عرض وقفات أسرار بلاغية

  • ﴿هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ ﴿٦٣﴾    [يس   آية:٦٣]
{هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63)} بعد أن ذكر الذين أضلهم الشيطان ذكر مآلهم وحالهم، فقد وقفهم على شفير جهنم وقرعهم قائلاً: انظروا هذه جهنم التي كنتم توعدون فكذبتم بها واتبعتم الشيطان فاصلوها وقاسوا حرها. جاء في (روح المعاني): "قوله تعالى: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} استئناف يخاطبون به بعد تمام التوبيخ والتقريع والإلزام والتبكيت عند إشرافهم على شفير جهنم، أي هذه التي ترونها جهنم التي لم تزالوا توعدون بدخولها على ألسنة الرسل عليهم السلام، والمبلغين عنهم بمقابلة عبادة الشيطان" (1). لقد قال: {هَذِهِ جَهَنَّمُ} ولم يقل: (تلك) للدلالة على أنها قريبة منهم مرئية، وفي هذا من التبكيت والتقريع والتخويف ما فيه. وقال: (جهنم) باسمها العلم، ولم يقل: (هذه النار) كما قال في سورة الطور، فإنه قال فيها: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} {الطور: 14}، ذلك أنه قال في الطور قبل هذه الآية: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} {الطور: 13}، فذكر النار، فناسب أن يقول: {هَذِهِ النَّارُ} دون آية (يس). وقال: {الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} ولم يقل: (التي وعدتم) للدلالة على استمرار الوعد وتطاوله، ولو قال: (وعدتم) لم يفد الاستمرار. وبنى الفعل (توعدون) للمجهول ولم يذكر الواعد للدلالة على أن الواعدين كثر، وأنهم جهات متعددة وهم رسل الله والمبلغون عنهم. وقال: (توعدون) في (يس)، و(تكذبون) في الطور، لمناسبة كل تعبير سياقه الذي ورد فيه، فإنه تردد في سورة (يس) الوعد، فقد قال: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}، وقال: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ}، وقال: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}، فناسب قوله: {كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}. وقال: (تكذبون) في الطور لما سبق هذه الآية قوله: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} {الطور: 11}، فناسب قوله: (تكذبون) في الطور، و(توعدون) في (يس). (1) روح المعاني 23/41، وانظر التفسير الكبير 26/100. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 296 إلى ص 297.
  • ﴿اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴿٦٤﴾    [يس   آية:٦٤]
{اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)} اصلوها: أمر من الفعل (صلي النار) أي قاسي حرها (1). والمعنى: قاسوا حر جهنم اليوم بسبب استمراركم على الكفر في الدنيا. وقال: (اليوم) لما ذكر الوعد قبلها فقال: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}. وكانوا يكذبون بهذا الوعد ويسخرون منه قائلين: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فقال لهم: اليوم تنفيذ الوعد الذي كنتم توعدونه فلا تأخير ولا إرجاء. ولذا تردد ذكر (اليوم) في هذه الآيات بإزاء ذكر الوعود فقال: {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا}، وقال: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ}، وقال {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}، وقال: {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}. وقال: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} للدلالة على استمرارهم على الكفر، ولم يقل: (بما كفرتم)، فإن ذلك لا يفيد الدوام والاستمرار. وهو بإزاء قوله تعالى في الآية السابقة: {كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} الذي يدل على استمرار التذكير والوعد. فدوام الوعد من الرسل وأتباعهم قابله دوام الكفر منهم. وقوله: (تكفرون) يفيد الإطلاق، فهو لم يقيد الكفر بأي قيد، فلم يقل مثلاً: (بما كنتم تكفرون بالله أو باليوم الآخر) أو غير ذلك. إن الفعل (تكفرون) يحتمل معنيين: الأول: معنى الكفر الذي هو نقيض الإيمان. والآخر: الكفران الذي هو نقيض الشكر وهو الكفر بالنعم، قال تعالى: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} {النحل: 112}، وقال: {وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} {البقرة: 152}، وكلاهما موجب للنار. ولو قيده لتعين بمعنى واحد دون آخر، فهم كانوا يكفرون بالله وبعموم ما يجب الإيمان به كما كانوا يكفرون بنعمه تعالى. والسياق يقتضي هذا الإطلاق وإرادة المعنيين، ذلك لأنه تقدم ذكر الرسل وما دعوهم إليه فكفروا وكذبوا. كما أنه عدد عليهم نعمه وآياته فكفروا بها وجحدوا. فقد ذكر أنه أحيا الأرض الميتة، وأخرج منها حبًّا منه يأكلون، وجعل فيها جنات من نخيل وأعناب، وفجر فيها من العيون ليأكلوا من ثمره. وذكر أنه خلق لهم أنعامًا هم مالكون لها، وأنه ذللها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون، {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} {يس: 73} فهم كفروا بالله وكفروا بنعمه، فناسب أن يأتي بما يجمع هذين المعنيين فأطلق ولم يقيد. جاء في (التفسير الكبير) في قوله: {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}: "وفي هذا الكلام ما يوجب شدة ندامتهم وحسرتهم من ثلاثة أوجه: (أحدها): قوله: (اصلوها)، فإنه أمر تنكيل وإهانة، كقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} {الدخان: 49}. (والثاني): قوله: (اليوم) يعني العذاب حاضر، ولذاتك قد مضت، وأيامها قد انقضت، وبقي اليوم العذاب. (الثالث): وقوله تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} فإن الكفر والكفران ينبئ عن نعمة كانت يكفر بها، وحياء الكفور من المنعم من أشد الآلام، ولهذا كثيرًا ما يقول العبد المجرم: افعلوا بي ما يأمر به السيد ولا تحضروني بين يديه" (2). وقد تقول: لقد أوجز ههنا فقال: {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}، وفضل في سورة الطور وأطال فقال: {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} {الطور: 16} فلم ذاك؟. فنقول: إن كل موطن اقتضى ما ورد فيه، فإن المقام في (يس) مقام إيجاز، وفي الطور مقام تفصيل. فقد قال في (يس): {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} ولم يزد على ذلك. في حين قال في الطور: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. ومن النظر في النصين يتضح ما يأتي: 1- أنه فصل في ذكر صفات أصحاب جهنم وعقوباتهم في الطور، وذكر ما لم يذكره في (يس). فإنه لم يزد في (يس) على قوله في أهل النار: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا}. في حين قال في الطور: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} 2- لما فصل في ذكر صفاتهم وعقوباتهم ما لم يفصله في (يس) أكثر من تبكيتهم وتقريعهم فقال: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. 3- أنه قال في (يس): {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} فذكر الضلال على العموم. في حين ذكر في الطور أنهم يكذبون بالنار فقال: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}، فلما كان التكذيب واقعًا على النار ناسب أن يفصل القول فيها ويطيل الكلام عليها وأن يبصرهم بها ويبكتهم عليها فقال: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 4- إن المذكورين في الطور أكثر ضلالًا وكفرًا من المذكورين في (يس)، ذلك أنه قال في (يس): {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} والضال قد يكون كافرًا، وقد يكون لا يزال في دائرة الإسلام إلا أنه قد يعمل عمل أهل الضلال في أمر ما كالزنى وشرب الخمر وغيرها من الموبقات، فصاحب هذه المنكرات ضال غير أنه ليس كافرًا. قال تعالى في تقسيم المواريث: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} {النساء: 176}، و(أن تضلوا) ليس معناه: أن تكفروا. أما في الطور فقد قال: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ... هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)}، فذكر: 1- أنهم مكذبون على العموم {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}. 2- وأنهم في خوض يلعبون. 3- أنهم يكذبون بالنار {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}. فناسب أن يزيد في عقوباتهم ويفصل في ذكرها. فناسب كل تعبير السياق الذي ورد فيه. (1) ينظر لسان العرب (صلو) 1/137. (2) التفسير الكبير 26/101. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 298 إلى ص 302.
  • ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿٦٥﴾    [يس   آية:٦٥]
{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم والنسائي وغيرهما عن أنس رضي الله عنه في قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} قال: كنا عند النبي  فضحك حتى بدت نواجذه، قال: أتدرون مم ضحكت؟ قلنا: لا يا رسول الله. قال: من مخاطبة العبد ربه. يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى. فيقول: إني لا أجيز علي إلا شاهدًا مني. فيقول: كفى بنفسك عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا، فيختم على فيه ويقال لأركانه: انطقي فتنطق بأعماله، ثم يخلي بينه وبين الكلام. فيقول: بعدًا لك وسحقًا فعنكن كنت أناضل" (1). جاء في (التفسير الكبير): "إن الله تعالى أسند فعل الختم إلى نفسه فقال: (نختم) وأسند الكلام والشهادة إلى الأيدي والأرجل؛ لأنه لو قال تعالى: (نختم على أفواههم وننطق أيديهم) يكون فيه احتمال أن ذلك كان منهم جبرًا وقهرًا، والإقرار بالإجبار غير مقبول، فقال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} أي باختيارها بعدما يقدرها الله تعالى على الكلام ليكون أدل على صدور الذنب منهم. (الثانية): منها هي أن الله تعالى قال: {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} جعل الشهادة للأرجل والكلام للأيدي؛ لأن الأفعال تسند إلى الأيدي، قال تعالى: {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} أي ما عملوه، وقال: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} {البقرة: 195}، أي (ولا تلقوا بأنفسكم) فإذا الأيدي كالعاملة. والشاهد على العامل ينبغي أن يكون غيره، فجعل الأرجل والجلود من جملة الشهود لبعد إضافة الأفعال إليها" (2). وجاء في (روح المعاني): "ونسبة التكليم إلى الأيدي دون الشهادة لمزيد اختصاصها بمباشرة الأعمال، حتى أنها كثر نسبة العمل إليها بطريق الفاعلية، كما في قوله تعالى: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} {النبأ: 40}، وقوله سبحانه: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ}؛ وقوله عز وجل: { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} {الروم: 41}، وقوله جل وعلا: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} {الشورى: 30} إلى غير ذلك، ولا كذلك الأرجل، فكانت الشهادة أنسب بها لما أنها لم تضف إليها الأعمال فكانت كالأجنبية، وكان التكليم أنسب بالأيدي لكثرة مباشرتها الأعمال وإضافتها إليها، فكأنها هي العاملة" (3). وقد تقول: لقد قال الله تعالى في سورة (النور): {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} {النور: 24}. فجعل الألسنة تشهد عليهم، وهنا ختم على الأفواه، فلم ذاك؟ فنقول: إن السؤال ساقط من أساسه، ذلك أن الذين ذكرهم هنا صنف، والذين ذكرهم في سورة النور صنف آخر، ولا يقتضي أن كل أهل الحشر يختم على أفواههم وأنهم يحاسبون على نمط واحد، بل إن كل صنف يحاسب بما يقتضي الأمر وتكون الشهادة عليه بما ينبغي. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن المقام مختلف، ذلك أنه في سورة النور ذكر قصة الإفك ورمي المحصنات وما لا كته الألسنة من بهتان فكان المناسب أن يستنطقها؛ لأنها هي التي قامت بالجرم وجمع إليها الأيدي والأرجل. ثم إنه تكرر في السورة ذكر الشهادات والشهود، وإن الشهادات إنما تكون بالألسنة، فناسب ذلك أيضا استنطاقها. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} ورمي المحصنات إنما يكون باللسان. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} ورمي الأزواج إنما يكون باللسان. وقال: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} وشهادتها إنما تكون بلسانها. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} والإفك هذا إنما افترته الألسنة. وقال: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}، والشهود إنما يشهدون بألسنتهم. وقال: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ}، وهو ظاهر. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ}، ورمي المحصنات إنما يكون باللسان، فناسب ذكر الألسنة، بل هو المناسب لا غيره، فلا بد أن يستنطقها ويسألها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن ذكر الختم على الأفواه في (يس) مناسب لما ذكره بعد من تعطيل الأعضاء، فقد قال بعدها: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ}، وقال: {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ}، فناسب ذكر الختم على الأفواه في (يس) دون سورة النور. وقد تقول: ولم جاء بها في سورة النور على هذا الترتيب فبدأ بذكر الألسنة ثم الأيدي ثم الأرجل؟. فنقول: إنه بدأ بذكر الألسنة، لأنها هي التي افترت ورمت بالإفك، وقذفت المحصنات الغافلات المؤمنات، فهي آلة هذا الفعل القبيح. وقدم الأيدي على الأرجل؛ لأن الأيدي ينسب إليها العمل والكسب. قال تعالى: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} {النبأ: 40}، وقال: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} {آل عمران: 182}، وقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} {الشورى: 30}. وقد تقول: ولم قال في آية (يس): {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. وقال في آية النور: {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. فنقول: لقد شاع جو الكسب في (يس)، وشاع جو العمل في النور. فقد قال في (يس): {وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} {يس: 33 – 35}. وقال: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} {يس: 42}. وقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} {يس: 47}، وما رزقهم الله کسب. وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} {يس: 71}، وملكهم لها من الكسب. وقال: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} {يس: 72 – 73}. فسورة (يس) شاع فيها الكسب. أما سورة النور فقد شاع فيها العمل. قال تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} {النور: 28}. وقال: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} {النور: 38}. وقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً} {النور: 39}. وقال: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} {النور: 53}. وقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} {النور: 55}. وقال: {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} {النور: 64}. فناسب ذكر الكسب في (يس) والعمل في النور. إن آية (يس) هذه مناسبة لما ورد في أول السورة وهو قوله: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ} {يس: 12}. فقوله: {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} مناسب لقوله: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} فالكتابة إنما تكون بالأيدي، وإنه كثيرًا ما ينسب التقديم إلى الأيدي كما ذكرنا، نحو قوله: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}. وقوله: (وآثارهم) مناسب لذكر الأرجل، فإن الآثار كثيرًا ما تكون من أثر الأرجل، وقد قيل فيما قيل: إن (آثارهم) تعني آثار أقدامهم إلى المساجد (4)، فناسبت هذه الآية جو السورة من كل ناحية، والله أعلم. (1) ينظر تفسير ابن كثير 3/577، روح المعاني 23/43. (2) التفسير الكبير 26/101 – 102. (3) روح المعاني 23/42. (4) انظر التفسير الكبير 25/49، البحر المحيط 7/325. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 302 إلى ص 307.
  • ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ ﴿٦٦﴾    [يس   آية:٦٦]
{وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66)} الطمس: إذهاب الشيء وأثره جملة حتى كأنه لم يوجد (1). وطمس العين: تعفية شق العين حتى تعود ممسوحة (2)، فلا يبين لها شق ولا جفن (3). جاء في (لسان العرب): "طمس الله عليه يطمس، وطمسه، وطمس النجم والقمر والبصر: ذهب ضوؤه. وقال الزجاج: المطموس: الأعمى الذي لا يبين حرف جفن عينيه، فلا يرى شفر عينيه... ويكون الطموس بمنزلة المسخ للشيء، وكذلك قوله عز وجل: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا} {النساء: 47}. ... ربنا اطمس على أموالهم، أي غيرها" (4). ومعنى الآية أن الله لو يشاء لأذهب أعينهم وأزالها حتى لا يبقى لها شق ولا جفن. وهذا عمي ومسخ، فإن الأعمى من لا يبصر وقد تبدو عينه كأنها سليمة حتى لا يظن الناظر إليه أنه أعمى، أما المطموس فإنه عمى البصر وذهاب العين فلا يبين لها أثر. ولم يقل: (ولو نشاء لأعميناهم) وذلك ليشمل العمى وزيادة وهو ذهاب العين وإزالتها، وهذا هو المناسب لقوله بعد: {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} فهذا مسخ عام، وذاك مسخ جزئي. إن الفعل (طمس) يتعدى بنفسه وبعلي فيقال: طمسه وطمس عليه، وقد ورد التعبيران في القرآن الكريم، فعداه ههنا بعلي فقال: {لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ}، وعداه في سورة القمر بنفسه فقال في قوم لوط: {وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} {القمر: 37}، وهما عند أهل اللغة بمعنى واحد. والذي يبدو لي أنهما ليسا بمعنى واحد، فطمسه يختلف عن طمس عليه وإن كانا جميعًا يفيدان ذهاب العين، فإن (على) تفيد الاستعلاء. فمعنى (طمسه): أزاله ومحا أثره، ومعنى (طمس عليه): غطاه بما يطمسه فلا يبقى له أثر ولا يبين منه شيء، فيكون الطمس عليه أشد من الطمس، فإنه يكون طمسًا ويكون فوقه ما يغطيه فلا يدخل فيه شيء ولا يخرج منه شيء. ونظيره في العربية (ختمه) و(ختم عليه). جاء في (لسان العرب): "ختمه يختمه ختمًا وختامًا... طبعه فهو مختوم... والختم على القلب أن لا يفهم شيئا ولا يخرج منه شيء كأنه طبع... قال أبو إسحاق ختم وطبع في اللغة واحد... وهو التغطية على الشيء والاستيثاق من أن لا يدخله شيء" (5). وجاء في (القاموس المحيط): "ختمه يختمه ختمًا وختامًا: طبعه. وعلى قلبه: جعله لا يفهم شيئا ولا يخرج منه شيء" (6). فالختم على الشيء أشد من ختمه وذلك لتغطيته بما يمنع الدخول إليه والخروج منه، وكذلك طمسه وطمس عليه. وقال ههنا: {لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ} للدلالة على شدة المسخ والطمس وهو المناسب للمسخ العام الذي ورد بعده. وقد تقول: ولم قال في القمر: {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} من دون (على)؟. والجواب: أن ما ذكره في (يس) أشد، ذلك أنه قال: {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} في حين لم يزد على قوله: {فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ} في سورة القمر - كما ذكرت... ثم إنه مناسب لورود (على) في الختم قبل هذه الآية وهو قوله: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ }. هذا علاوة على أن السياق في (يس) فيما يفعله ربنا من العقوبات الشديدة الخارجة عن المألوف، فقد قال قبلها: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. وقال ههنا: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ}. وقال بعدها: {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ}. فناسب ذكر (على) من كل وجه، والله أعلم. وقوله: {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} يحتمل ثلاثة معان: أحدها: استبقوا إلى الصراط، أي تسابقوا للوصول إليه. والمعنى الثاني: بادروا إليه، مثل قوله تعالى: { فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} {البقرة: 148}، أي بادروا إليها. والمعنى الآخر: أي جاوزوه وتركوه فلم يهتدوا إليه. جاء في (لسان العرب): "واستبقا الباب يعني تسابقا إليه... {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}: أي بادروا إليها. وقوله: {فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} أي جاوزوه و تركوه حتى ضلوا.... {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ} معناه ابتدرا الباب يجتهد كل واحد منهما أن يسبق صاحبه" (7). وهذه المعاني كلها مرادة مطلوبة، فإنه لو طمس على أعينهم لتسابقوا وابتدروا للوصول إلى الصراط، ولكنهم لن يهتدوا إليه. جاء في (الكشاف): "{فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ} لا يخلو أن يكون على حذف الجار وإيصال الفعل، والأصل: فاستبقوا إلى الصراط، أو يضمن معنى ابتدروا، أو يجعل الصراط مسبوقًا لا مسبوقًا إليه، أو ينتصب على الظرف، والمعنى: أنه لو شاء لمسح أعينهم، فلو راموا أن يستبقوا إلى الطريق المهيع الذي اعتادوا سلوكه إلى مساكنهم وإلى مقاصدهم المألوفة التي ترددوا إليها كثيرًا كما كانوا يستبقون إليه ساعين في تصرفاتهم موضعين في أمور دنياهم لم يقدروا، وتعايا عليهم أن يبصروا أو يعلموا جهة السلوك فضلا عن غيره... أو لو شاء لأعماهم فلو طلبوا أن يخلفوا الصراط الذين اعتادوا المشي فيه لعجزوا ولم يعرفوا طريقًا" (8). فجاء بالفعل (استبق) ليشمل هذه المعاني كلها. ولو جاء بالفعل تسابق) أو (بادر) أو (ضل) لتعين معنى واحد ولم يحتمل هذه المعاني. ثم إن هذا هو المناسب لقوله: {لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ}، فإن شدة الطمس جعلتهم لا يهتدون إلى الطريق الذي اعتادوا سلوكه. ثم قال: {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} قيل: ومعنى أتي يبصرون: كيف يبصرون. و(أني) تحتمل معنى آخر وهو: من أين. لقد قال: {وَلَوْ نَشَاءُ} ولم يقل: (ولو شئنا) للدلالة على أن عدم الطمس لاستمرار عدم المشيئة، ذلك أن (نشاء) فعل مضارع يفيد الحال والاستقبال وقد يفيد الاستمرار، أما (شئنا) ففعل ماض وهو يفيد المضي. جاء في (روح المعاني): " {وَلَوْ نَشَاءُ} لأعميناهم، وإيثار صيغة الاستقبال وإن كان على المضي لإفادة أن عدم الطمس على أعينهم الاستمرار عدم المشيئة، فإن المضارع المنفي الواقع موقع المضي ليس بنص في إفادة انتفاء استمرار الفعل، بل قد يفيد استمرار انتفائه" (9). فانظر كيف قال: (طمسنا) بدل (أعمينا) وهو يشمل العمى وزيادة. وقال: (على أعينهم) وهو يشمل الطمس وزيادة وهي التغطية والاستيثاق. وقال: (فاستبقوا) وهو يشمل المسابقة وزيادة، والمبادرة وزيادة، والضلال وزيادة، إذ هو يجمع هذه المعاني كلها. وقال: (الصراط) ولم يقل: (إلى الصراط) ليشمل معنى (إلى) والتعدية المباشرة. ولو قال: (فاستبقوا إلى الصراط) لم يحتمل معنى الضلال. وقال: (فأنى) وهو يشمل معنى (كيف) وزيادة. والحمد لله رب العالمين. (1) البحر المحيط 7/344. (2) الكشاف 2/592. (3) فتح القدير 4/367. (4) لسان العرب (طمس) 7/432. (5) لسان العرب (ختم) 15/53. (6) القاموس المحيط (ختمه) 4/102. (7) لسان العرب (سبق) 12/17. (8) الكشاف 2/592. (9) روح المعاني 23/44. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 307 إلى ص 312.
  • ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ ﴿٦٧﴾    [يس   آية:٦٧]
{وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) } المسخ: تحويل صورة إلى صورة أقبح منها (1)، وقد يكون التحويل إلى حجر أو غيره من الجمادات أو إلى حيوان بهيم (2). والمكانة: هي المكان، كالمقامة والمقام (3)، والمكانة: المنزلة. ويقال: (عمل على مكانته) يعني على حاله وعلى ما هو عليه، قال تعالى: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} {الأنعام: 135}، أي على حالكم. جاء في (لسان العرب): "المكانة: المنزلة، وفلان مكين عند فلان: بين المكانة، والمكانة: الموضع... والمكان: الموضع، والجمع أمكنة وأماكن" (4). وجاء فيه أيضًا: "{اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أي على حيالكم وناحيتكم، وقيل: معناه: أي على ما أنتم عليه مستمكنون. الفراء: لي في قلبه مكانة وموقعة ومحلة... والمكانة: المنزلة عند الملك، والجمع مكانات، ولا يجمع جمع التكسير" (5). ومعنى (لمسخناهم على مكانتهم): أي لمسخناهم على أمكنتهم فلا يستطيعون مغادرتها، أو لمسخناهم على حالتهم التي هي عليها فيجمدون في أمكنتهم. جاء في (الكشاف): "المكانة والمكان واحد، كالمقامة والمقام. أي لمسخناهم مسخًا يجمدهم مكانهم لا يقدرون أن يبرحوه بإقبال ولا إدبار ولا مضي ولا رجوع" (6). وقال: {عَلَى مَكَانَتِكُمْ} ولم يقل: (على مكانكم) ليشمل المكان والحال التي هم عليها. وقدم المضي على الرجوع لأكثر من سبب: منها: أن المضي أهم من الرجوع، ذلك أن الناس يريدون المضي إلى أعمالهم وحاجاتهم والرجوع فيما بعد، فبدأ بما هو أهم. ومنها: أن المضي أصعب من الرجوع، فإن الرجوع ينبئ عن معرفة الطريق، ذلك لأنه سيعود في الطريق التي جاء فيها. أما المضي فقد يكون في طريق غير مألوفة ولا معروفة فيكون المضي أصعب من الرجوع. هذا إضافة إلى أن المضي هو ابتعاد عن محل الإقامة والمنطلق، أما الرجوع فإنه عودة إليه، فيكون الرجوع أسهل، فبدأ بالأصعب، وذلك كما يقول الناس: هو لا يستطيع المشي بل لا يستطيع الحركة فيبدأ بما هو أصعب ثم يعود إلى ما هو أيسر. وكما تقول متحديًا: إن استطعت فاقفز ثلاثة أمتار، بل اقفز مترين، بل اقفز مترًا ونصفًا. ونحوه ما ورد في القرآن من التحدي فقد قال أولًا: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} {هود: 13}، فلما عجزوا قال: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} {البقرة: 23}، فبدأ بالأصعب ثم تلاه بما هو أيسر ليكون ذلك ملزمًا لهم وحجة عليهم. جاء في (التفسير الكبير): "قدم المضي على الرجوع، لأن الرجوع أهون من المضي؛ لأن المضي لا ينبئ عن سلوك الطريق من قبل، وأما الرجوع فينبئ عنه، ولا شك أن سلوك طريق قد رئي مرة أهون من سلوك طريق لم ير، فقال: {فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا} ولا أقل من ذلك وهو الرجوع الذي هو أهون من المضي" (7). إن هذه الآية والتي قبلها - أعني قوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ}- مرتبطتان بما ورد في أول السورة وهو قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}، ذلك أن قوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ} نظير قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا}، فهؤلاء الذين جعلت في أعناقهم أغلال وجعل من بين أيديهم سد ومن خلفهم سد كالممسوخين لا يستطيعون مضيًا ولا يرجعون. وقوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} نظير قوله: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}. والطريف في هذا الارتباط أنه جمع في هذين الموطنين بين الأمر الخارجي والذاتي الخلقي، وبين الأمر المعنوي والمادي، وبين الحقيقة والمجاز. فقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} إنما كان عدم الحركة وعدم الإبصار لأمر خارج عن الجسم، وذلك أنه كان من بين أيديهم سد ومن خلفهم سد، فأغشاهم فكانوا لا يستطيعون الحركة والإبصار لذلك، لا بسبب عاهة بدنية. وأما قوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} فإن عدم الإبصار إنما كان بسبب تعطيل آلة الرؤية في الجسم وليس بسبب مانع خارجي. وكذلك قوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} فإن عدم الحركة بسبب المسخ، وذلك بتحول الجسم إلى شيء لا يستطيع الحركة، فإن عدم الإبصار وعدم الحركة إنما كان بسبب ما حصل للجسم ذاته وليس بسبب خارجي. فجمع في الموضعين بين المانع الخارجي والمانع الجسماني. ثم إن قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} ليس ذلك على الحقيقة، وإنما يراد منه الموانع من الإيمان وهي موانع نفسية وليست مادية حقيقية. وأما قوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ...}، وقوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ....}، فيراد به الحقيقة، وأن المقصود تعطيل آلة البصر وتعطيل حركة الجسم على الحقيقة؛ فأريد بأحدهما موانع الإيمان - وهي أمور نفسية مجازية - وبالأخرى موانع حقيقية، فجمع بين الحقيقة والمجاز، والمادة والروح، وهو تناظر جميل. وقد تقول: لقد قال عندما ذكر الصيحة: {وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ}، فذكر الجهة التي يرجعون إليها. وقال هنا: {وَلَا يَرْجِعُونَ}، فلم يذكر جهة الرجوع، فلم ذاك؟ والجواب: أنهم هنا لا يرجعون إلى جهة أصلاً، وذلك أنهم ممسوخون لا يبصرون شيئًا ولا يعلمون شيئًا، فلا يعلمون جهة الأمام ولا جهة الخلف، ولا يعرفون أهلهم من غيرهم، ولا يعرفون مكانًا يرجعون إليه، بل ليس لهم الآن أهل يعرفونهم أو يأنسون بهم، كما أن أهلهم لا يعرفونهم وهم ممسوخون، فلم يذكر أنهم يرجعون إلى جهة، بخلاف أهل الصيحة. وقد تقول: إنه نفي الاستطاعة عن المضي، ولم ينف الاستطاعة عن الرجوع، فقد قال: {فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ} ولا يرجعون ولا يجوز عطف (لا يرجعون) على (المضي)؛ لأن مفعول (استطاع لا يكون جملة، فلم لم يقل: (فما استطاعوا مضيًا ولا رجوعًا) فيكون نفى الاستطاعة عن المضي والرجوع؟. فنقول: إنه لو قال ذلك لم يدل على الاستمرار والدوام في عدم القدرة على المضي والرجوع، بل قد يكون ذلك منقطعًا فيستطيع بعد مدة على ذلك، كما تقول: (لقد ضربته فما استطاع مشيًا ولا قيامًا) فقد يحتمل أنه استطاع بعد ذلك، فهذا لا يعني الاستمرار والدوام، فقوله: (ولا يرجعون) أفاد دوام عدم الرجوع، فكان ذلك أولى من القول: (ولا رجوعًا). وقد تقول: لقد علمنا أن قوله: (ولا يرجعون) أفاد عدم الرجوع على الدوام، ولكن لم ينف الاستطاعة على المضي على الدوام، فقد يستطيع بعد ذلك، كما في قولك: (فما استطاع مشيًا ولا قيامًا). والجواب: كلا، بل إنه أفاد عدم الاستطاعة على المضي على جهة الدوام من أكثر من وجه، ذلك أنه لما نفى الرجوع على الدوام نفي المضي أيضًا على الدوام، فإن الذي يمضي لا بد أن يرجع إلى مكانه، فإن نفي الرجوع نفي المضي أيضًا، ذلك أن الرجوع أيسر من المضي، فإن كان عاجزًا عن الرجوع فهو عن المضي أعجز. ثم إن قوله: {عَلَى مَكَانَتِهِمْ} يفيد أنهم لا يمضون ولا يرجعون وأنهم لا يستطيعون ذلك، فدل على أنهم لا يمضون ولا يرجعون. وقد تقول: ولم لم يقل: (فما استطاعوا مضيًا ولا أن يرجعوا) فيعطف الرجوع على المضي؛ لأنه عند ذاك سيكون مصدرًا مؤولًا وهو يصح عطفه على المصدر الصريح، وعند ذاك يدخل الرجوع في عدم الاستطاعة كالمضي؟. فنقول: لو قال ذلك لأفاد نفي الرجوع في المستقبل؛ لأن (أن) تصرف الفعل المضارع إلى الاستقبال ولا ينفي عدم الرجوع في الحال، أما قوله: {وَلَا يَرْجِعُونَ} فهو نفي مطلق. هذا علاوة على فوات التناسب في فواصل الآية. وقد تقول: لقد نفي الرجوع في كل الأحوال سواء كان عن طريق عدم الاستطاعة أم غيرها، فلم لم ينف المضي نفيًا مطلقا كذلك فيقول: (فلا يمضون ولا يرجعون)؟ فنقول: لو قال ذلك لم يدل على عدم القدرة، بل قد يكون ذلك بمحض اختيارهم، ونفي الاستطاعة أولى. وقد تقول: إذا كانوا لا يستطيعون المضي بأنفسهم فقد يمضيهم أحد فيعينهم على المضي. فنقول: إنه لم يقل: (فما استطاعوا مضيًا بأنفسهم) بل نفي الاستطاعة على العموم. ثم إنه من ناحية أخرى لا بد لمن يمضيهم أن يعيدهم ويرجعهم، فلما نفى الرجوع بكل سبيل نفى المضي أيضًا بكل سبيل. هذا إضافة إلى أن قوله: {عَلَى مَكَانَتِهِمْ} يدل على أنهم لا يبرحون مكانتهم، فدل ذلك على أنهم لا يمضون ولا يرجعون على كل حال. وهو أولى من كل تعبير، والله أعلم. جاء في (روح المعاني): "{وَلَا يَرْجِعُونَ}، قيل: هو عطف على (مضيًا) المفعول به لاستطاعوا، وهو من باب (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه) (8) فيكون التقدير: فما استطاعوا مضنيًا ولا رجوعًا، وإلا فمفعول (استطاعوا) لا يكون جملة، والتعبير بذلك دون الاسم الصريح قيل للفواصل مع الإيماء إلى مغايرة الرجوع للمضي بناء على ما قال الإمام من أنه أهون من المضي؛ لأنه ينبئ عن سلوك الطريق من قبل، والمضي لا ينبئ عنه، وقيل لذلك مع الإيماء إلى استمرار النفي نظرًا إلى ظاهر اللفظ، ويكون هناك ترق من جهتين إذا لوحظ ما أومأ إليه الإمام، وقيل له مع الإيماء إلى أن الرجوع المنفي ما كان عن إرادة واختيار، فإن اعتبارهما في الفعل المسند إلى الفاعل أقرب إلى التبادر من اعتبارهما في المصدر.... وقيل: هو عطف على جملة (ما استطاعوا)، والمراد: ولا يرجعون عن تكذيبهم لما أنه قد طبع على قلوبهم، وقيل: هو عطف على ما ذكر إلا أن المعنى: ولا يرجعون إلى ما كانوا عليه قبل المسخ، وليس بالبعيد. وعلى القولين المراد بالمضي الذهاب عن المكان ونفي استطاعته مغن عن نفي استطاعة الرجوع، وأيا ما كان فالظاهر أن هذا وكذا ما قبله لو كان لكان في الدنيا. وقال ابن سلام: هذا التوعد كله يوم القيامة، وهو خلاف الظاهر" (9). (1) لسان العرب (مسخ) 4/23. (2) ينظر فتح القدير 4/367. (3) ينظر الكشاف 2/592. (4) لسان العرب (كون) 17/246. (5) لسان العرب (مكن) 17/300. (6) الكشاف 2/592. (7) التفسير الكبير 26/103. (8) يعني على تقدير (أن) المصدرية في (ولا يرجعون). (9) روح المعاني 23/46. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 312 إلى ص 319.
  • ﴿وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ ﴿٦٨﴾    [يس   آية:٦٨]
{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)} والمعنى أن الذي يعمر لا بد أن ينتكس في خلقه إلى أسفل، فبعد أن كان يرتقي في قواه العقلية والبدنية سيأخذ بالانتكاس إلى أسفل، فيبدأ بالضعف والوهن في الجسم والعقل، حتى يرد إلى أرذل العمر فلا يعلم من بعد علم شيئًا. إن ارتباط هذه الآية بما قبلها واضح، فإن فيها دليلا على قدرته تعالى أن يفعل ما ذكره من الطمس على الأعين، والمسخ على المكانة فلا يستطيعون حراكًا. جاء في (الكشاف): " {نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} نقلبه فيه فنخلقه على عكس ما خلقناه من قبل، وذلك أنا خلقناه على ضعف في جسده، وخلو من عقل وعلم، ثم جعلناه يتزايد وينتقل من حال إلى حال، ويرتقي من درجة إلى درجة، إلى أن يبلغ أشده ويستكمل قوته، ويعقل ويعلم ما له وما عليه، فإذا انتهى نكسناه في الخلق فجعلناه يتناقص حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبي في ضعف جسده وقلة عقله وخلوه من العلم، كما ينكس السهم فيجعل أعلاه أسفله، قال عز وجل: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} {الحج: 5}، {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} {التين: 5}، وهذه دلالة على أن من ينقلهم من الشباب إلى الهرم، ومن القوة إلى الضعف، ومن رجاحة العقل إلى الخرف وقلة التمييز، ومن العلم إلى الجهل بعدما نقلهم خلاف هذا النقل وعكسه، قادر على أن يطمس على أعينهم، ويمسخهم على مكانتهم، ويفعل بهم ما شاء وأراد... أفلا يعقلون" (۱). وقوله: {أَفَلَا يَعْقِلُونَ}: "أي أيرون ذلك فلا يعقلون أن من قدر على ذلك يقدر على ما ذكر من الطمس والمسخ، وأن عدم إيقاعهما لعدم تعلق مشيئته تعالى بهما" (2). وقد قال: (نعمره وننكسه) بالفعل المضارع، ولم يقل: (ومن عمرناه نكسناه) للدلالة على الاستمرار، وأن هذا قانون الحياة. ولو قال: (ومن عمرناه نكسناه) لم يدل على الاستمرار، بل دل ذلك على حالة ماضية. وقد أسند التعمير والتنكيس إلى ذاته سبحانه للدلالة على أن هذا من فعله وقدرته في البدء والختام، وأنه قادر أن يطمس على الأعين، وأن يمسح على المكانة. ولو قال (ومن يعمر ينكس) بالبناء للمجهول لم يدل على أن ذلك من فعله سبحانه، ولم يرتبط ذلك الارتباط بما قبله، ولا يكون فيه دليل على ما تقدم؛ لأنه لم يسند ذلك إلى نفسه. وقال: {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} فجاء بالفاء الدالة على السبب، أي: أفلا يكون ذلك سببًا لأن يعقلوا ويتفكروا. وفيه تقريع لمن لا يعقل ويتفكر. وقال: (يعقلون) ولم يقل: (يعلمون) لأن العقل كاف لمعرفة ذلك والاستدلال به وإن لم يكن صاحبه ذا علم. فهو من الأمور الظاهرة التي لا تحتاج إلى غير العقل. وقد تقول: لقد قال في موطن سابق من السورة: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} وقال ههنا: {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} فما الفرق؟ والجواب: أن الآية السابقة تتكلم على أمور ماضية، فإنه خطاب من رب العزة يوم القيامة عما فعله بنو آدم في الدينا، فقد قال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ....} فناسب أن يقول: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} ولا يناسب أن يقول: (أفلا تعقلون). أما هنا فالكلام على أمر مشاهد حاضر يرونه في حياتهم يعيشونه أو يعيشون معه فناسب قوله: {أَفَلَا يَعْقِلُونَ}ولا يناسب غيره، فلا يصح أن يوضع أحدهما مكان الآخر. (1) الكشاف 2/592 – 593، وانظر البحر المحيط 7/345. (2) روح المعاني 23/46. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 319 إلى ص 321.
  • ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ﴿٦٩﴾    [يس   آية:٦٩]
{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ (69)} إن ارتباط هذه الآية بما قبلها ارتباط لطيف، فإنه لما ذكر جهنم والختم على الأفواه وتكليم الأيدي وشهادة الأرجل وغير ذلك مما ذكره بعد مما هو مستغرب وغير مألوف، فقد يظن ظان أن هذا من خيال الشعراء وتصوراتهم وليس من الحقائق فقال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ}. إن قوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ}، رد لقولهم: (هو شاعر)، فقد كانوا يصفون رسول الله بهذا الوصف، قال تعالى: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} {الأنبياء: 5}، وقال: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} {الصافات: 36}، فرد قولهم بقوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ}. ونفى الفعل بـ (ما) ولم ينفه بـ (لم) فلم يقل: (ولم نعلمه الشعر) وذلك لقوة (ما) في النفي، ذلك أن (ما فعل) نفي لـ (لقد فعل)، وأن (لم يفعل) نفي لـ (فعل)، و(ما) إذا نفت الفعل الماضي كانت بمنزلة جواب القسم (1). ومعنى (ما ينبغي له) ما يصح له ولا يليق ولا يتأتى له لو أراده، فهو لا يمكنه نظم الشعر ولا يستطيعه. جاء في (الكشاف): " {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} وما يصح له ولا يتطلب لو طلبه، أي جعلناه بحيث لو أراد قرض الشعر لم يتأت له ولم يتسهل" (2). فنفى بهذا كون الرسول شاعرًا، ونفي كون القرآن شعرًا. لقد نفى أولًا تعليمه الرسول للشعر فقال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ}، وقد يظن ظان أنه ربما كان في تعليمه الشعر خير محرم منه، وأنه لو علمه إياه لكان أكمل له فقال: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} أي أنه لا يصح أن يكون شاعرًا، وأن الكمال في حقه  عدم تعليمه إياه، فإن مهمة النبي غير مهمة الشاعر، فلا يليق بالنبي أن يكون شاعرًا. وأقل ما يقال في الشعر والشعراء: 1- أن الشاعر قد يزيد في الحقائق أو ينقص منها أو يكذب، وقد يستبد به الخيال في تصويراته الشعرية ومبالغاته، بينما الرسول لا يقول إلا الحق فلا يزيد فيه أو ينقص منه. 2- وأن الشاعر قد يعني بتزويق الكلام وتحسينه على حساب المعنى. ٣- وأن الشاعر قد يقع في ضرورات لا يقتضيها المعنى، وقد يضع الكلمة في غير موضعها المناسب، وقد يخل بمقتضيات البلاغة من تقديم وتأخير وذكر وحذف وما إلى ذلك. أما القرآن فإنه يضع التعبير في أعلى مراتب البلاغة. 4- ثم إن القرآن حدد سلوك الشعراء وطبيعتهم بما يختلف عن طبيعة النبي وسلوكه، فقد قال: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} {الشعراء: 224 - 226}، وهذا لا يمكن أن يكون سلوك الأنبياء الذين يتصدون لإصلاح الخلق، ولم يستثن منهم إلا أتباع الرسل والأنبياء فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ...} {الشعراء: 227}. 5- ثم إن الشعر إنما هو قول الشاعر، أي هو كلام بشر. فلو كان القرآن شعرًا لكان من كلام البشر. وقد ادعى الكفار أن محمدًا شاعر، وأن القرآن شعر ليصلوا بذلك إلى أن القرآن ليس كلام الله، وأن محمدًا ليس رسولًا، فنفى ذلك ليبطل زعمهم. 6- ثم إن الشعر له نظير، والشعراء لهم نظراء وأضراب، فنفى أن يكون القرآن شعرًا ومحمد شاعرًا ليدل على أنه ليس له ولا لما جاء به نظير. جاء في (البحر المحيط): "{وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} أي ولا يمكن له ولا يصح ولا يناسب، لأنه عليه السلام في طريق جد محض، والشعر أكثره في طريق هزل، وتحسين لما ليس حسنًا، وتقبيح لما ليس قبيحًا، ومغالاة مفرطة. جعله تعالى لا يقرض الشعر كما جعله أما لا يخط، لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض... وإنما منع الله نبيه من الشعر ترفيعًا له عما في قول الشعراء من التخييل والتزويق للقول، وأما القرآن فهو ذكر بحقائق وبراهين، فما هو بقول شاعره" (3). وجاء في (روح المعاني): "{وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}... أي لا يليق ولا يصلح له  الشعر لأنه يدعو إلى تغيير المعني لمراعاة اللفظ والوزن، ولأن أحسنه المبالغة والمجازفة والإغراق في الوصف، وأكثره تحسين ما ليس بحسن، وتقبيح ما ليس بقبيح، وكل ذلك يستدعي الكذب أو يحاكيه الكذب، وجل جناب الشارع عن ذلك، كذا قيل" (4). لقد قال قبل هذه الآية: إنه لو شاء لطمس على أعينهم، ولو شاء لمسخهم على مكانتهم، ولو شاء لكان، وفي هذه الآية أعني: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} ذكر ربنا ما شاء أن يكون، وهو أن يكون محمد نبيًا وليس شاعرًا، وأن ما أنزله عليه ذكر وقرآن وليس شعرًا. والطمس والمسخ من الآيات الدالة على قدرته تعالى، والقرآن الكريم أكبر الآيات الدالة على صحة رسالته  فكلتاهما آية وحجة. الطمس والمسخ كل منهما آية على أن الله قادر على أن يعجز خلقه فلا يستطيعون أن يفعلوا إزاءها شيئًا، والقرآن آية على إعجازهم كذلك فلا يستطيعون أن يأتوا بمثله، فكلتاهما آية على قدرته وحجة على خلقه. لقد نفي الفعل (ينبغي) بـ (ما) فقال: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}، ولم ينفه بلا، ذلك أن (لا) الداخلة على الفعل المضارع أكثر ما تكون للاستقبال، بل ذهب النحاة إلى أنها خاصة بالاستقبال، قال تعالى على لسان سيدنا سليمان عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} {ص: 30}، فنفى الفعل (ينبغي) بـ (لا) ذلك أنه دال على الاستقبال، فقد قال: (من بعدي)، وهذا هو الموطن الوحيد الذي دخلت فيه (لا) على الفعل (ينبغي) في القرآن الكريم، فلا يناسب ههنا النفي بـ (لا) لئلا يفهم أن هذا النفي خاص بالاستقبال لا ما هو عليه الآن. (1) ينظر كتاب سيبويه 1/460. (2) الكشاف 2/593. (3) البحر المحيط 7/345 – 346، وانظر أنوار التنزيل 587. (4) روح المعاني 23/47. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 321 إلى ص 325. * * * {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ} {يس: 69}. أي ما هذا الذي تسمعونه منه وتسمونه شعرًا إلا ذكر وموعظة من الله عز وجل وقرآن مبين، أي مظهر لكل أحد أنه ليس شعرًا، وإنما هو قرآن يتلى أنزله الله، فيه مواعظ وإرشاد للثقلين. وقد تقول: لقد قال تعالى ههنا: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ} فنفى وأثبت بإن وإلا، وقال في موطن آخر: {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} {القلم: 52}. فنفى وأثبت بـ (ما) و(إلا) فلم ذاك؟ وما الفرق؟ والجواب أن النفي بـ (إن) أقوى من (ما) (1) فنفى بما هو أقوى. وقد تقول: ولم نفى بـ (ما) في سورة القلم؟ والجواب: أن ذلك بحسب ما يقتضيه السياق والمقام، وأن كل موطن اقتضى التعبير الذي ورد فيه. وإيضاح ذلك أنه حيث كان الكلام على القرآن أكثر تفصيلاً أو كان يقتضي توكيدًا نفى بـ (إن) وإلا نفى بـ (ما). وإيضاح ذلك أنه في سورة القلم لم يكن السياق في الكلام على القرآن ولم يذكر عليه إلا آية واحدة وإليك ذلك: قال تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} {القلم: 51 - 52}، والكلام كما ترى على الرسول، فقوله: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ}إلى آخر الآية إنما هو في الكلام على الرسول لا على القرآن، وقال بعدها: {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} وهي الآية الوحيدة التي تكلمت على القرآن ههنا فنفى بـ (ما). وهذا هو الموطن الوحيد الذي نفى بـ (ما) في مثل هذا التعبير في القرآن الكريم. في حين قال في سورة (يس): {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} فالكلام على القرآن كما ترى، حتى إن قوله: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} يحتمل أن يكون المقصود به القرآن. فالكلام على القرآن أطول مما في القلم فنفى بـ (إن). ونحوه قوله تعالى في سورة يوسف: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} {يوسف: 102 - 104}. فقوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} يعني القرآن، فإنه هو ما يوحى إليه، و(أنباء الغيب) المذكورة يعني بها قصة يوسف التي ذكرها القرآن. وقوله: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} قيل: هو القرآن. فناسب أن يقول: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}. و نحوه ما جاء في سورة ص: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}. فالكلام إنما هو على القرآن كما هو واضح، فقوله: {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}، قيل: هو القرآن. وقوله: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} يعني القرآن فناسب النفي بإن. وقال تعالى في سورة التكوير: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ... وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ... فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ.. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ...} {التكوير: 19 - 27}، وهو واضح في أن الكلام على القرآن، وأنه فضل في ذلك، فنفى وأثبت بإن وإلا، فاتضح الفرق. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 325 إلى ص 327.
  • ﴿لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴿٧٠﴾    [يس   آية:٧٠]
{لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)} قد يكون المقصود بقوله: (لينذر) القرآن أو الرسول، فكلاهما منذر، قال تعالى: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} والمقصود به الرسول. وقال: {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} {الأحقاف: 12}. والمنذر ههنا الكتاب. فالرسول منذر والقرآن منذر. وقوله: {مَنْ كَانَ حَيًّا} ذكرت فيه أقوال: منها: أن المقصود به من كان حي القلب حي البصيرة فينتفع بالإنذار. وقيل: إن المقصود به من كان عاقلا متأملا، لأن الغافل كالميت. وقيل: إن المقصود به من كان مؤمنًا؛ لأن الإيمان حياة، فمن كان مؤمنًا كان حيًا، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} {الأنعام: 122}. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} {الأنفال: 24}. وقيل: إن المقصود من كان قلبه صحيحا يقبل الحق ويأبى الباطل. وقيل: إن المقصود به كل حي على وجه الأرض، كقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} {الأنعام: 19}. وقيل: إن المقصود به من كان حيًّا في علم الله؛ أي علم الله أنه سيؤمن بهذا الإنذار (1). وكل هذه الأقوال محتملة، وإن كل هؤلاء معنيون بالإنذار. قال تعالى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} {الكهف: 4} وهذا إنذار للكافرين. وقال: {لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} {الأحقاف: 12}. وقال: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} {الفرقان: 1}. وقال: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} {فاطر: 18} وهذا إنذار للمؤمنين. فالإنذار عام لكل الخلق مؤمنهم وكافرهم، محسنهم ومسيئهم، إلا أن الذي يترجح في ظني هنا - والله أعلم - أن المقصود بقوله: {مَنْ كَانَ حَيًّا} ما قصده في أول السورة بقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} {يس: 11}، وذلك لأنه قال بعد ذلك: {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} فجعل من كان حيًا بإزاء الكافرين. وإن كان كل من ذكرته الأقوال محتملاً مطلوبًا له الإنذار. ومعنى {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ}: أي تجب عليهم كلمة العذاب (2). ومعنى {حَقَّ الْقَوْلُ} في القرآن: وجب العذاب كما ذكرناه في أول السورة، وذلك أن الله سبحانه قال في الأزل وقال في كتبه المنزلة على رسله: إنه من كفر به أدخله النار وعذبه بعد إلزامهم بالحجة. والحجة هي ما أنزل الله على لسان رسله وبلغوهم به فيحق القول بعد الإنذار وإلزامهم الحجة. قال تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} {الإسراء: 15}، وقال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} {الإنسان: 4}، وقال: {وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} {الشورى: 26}، وقال: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} {آل عمران: 131}. جاء في (التفسير الكبير): "{وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ}، إما قول العذاب وكلمته كما قال تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} {السجدة: 13}، وقوله تعالى: {حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} {الزمر: 71}، وذلك لأن الله تعالى قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، فإذا جاء حق التعذيب على من وجد منه التكذيب" (3). وفي مقابلة الكافرين للحي في قوله: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} إشارة إلى أن الكفار أموات وهو ما ذكره ربنا في أكثر من موطن، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} {الأنعام: 122}. جاء في (أنوار التنزيل): "وجعلهم في مقابلة من كان حيًا إشعارًا بأنهم لكفرهم وسقوط حجتهم وعدم تأملهم أموات في الحقيقة" (4). إن هاتين الآيتين ارتبطتا بأول السورة ارتباطا لطيفة من نواح عدة: 1- فقد قال تعالى في أول السورة: {يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. فقوله: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} يعني أنه ليس بشاعر، وهو يناسب قوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ}. وقوله: {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يقوي ذاك، فإن الشعراء كما قال رب العزة في كل واد يهيمون، فهذا مما يعضد هذا المعنى. 2- وقوله: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} يعني أن القرآن ليس بشعر، وهو يناسب قوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ}. 3- أن قوله: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ}، وقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} يناسب قوله: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا}. 4- وأن قوله: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} يناسب قوله: {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ}. 5- لقد وصف الله القرآن في أول السورة بأنه حكيم فقال: {وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ}، ووصفه هنا بأنه مبين فقال: {وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ}. ذلك أنه قال في أول السورة إنه على صراط مستقيم، ومعرفة الصراط المستقيم من غيره تحتاج إلى حكمة، والسير على الصراط المستقيم يحتاج إلى حكمة، فوصفه بأنه حكيم. وههنا أراد أن يبين أن القرآن ليس بشعر، وهذا أمر لا يحتاج إلى حكمة وإنما يحتاج إلى تبيين فقال: {وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ}، فكان كل وصف في مكانه أنسب. 6- سمى الله تعالى ما أنزله على رسوله قرآنًا وذكرًا ههنا فقال: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ}. وقال في أول السورة: {وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ}، وقال بعد ذلك: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} فسماه في الموطنين قرآنًا وذكرًا. وقد يكون من المناسب أن نذكر أنه قدم القرآن في أول السورة وأخر الذكر فقال: {يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ}، ثم قال في الآية الحادية عشرة: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ}. وههنا قدم الذكر وأخر القرآن فقال: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ}. ولعل من دواعي ذلك أنه في أول السورة بدأ بالكلام على القرآن ثم أخر الكلام على ما يشبه الطمس والمسخ وهو قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} فقدم القرآن لذلك. وههنا بدأ بالطمس والمسخ وأر الكلام على القرآن فقال: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ}، ثم قال بعد ذلك: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ}، فأخر ذكر القرآن لذلك والله أعلم. وهو من الموافقات اللطيفة. وهذا من لطيف الارتباط والتناسب. (1) انظر الكشاف 2/593، التفسير الكبير 26/106، أنوار التنزيل 587، تفسير ابت مثير 3/580، روح المعاني 23/49، فتح القدير 4/368. (2) انظر الكشاف 2/593، روح المعاني 23/50. (3) التفسير الكبير 26/106. (4) أنوار التنزيل 587، وانظر روح المعاني 23/50. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 327 إلى ص 331.
  • ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِّمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ ﴿٧١﴾    [يس   آية:٧١]
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} بعد أن ذكر أن آيات الله المنزلة ليست بشعر، وأن الرسول ليس بشاعر، وإنما هي ذكر وقرآن مبين، لفت نظرهم إلى آيات الله في خلقه، فذكر أقرب شيء إليهم وألصقه بحياتهم وهي الأنعام، فقال: أولم يروا إلى هذه الأنعام وإلى قدرة خالقها فيذكروا نعمة ربهم عليهم بها فيشكروه عليها ويفردوه بالعبادة؟ {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71)} {أَوَلَمْ يَرَوْا} يرد في القرآن الكريم التعبير (أولم يروا) بالواو بعد همزة الاستفهام، وقد يرد (ألم يروا) من دون واو كما مر في هذه السورة في قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ}، وهذه الواو عند النحاة هي واو العطف، وهي تعطف على مذكور، وقد تعطف على مقدر. فالمعطوف على المذكور نحو قولنا: (ألم تر إلى خالد ماذا فعل، أولم تر إلى أخيه كيف أنكر عليه؟) فهذا عطف على مذكور. أما المعطوف على المقدر فهو قسمان: قسم جرى له ذكر من غيرك فتبني عليه كلامك. وقسم لم يجر له ذكر صريح ومع ذلك تأتي بالواو على التأويل وتقدير المعني. فالأول كأن يقول محدثك: رجع خالد من الموصل. فتقول له: أو زرته بعد عودته؟ فتبني كلامك على ما ذكره المتكلم. جاء في (كتاب سيبويه): "(هذا باب الواو التي تدخل عليها ألف الاستفهام) وذلك قولك: هل وجدت فلانة عند فلان؟ فيقول: أو هو ممن يكون عند فلان؟ فأدخلت ألف الاستفهام، وهذه الواو لا تدخل على ألف الاستفهام، وتدخل الألف عليها" (1). وجاء في (النكت في تفسير كتاب سيبويه) للأعلم الشنتمري: "فإذا قال القائل: هل وجدت فلانًا عند فلان؟ فقال المجيب: أو هو (2) ممن يكون عنده؟ فكلام المخاطب عطف على كلام المتكلم باستفهام وغير استفهام" (3). والقسم الآخر كما في الآية هذه، وكقوله تعالى في سورة الملك: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} {الملك: 19} يبني ذلك على ما تقدم من الأمور المشاهدة المعلومة فيعطف عليها. وقد ذكروا في الفرق بين (أولم تر) و(ألم تر) في القرآن الكريم أن (أولم تر) بالواو إنما تكون لما هو مشاهد، و(ألم تر) إنما تكون في الاستدلال بالنظر العقلي. وقالوا أيضًا: إن (أولم تر) يستعمل فيما كثر أمثاله في الحياة مما هو مشاهد. أما (ألم تر) من دون الواو فهو من باب ما لا يكثر مثله. جاء في (البرهان): "واعلم أنه قد وقع في القرآن {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا} في بعض المواضع بغير واو كما في الأنعام، وفي بعضها بالواو، وفي بعضها بالفاء (أفلم يروا). وهذه الكلمة تأتي على وجهين: أحدهما: أن تتصل بما كان الاعتبار فيه بالمشاهدة، فيذكر بالألف والواو ولتدل الألف على الاستفهام، والواو على عطف جملة على جملة قبلها، وذلك الفاء لكنها أشد اتصالًا بما قبلها. والثاني: أن يتصل بما الاعتبار فيه بالاستدلال، فاقتصر على الألف دون الواو والفاء ليجري مجرى الاستئناف. ولا ينتقض هذا الأصل بقوله في النحل: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ} {النحل: 79}، لاتصالها بقوله: {واللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} {النحل: 78}، وسبيلها الاعتبار بالاستدلال فبني عليه {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ}" (4). وجاء في (درة التنزيل): "وكل موضع فيه بعد ألف الإنكار واو ففيه تبكيت على ما يسهل الطريق إلى ما بعد الواو فالاعتبار لكثرة أمثاله كقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} {الشعراء: 7}، كأن قائلاً قال: كذبوا الرسل وغفلوا عن الفكر والتدبر فقال: فعلوا ذلك ولم ينظروا إلى المشاهدات التي تنبه الفكر فيها من الغفلة. وكذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} {الملك: 18 - 19}، كأنه قال: كذبوا ولم ينظروا إلى ما يردع عن الغفلة من الفكر في المشاهدات... وكل ما فيه واو مثل (أولم يروا) فهو تنبيه على ما تقدمه في التقدير أمثال له منبهة لكثرتها فالتبكيت فيه أعظم، فهذا كله في المشاهد وما في حكمه. وما ليس فيه واو مثل (ألم يروا) فهو ما لم يقدر قبله ما يعطف عليه ما بعده، لأنه من باب ما لا يكثر مثله، وذلك مما يؤدي إلى علمه بالاستدلالات كقوله في سورة الأنعام {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا} إلى قوله: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} {الأنعام: 6}، وهذا ما لم يشاهدوه ولكن علموه" (5). وقد قال في آية (يس) هذه (أولم) بالواو؛ لأنه ذكر أمرًا يقع الاستدلال فيه بالمشاهدة كأنه قال: إن ما ذكرناه من الآيات والدلائل لم يهدهم إلى الحق ويردعهم عن الشرك أو لم يروا إلى ما يشاهدونه كثيرًا ويعيشون معه وينتفعون به وهو الأنعام كيف ذللها الله لهم وسخرها لمنفعتهم؟ وبذلك يوجه أنظارهم إلى ما هو كثير المشاهدة فيستدل به. ونحو ذلك أن تحاج أحدًا وتأتي له بالبراهين والأدلة فلم يقتنع فتأتي له ببرهان ظاهر الدلالة سهل المسلك كثير الوقوع. جاء في (روح المعاني): "(أولم يروا) الهمزة للإنكار والتعجيب، والواو للعطف على جملة منفية مقدرة متتبعة للمعطوف، أي: ألم يتفكروا، أو ألم يلاحظوا أو ألم يعلموا علمًا يقينًا مشابهًا للمعاينة. زعم بعضهم أن هذا عطف على قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا} إلخ، والأول للحث على التوحيد بالتحذير من النقم، وهذا بالتذكير بالنعم المشار إليها بقوله تعالى: {أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ} أي لأجلهم وانتفاعهم" (6). (1) الكتاب 1/491. (2) في المطبوع (أهو) من دون واو. والصواب بالواو كما في كتاب سيبويه وكما يدل عليه الكلام بعد. (3) النكت 2/809. (4) البرهان 4/150. (5) درة التنزيل 108 – 109، وانظر ملاك التأويل 1/282 – 283.0 (6) روح المعاني 23/50. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 332 إلى ص 336. * * * {أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ} أسند الخلق إلى نفسه فقال: {أَنَّا خَلَقْنَا} ولم يبنه للمجهول فيقول (خلق) كما قال في مواطن أخرى من نحو قوله: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} {النساء: 28}، وذلك أن هذا من باب التفضل والإنعام، والقرآن الكريم يسند النعمة والتفضل والخير إلى نفسه سبحانه. ثم إنه لو بناه للمجهول لم يدل على أن الخالق هو الله سبحانه. ولا يتناسب ذلك مع السياق الذي وردت فيه الآية والذي أراد الله فيه أن يظهر آياته ونعمه على خلقه ليعبدوه ويوحدوه فتكون الجهة مجهولة. ثم إنه قال: {أَفَلَا يَشْكُرُونَ}، وإذا كان الفاعل مجهولًا كانت الجهة التي يوجه إليها الشكر مجهولة فلا يعرفون الجهة التي ينبغي أن يقدموا لها الشكر. وقد تقول: لقد أسند الخلق هنا إلى ضمير المتكلم، وأسنده في سورة النحل إلى ضمير الغائب فقال: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} {النحل: 5} مع أن الموطنين متشابهان، فما الفرق؟ ولم ذاك ؟ فنقول: إن كل تعبير مناسب لما ورد فيه من أكثر من وجه. من ذلك أن السياق في سورة النحل مبني على الإسناد إلى ضمير الغيبة، بل إن جو السورة مبني على ذلك، قال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ... خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ... خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ... وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا... وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ... هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً... يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ... وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ... وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ... وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} {النحل: 2 – 10}. وغير ذلك. وأن السياق في سورة (يس) مبني على الإسناد إلى ضمير المتكلم، وأن جو السورة كذلك. قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا... وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا... إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ... إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ... وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ... أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا... وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا... وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ... وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ... الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ... وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ... أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ... وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ... أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} إلى آخره. وغير ذلك وغيره. فناسب كل تعبير الموطن الذي ورد فيه. ثم إن ما ورد في (يس) أكثر تكريمًا وتفضلاً مما ورد في النحل فأسنده إلى نفسه. وهذا هو الخط العام في إسناد النعمة والخير والتفضل. وإن الآيات التي ورد فيها كل تعبير يوضح ذاك. قال تعالى في (يس): {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ}. وقال في سورة النحل: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} {النحل: 5 – 7}. فقد ورد ضمير المتكلم الذي يعود على الله سبحانه أربع مرات في (يس) وهي: أنا، خلقنا، أيدينا، ذللنا. ولم يرد ضمير الغيبة الذي يعود على الله سبحانه إلا مرة واحدة في النحل وهو الضمير المستتر في (خلقها). ثم لننظر إلى مواطن التكريم في الموضعين: 1- قال في (يس): {خَلَقْنَا لَهُمْ} فجعل الخلق لهم. في حين قال في النحل: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا}، ولم يقل: (لكم) وإنما قال: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} (1). 2- قال في (يس): {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} للدلالة على الاهتمام والتكريم، كما تقول: هذا صنعته لك بيدي. ولم يقل مثل ذلك في النحل. 3- قال في (يس): {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} فملكها لهم، ولم يذكر في النحل أنه ملكها لهم. 4- قال في (يس): إنه ذللها لهم فقال: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} ولم يقل مثل ذلك في النحل. 5- ذكر في (يس) أن منها ركوبهم، وذكر في النحل أنها تحمل أثقالهم في الأسفار. 6- ذكر في (يس) أن لهم فيها مشارب، ولم يذكر مثل ذلك في النحل. 7- ذكر في (يس) والنحل أنهم منها يأكلون. 8- ذكر في (يس) والنحل أن لهم فيها منافع. 9- ذكر في النحل أن لهم فيها دفئًا، ولم يذكر ذلك في (يس). وهو يدخل في المنافع التي ذكرها في (يس). 10- ذكر في النحل أن لهم فيها جمالًا حين يريحون وحين يسرحون. ونلخص ما تفرد به كل موضع من الموضعين. ما تفردت به (يس): 1- أن الخلق لهم. 2- تمليكها إياهم. 3- تذليلها لهم. 4- الركوب. 5- المشارب. ما تفردت به النحل: 1- الدفء. 2- حمل الأثقال. 3- الجمال. وأظن أن معرفة أي الموطنين أكثر تكريمًا وتفضلاً مما لا يحتاج إلى بيان. هذا إضافة إلى أنه يحسن بنا أن نذكر أن ما تفردت به النحل يدخل في المنافع التي ذكرها في (يس) بقوله: {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ}. أما ما تفردت به (يس) فقد لا يدخل في المنافع كالتمليك والتذليل وأن الخلق لهم. فناسب كل تعبير الموضع الذي ورد فيه من كل وجه، والله أعلم. وقد تقول: لقد استعمل القرآن في (يس) الفعل (خلق) فقال: {أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ}، واستعمل في سورة (غافر) الفعل (جعل) فقال: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} {غافر: 79}، فلم ذاك؟ وما الفرق؟ والجواب: أنه قال في (يس): {أَفَلَا يَشْكُرُونَ} وقال في غافر: {فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ}، فجاء في (يس) بما هو أدعى للشكر. فالقول: (خلقته لك) أدل على الاهتمام والعناية من (جعلته لك) ذلك أن الخالق له إنما جعله له ابتداء قبل إيجاده، أما الجعل فلا يشترط فيه ذاك. ونحو ذلك أن تقول: (صنعت هذه السيارة لك) أو (جعلت هذه السيارة لك). فقولك: (جعلتها لك) معناه: (ملكتها إياك) وجعلتها لتستفيد منها، ومعلوم أنها لم تصنع لك ابتداء. أما قولك: (صنعتها لك) فمعناه أنها صنعت لك ابتداء لا لغيرك. فقوله: {خَلَقْنَا لَهُمْ} أدل على الاهتمام والعناية وأدعى إلى الشكر. ثم إن ما ورد في الآيتين يوضح ذلك: قال تعالى في سورة غافر: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} {غافر: 79 – 81}. فالذي ذكره في (يس) أدعى إلى الشكر مما في (غافر)، ذلك أنه قال في (يس): {خَلَقْنَا لَهُمْ}، {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}، {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ}، {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ}، {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ}، {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}، {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ}، {وَمَشَارِبُ}. في حين قال في غافر: {جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ}، {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا}، {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}، {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ}، {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ}. فزاد في (يس) على ما في غافر: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}، {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ}، {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} وزاد (المشارب) على المنافع، فكان ما في (يس) أدعى إلى الشكر. ومما حسن ذلك أيضًا أنه تكرر ذكر الجعل في (غافر)، وتكرر ذكر الخلق في (يس) فقال في غافر: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} {غافر: 61}. وقال: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا} {غافر: 64}. فناسب قوله: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ} {غافر: 79}. وقال في يس: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}. وقال: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} وقال: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} فناسب ذكر الخلق في (يس) وذكر الجعل في (غافر) من كل وجه، والله أعلم. (1) انظر البحر المحيط 5/474. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 336 إلى ص 342. * * * {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} معنى {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} أي مما تولينا نحن إحداثه وعمله من غير واسطة ولا شركة ولا يمكن لغيرنا أن يعمله (1). وأسند العمل إلى اليد لأن الأشياء المصنوعة إنما تباشر باليد فيقال: هذا مما عملته يدي. فعبر عن ذلك بما يقرب من أفهامهم. جاء في (البحر المحيط): "لما كانت الأشياء المصنوعة لا يباشرها البشر إلا باليد عبر لهم بما يقرب من أفهامهم بقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} أي مما تولينا عمله ولا يمكن لغيرنا أن يعمله، فبقدرتنا وإرادتنا برزت هذه الأشياء لم يشركنا فيها أحد" (2). وجاء في (فتح القدير): "{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} أي مما أبدعناه وعملناه من غير واسطة ولا شركة، وإسناد العمل إلى الأيدي مبالغة في الاختصاص والتفرد بالخلق كما يقول الواحد منا: (عملته بيدي) للدلالة على تفرده بعمله" (3). و(ما) تحتمل أن تكون اسمًا موصولاً فيكون المعنى: (خلقنا لهم من الذي عملته أيدينا) أي من الأشياء التي عملتها أيدينا. وتحتمل أن تكون مصدرية فيكون المعنى: (خلقنا لهم من عمل أيدينا). وكلاهما مراد ولكل منهما دلالة. ولو عبر عن ذلك بـ (الذي) فقال: (من الذي عملته أيدينا) لكان نصا في الموصولية الاسمية ولم يحتمل المصدرية. وكذلك لو قال: (مما عملته أيدينا) فذكر العائد. ولم يقل أيا منهما للتوسع في المعنى والله أعلم. ثم إنه قال: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} ولم يقل: (ما عملت أيدينا) ليدل على أن هذا بعض ما عملته يد القدرة الإلهية. ولو قال: (ما عملت) لاقتصر العمل على الأنعام. فما قاله أدل على التنوع وأدل على القدرة والتكريم. وقال: (أيدينا) بصيغة الجمع؛ ذلك لأنه ذكر نفسه بصيغة الجمع {أَنَّا خَلَقْنَا}. والملاحظ في القرآن أنه إذا ذكر الله نفسه بصيغة الإفراد أفرد اليد أو ثناها فيقول {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} {الفتح: 10}، ويقول: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} {المائدة: 64}، ويقول: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} {ص: 75}. وإذا ذكر نفسه بصيغة الجمع جمع اليد كقوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} وهو المناسب. {أَنْعَمْنَا} الأنعام جمع نم وهي البقر والغنم والإبل (4). وهو مفعول (خلقنا) وقدم الجارين على المفعول للاهتمام بشأنهما فقال: {خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} فقدم ما يتعلق بتكريمهم وهو (لهم) أي لأجلهم للدلالة على الاهتمام بالإنعام عليهم وتكريمهم، ولأنهم العلة في خلق الأنعام، فقدم العلة على المعلول. ووضع الأنعام بجنب ما عملته الأيدي لأنها بعض منه. (1) انظر الكشاف 2/593، البحر المحيط 7/347، فتح القدير 4/370. (2) البحر المحيط 7/347. (3) فتح القدير 4/370. (4) فتح القدير 4/370. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 342 إلى ص 344. * * * {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} قدم الجار والمجرور (لها) على (مالكون) للاهتمام بشأن المملوك، وذلك لأنها من أهم أموالهم وأكرمها عليهم فقدمها للاهتمام بها. ولا يفيد هذا التقديم قصرًا. ونحو هذا التقديم مما لا يفيد القصر قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} {يوسف: 72}، فقدم (به) على (زعيم) لأهمية حمل البعير آنذاك، وليس معناه: أنا زعيم به دون غيره. ونحو هذا أن يقول شخص: (من يتكفل بديني وأهلي وأنا أكفيكم أمر هذا الفاتك قاطع الطريق؟) فيقول له قائل: (أنا بذلك كفيل). فليس معناه أنا كفيل بذاك دون غيره، وإنما قدمه للاهتمام، فإن هذا الأمر هو ما أهمه وهو الذي يحول بينه وبين تولي أمر قاطع الطريق فيقدمه للاهتمام. هذا علاوة على رعاية الفاصلة. وقال: (مالكون) بالاسم، ولم يقل: (يملكون) للدلالة على ثبات الأمر واستقراره. ولو قال: (يملكون) لاحتمل عدم الثبوت والحصول، وأنهم غير مالكيها الآن، وأنهم سيملكونها في المستقبل. جاء في (روح المعاني) في قوله: {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ}: "وقدم لرعاية الفواصل مع الاهتمام، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على استقرار مالكيتهم لها واستمرارها" (1). وتمليكها للإنسان من تمام النعمة عليهم، فلو خلقها لهم من دون تمليك لما كان بها تمام الانتفاع. جاء في (التفسير الكبير ): "قوله تعالى: {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ}: إشارة إلى إتمام الإنعام في خلق الأنعام، فإنه تعالى لو خلقها ولم يملكها الإنسان ما كان ينتفع بها" (2). وجاء في (الكشاف): "أي خلقناها لأجلهم فملكناها إياهم فهم متصرفون فيها تصرف الملاك مختصون بالانتفاع فيها لا يزاحمون، أو فهم لها ضابطون قاهرون" (3). (1) روح المعاني 23/51. (2) التفسير الكبير 26/106. (3) الكشاف 2/593. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 344 إلى ص 345.
  • ﴿وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ ﴿٧٢﴾    [يس   آية:٧٢]
{وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72)} {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} أي صيرناها سهلة منقادة لا تستعصي عليهم يقودها الصبي وينيخها ولا تأبى عليه في شيء من الأشياء. ولو كانت نافرة وابية لم ينتفع بها مالكها تمام الانتفاع. جاء في (روح المعاني): "{وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} أي وصبرناها سهلة غير مستعصية عليهم في شيء مما يريدون بها حتى الذبح حسبما ينطق به قوله تعالى" (1). وجاء في (التفسير الكبير): "وقوله: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} زيادة إنعام، فإن المملوك إذا كان آبيًا متمردًا لا ينفع، فلو كان الإنسان يملك الأنعام وهي ناده صادة لما تم الإنعام الذي في الركوب، وإن كان يحصل الأكل كما في الحيوانات الوحشية، بل ما كان يكمل نعمة الأكل أيضًا إلا بالتعب الذي في الاصطياد، ولعل ذلك لا يتهيأ إلا للبعض وفي البعض" (2). وبهذا ذكر ما به تمام النعمة في الأنعام، فإنه ذكر خلقها لهم وتمليكها إياهم وتذليلها لهم. وهذا تمام النعمة فيها، ذلك أن من الأشياء ما تكون الفائدة منها في الخلق للانتفاع بها وإن لم تكن مملوكة كخلق الشمس والقمر والنجوم والأنهار والجبال وغيرها. ومنها ما تكون الفائدة منها في الخلق والتمليك كالجنات وعيون الماء والأراضي وكثير مما يملك. ومنها ما لا تتم النعمة فيها إلا في الخلق والتمليك والتذليل وذلك كالأنعام فإن تمام النعمة لا يحصل إلا بها جميعًا، فلو كانت مخلوقة غير مملوكة لما انتفعنا بها ذلك الانتفاع، ولو كانت مخلوقة مملوكة غير مذللة لم يتم الانتفاع بها أيضًا، ولا يتم الانتفاع بها إلا بالتذليل فذكر ما به تمام النعمة فيها. (1) روح المعاني 23/51. (2) التفسير الكبير 26/106. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 345 إلى ص 346. * * * {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} الركوب فعول بمعنى مفعول، أي مركوب و فعول بمعنى مفعول على قسمين: اسم وصفة. فالاسم نحو رسول بمعنى مرسل، والنقوع لما ينقع، والبخور لما يتبخر به. والوصف نحو قولهم: ناقة ذلول، أي مذللة، وناقة أمون: وهي الناقة التي يؤمن فتورها وعثورها (1). وركوب وردت في الآية اسمًا، وهو ما يركب من الإبل أو من كل دابة. جاء في (لسان العرب): "الركوب والركوبة من الإبل التي تركب، وقيل: الركوب: كل دابة تركب" (2). وقوله: {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ.....} بيان لمنفعة التذليل والفاء للتفريع فهي فرعت أحكام التذليل إلى ما يركب وإلى ما يؤكل مع بيان المنافع الأخرى. جاء في (التفسير الكبير): "قوله تعالى: {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} بيان لمنفعة التذليل، إذ لولا التذليل لما وجدت إحدى المنفعتين وكانت الأخرى قليلة الوجود" (3). وجاء في (روح المعاني): "{فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} فإن الفاء فيه لتفريع أحكام التذليل عليه وتفصيلها، أي فبعض منها مركوبهم، فركوب فعول بمعنى مفعول كحصور وحلوب" (4). ومعنى قوله: {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} أي بعضها يركب، و(من) للتبعيض، كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا} {غافر: 79} فالأنعام لا تركب كلها، فالبقر والغنم لا تركب وإنما تركب الإبل، في حين قال: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا} {النحل: 8}، فقال في الأنعام: {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا}، وقال في الخيل والبغال والحمير: {لِتَرْكَبُوهَا}؛ لأنها كلها تركب. (1) مفردات الراغب (أمن) 26. (2) لسان العرب 1/415 (ركب). (3) التفسير الكبير 26/106. (4) روح المعاني 23/51. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 346 إلى ص 348. * * * {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} أي يأكلون منها، كما تقول: (هو يأكل من الطعام) أو يأكل من الخبز، على معنى الابتداء أو على معنى التبعيض. والتبعيض ليس واقعًا على جنس من الأنعام بل على أجزاء منها، أي: اللحوم والشحوم، فإن أجزاء منها لا تؤكل كالجلود والصوف والشعر وغيرها مما لا يؤكل. جاء في (روح المعاني): "{وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} أي تأكلون ما يؤكل منها من اللحوم والشحوم ونحو ذلك، فـ (من) تبعيضيه... وجوز أن تكون (من) ابتدائية، وأن تكون للتبعيض مجازًا أو سببية، أي تأكلون ما يحصل بسببها، فإن الحبوب والثمار المأكولة تكتسب باكتراث الإبل مثلاً، وأثمان نتاجها وألبانها وجلودها، والأول أظهر" (1). وتقديم (من) للحصر الإضافي (2) أي إن الأنعام بالنسبة إلى ما يؤكل من ذوات اللحوم هي المعتمدة، ولا يقاس غيرها بها من الطيور والسمك. ولا يدخل في هذا الحصر ما يؤكل من غير اللحم كالحبوب والثمار وغيرها. جاء في (الكشاف): "فإن قلت: تقدم الظرف في قوله: {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} مؤذن بالاختصاص وقد يؤكل من غيرها. قلت: الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس في معايشهم، وأما الأكل من غيرها من الدجاج والبط وصيد البر والبحر فكغير المعتد به وكالجاري مجرى التفكه" (3). وجاء في (روح المعاني) "{وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} أي وبعض منها يأكلون لحمه. والتبعيض باعتبار الأجزاء" (4). وقد غير الأسلوب في الأكل إلى الفعلية فقال: {وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} مع أنه قال قبلها: {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ} بالاسمية، ذلك لأن الفعل يدل على التجدد والاستمرار، أي: ومنها يأكلون عادة كما قال تعالى: {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ} {السجدة: 27}، وقال: {فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ} {يونس: 24}، فعبر عن ذلك بالفعل للدلالة على التجدد والاستمرار وأن هذا هو شأنهم. وليس كذلك الركوب، فإن الركوب خاص بقسم من الإبل مما يصلح منها للركوب، أما الأكل فعام فهو يكون من جميع الأنعام ما يصلح منها للركوب وغيره. ثم إن الأكل أعم من الركوب، فكل الناس يأكلون وليس كلهم يركبون، فالأكل حاجة يومية متكررة بخلاف الركوب. فاقتضى ذلك المغايرة بين الركوب والأكل. جاء في (روح المعاني): "وغير الأسلوب لأن الأكل عام في الأنعام جميعها وكثير مستمر بخلاف المركوب" (5). وقدم الركوب على الأكل والمنافع الأخرى ههنا لأنه ذكر التذليل فقال: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} وأهم مظاهر التذليل الركوب. ألا ترى أنه لما لم يذكر التذليل في النحل أخر ذكر حمل الأثقال بعد ذكر المنافع والأكل. وقد تقول: إنه لم يذكر التذليل أيضًا في غافر ومع ذلك قدم الركوب على الأكل فقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} {غافر: 79 – 80}. فلم ذاك؟ فنقول: لما قال: {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} قدم الركوب؛ وذلك لأن الكلام إنما هو على الحمل عليها وعلى الفلك. ولذلك لم يذكر الأكل في سورة الزخرف لأن السياق في النقل والركوب حصرًا. قال تعالى: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} {الزخرف: 12 – 14}. وهو واضح. وقد تقول: ولم ذكر الركوب في (يس) وذكر حمل الأثقال في النحل ولم يذكر الركوب، فقال في (يس): {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ}، وقال في النحل: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ}؟ فنقول: إن كل تعبير أنسب في مكانه. ذلك أنه في (يس) ذكر الركوب في غير هذا الموطن فقال: {وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} فذكر حمل الذرية وركوبهم هم. وذكر حمل الأثقال في النحل فقال: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} {النحل: 14}. والابتغاء من فضله هو في حمل البضائع في الفلك للتجارة وغيرها. وقال: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} {النحل: 25} فهم في يوم القيامة كالأنعام يحملون أثقالهم وأثقال غيرهم. فكان كل تعبير مناسبًا للسياق الذي وردت فيه الآية ومناسبًا لجو السورة، ألا ترى أنه قال في النحل: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} {النحل: 6} فذكر الجمال لما ذكر الزينة بعد ذلك بقوله: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} {النحل: 8}. وذكر استخراج الحلية من البحر للبس فقال: {وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} {النحل: 14} والحلية إنما تلبس للزينة. ثم ألا ترى أنه ذكر الدفء فقال: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} لما ذكر السرابيل وهي الملابس التي تقي الحر والبرد وذكر الأكنان وهي ما يحتمي به الإنسان فقال: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ} {النحل: 81}. فناسب كل تعبير الموضع الذي ورد فيه. (1) روح المعاني 14/98 – 99، وانظر 23/51. (2) الحصر الإضافي أي الحصر النسبي، وهو الحصر بالنسبة إلى أشياء معينة أو أمور معينة، كأن تحصر شخصًا بالنسبة إلى أشخاص معينين، أو صفة بالنسبة إلى صفات معينة وهو غير الحصر المطلق الذي هو الحصر الحقيقي. (3) الكشاف 2/197 – 198. (4) روح المعاني 23/51. (5) روح المعاني 23/51. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 348 إلى ص 351.
إظهار النتائج من 11241 إلى 11250 من إجمالي 11693 نتيجة.