها محتملة صحيحة: 1- فإن الآلهة عاجزة وإن عابديهم ينصرونهم ويدفعون عنهم وهم لهم جند محضرون.  2- وأنهم وآلهتهم سيكونون محضرين للعذاب في النار. 3- وأن الآلهة لا تستطيع أن تنصرهم ولو كان لها جند محضرون معدون للنصر فكيف وهي ليست كذلك؟. 4- وهي لا تستطيع أن تنصرهم ولو اجتمعت وكانت جندًا معدين النصرة عابديهم. فجمع هذا التعبير كل هذه المعاني. ولو غير أي لفظ عن مكانه بتقديم أو تأخير لم يؤد هذه المعاني مجتمعة، فلو قال: وهم جند محضرون لهم. أو: وهم جند لهم محضرون. أو: ولهم هم جند محضرون. وكذلك لو قيل أي تعبير آخر لم يفد هذه المعاني مجتمعة، بل ربما اختل المعنى. فكان هذا التعبير أعدل التعبيرات وأحسنها وأجمعها للمعاني المطلوبة. (1) روح المعاني 23/51. (2) فتح القدير 4/371. (3) الكشاف 2/594. (4) كذا، والصواب: (ومحضرين). (5) التفسير الكبير 26/107. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 354 إلى ص 357.
  • ﴿فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ﴿٧٦﴾    [يس   آية:٧٦]
{فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) } نهاه عن أن يحزن لما يقولونه فيه وفي دعوته. فهم يقولون فيه إنه كاذب، وإنه شاعر، وإنه ساحر، وإنه مجنون، ويقولون في دعوته إنها ضلال وإفك وكذب وافتراء، إلى غير ذلك مما يتناجون به من العداوة له وحربه، فنهاه عن أن يحزن لأقوالهم، وقد أطلق القول ليشمل ما يقولونه فيه وفيما يدعو إليه. ثم استأنف معللًا ذلك بقوله: {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}، فلم الحزن والله يعلم سرهم وجهرهم، وهو قادر على إبطال ما يظهرون أو يضمرون؟ إن (ما) في قوله: {مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} تحتمل أن تكون اسمًا موصولًا، أي: نعلم الذي يسرونه والذي يعلنونه، وتحتمل أن تكون مصدرية، أي نعلم إسرارهم وإعلانهم، وهو يعلم ذلك كله إسرارهم وما يسرونه وإعلانهم وما يعلنونه. ولو قال: (ما يسرونه وما يعلنونه) لتعينت الموصولية الاسمية ولم تحتمل المصدرية، فلم يذكر العائد ليشمل المعنيين جميعًا. وأطلق الإسرار والإعلان ليشمل كل ما يسرون وكل ما يعلنون في كل أمر من الأمور، فعلمه يعم الجميع ولا يخص شيئًا دون شيء. جاء في (روح المعاني): "و(ما) موصولة والعائد محذوف، أي نعلم الذي يسرونه من العقائد الزائغة والعداوة لك ونحو ذلك، والذي يعلنونه من كلمات الإشراك والتكذيب ونحوها. وجوز أن تكون مصدرية، أي نعلم إسرارهم وإعلانهم، والمفعول محذوف، أو الفعلان منزلان منزلة اللازم. والمتبادر الأول وهو الأولى" (1). وقد قدم السر على الإعلان، قيل: لأن مرتبة السر مقدمة على مرتبة العلن لأن السر يسبق الإعلان، فهو علة لما يفعله الإنسان، والعلة مقدمة على المعلول. وقيل: إن العلم بالسر يدل على الإحاطة بالمعلومات كلها. فمن كان يعلم السر فهو يعلم العلن من باب أولى. وقيل غير ذلك. جاء في (روح المعاني): "وتقديم السر على العلن لبيان إحاطة علمه سبحانه بحيث إن علم السر عنده كأنه أقدم من علم العلن. وقيل: لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن، إذ ما من شيء معلن إلا وهو أو مباديه مضمر في القلب قبل ذلك. فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية حقيقة. وقيل: للإشارة إلى الاهتمام بإصلاح الباطن فإنه ملاك الأمر، ولأنه محل الاشتباه المحتاج للبيان" (2). والملاحظ في القرآن الكريم أنه لا يقتصر على تقديم السر، فهو - كما يقدم السر على الإعلان - قد يقدم الجهر على الإخفاء، وذلك نحو قوله تعالى: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} {الأعلى: 7}، وقوله: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} {الأنبياء: 110}، وقوله {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} {البقرة: 284}. وهو أحيانًا يكتفي بذكر أحدهما دون الآخر، فقد يكتفي بذكر الإسرار مثلًا كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} {محمد: 26}. وقد يكتفي بذكر الأمور الظاهرة كذكر العمل والصنع ونحوهما وذلك كقوله تعالى: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} {البقرة: 96}، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} {النور: 30}، وكل ذلك بحسب ما يقتضيه المقام. وقد قيل في تقديم الإخفاء على الإعلان، أو الإعلان على الإخفاء: إنه إذا تقدم الكلام على المنافقين أو الكفار قدم الإخفاء، وإذا تقدم ذكر المؤمنين قدم الإبداء، وهذا مطرد في جميع ما ورد من القرآن الكريم. جاء في (ملاك التأويل) في قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}: "أما آية البقرة فلم يجر فيها ذكر النفاق ولا صفة أهله وإنما الخطاب فيها وفي آية الذين قبلها وفيما أعقبت به بعد للمؤمنين فيما يخصهم من الأحكام فورد فيها قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} فقدم فيها بادي أعمالهم بناء على سلامة بواطنهم وتنزههم عن صفة المنافقين. ومنه قوله تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} {المائدة: 99}، فتقدم ذكر ما يبدونه لأنه خطاب للمؤمنين... وهذا جار مطرد فيما يلحق بهذا الضرب كما اطرد بالبدء بالإخفاء على الإعلان حيث يتقدم ذكر أهل الكفر وينتظم الكلام بذكرهم كقوله تعالى: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} {الأنعام: 3} بعد قوله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} {الأنعام: 1}، وكقوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} {التغابن: 4}، وكقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} {النحل: 19} بعد قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} {التغابن: 2}، وكقوله تعالى: {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} {النمل: 74}، فاطرد ما ذكرناه في الطرفين على رعي الإيمان والنفاق، وجاء كل على ما يجب ويناسب" (3). وهذه ملاحظة صحيحة تتبعتها في مواطن قوله تعالى: {مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} وقد وردت في أربعة مواضع في القرآن الكريم وهي: (البقرة 77، هود 5، النحل 23، يس 76). وهذه المواطن خاصة بذكر الكافرين. وقد ورد قوله تعالى: {مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} بالخطاب في موطنين وهما قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} {النحل: 19}، وقوله: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} {التغابن: 4}، وهما ليسا مختصين بالكافرين، وإنما هما من المواطن العامة التي تشمل عموم بني آدم وإن كان قد جرى فيها ذكر للكافرين. أما آية النحل فقد وقعت في سياق تعداد النعم على الإنسان وهي قوله: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ .....} وتستمر إلى قوله: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا... وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} إلى أن يقول: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} {النحل: 17 – 19}. فأنت ترى أنها ذكرت في سياق تعداد النعم. إلا أن الملاحظ أن السياق بدأ في الكلام على المشركين والشرك، فقد بدأت السورة بقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}، وبدأت الآيات بقوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا} الآيات، فهي إذن ذكرت بعد ذكر الإنسان الخصيم لربه المشرك به. ثم يأتي في عقب ذلك مباشرة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} {النحل: 20 – 22}، ويستمر في الكلام على الكفار. على هذا تكون الآية وقعت في سياق الكلام على المشركين والكافرين ولم يرد فيها ذكر للمؤمنين. وأما آية التغابن فقد وقعت في السياق الآتي: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} {التغابن: 2 – 4}. فالسياق لم يختص بالكلام على الكافرين إلا أنه جرى بعدها مباشرة ذكر الكافرين فقال: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} {التغابن: 5 – 7}. فتكون قد وقعت في سياق الكافرين سواء تقدمها ذكر الكافرين أم وقع في عقبها. وعلى أية حال تكون الملاحظة صحيحة، فكل ما تقدم فيه السر على العلن كان في سياق الكلام على الكافرين سواء تقدم الآية أم كان في عقبها. غير أنه مع هذا الخط العام للتقديم والتأخير يكون التقديم والتأخير مناسبًا للسياق الذي ترد فيه الآية. فقوله تعالى مثلًا: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} {البقرة: 284}، إنما قدم الإبداء فيه على الإخفاء لقوله تعالى: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} فإن الحساب يكون على ما يبديه الإنسان ويفعله لا على ما يدور في نفسه من خواطر، فإن ذلك ليس بوسع الإنسان أن يمنعه، "ولهذا لما نزلت هذه الآية اشتد ذلك على الصحابة رضي الله عنهم وخافوا منها ومن محاسبة الله لهم على جليل الأعمال وحقيرها" (4). وورد في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم وغيره أنه لما نزلت هذه الآية على رسول الله  اشتد ذلك على أصحاب رسول الله  فأتوا رسول الله  ثم جثوا على الركب وقالوا: يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله : "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين قبلكم سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير"، فلما أقر بها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} {البقرة: 285}، فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} إلى آخره (5). وكذلك قوله تعالى: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} {الأنبياء: 110}، فإنه قدم الجهر على الكتمان وذلك لما تقدم قبلها قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} {الأنبياء: 109}، والإيذان هو الإعلام والإشهار، وذلك لا يكون إلا جهرًا، وقوله: {عَلَى سَوَاءٍ} يعني "مستوين في الإعلام به لم يطوه عن أحد منهم وكاشف كلهم وقشر العصا عن لحائه" (6) وذلك كله جهر فناسب تقديمه. ونحوه قوله تعالى: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} {الأعلى: 7}، فقد قدم الجهر وذلك لتقدم قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} {الأعلى: 6}، والإقراء لا يكون إلا جهرًا، بخلاف القراءة فقد تكون سرًا وجهرًا. فناسب تقديم الجهر. والمقصود أنه إضافة إلى الخط العام الذي ذكرناه في تقديم السر على العلن، فإن السياق الذي ترد فيه الآية يقتضي ذلك أيضًا. أما الاكتفاء بأحدهما دون الآخر فذلك ما يقتضيه المقام أيضًا وذلك نحو قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} {محمد: 26}. وذلك لأن السياق والمقام يقتضيان ذلك، فقد قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} {محمد: 26}، ولم يقل: (وجهرهم) ذلك لأنه ذكر ما جهروا به وهو قولهم: {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} غير أنهم لم يذكروا الأمر الذي يطيعونهم فيه ولم يبينوه، وإنما أسروه فقال: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} أي لا يخفى عليه ما أسروه، فذكر ما يحتاج إليه المقام، والله أعلم. (1) روح المعاني 23/52. (2) روح المعاني 23/52. (3) ملاك التأويل 1/137 – 138. (4) تفسير ابن كثير 1/338. (5) انظر تفسير ابن كثير 1/338 – 339. (6) الكشاف 2/339. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 357 إلى ص 364.
  • ﴿أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ﴿٧٧﴾    [يس   آية:٧٧]
{أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} {یس: 77 – 83}. قيل: جاء أحد عتاة مكة - قيل: هو أبي بن خلف، وقيل: العاص بن وائل - إلى رسول الله  وفي يده عظم رميم وهو يفته ويذروه في الهواء وهو يقول: يا محمد أتزعم أن الله يبعث هذا؟ قال : نعم يميتك الله ثم يبعثك ثم يحشرك إلى النار. ونزلت هذه الآيات من آخر (يس): {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} إلى آخرهن. وفي رواية أنه قال له بعدما فت العظم البالي: أيحيي الله هذا بعدما أرى؟ فأجابه رسول الله بما ذكرنا (1). (1) ينظر تفسير ابن كثير 3/581. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 364 إلى ص 365. * * * {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)} المقصود هو التعجيب من حال الإنسان بعدما خلقه الله من نطفة فإذا هو مخاصم لربه معاند له، فكان جزاء نعمته عليه أن كان خصمًا لربه مظهرًا خصومته له. وقيل: المقصود بيان قدرة الخالق وذلك أن ربه خلقه من نطفة فإذا هو ناطق مخاصم ذو حجة ولدد مبين عما في نفسه. جاء في (الكشاف): "قبح الله عز وجل إنكارهم البعث تقبيحًا لا ترى أعجب منه وأبلغ، وأدل على تمادي كفر الإنسان وإفراطه في جحود المنعم وعقوق الأيادي، وتوغله في الخسة وتغلغله في القحة، حيث قرره بأن عنصره الذي خلقه منه هو أخس شيء وأمهنه، وهو النطفة المذرة... ثم عجب من حاله بأن يتصدى مثله على مهانة أصله ودناءة أوله لمخاصمة الجبار... وقيل معنى قوله: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} فإذا هو بعدما كان ماء مهينًا رجل مميز منطيق قادر على الخصام مبين معرب عما في نفسه فصيح" (1). وجاء في (روح المعاني): "قوله تعالى: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} أي مبالغ في الخصومة والجدال الباطل، (مبين) ظاهر متجاهر في ذلك... وقيل: معنى قوله تعالى: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ}: فإذا هو بعدما كان ماء مهينًا رجل مميز منطيق قادر على الخصام مبين معرب عما في ضميره فصيح" (2). وجاء في (البحر المحيط): "{فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} الوصف الذي آل إليه من التمييز والإدراك الذي يتأتى معه الخصام، أي فإذا هو بعدما كان نطفة رجل مميز منطيق قادر على الخصام مبين معرب عما في نفسه" (3). والمعنيان مرادان مقصودان، فالإنسان بعدما خلقه ربه من نطفة من ماء مهين وسواه رجلًا إذا هو مخاصم له يتخذ من دونه آلهة. أولًا ينظر الإنسان إلى قدرة خالقه بأن جعل من النطفة إنسانًا عاقلًا ناطقًا مخاصمًا مبينًا عن حجته؟ إن الآية تبدأ بالهمزة الدالة على الإنكار والتعجيب، فهي تنكر عليه فعله وموقفه من ربه وتعجب من حاله، وذلك أن يقابل الإحسان بالإساءة، والنعمة بالجحود، فهو إنكار وتعجيب. ثم جاء بالواو التي قيل فيها إنها عطف على كلام مقدر، وقيل أيضًا: إن المقصود بها الاستدلال بالمشاهد وكثرة الوقوع كما سبق أن ذكرنا، وقيل: هي عطف على قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ}. ثم ذكر (الإنسان) فقال: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ} مع أنه جاء بضمير الغائبين قبلها فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ}، وذلك أن الاستدلال في هذه الآية يخص كل إنسان وهو حجة على كل فرد، فكان الأولى أن ينظر في نفسه ويتأمل فيها وفي خلقها وينظر في أصله وماذا هو الآن. أما قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا} فهو كلام على مجموعة من الناس، فهذه الآية أعم وأشمل. جاء في (التفسير الكبير): "قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} معناه الكافرون المنكرون التاركون عبادة الله المتخذون من دونه آلهة، أولم يروا خلق الأنعام لهم. وعلى هذا فقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ} كلام أعم من قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا}، لأنه مع جنس الإنسان وهو مع جمع منهم، فنقول: سبب ذلك أن دليل الأنفس أشمل وأكمل وأتم وألزم، فإن الإنسان قد يغفل عن الأنعام وخلقها عند غيبتها ولكن لا يغفل هو مع نفسه متى ما يكون وأينما يكون، فقال: إن غاب عن الحيوان وخلقه فهو لا يغيب عن نفسه فما باله؟ أولم ير أنا خلقناه من نطفة وهو أتم نعمة؟" (4). وجاء في (روح المعاني): "الهمزة للإنكار والتعجب، والواو للعطف على جملة مقدرة هي مستتبعة للمعطوف كما مر في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا}... إلخ، أي: ألم يتفكر الإنسان ولم يعلم أنا خلقناه من نطفة، أو هي عين تلك الجملة أعيدت تأكيدًا للنكير السابق وتمهيدًا الإنكار ما هو أحق منه بالإنكار لما أن المنكر عين علمهم بما يتعلق بخلق أنفسهم... ويشير كلام بعض الآجلة إلى أن العطف على {أَوَلَمْ يَرَوْا} السابق والجامع ابتناء كل منهما على التعكيس، فإنه تعالى خلق الإنسان ما خلق ليشكر، فكفر وجحد المنعم والنعم، وخلقه سبحانه من نطفة قذرة ليكون منقادًا متذللًا فطغى وتكبر وخاصم. وإيراد الإنسان) مورد الضمير لأن مدار الإنكار متعلق بأحواله من حيث هو إنسان" (5). وقال: (خلقناه) بإسناد الخلق إلى ضمير المعظم نفسه ليبين الفاعل وقدرته وإنعامه وتفضله. وقال: (من نطفة) ليذكر الإنسان بأصله، ويذكره بقدرة الخلاق العليم، وكيف تعهد هذه النطفة وجعل منها إنسانًا عاقلًا ناطقًا فيتطامن لخالقه. ثم قال: (فإذا) فجاء بالفاء الدالة على التعقيب، أي: فإذا هو في عقب ذلك مباشرة خصم لربه. والفاء تفيد السبب أيضًا، فكأن إحسان خالقه إليه كان سببًا في كفره وخصومته له. وهذا أعجب شيء وأبعد شيء عن مألوف المعاملات والعادات، إذ المفروض أن يكون الإحسان سببًا إلى الشكر والاعتراف بالفضل والجميل. أما الإنسان فكان الإحسان إليه سببًا لخصومة المنعم عليه وكفره به. فجمع بالفاء بين معنيي التعقيب والسبب. وجاء بـ (إذا) الدالة على المفاجأة للدلالة على أن موقفه هذا مفاجئ وهو غير متوقع أن يفعل هذا مع من أحسن إليه. ومن جهة أخرى تدل الآية على بالغ قدرة الله، فإنه من المفاجآت العجيبة أن تصبح هذه النطفة إنسانًا عاقلًا مخاصمًا ناطقًا بالحجة مدافعًا عن نفسه مبينًا عما في ضميره، فهي مفاجأة من كل وجه. و(الخصيم) هو المبالغ في الخصومة. واختار (الخصيم) لأن الخصيم من يخاصم غيره ويبالغ في ذلك، فدل بذلك على النطق والعقل والقيام بالحجة. و(المبين) هو المفصح عما في نفسه المظهر لخصومته وما يريد إظهاره، فذكر أضعف شيء في طور خلق الإنسان وهي النطفة، وأبلغ شيء فيه وهو الخصيم. وجاء بالجملة اسمية للدلالة على الثبوت، أي ثبوت هذا الأمر في الإنسان. جاء في (التفسير الكبير): "(خصيم) أي ناطق، وإنما ذكر الخصيم مكان الناطق لأنه أعلى أحوال الناطق فإن الناطق مع نفسه لا يبين كلامه مثلما يبينه وهو يتكلم مع غيره، والمتكلم مع غيره إذا لم يكن خصمًا لا يبين ولا يجتهد مثلمًا يجتهد إذا كان كلامه مع خصمه. وقوله: (مبين) إشارة إلى قوة عقله، واختار الإبانة لأن العاقل عند الإفهام أعلى درجة منه عند عدمه... فقوله تعالى: {مِنْ نُطْفَةٍ} إشارة إلى أدني ما كان عليه، وقوله: {خَصِيمٌ مُبِينٌ} إشارة إلى أعلى ما حصل عليه" (6). وجاء في (روح المعاني): "وقوله تعالى: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ} أي مبالغ في الخصومة والجدال الباطل. (مبين): ظاهر متجاهر في ذلك، عطف على الجملة المنفية داخل في حيز الإنكار والتعجيب، كأنه قيل: أولم ير أنا خلقناه من أخس الأشياء وأمهنها ففاجأ خصومتنا في أمر يشهد بصحته مبدأ فطرته شهادة بينة، وإيراد الجملة الاسمية للدلالة على استقراره في الخصومة واستمراره عليها. وفي الحواشي الخفاجية أن تعقيب الإنكار بالفاء وإذا الفجائية على ما يقتضي خلافه مقو للتعجيب، والمراد بالإنسان الجنس، والخصيم إنما هو الكافر المنكر للبعث مطلقًا... وقيل معنى قوله تعالى: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ}: فإذا هو بعدما كان ماء مهينًا رجل مميز منطيق قادر على الخصام مبين معرب عما في ضميره فصيح، فهو حينئذ معطوف على (خلقناه) والتعقيب والمفاجأة ناظران إلى خلقه" (7). إن هذه الآية مرتبطة بما قبلها وما بعدها من الآيات أحسن ارتباط وأبلغه. فهي مرتبطة بقوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ}، وهذه خصومة ظاهرة لخالقهم. ومرتبطة بقوله تعالى: {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} وذلك أنه إذا كان الله خلق الإنسان من نطفة وأنشأه حتى سواه رجلًا، فلا شك أنه يعلم كل ما يسر وما يعلن. وهي مرتبطة بقوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}، فإن الذي خلقه من نطفة أقدر على إعادته في الآخرة، لأن الإعادة أيسر من الابتداء. (1) الكشاف 2/594 – 595. (2) روح المعاني 23/53 – 54. (3) البحر المحيط 7/348. (4) التفسير الكبير 23/53. (5) روح المعاني 23/53. (6) التفسير الكبير 26/108. (7) روح المعاني 23/53 – 54. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 365 إلى ص 370.
  • ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ ﴿٧٨﴾    [يس   آية:٧٨]
  • ﴿قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ ﴿٧٩﴾    [يس   آية:٧٩]
{وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) } المثل هو ما أوردناه في مطلع تفسير هذه الآيات. وقوله: {وَنَسِيَ خَلْقَهُ} من لطيف التذكير والاحتجاج؛ فإنه لو كان ذاكرًا لم يسأل ولم يعجب. ولم يكتف بهذا التذكير بل أجاب بحجة ظاهرة ملزمة فقال: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}، وهي حجة غنية عن التعليق من حيث الإلزام. و(عليم) مبالغ (عالم)، فلما قال: {بِكُلِّ خَلْقٍ} اقتضى ذلك المبالغة في العلم. "والعدول إلى الاسمية للتنبيه على أن علمه تعالى بما ذكر مستمر ليس كإنشائه للمنشآت" (۱). وقد تقول: ولكنه قال في موطن آخر: {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} {الأنبياء: 81}، فقال: (عالمين) مع (كل شيء) ولم يقل: (عليم) مع أن كلمة (شيء) أعم من كلمة (خلق)، فلم ذاك؟ فنقول: إن الله سبحانه وصف نفسه بكل صفات العلم وأحواله، فوصف نفسه بأنه (يعلم) أي بالفعل الدال على الحدوث والتجدد، ووصف نفسه بأنه (عالم) أي باسم الفاعل نحو (عالم الغيب) وهو أثبت من الفعل وأدوم، ووصف نفسه بأنه عليم وعلام بالمبالغة، فجمع لنفسه كل صفات العلم وأحواله، إلا أنه يضع كل وصف أو لفظ في مكانه. ولو رجعنا إلى السياق الذي ورد فيه قوله تعالى: {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} لرأينا أن هذا التعبير هو الأمثل في سياقه، ذلك أن هذا التعبير وقع في سياق مسألة خاصة جدا وهي مسألة داود وسليمان إذ يحكمان في الحرث، وتعليم داود صنعة الدروع وتسخير الريح لسليمان فقال: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ}. وهذا من أخص الخاص ولا يقاس من حيث العموم والشمول بما ذكره في آيات (يس) من خلق الإنسان وخلق السماوات والأرض وغيرها وإحياء الموتى وبعثهم من جديد، وذلك يشمل العلم بكل الخلق وذرات ترابهم وما تفرق من أجزائهم. فناسب (عليم) ما ورد فيه، و(عالمين) ما ورد فيه. (1) روح المعاني 23/55. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 370 إلى ص 372.
  • ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ ﴿٨٠﴾    [يس   آية:٨٠]
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) } إن ارتباط هذه الآية بما قبلها ألطف ارتباط، ذلك أن الكافر استبعد الإحياء بعد الموت، فلفت نظره إلى أمر أدعى إلى الاستبعاد والعجب وهو أن جعل لهم من الشجر الأخضر نارًا يوقدون منه، وهو أمر مستبعد في المألوف، لأن الماء تطفئ النار، فذكر قدرته على ما هو مستبعد في تفكيرهم مما يعرفونه ويألفونه. والمقصود بالشجر هنا عموم الشجر، إلا أنه أظهر ما يكون ذلك في شجرتي المرخ والعفار فيؤخذ قضيب كالسواك من كل شجرة من هاتين الشجرتين فيسحق المرخ على العفار وهو يقطر ماء فتقدح النار وهو ما يعرفونه ويستعملونه في الوقود، وهو أعجب شيء وأبعده في الذهن. جاء في (الكشاف): "ثم ذكر من بدائع خلقه انقداح النار من الشجر الأخضر مع مضادة النار الماء وانطفائها به وهي الزناد التي توري بها الأعراب وأكثرها من المرخ والعفار. وفي أمثالهم (في كل شجر نار واستمجد المرخ والعقار)، يقطع الرجل منهما غصنين مثل السواكين وهما خضراوان يقطر منهما الماء فيسحق المرخ وهو ذكر على العفار وهي أنثى فتنقدح النار بإذن الله" (1). وجاء في (البحر المحيط): "ذكر ما هو أغرب من خلق الإنسان من النطفة، وهو إبراز الشيء من ضده، وذلك أبدع شيء، وهو اقتداح النار من الشجر الأخضر، ألا ترى أن الماء يطفئ النار ومع ذلك خرجت مما هو مشتمل على الماء" (2). وقال: {فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} بالفعل ولم يقل: (موقدون) بالاسم؛ لأن هذا مما يفعلونه عند الحاجة، فجاء بما يدل على الحدوث. (1) الكشاف 2/595. (2) البحر المحيط 7/348. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 372 إلى ص 373.
  • ﴿أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ ﴿٨١﴾    [يس   آية:٨١]
{أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) } بدأ بالاستدلال بخلق الإنسان من نطفة، ثم استدل بما هو مستعجب مما حولهم وهو اتقاد النار من الشجر الأخضر، ثم ترقى إلى خلق السماوات والأرض وهو أعظم وأعجب، ذلك أنه ذكر للإنسان مبدأ خلقه منه وهو النطفة، وذكر للنار أصلًا تخرج منه وهو الشجر الأخضر، ولم يذكر للسماوات والأرض شيئًا خلقهما منه. وهذا أعظم وأعجب فإن الخلق من العدم المحض أعجب وأدل على القدرة، وعلى هذا فلا داعي لاستبعاد البعث بعد الموت فإن أجزاءهم موجودة، وإن جمعها وإعادتها أيسر من خلق شيء ليس له مادة ولا وجود ابتداء وهو خلق السماوات والأرض. ثم قال: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} ولم يقل: (على أن يعيدهم) وذلك ليدل على أنه قادر على ما هو أعجب وهو أن ينشئ خلقًا آخر أمثال هؤلاء من غير نطف ولا أجزاء متفرقة كما خلق السماوات والأرض ابتداء من غير شيء. فذكر ما هو أبعد في الخلق وأعسر من الإعادة. جاء في (البحر المحيط): "ثم ذكر ما هو أبدع وأغرب من خلق الإنسان من نطفة ومن إعادة الموتى وهو إنشاء هذه المخلوقات العظيمة الغريبة من صرف العدم إلى الوجود فقال: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ}" (1). وجاء في (روح المعاني): "الهمزة للإنكار والنفي، والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقام، أي: أليس الذي أنشأها أول مرة، وليس الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارًا، وليس الذي خلق السماوات والأرض مع كبر جرمهما وعظم شأنهما {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} في الصغر والحقارة بالنسبة إليهما" (2). لقد ذكر ههنا صفتين له سبحانه: الأولى: صفة العلم بالمخلوقات كلها فقال: {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}. والأخرى: صفة الخلق، فذكر أنه الخلاق العليم. فإنه لما ذكر العظام البالية ذكر أنه بكل خلق عليم إشارة إلى أنه عليم بكل شيء، يعلم كل شيء عن كل مخلوق، وأين ذهبت ذراته، وأين استقرت في أماكن ملكه، وما ذرات العظام إلا جزء يسير من خلقه. ثم قد لا يكون العلم وحده كافيًا، فقد يعلم إنسان ما جزئيات آلة من الآلات وأماكنها ولكنه لا يستطيع تركيبها، فذكر صفة الخلق على أبلغ حال فقال: {وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ}. فهو بكل خلق عليم، وهو الخلاق العليم. وقال: {الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ}، ولم يقل: (خلاق عليم) لئلا يشاركه في هذين الوصفين أحد، فإن الإنسان قد يكون خالقًا على أحد معاني الخلق وهو (التقدير) وقد يوصف بأنه عليم كما قال تعالى على لسان سيدنا يوسف عليه السلام: {إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} {يوسف: 55}. ولكن لا يوصف بالخلاق العليم غير الله، فجاء بالألف واللام الدالة على القصر والكمال في هاتين الصفتين. فذكر ما به كمال الاتصاف في العلم والخلق. وقد تقول: ولكنه وصف نفسه بأنه عليم في آية سابقة فقال: {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} ولم يعرف الوصف؟ فنقول: لما قال: {بِكُلِّ خَلْقٍ} علم أن ذلك لا يكون لغير الله، فإنه لا يكون عليمًا بكل خلق غير الله. ثم إنه لما ذكر خلق الإنسان من نطفة وخلق السماوات والأرض قال: (الخلاق) للدلالة على كثرة خلقه واستمراره في الخلق والإيجاد. والجمع بين الخلق والعلم هنا أحسن جمع، فإن الخلق والإيجاد إن لم يكونا عن علم فلا خير فيهما؛ لأنهما قد يكونان عبثًا وقد يكون ضررهما أكبر من نفعهما. وقال: (بقادر) فجاء بالباء الزائدة المؤكدة؛ لأن الموطن موطن إنكار، فجاء بما يؤكد قدرته على خلق مثلهم وإعادتهم. وقد تقول: لقد ختم الآية ههنا بقوله: {وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ}، وختمها في موطن شبيه به بقوله: {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} {فصلت: 39}، وذلك قوله في (الأحقاف): {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} {الأحقاف: 33}، فلم ذاك؟. فنقول: إن ثمة اختلافًا بين الموطنين يقتضي مغايرة التعبير، وذلك أنه قال في آية (يس): {بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } فناسب قوله: {وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ}. وقال في آية الأحقاف: { بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} فناسب قوله: {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}. (1) البحر المحيط 7/348. (2) روح المعاني 23/56. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 373 إلى ص 376.
  • ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ ﴿٨٢﴾    [يس   آية:٨٢]
{إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) } لقد ذكر فيما سبق من الآيات ما خلق في الماضي وهو قوله: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ}، وقوله: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ}، وقوله: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ}. وهنا ذكر قدرته التي لا تحد في كل وقت، في الماضي والحال والاستقبال؛ لئلا يظن أن ذلك أمر قد انتهى فقال: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}، فذكر أنه إذا أراد شيئًا قال له: (كن)، فيكون كما أمر وكما أراد سبحانه. وجاء بالفاء فقال: (فيكون) ولم يقل: (ثم يكون) للدلالة على التعقيب، وأنه يكون ما أراده مباشرة كما أمر وليس في ذلك تراخ أو مهلة. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 376 إلى ص 377.
  • ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴿٨٣﴾    [يس   آية:٨٣]
{فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) } نزه الله سبحانه من بيده الملك – وهو يعني ذاته العلية – عن كل نقص؛ ليعلم خلقه أن هذا الخالق المقتدر والذي بيده ملكوت كل شيء هو منزه عن كل نقص. فقد يكون المالك المقتدر ظالمًا غشومًا، وقد تكون فيه صفات نقص، فنزه الله نفسه عن كل ذلك بقوله: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ}. والملكوت مبالغة في الملك (1)، وهو يكون بمعنى الملك مع العز والسلطان وليس مجرد الملك، ففيه مبالغة ما ليس في الملك. جاء في (لسان العرب): "وملك الله وملكوته: سلطانه وعظمته، ولفلان ملكوت العراق، أي: عزه وسلطانه وملكه..... وهو الملك والعز" (2). وجاء في (فتح القدير): "والملكوت في كلام العرب لفظ مبالغة في الملك كالجبروت والرحموت، كأنه قال: فسبحان الذي بيده مالكية الأشياء الكلية" (3). وجاء بالفاء في قوله: (فسبحان) للدلالة على السبب، فإنه بعدما ذكر ما أولاه من النعم على خلقه وعظيم خلقه في السماوات والأرض وقدرته التي لاتحد، استدعى ذلك تنزيه الخالق الذي بيده ملكوت كل شيء. وقال: {بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} ليدل على أنه المالك المتصرف في ملكه كما يشاء، ولئلا يظن ظان أنه خلق الخلق وتركهم كل يتصرف وحبله على غاربه ليس له عليه قدرة ولا حكم ولا مشيئة فقال: {بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} أي: "هو مالك كل شيء والمتصرف فيه بموجب مشيئته وقضايا حكمته" (4). وقدم (بيده) وهو الخبر على المبتدأ {مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} لإفادة القصر، فإن ملكوت كل شيء بيده هو حصرًا ليس لآخر فيه نصيب ولا بيده شيء، فإن كل يد غير يده صفر. ثم قال: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ليدل على أن ما ذكره من التصرف في الملكوت ليس مقصورًا في الدنيا، وإنما بيده الملكوت في الآخرة كما في الدنيا، وأنه إليه المرجع والمصير. وقال: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فقدم الجار والمجرور على الفعل للدلالة على أن الرجوع إليه حصرًا لا إلى غيره. جاء في (روح المعاني): "{فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} تنزيه له عز وجل مما وصفوه به تعالى، وتعجيب عما قالوا في شأنه عز شأنه. والفاء جزائية، أي إذا علم ذلك فسبحان، أو سببية، لأن ما قيل سبب لتنزيهه سبحانه. والملكوت مبالغة في الملك كالرحموت والرهبوت، فهو الملك التام، وفي تعليق (سبحان) بما في حيزه إيماء إلى أن كونه تعالى مالكًا لذلك كله قادرًا على كل شيء مقتض للتسبيح، وفسر الملكوت أيضًا بعالم الأمر والغيب... {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} إلى غيره تعالى، هذا وعد للمقربين ووعيد للمنكرين، فالخطاب عام للمؤمنين والمشركين" (5). لقد قرر في هذه الآية التوحيد والحشر، فقوله: {بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} يدل على أنه واحد لا شريك له، وقوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} إثبات للحشر. لقد ذكر في هذه السورة أركان الإيمان كلها. فذكر الإيمان بالله وتوحيده وهو ما بدأت به السورة من قوله: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}، وما انتهت به من قوله: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ}. وذكر الإيمان بالرسل وأنه لا يتم الإيمان بهم حتى يؤمن برسول الله  وذلك قوله: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}، وقوله: { يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}، وقوله: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ}. وذكر الإيمان بسيد كتبه وهو القرآن فأقسم به وذكر أنه تنزيله فقال: { وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ ..... تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ}. وذكر الإيمان بالملائكة إشارة وتصريحًا، فإنه لما قال: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} دل على أن ثمة من أبلغه الرسالة، ولما قال: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} دل على أن هناك من تنزل به. والتصريح هو قوله: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ}. وذكر الإيمان باليوم الآخر وجزاء الخلق في ذلك اليوم، وهو ما تكرر ذكره في السورة. وذكر القدر بقوله: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} وقوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ}. فاستوفت السورة أركان الإيمان التي وردت في الحديث: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره). جاء في (التفسير الكبير): "ويمكن أن يقال بأن هذه السورة ليس فيها إلا تقرير الأصول الثلاثة بأقوى البراهين. فابتداؤها بيان الرسالة بقوله: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}، ودليلها ما قدمه عليها بقوله: {وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ}، وما أخره عنها بقوله: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا}، وانتهاؤها بيان الوحدانية والحشر بقوله: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} إشارة إلى التوحيد، وقوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} إشارة إلى الحشر، وليس في هذه السورة إلا هذه الأصول الثلاثة ودلائله وثوابه" (6). لقد ارتبط آخر السورة بأولها بأجمل ارتباط: 1- فقد ارتبط قوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ ..... أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} بما ورد في أول السورة في المعاندين وهو قوله: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}، وقوله: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}. وكأن الكلام على الأشخاص أنفسهم والمجتمع نفسه. 2- وارتبط ذكر الحياة بعد الموت في قوله تعالى في أواخر السورة: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} بقوله في أول السورة: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} 3- وارتبط ذكر النسيان والغفلة في قوله تعالى في أواخر السورة: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ} بقوله: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ}. فكلاهما غافل، فالأول غفل عن خلقه هو كما هم غافلون عن الإنذار. فجمع الغفلتين العظميين: الغفلة عن النفس، والغفلة عن الرسالة. 4- ابتدأ السورة بذكر الرسالة الخاتمة وذكر خاتم الرسل فقال: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. وختمها بختام الدنيا وانتهائها فقال: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. لقد بدأت السورة بالإرسال وانتهت بالرجوع إلى المرسل فقال في الأول: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} وقال في الختام: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. فجل الله سبحانه قائل هذا الكلام، ونقول كما قال ربنا: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}. (1) التفسير الكبير 26/112، روح المعاني 23/57. (2) لسان العرب (ملك) 12/382. (3) فتح القدير 4/373. (4) الكشاف 2/569. (5) روح المعاني 23/57. (6) التفسير الكبير 26/113. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 377 إلى ص 381.
إظهار النتائج من 11251 إلى 11260 من إجمالي 11693 نتيجة.