عرض وقفات أسرار بلاغية

  • ﴿وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴿٢٢﴾    [لقمان   آية:٢٢]
{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)} أكثر ما وردت متصرفات الفعل (أسلم) في القرآن الكريم متعدية باللام نحو قوله: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {البقرة: 131}، وقوله: {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {غافر: 66}، وقوله: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} {الزمر: 54}، ولم يرد متعديا بإلى إلا في آية لقمان هذه. وقيل في الفرق بين قولنا: (أسلمت إليه) و(أسملت له)، أن (أسلم إليه) يأتي بمعنى الإعطاء وبمعنى التفويض، تقول: (أسلمت إليه الشيء) أي دفعته إليه، وتقول: (أسلمت وجهي إليه) أي فوضت أمري إليه. وأما: (أسلم له) فمعناه انقاد له واستسلم له، ومعناه أيضًا جعل نفسه سالمًا له، أي خالصًا له. جاء في (لسان العرب): "أسلم إليه الشيء: دفعه... الإسلام والاستسلام: الانقياد... يقال: فلان مسلم، وفيه قولان: أحدهما: هو المستسلم لأمر الله، والثاني: هو المخلص لله العبادة" (1). وجاء في (الكشاف): "فإن قلت: ما له عدي بإلي، وقد عدى باللام في قوله: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ}؟. قلت: معناه مع اللام أنه جعل وجهه وهو ذاته ونفسه سالمًا الله، أي خالصًا له. ومعناه مع (إلى) أنه سلم إليه نفسه كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه. والمراد التوكل عليه والتفويض إليه" (2). وجاء في (روح المعاني): "{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} بأن فوض إليه تعالى جميع أموره، وأقبل عليه سبحانه بقلبه وقالبه. فالإسلام كالتسليم التفويض. و(الوجه) الذات. والكلام كناية عما أشرنا إليه من تسليم الأمور جميعها إليه تعالى والإقبال التام عليه عز وجل، وقد يعدى الإسلام باللام قصدًا لمعنى الإخلاص" (3). وعلى هذا يكون معنى: أسلم إليه الشيء: دفعه إليه. وأسلم إليه الأمر، أي فوضه إليه. ومعنى (أسلم له) انقاد له واستسلم له وأخلص له. وورد الفعل (أسلم) مع (إلى) متعديًا إلى مفعول به. قال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} والظاهر أن الأصل في نحو هذا الاستعمال أن يتعدى إلى مفعول به. وأما مع اللام فقد جاء متعديًا إلى مفعول به وغير متعد إلى مفعول به كقوله تعالى في المتعدي: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} {آل عمران: 20}. وقوله في غير المتعدي: {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {غافر: 66}، وقوله: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} {الزمر: 54}. وقد يرد الفعل وحده من دون حرف جر ولا مفعول به كقوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} {الحجرات: 14}، وقوله: {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} {الجن: 14}. وقد ورد الفعل (يسلم) في آية لقمان عدي بإلى دون اللام لأكثر من سبب: من ذلك أن هذه الآية جاءت بعد قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا} والاتباع معناه في الأصل السير خلف المتبع. فقولك: (اتبعت فلانًا) أي سرت خلفه مقتديًا به. فمن اتبع شخصًا فكأنه يسلم إليه قياده ويدفعه إليه. فالكفرة أسلموا إلى الشيطان قيادهم واتبعوا آباءهم. والمؤمنون أسلموا إلى الله وجوههم، أي أنفسهم كما يدفع القياد إلى من يقود. والوجه معناه الذات والنفس. وذكر الوجه لأن الوجه أكرم شيء ظاهر في الجسم. هذا وجه. والوجه الآخر أن (أسلم إليه) بمعنى فوض الأمر إليه وتوكل عليه، ذلك أن الإنسان أكثر ما يشعر بالحاجة إلى تفويض أمره إلى الله عند الشدائد والنوازل، فإنه يخشى أن تعصف به العواصف وتغرقه سيول النوازل فيشعر بالحاجة الملحة إلى عاصم يحفظه وإلى الاستمساك بما يثبته فقال: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}. وأما مآل هذه الأمور التي يخشاها وما تنكشف عنه فإلى الله أمرها وحسبه أن يستمسك بالعروة الوثقى إلى أن يستبين قضاء الله فيها {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}. فقوله تعالى في الآية السابقة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا} اقتضى أن يقول: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} بمعنى تسليم النفس إليه. وقوله: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} اقتضى أن يقول: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} بمعنى تفويض الأمر إليه. فقد اقتضى هذا الفعل من وجهين والله أعلم. وقد تقول: لقد قال في سورة البقرة: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {البقرة: 112}، فعدى الفعل (أسلم) باللام، وعاه في لقمان بإلى كما علمنا فما الفرق؟ فنقول: هناك أكثر من سؤال في هاتين الآيتين وليس هذا السؤال وحده، من ذلك: 1- أنه قال في لقمان: {وَمَنْ يُسْلِمْ} بالمضارع. وقال في البقرة: {مَنْ أَسْلَمَ}. 2- وقال في لقمان: {إِلَى اللَّهِ} بالتعدية بإلى. وقال في البقرة: {لِلَّهِ} بالتعدية باللام. 3- وقال في لقمان: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}. ولم يقل مثل ذلك في آية البقرة. 4- وقال في لقمان: {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}. وقال في البقرة: {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. فلم ذلك؟ فنقول إن كلا من هذه السؤلات يحتاج إلى جواب: أما ذكر الفعل مضارعًا في لقمان وماضيًا في البقرة فذلك أن معنى الفعل في لقمان - كما ذكرنا - تسليم الوجه إلى الله وتسليم القياد إلى من أمر الله باتباعه ودفعه إليه. ومعناه أيضًا تفويض أموره إليه. والأمور التي تحتاج إلى الاتباع متعددة متجددة، والأمور التي تشعر بالحاجة إلى تفويضها إلى الله متعددة متجددة، فجاء بالفعل مضارعًا كما ذكرنا في قوله تعالى: {وَمَنْ يَشْكُرْ} وذلك أن فعل الشرط يأتي غالبًا في القرآن ماضيًا فيما يقل تكراره أو مظنة أنه مرة واحدة، ويؤتى به مضارعًا فيما يتكرر وقوعه. أما في البقرة فقد جاءت الآية ردًا على قول اليهود والنصارى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} {البقرة: 111}، فقال تعالى ردًا عليهم: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {البقرة: 111 - 112}، أي بلى يدخلها المسلم، فالدخول في الإسلام يحصل مرة ولا يتكرر كل يوم، وإنما تتكرر الأعمال التي يقوم بها المسلم، فإذا شهد المرء بالشهادتين دخل الإسلام وقد أسلم. أما الأحداث التي يفرضها المرء إلى الله فهي متكررة متجددة مستمرة، فجاء بالفعل مضارعًا في لقمان وماضيًا في البقرة. وأما التعدية بإلى واللام فقد ذكرنا معناهما وذكرنا الفرق بينهما، فمعنى {يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ}: يفوض أمره إلى الله ويتوكل عليه، ولذا كان جواب الشرط {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} ومعنى (أسلم وجهه لله): دخل في الإسلام، ومعناه أيضًا: استسلم لأمر الله وانقاد له وجعل نفسه سالمًا لله، أي خالصًا له، ولذا كان جواب الشرط: {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} فـ (أسلمت لله ) أعلى من (أسلمت إلى الله) لأنه جعل نفسه سالمًا، أي خالصًا له لم يترك من نفسه شيئًا لغير الله، كما قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} {الزمر: 29}، أي خالصًا له من الشراكة. ولذا - والله أعلم - أخبر الله عن نبيه وخليله إبراهيم حين قال له ربه أسلم أنه قال: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {البقرة: 131} باللام. وقال الله لخاتم الرسل والنبيين: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {غافر: 66}، وأمره أيضًا أن يقول: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {الأنعام: 71}، وأمره مرة أخرى أن يقول: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} {آل عمران: 20}. وقالت ملكة سبأ: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {النمل: 44}، كل ذلك باللام. فما كان الفعل (أسلم له) أتم وأكمل كان الجواب أعلى وأتم، فقال: {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} جاء في التفسير الكبير) أن "(من أسلم لله) أعلى درجة ممن يسلم إلى الله. لأن (إلى) للغاية واللام للاختصاص، يقول القائل: أسلمت وجهي إليك، أي توجهت نحوك، وينبئ هذا عن عدم الوصول؛ لأن التوجه إلى الشيء قبل الوصول. وقوله: (أسلمت وجهي لك) يفيد الاختصاص ولا ينبئ عن الغاية التي تدل على المسافة وقطعها للوصول. إذا علم هذا فنقول: في البقرة قالت اليهود والنصارى: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} فقال الله ردا عليهم: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ}، ثم بين فساد قولهم بقوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} {البقرة: 112}" (4). وقد تقول: لقد أر الجار والمجرور عن الفعل (أسلم) في مواطن وقدمهما على الفعل في بعض المواطن، فقد قال تعالى في سورة الزمر مثلًا: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} {الزمر: 54}، فأخر الجار والمجرور عن الفعل (أسلموا). في حين قال في سورة الحج: {} {الحج: 34}، بتقديم الجار والمجرور على الفعل، فما السبب؟ والجواب: أن للتقديم والتأخير ولا شك سببًا يدعو إليه. ونحن هنا لا نريد أن نستقصي كل الآيات التي ورد فيها الفعل (أسلم) لبيان ذلك، ولكن أقول بإيجاز: إن قسمًا من الآيات لا يصح فيها التقديم وذلك كما في قوله: {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}، وقوله: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {الأنعام: 71}، لما فيه من تقديم الصلة على الموصول، فلا يصح أن نقول: (وأمرت لرب العالمين أن أسلم) لما فيه من تقديم الجار والمجرور على (أن)، وما تعلق به متأخر عنها، فلا يصح أن يعمل ما بعد (أن) فيما قبلها. وكذلك القول في {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ} فإنه على تقدير (أن). وأما فيما يجوز فيه التقديم والتأخير فنقول: إنه في مقام التوحيد يقدم الجار والمجرور على الفعل لقصد الحصر، أما في غير مقام التوحيد فيؤخره إلا إذا اقتضى غير ذلك سبب آخر. وأضرب لك مثلًا يوضح ذلك في آيتي الحج والزمر اللتين ذكرناهما: قال تعالى في سورة الحج: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} {الحج: 34}. وقال في الزمر: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} {الزمر: 53 - 54}. فقدم الجار والمجرور (فله) على الفعل (أسلموا) في آية الحج لأنه في مقام التوحيد، فقد قال: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فقدم الجار والمجرور الحصر الإسلام له. وليس كذلك الأمر في الزمر، فإنه ليس في مقام ذكر التوحيد، ولكن السياق في ذكر المسرفين في الذنوب ومغفرة الله لها، فلم يقدم الجار والمجرور لأن المقام لا يقتضي ذاك، والله أعلم. {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي من يسلم وجهه إلى الله في حالة اتصافه بالإحسان فقد استمسك بالعروة الوثقى. فهذا الأمر ينطبق على من هو متصف بالإحسان دون من لم يتصف به كما قال رسول الله : (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة). قال تعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} {الأعراف: 56}، وقال: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} {العنكبوت: 69}. وقد تقول: لقد قال الله في آية لقمان: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}، وقال في البقرة: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} {البقرة: 256}، فزاد في البقرة {لَا انْفِصَامَ لَهَا} على ما في لقمان فما السبب؟ والجواب: أن سياق كل آية من الآيتين يوضح السبب، فقد قال تعالى في سورة البقرة: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} {البقرة: 256}. فذكر في آية البقرة الكفر بالطاغوت. والكفر بالطاغوت قد يلحق صاحبه الأذى والعنت، فإن (الطاغوت) هو المبالغ في الطغيان والتعدي، والطاغوت كل رأس في الضلال والإضلال من الشياطين والإنس والأصنام فقال: {لَا انْفِصَامَ لَهَا} مبالغة في حفظ من يستمسك بها، وليس السياق في مثل ذلك في لقمان، فلم يحتج إلى مثل ما ذكر في آية البقرة. فكل تعبير مناسب لما ورد فيه. وقال: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ} ولم يقل: (استمسك) من دون (فقد)، أي لم يقل: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن استمسك) ذلك أن (قد) للتحقيق، والمعنى أنه تحقق استمساكه بالعروة الوثقى وحصل. ولو لم يأت بـ (قد) لاحتمل أن يكون ذلك في المستقبل، ذلك أن الفعل الماضي إذا وقع فعلًا للشرط أو جوابًا له فالغالب أن يكون للاستقبال وذلك نحو قولك: (إن درست نجحت) فإن ذلك للاستقبال، وكقولك: (من يكفر بالله أدخله النار) فالفعل (أدخله النار) يفيد الاستقبال مع أنه ماض، فجاء بـ (قد) للدلالة على أن الاستمساك بالعروة الوثقى قد حصل لمن يسلم وجهه إلى الله. وقال: (استمسك) ولم يقل: (أمسك) للدلالة على المبالغة في الإمساك. ووصف العروة بأنها (الوثقى) ولم يقل: (الوثيقة) للدلالة على أنها أوثق العرى وليس ثمة عروة أوثق منها. {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} قدم الجار والمجرور للحصر لأن عاقبة الأمور إليه وحده. جاء في (روح المعاني): "وتقديم (إلى الله) للحصر ردًا على الكفرة في زعمهم مرجعية آلهتهم لبعض الأمور" (5). (1) لسان العرب (سلم). (2) الكشاف 2/519. (3) روح المعاني 21/95. (4) التفسير الكبير 9/125. (5) روح المعاني 21/95. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 458 إلى ص 466.
  • ﴿وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿٢٣﴾    [لقمان   آية:٢٣]
{وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23)} نود أن نذكر طرقًا من الملاحظات التعبيرية في هذه الآية. 1- قال تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ} فجاء بفعل الشرط ماضيًا بعد قوله تعالى في الآية السابقة: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ}، وقد كان فعل الشرط مضارعًا. وهذا التعبير نظير قوله تعالى في آية سابقة {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} فجاء بفعل الشرط الأول مضارعًا (يشكر)، وجاء بفعل الشرط الثاني وهو قوله: (كفر) ماضيًا، وقد ذكرنا سبب مجيء الفعل في قوله: {وَمَنْ يُسْلِمْ} مضارعًا. أما قوله: (من كفر) فهو نظير ما ذكرناه في قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } فلا نعيد القول فيه. 2- قال: {فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} فجعل الكفر فاعلًا والمخاطب مفعولًا به، والمعنى: لا تحزن لكفره. وقد جاء بالتعبير على هذه الصورة لأكثر من سبب: من ذلك أنه نهى الكفر أن يحزن رسول الله، فكأن الكفر يريد أن يحزن رسول الله فنهاه الله أن يفعل ذلك رأفة برسوله وإشفاقًا عليه، فكأنه قال: أيها الكفر لا تحزن رسولي، وذلك أن المنهي إنما هو الفاعل، تقول: (لا يضرب أخوك خالدًا) فالمنهي عن الضرب أخوك. هذا إضافة إلى ما فيه من التعبير المجازي، فكأن الكفر ذات عاقلة تريد أن تحزن رسول الله فنهاه الله عن ذلك. ولو قال: (لا تحزن لكفره) لم يؤد هذا المعنى. 3- جاء بالفاء في قوله: {فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ}، وهذه الفاء هي الرابطة لجواب الشرط، وقد جاء فيها تنصيصًا على أن (من) في قوله: (من كفر) اسم شرط، ولو لم يأت بالفاء لاحتمل أن تكون (من) اسمًا موصولًا. فأفاد مجيء الفاء العموم، أي كل من كفر؛ لأن أسماء الشرط تفيد العموم. أما الاسم الموصول فهو من المعارف، وقد يراد به شخص معين أو أشخاص بأعيانهم فلا يشمل العموم، تقول: (من زارني أكرمته)، و(زارني من أحبه)، وقد يراد به الجنس أحيانًا. أما اسم الشرط فيراد به العموم، فجاء بالفاء للدلالة على ذلك. 4- قال: {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} بضمير الجمع الذي يفيد التعظيم في (إلينا)، وقد قال في آية سابقة من السورة: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُم} بضمير الإفراد، ذلك أن الآية السابقة في موطن النهي عن الشرك: {لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ..... وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ....} فأفرد للدلالة على الوحدانية، في حين لم يكن المقام ههنا كذلك فجاء بضمير التعظيم. وقد قدم الجار والمجرور (إلينا) الذي هو الخبر على المبتدأ لإفادة الحصر، أي إلينا مرجعهم لا إلى غيرنا. 5- قال: {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} ولم يقل: (ثم إلينا مرجعهم) كما قال في آية سابقة من السورة وهو قوله: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }وذلك لإرادة تقريب المرجع إليه سبحانه، وذلك أن (ثم) تفيد المهلة والتراخي فلم يذكرها هنا. وقد قال في الآية السابقة: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} فجاء بـ (ثم) لأكثر من سبب: من ذلك أنه قال: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} والمجاهدة قد تستغرق وقتًا طويلًا. وقال: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} فأمر بمصاحبتهما بالمعروف وإن امتدت الحياة بهما. وقال: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} فأمر بذلك مهما امتدت الحياة وطالت. فناسب ذلك ذكر (ثم). وليس السياق في مثل ذلك ههنا. 6- قال: (فننبئهم) بضمير الجمع للتعظيم، وقال في آية سابقة: (فأنبئكم) بضمير الإفراد لما ذكرناه من أن الموطن السابق موطن النهي عن الشرك. وقال: (فننبئهم) بالفاء، ولم يقل: (ثم ننبئهم) لإرادة التعقيب بالتنبئ من دون مهلة وأنه يكون بعد الرجوع إلى الله، ولعله إشارة إلى حساب القبر. وقد تقول: ولكنه قال في مواطن أخرى: {ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} {الأنعام: 60}. وقال: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُون} {الأنعام: 159}. وقال: {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} {المائدة: 14}. وغيره. فلم ذاك ؟ والجواب: أن ذلك بحسب السياق، فقد يقتضي المقام ذكر (ثم) وقد يقتضي ذكر الفاء. أما قوله: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُون} فذلك أن سياق الكلام في الدنيا، ولم يذكر رجوعهم إلى الله، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} {الأنعام: 159}، فأمهل التنبئ. وأما قوله: {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} {المائدة: 14}، فالكلام أيضًا على من هو في الدنيا ولا تزال مدة طويلة بينهم وبين التنبئ. قال تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} {المائدة: 14}. فقد قال: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وهذه مدة طويلة تستغرق عمر الدنيا كلها فجاء بـ (سوف). وأما قوله: {ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} {الأنعام: 60} فالسياق مبني على الإسهال والتأخير وعدم الاستعجال، قال تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} {الأنعام: 57}. وقال: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} {الأنعام: 58}. وقال: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} {الأنعام: 61 – 62}. فإنه ذكر مدة وإمها بين مجيء الموت وردهم إلى الله. فبعد أن قال: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} قال: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ} ولم يقل: (فردوا إلى الله). فالسياق مبني على الإمهال، فناسب ذكر (ثم) دون الفاء. 7- قال: {بِمَا عَمِلُوا} بالماضي المنقطع، وقال في آية سابقة من السورة: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} بالماضي المستمر؛ وذلك لأن السياق في الآية السابقة في الاستمرار: استمرار المجاهدة وتطاولها، واستمرار المصاحبة بالمعروف، واستمرار الاتباع لسبيل المنيبين إلى الله. هذا علاوة على أنه قال في الآية السابقة: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ}. و(ثم) تفيد المهلة والتراخي، وفي ذلك استمرار العمل. فناسب كل ذلك استمرار العمل في الماضي. في حين قال في هذه الآية: {وَمَنْ كَفَرَ} ... {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ}، فليس فيها استمرار، فناسب الماضي المنقطع. 8- قال: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ ....} ولم يقل: (إننا نعلم) ونحوه كما قال في (إلينا) و(فننبئهم) فرجع إلى المفرد بعد الجمع. وهذا شأن التعبير في القرآن، فإنه حيث ذكر ضميره تعالى بلفظ الجمع للتعظيم لابد أن يذكر قبل ذلك أو بعده ما يدل على الإفراد حتى يعلم أنه واحد. 9- قال: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ولم يقل: (ومن كفر فإن الله عليم به) وذلك لإفادة الشمول. ولو قال: (فإن الله عليم به) لقصر علمه على من كفر، فلما قال: (عليم بذات الصدور) أطلق شمول علمه بالنفوس عامة، فدخل في علمه هؤلاء وغيرهم. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أن (ذات الصدور) تعني خفايا النفوس فقال: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ليشمل الخفايا. ولو قال: (عليم به) لم يدل على أنه يعلم الخفايا. وقال: (بذات الصدور) ولم يقل: (بذات صدورهم) ليشمل علمه ما في النفوس عمومًا وليس ما في نفوسهم خاصة. 10- إن قوله: {فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} يشمل العلم بالأعمال الظاهرة، وقوله: {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} يشمل خفايا النفوس. فشمل علمه ما ظهر وما خفي. 11- قال: (عليم) ولم يقل: (عالم) للدلالة على المبالغة في علمه بما في النفوس. 12- وأكد ذلك بـ (إن) للدلالة على تأكيد هذا العلم الواسع، والله أعلم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 467 إلى ص 472.
  • ﴿نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ ﴿٢٤﴾    [لقمان   آية:٢٤]
{نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)} قوله: (قليلًا) يحتمل أنه وصف للمصدر المحذوف، أي مفعول مطلق بمعنى نمتعهم تمتيعًا قليلًا، ويحتمل أنه وصف للزمان المحذوف، أي ظرف زمان بمعنى نمتعهم زمانًا قليلًا، وقد حذف الموصوف ليشمل المعنيين، أي نمتعهم تمتيعًا قليلًا زمانًا قليلًا، وهو من التوسع في المعنى، فلو قال: (نمتعهم تمتيعًا قليلاً) لانحصرت القلة في التمتيع، ولو قال: (نمتعهم زمانًا قليلاً) لانحصرت القلة في الزمان، فحذف الموصوف ليشمل المعنيين جميعًا، والله أعلم. {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} وصف العذاب بأنه غليظ تنزيلاً للعذاب في منزلة الأشياء الملموسة، وهو مجاز. وقد تقول: لقد قال في البقرة: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} {البقرة: 126}. وبين التعبيرين أوجه اختلاف منها: 1- أنه قال في لقمان: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ}، بضمير الجمع للكفرة، وهو المفعول به (هم) في الفعلين. وقال في البقرة: {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} بضمير الإفراد وهو الهاء في الفعلين، مع أنه قال في الآيتين: (ومن كفر). 2- أسند الفعل في لقمان إلى ضمير الجمع المستتر وهو الفاعل، وتقديره (نحن) في الفعلين وأسنده في البقرة إلى الفاعل المفرد فقال: {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} وهو ضمير مستتر تقديره (أنا) في الفعلين. فيكون كل من الفاعل والمفعول به جمعًا في لقمان، ومفردًا في البقرة. 3- قال في لقمان: {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ولم يقل مثل ذلك في البقرة. 4- جعل جواب الشرط في لقمان: {فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ ....} وجعل جواب الشرط في البقرة: {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا} 5- قال في لقمان: {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ}. وقال في البقرة: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}. فما سبب هذا الاختلاف؟ فنقول: إن سياق كل من الآيتين يوضح سبب ذلك. أما آية لقمان فقد ذكرنا سياقها. وأما آية البقرة فهي: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} {البقرة: 126}. فنقول الآن: أما التعبير عن الكفرة بضمير الأفراد في البقرة وبضمير الجمع في لقمان، وأعني بذلك المفعول به في الفعلين، فذلك أن الكلام في البقرة على أهل بلد واحد وهو مكة، وذلك أن إبراهيم عليه السلام دعا لأهل مكة بقوله: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ .....} فالكلام على من كفر من أهل مكة خاصة. وأما في لقمان فالكلام عام. ومن كفر من أهل مكة بالقياس إلى الكفار في عموم أهل الأرض قلة جدًا، فعبر عن القلة بضمير المفرد وعن الكثرة بضمير الجمع. وهناك سبب آخر نذكره في موضعه. وأما إسناد الفعل في البقرة إلى ضمير الإفراد، وفي لقمان إلى ضمير الجمع، وأعني بذلك الضمير المستر في الفعلين وهو الفاعل فذلك لما ذكرناه من أن ضمير التعظيم يسبقه أو يليه ضمير الإفراد، فكان ما في البقرة واقعًا بعد ضمير الجمع للتعظيم { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ … وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } فناسب الإفراد بعده. أما في لقمان فقد وقع بعد الإفراد {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ ....  وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ ..... وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} فجاء بضمير الجمع للتعظيم. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه أضاف البيت إلى نفسه فقال: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ ....} فناسب أن يتولى بنفسه أهل بيته وحرمه فعبر عن ذلك بضمير الإفراد. وهناك سبب آخر نذكره في موطنه. وأما أنه لم يقل في البقرة كما قال في لقمان: {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا}، وإنما قال مباشرة: {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا} فذلك لأن ذلك جواب عن دعوة إبراهيم عليه السلام {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} فالأمر يتعلق بالرزق وليس بالتبليغ، ولذا جعل الجواب التمتيع. أما في لقمان فإنه جعل الجواب: {فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} لأنه في التبليغ، ومن ناحية أخرى أن الكفار حاضرون في زمن الرسول معاندون له فقال: {فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ}. وأما المذكورون لإبراهيم بقوله: (ومن كفر) فإنهم لم يخلقوا بعد فلا يناسب أن يقول: {فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ}. وأما قوله في لقمان: {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ}، وقوله في البقرة: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} فذلك أنه ذكر العذاب في البقرة لمن كفر من أهل بلد الله الحرام، والسيئة في الحرم تتضاعف كما أن الحسنة فيه تتضاعف، فالذي يكفر وهو في بلد الله الحرام ليس كمن يكفر خارج البلد الحرام، والذي يعصي ربه في البلد الحرام ليس كمن يعصيه في مكان آخر، ولذلك قال فيمن كفر من أهل البلد الحرام: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} والتصريح بالتعذيب بالنار أشد من التهديد بالعذاب الغليظ. فإنك قد تقول: سأعذبك عذابًا غليظًا ولا تعني أنك ستحرقه بالنار حتمًا. ومما يدل على ذلك أيضا إسناد الفعل إليه بضمير الإفراد (أمتع... أضطره) فإن التهديد بذلك أشد من قوله: (نمتع، نضطر) وذلك لأنه كأنه يتولاه بنفسه. ومما يدل على ذلك أيضًا أنه ذكر الكافر بضمير الإفراد وهو الهاء، والتعبير بالإفراد أشد تهديدًا ووعيدًا من تهديد الجمع؛ لأنه يعني أنه يتولى من كفر واحدًا واحدًا فيعذبه، والوحدة في نفسها عذاب وقد أضاف إليها عذاب النار. فالتهديد والتعذيب لمن كفر في البلد الحرام أشد من عدة نواح، منها: 1- أنه أسند ذلك إلى نفسه بضمير الإفراد فكأنه يتولى التعذيب بنفسه. 2- أنه صرح بعذابهم في النار وبئس المصير. 3- وأنه ذكر الكفار بضمير الإفراد، فكأنه يعذب كل واحد بمفرده فلا يرى معه أحدًا فيكون التعذيب بالنار والوحدة، نعوذ بالله من ذلك جميعًا، والله أعلم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 472 إلى ص 476.
  • ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٢٥﴾    [لقمان   آية:٢٥]
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)} قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} باللام الموطئة للقسم، ولم يقل: (وإن سألتهم)، ويؤتى بهذه اللام للدلالة على التوكيد وأن الكلام معها بمنزلة القسم، بل هو قسم عند النحاة. وهذا يدل على أنهم يعلمون يقينًا أن الذي خلق السماوات والأرض إنما هو الله لا يشكون في ذلك ولا يترددون في الإجابة، ولذا أجاب بما يجاب به القسم {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} باللام ونون التوكيد. وقال: {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} والتقدير (ليقولن خلقهن الله) غير أنه لم يذكر الفعل (خلقهن) إيجارًا. إن كل الآيات التي سألهم فيها: من خلق السماوات والأرض أو من خلقهم قال الله فيها: (ليقولن الله) من دون أن يقول: (خلقهن الله) أو (خلقنا الله) إلا آية واحدة ذكر فيها الفعل وهي قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} {الزخرف: 9}. فقال: {خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}. إن المعنى معلوم سواء ذكر الفعل أم لم يذكر لتقدم ما يدل عليه، غير أنه يحذف إذا أراد الإيجاز ويذكر إذا أراد أن يتوسع في الكلام ويؤكد وقد ذكر الفعل في آية الزخرف؛ لأنه أراد أن يتوسع في الكلام على الخلق فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} {الزخرف: 9 – 13}. فذكر الفعل (خلقهن) لأنه ذكر بعده ما يتعلق بالخلق. أما الآيات التي لم يذكر فيها الفعل (خلق) في الجواب فإنه لم يتحدث عن الخلق بعدها، وقد لا يقول غير (الحمد لله)، وإليك بيان ذلك: قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} {العنكبوت: 61}، ولم يذكر شيئًا عن الخلق، وقال بعدها: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} {العنكبوت: 62}، فذكر بعدها ما يتعلق بالرزق لا بالخلق. وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} {لقمان: 25}، وانتقل بعدها إلى أمر آخر غير الخلق فقال: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} {لقمان: 26}، فذكر الملك ولم يذكر الخلق، وليس من اللازم أن يكون المالك خالقًا، فقد يملك الشخص أشياء ليس هو خالقها أو صانعها. وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} {الزمر: 38}، ولم يذكر بعدها شيئًا يتعلق بالخلق، وإنما انتقل إلى ما يعبدونه من دون الله فقال: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} {الزمر: 38}. وقال في موطن آخر من سورة الزخرف: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} {الزخرف: 87}، ولم يذكر شيئًا يتعلق بالخلق، وإنما قال بعدها: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ} {الزخرف: 88}. فناسب ذكر (خلقهن) في آية الزخرف التاسعة دون بقية الآيات، والله أعلم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 476 إلى ص 478. * * * {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} لأن الحجة قامت عليهم ولزمتهم وأبرأت نفسك أمام الله، وقل الحمد لله الذي هدانا للحق ولم نكن مثلهم فنكون ممن يدعوهم الشيطان إلى عذاب السعير. وقل الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، فهو مستحق الحمد كله ومستحق العبادة وحده. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 478 إلى ص 478. * * * {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} لا يعلمون أن الذي خلق السماوات والأرض هو وحده المستحق للعبادة وأنه لا شريك له. إنهم يعلمون شيئًا مهمًا وهو أن الله هو الذي خلق السماوات والأرض ولكن لا يعلمون ماذا ينبني على هذا العلم. إنهم كمن يعلم البديهيات ولا يعلم ما ينبني عليها. مثلهم في ذلك - ولله المثل الأعلى - مثل من يعرف أباه، وأنه هو الذي رباه وأنفق عليه وأغدق عليه النعم وأنه لا يزال يتعهده وينفق عليه ولكنه مع ذلك لا يعلم أن عليه أن يطيعه ويشكره، فيطيع ويشكر من لا فضل له ولا منة ولا نعمة، بل هو يطيع عدوه وعدو والده، وقد ذكره أبوه بما يعلم وماذا عليه من الحقوق تجاهه فأبى عليه مع كل ذلك. فأي جحود هذا وما قيمة العلم بفضل أبيه عليه؟!. جاء في (روح المعاني): "{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} على إلزامهم وإلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان ما هم عليه من إشراك غيره تعالى به جل شأنه في العبادة التي لا يستحقها غير الخالق والمنعم الحقيقي... {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أن ذلك يلزمهم، وفيه إيغال حسن، كأنه قال سبحانه: وإن جهلهم انتهى إلى أن لا يعلموا أن الحمد لله" (1). قد تقول: لقد قال في لقمان: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} فنفى عنهم العلم. وقال في سورة العنكبوت: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} {العنكبوت: 63}، فنفى عنهم العقل، والذم بعدم العقل أشد من الذم بعدم العلم، ذلك أن نفي العقل يعني المساواة بالبهائم. فإن ذا العقل يتعلم، أما فاقد العقل فلن يتعلم، فما سبب هذا الاختلاف؟. والجواب: أن السياق في كل من الموطنين يوضح ذلك: قال في لقمان: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}. وقال في العنكبوت: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} {العنكبوت: 61 – 63}. ومن النظر في النصين نرى أنه سألهم في لقمان سؤالًا واحدًا وهو: من خلق السماوات والأرض؟ وسألهم في العنكبوت عدة سؤلات: من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر؟ ومن نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها؟. وأجابوا عن كل ذلك أنه الله. فمعرفتهم بكل ذلك مع إيمانهم بوحدانيته تعالى دليل على عدم عقلهم. فإنهم يؤمنون بكل المسلمات الأساسية للتوحيد ومع ذلك لم يستطيعوا الإيمان به، أي بالتوحيد. ومعنى هذا أنه ليس عندهم من العقل ما يترقون به من المسلمات إلى النتائج الظاهرة، ولو كان عندهم شيء من العقل لأدركوا أن من يفعل ذلك كله هو المستحق بأن يفرد بالعبادة منزها عن الشريك. أما في لقمان فإن السؤال الذي سألهم إياه هو أحد السؤلات التي سألها في العنكبوت فكان الأمر أيسر، فرماهم بما هو أيسر وهو نفي العلم دون العقل، والله أعلم. (1) روح المعاني 21/96. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 478 إلى ص 480.
  • ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴿٢٦﴾    [لقمان   آية:٢٦]
{لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)} قدم الجار والمجرور (لله) الذي هو الخبر على المبتدأ وهو قوله: (ما في السماوات) للحصر: أي أن ما في السماوات والأرض لله حصرًا وليس لغيره. لقد ذكر هنا أن له ما في السماوات والأرض، وقد ذكر قبل هذه الآية أنه خلق السماوات والأرض فقال: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ.....}، وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} فدل ذلك على أن له السماوات والأرض وما فيهن، فإنه قد يملك الإنسان ما في الظرف ولا يملك الظرف، والعكس صحيح، فقد يملك الظرف ولا يملك ما فيه، فذكر في هذه الآية والتي قبلها أن له الظرف وما فيه، أي له السماوات والأرض وما فيهن. لقد دل بهذه الآية وما قبلها أن الله مالك السماوات والأرض ومالك ما فيهما. ودل قوله: {سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}، وقوله: {إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} على أنه المتصرف فيهما، فدل على أنه المالك لهما ولما فيهما والمتصرف فيهما فهو الغني الحميد. {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} ذكر هذا بعد قوله: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ}، وقوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ}، وهذا نظير ما مر من قوله: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}. فإن قوله: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} نظير قوله:{وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ}، وقوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ }نظير قوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}. و(الحميد) كما ذكرنا معناه المحمود على جهة الثبوت، فهو المحمود في غناه والمحمود في كل شيء. وهو مناسب لقوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ}، فمن له الحمد هو الحميد. إن قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}، وقوله: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مناسبان لاسمه (الغني). وقوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} مناسبان لاسمه (الحميد). فارتبط ذلك بما سبق أجل ارتباط وأحسنه. جاء في (التفسير الكبير): "إن السماوات وما فيها والأرض وما فيها إذا كانت لله ومخلوقة فالكل محتاجون، فلا غني إلا الله فهو الغني المطلق، وكل محتاج فهو حامد لاحتياجه إلى من يدفع حاجته، فلا يكون الحميد المطلق إلا الغني المطلق فهو الحميد، وعلى هذا يكون الحميد بمعنى المحمود" (1). وقد تقول: لقد قال ههنا: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} وقال في سورة الحج: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}، فزاد اللام وأدخلها على ضمير الفصل فقال: {لَهُوَ الْغَنِيُّ} فما سبب ذلك؟. والجواب: أنه فصل في الملك في سورة الحج ما لم يفصل في لقمان فقال: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فذكر (ما) مع السماوات ومع الأرض، وليس التعبير كذلك في لقمان فإنه لم يكرر (ما)، والتكرار يفيد التوكيد والتوسع في الكلام فأكد التعبير ووسعه بزيادة اللام في الحج. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه قال في لقمان: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ }فجعل ملكه للسماوات والأرض دليلا على غناه. وأما في الحج فقال: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} فجاء بالواو فاصلة بين الغني والملك، فذكر أن له ما في السماوات وما في الأرض وزاد عليه وصف الغني، فلو زالت السماء والأرض لكان غنيًا حميدًا بغيرهما بل لكان هو الغني الحميد. وهو كما تقول: (فلان يملك مائة دار وألف بستان إنه غني) فجعلت غناه في ذلك، أو جعلت ذلك دليلا على غناه. وتقول: (فلان يملك مائة دار وألف بستان وإنه غني) أي هو غني من دون ما ذكرت من الملك، فلو ذهبت مائة الدار وألف البستان لم يؤثر ذلك في غناه. فذكر في الحج ما هو أوسع وأدل على الغنى فناسب زيادة اللام. قد تقول: لقد يقول الله أحيانًا: {وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} {آل عمران: 189}، {المائدة: 17، 18} أو {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ} {المائدة: 120}. ويقول أحيانًا أخرى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فما الفرق؟ والجواب: أن قوله: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يفيد أنه الملك والحاكم والمسخر لهن، فإن (الملك) بضم الميم من الحكم، قال الله على لسان فرعون: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} {الزخرف: 51}. وأما قوله: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فيفيد التملك، فهي مملوكة له وهو المالك لهن، فدل ذلك، أي قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}، وقوله: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} على أنه المالك والملك، كما قال تعالى: {مَالِكَ الْمُلْكِ} فهو مالكهما وملكهما لا مالك غيره ولا ملك سواء فهو الغني الحميد. (1) التفسير الكبير 9/127. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 481 إلى ص 484.
  • ﴿وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿٢٧﴾    [لقمان   آية:٢٧]
{وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)} لما ذكر أن الله له ما في السماوات والأرض لربما ظن ظان أن هذا جميع ملكه، فجاء بعده بما يدل على أنه لا حدود لملكه وخزائنه وقدرته فقال: لو أن كل شجرة في الأرض بريت أقلامًا، والبحر يمده من بعده سبعة أبحر يكتب بها، ما نفدت كلمات الله وعجائب قدرته. جاء في (التفسير الكبير): "لما قال تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وكان ذلك موهمًا لتناهي ملكه لانحصار ما في السماوات وما في الأرض فيهما، وحكم العقل الصريح بتناهيهما بين أن في قدرته وعلمه عجائب لا نهاية لها فقال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} ويكتب بها والأبحر مداد لا تفنى عجائب صنع الله" (1). وجاء في (الكشاف): "فإن قلت: لم قيل: (من شجرة) على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر؟ قلت: أريد تفصيل الشجر وتعقبها شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا قد بريت أقلامًا. فإن قلت: الكلمات جمع قلة، والموضع موضع التكثير لا التقليل؛ فهلا قيل: كلم الله؟ قل: معناه أن كلماته لا تفي بكتبتها البحار فكيف بكلمه؟" (2). وجاء في (البحر المحيط): "وفي هذا الكلام من المبالغة في تكثير الأقلام والمداد ما ينبغي أن يتأمل، وذلك أن الأشجار مشتمل كل واحدة منها على الأغصان الكثيرة، وتلك الأغصان كل غصن منها يقطع على قدر القلم فيبلغ عدد الأقلام في التناهي إلى ما لا يعلم به ولا يحيط إلا الله تعالى" (3). (1) التفسير الكبير 9/127. (2) الكشاف 2/519. (3) البحر المحيط 7/187. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 484 إلى ص 485. * * * {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} إنه عزيز بقدرته التي لا تحد، وعلمه الذي لا ينتهي، وخزائنه التي لا تنفد، حكيم لا يصدر فعله إلا عن حكمة. وقد تقول: لقد قال ههنا: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وقال في آية سابقة من السورة: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} بتعريف الاسمين الكريمين فلم ذاك؟ والجواب: أن الآية السابقة إنما هي في الآخرة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} {لقمان: 8 – 9}، ومن المعلوم أنه لا يبقى آنذاك عزيز إلا هو ولا حاكم إلا هو. لقد كان الناس في الدنيا يرون أشخاصًا أعزة ويرون ملوكًا وحكامًا يتداولون الملك والحكم، أما في الآخرة فيرى الخلق جميعا مؤمنهم وكافرهم أن لا عزيز إلا هو ولا ملك إلا هو كما قال تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} {الحج: 56}، فقال: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي لا عزيز غيره ولا حكيم فناسب التعريف. وقد تقول: ولم لم يؤكد ذلك بإن فيقول: (إنه هو العزيز الحكيم) كما أكده في الآية هذه؟ فنقول: ليس في ذلك الوقت أحد يشك أو ينكر عزة الله وحكمه وحكمته، بل كلهم يرى ذلك ويسلم به فلا حاجة إلى التوكيد، بخلاف ما في الدنيا، فناسب كل تعبير موضعه، والله أعلم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 485 إلى ص 486.
  • ﴿مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴿٢٨﴾    [لقمان   آية:٢٨]
{مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)} ارتبطت هذه الآية بما قبلها وبما بعدها أحسن ارتباط وأوثقه. فإن خلق الناس من كلمات الله. وإن بعثهم من كلمات الله. وإن خلقهم كنفس واحدة من كلمات الله. وإن بعثهم كنفس واحدة من كلمات الله التي لا تنفد. كما ارتبطت بخاتمة الآية السابقة. فإن الخالق عزيز حكيم، ذلك أن الخالق له العزة، فالمخلوقات كلها من صنعه، وأنها طائعة لأمره، فارتبط ذلك باسم العزيز. والخالق حكيم، حكيم في خلقه وصنعه. وهو خلقهم لحكمة أرادها، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} {الذاريات: 56}، وقال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} {الملك: 2}، فارتبط باسمه الحكيم، فهو خلقهم بحكمة وخلقهم لحكمة، فهو حكيم في الصنع وحكيم في الغرض الذي خلقهم من أجله. والذي يبعث الخلائق للحساب والجزاء عزيز حكيم. فإنه عزيز لأنه يجازي ويعاقب ويعذب ولا راد لأمره. وهو حكيم بمعنى الحكمة وبمعنى الحكم، فإن البعث ومحاسبة الخلائق كل ذلك لحكمة واضحة بينة، فإنه ليس من الحكمة أن يترك عباده هم من دون حساب، تعالى الله عن ذلك، كما قال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} {المؤمنون: 115 – 116}. وهو حكيم بمعنى الحكم؛ لأنه سيحاكمهم ويحكم بينهم كما قال تعالى: {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} الزمر: 46}. وقد ارتبطت الآية بما بعدها وهو قوله: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} {لقمان: 29}، وهذا الأجل المسمى هو الذي يبعث الله الخلائق فيه، وهم يجرون كجري الشمس والقمر إلى ذلك اليوم. كما ارتبطت بجو السورة التي شاع فيها ذكر الخلق والبعث. فقد قال: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} {لقمان: 10}، وقال: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} {لقمان: 11}، وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} {لقمان: 25}. هذا في الخلق. وأما البعث فهو شائع في السورة من أولها إلى آخرها كما سبق أن ذكرنا. فقد قال في أول السورة: {وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}، وقال في آخرها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ …… إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}. وارتبطت بمقاصد السورة وهي عبادة الله وتثبيت عقيدة اليوم الآخر وآداب السلوك وإحسان العمل. فالذي يخلق يستحق العبادة دون من سواه، وإذا كان يخلق الخلق كنفس واحدة كانت العبادة له ألزم. والذي يبعث الخلق يستحق العبادة دون من سواه، وإذا كان يبعثهم كنفس واحدة كانت العبادة له ألزم. والغرض من الخلق إنما هو العبادة وإحسان العمل، وإحسان العمل من العبادة كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} {الملك: 2}. والبعث إنما هو للجزاء على العمل. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 486 إلى ص 488. * * * {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} قد تقول: أليس من الأولى أن يقال ههنا: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}؟ فنقول: إن الآية التي تساق قد تحتمل أكثر من خاتمة، فيمكن أن تجعل (إن الله على كل شيء قدير) خاتمة لكثير من الآيات في السورة، فكان من الممكن أن تجعل خاتمة لقوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ......}، وقوله: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ....}، وقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ ....} وغيرها. وقد تحتمل خواتيم أخرى، وكذلك الأمر في السور الأخرى. ولكن اختيار الخاتمة ينبغي أن يكون مناسبًا للسياق الذي وردت فيه الآية والغرض الذي ذكرت من أجله. والآية ينبغي ألا تؤخذ بمفردها بل ينبغي أن توضع في سياقها الذي وردت فيه لتفهم مقاصدها واختيار ألفاظها وتعابيرها. فينبغي أن ننظر مثلاً هل الآية واردة في سياق بيان القدرة الإلهية وسعتها، أو هي واردة في بيان الحكمة، أو في بيان التفضل والنعمة، أو في بيان الغنى، أو لبيان الصفات الإلهية الأخرى، أو في بيان موقف الإنسان من ذلك، إلى غير ذلك من الأغراض. ولأضرب مثلًا على ذلك بإنزال الماء من السماء وإخراج الزرع والفواكه والحبوب به. فهذا يمكن أن يساق في بيان قدرة الله، ويمكن أن يساق في بيان نعمة الله على الإنسان والحيوان، ويمكن أن يساق في بيان الاستدلال على البعث والنشور، ويمكن أن يساق في بيان جحود الإنسان لنعمة ربه، واختيار الخاتمة ينبغي أن يكون موافقًا للغرض الذي وردت من أجله الآية. وهذا يجري في حياتنا اليومية كثيرًا فقد تذكر أمرًا واحدًا لكن الغرض من ذكره يختلف، فقد تذكر مثلاً حادثة غريبة تدل على كل شخص، ولكن قد تذكر الحادثة لبيان صفة هذا الشخص أو للتندر منه أو لبيان أن هذا الشخص لا ينبغي أن يكون في المكان الذي عهد به إليه أو أنه سيفرط في المسألة التي أنيطت به أو غير ذلك، ثم يكون التعقيب بعد ذلك مناسبًا للغرض الذي أوردت من أجله الحادثة. وهكذا ينبغي أن نتأمل في خواتيم الآية وسبب ورودها على هذا النحو دون ذاك، فإن ذلك يهدينا إلى مقاصد التعبير وأغراضه في القرآن الكريم، وستنكشف لنا أمور في غاية الدقة وحسن الاختيار (1). وقد ارتبطت خاتمة الآية ههنا بسياق الآية أحسن ارتباط وأوثقه، فإن الآية هي {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}. فابتدأت بالخلق والبعث وختمت بالسمع والبصر. والخالق لا بد أن يكون سميعًا بصيرًا. والذي يبعث الخلائق من مدافنها لا بد أن يكون سميعًا بصيرًا. والخالق الذي يخلق عباده ليعبدوه وليبلوهم أيهم أحسن عملاً لا بد أن يكون سميعًا لأقوالهم بصيرًا بأعمالهم. والذي يبعثهم ليحاسبهم على أقوالهم وأفعالهم لا بد أن يكون سميعًا لما قالوه في الدنيا ولما يحتجون به في الآخرة، بصيرًا بهم وبأعمالهم وبما أعد لهم، وأنه لا يند عنه من الخلائق أحد فلا يبقى أحد من دون بعث ولا حساب. ثم إن أعمال الإنسان منها ما يسمع ومنها ما يبصر ومنها ما يضمر. فقال ههنا: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} فشمل ما يسمع وما يبصر وما يضمر. ذلك أن (البصير) ههنا يحتمل أن يكون من معنى الرؤية، ويحتمل أن يكون من معنى البصيرة كما قال تعالى: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} {القيامة: 14}، وقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} {يوسف: 108}. ومنه قوله تعالى: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} {غافر: 44}، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} {البقرة: 237}. فقوله: (سميع) يشمل ما يسمع. وقوله: (بصير) يشمل ما يبصر وما يضمر. هذا إضافة إلى أنه قال في آية سابقة: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فذكر ما يضمر تنصيصًا، فشمل كل ما يسمع ويبصر ويضمر. لقد قال: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} ولم يقل: (إن الله هو السميع البصير) ذلك أن معنى (هو السميع البصير) المتفرد بالسمع والبصر، غير أنه قد أثبت السمع والبصر لخلقه. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ .....}، وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ ......}. وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ ......}. فأثبت الرؤية لهم. وقال: {وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} فأثبت له السمع لكنه يعمل نفسه كأنه لم يسمعها، وقد وضع الله الأذنين للسمع. وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ......} وهذا إثبات للسمع، فالمجادل يسمع ولا شك. وقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا} وهذا إثبات للسمع أيضًا، فإنهم ردوا على القول. وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}. فأجابوا عن السؤال. وكل هذا إثبات للسمع. فأثبت الرؤية والسمع لخلقه، فكان ما قاله أولى. ثم إنه قدم السمع على البصر وهو شأن أكثر ما ورد في القرآن الكريم، وقد ذكرنا تعليلًا لذلك في كتابنا (التعبير القرآني) فلا نعيد القول فيه (2). (1) انظر مبحث (فواصل الآية) في كتابنا (التعبير القرآني). (2) انظر التعبير القرآني باب (التقديم والتأخير) ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 488 إلى ص 491.
  • ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿٢٩﴾    [لقمان   آية:٢٩]
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)} ذكر في السورة أولًا خلق السماوات، وذكر ما يتعلق بالأرض من إلقاء الرواسي وغيرها فقال: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ .....}. ثم ذكر تسخير ما فيهما على العموم فقال: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ .....}. ثم ذكر في هذه الآية وما بعدها تسخير بعض ما فيهما فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}، وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ .....}. جاء في (التفسير الكبير): "يحتمل أن يقال: إن وجه الترتيب هو أن الله تعالى لما قال: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} على وجه العموم ذكر منها بعض ما هو فيهما على وجه الخصوص بقوله: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ}، وقوله: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} إشارة إلى ما في السماوات، وقوله بعد هذا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ ....} إشارة إلى ما في الأرض" (1). لقد قال ههنا: (ألم تر) بخطاب المفرد، وقال في آية التسخير الأولى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ} بخطاب الجمع، ذلك أن سياق الكلام في الآية الأولى في خطاب الجمع، فقد قال: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ....} فقال: (ترونها)، ثم قال: (بكم) على خطاب الجمع، ثم قال: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} فقال: (أروني) بخطاب الجمع، فناسب فيها خطاب الجمع. أما هذه الآية، أعني {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ .....}، فقد جاءت في سياق خطاب المفرد، فقد قال: {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ}، فقال: (فلا يحزنك) بخطاب المفرد، ثم قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} فقال: (سألتهم) بخطاب المفرد، ثم قال: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} فقال: (قل) بخطاب المفرد، فناسب خطاب الإفراد، واستمر في خطاب المفرد بعد ذلك فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ}. وقد تقول: ولكنه خاطب الجمع قبل هذه الآية فقال: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}. فنقول: لا يصح هنا خطاب المفرد، فلا يصح أن يقال: (ما خلقك ولا بعثك إلا كنفس واحدة) فإنه نفس واحدة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه لما ذكر ما في السماوات وما في الأرض على العموم خاطب العموم فقال: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}، ولما ذكر بعض ما فيهما خاطب المفرد فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ} فناسب العموم العموم، وناسب التخصيص الإفراد، والله أعلم. (1) التفسير الكبير 9/129. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 492 إلى ص 493. * * * {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} بدأ بالليل لأن الليل أقدم وأسبق من النهار، ذلك أنه قبل خلق الشمس لم يكن نهار. وقدم الشمس على القمر لأنها أقدم وأسبق من القمر، والله أعلم. وجاء بالفعل (يولج) مضارعًا لأن ذلك يتجدد في كل لحظة، وجاء بالفعل (سخر) ماضيًا لأن ذلك لا يتجدد تجدد الإيلاج. جاء في (التفسير الكبير): "قال: (يولج) بصيغة المستقبل، وقال في الشمس والقمر: (سخر) بصيغة الماضي؛ لأن إيلاج الليل في النهار أمر يتجدد كل فصل بل كل يوم، وتسخير الشمس والقمر أمر مستمر" (1). وجاء في (روح المعاني): "وعطف قوله سبحانه: (سخر) على قوله: (يولج)، والاختلاف بينهما صيغة لما أن إيلاج أحد الملويين في الآخر متجدد في كل حين، وأما التسخير فأمر لا تعدد فيه ولا تجدد، وإنما التعدد والتجدد في آثاره" (2). وقال: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} ولم يقل: (وسخر لكم) كما في الآية الأولى لأنه ليس المقام ههنا مقام تعداد النعم كما في الآية الأولى، وإنما في بيان آيات الله، كما قال تعالى: {لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ}. ثم إنه من ناحية أخرى قال: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} فذكر أن لهما أجلاً مسمى، ولا يناسب ذلك ذكر النعم، فإن من تمام النعمة الدوام وهنا ذكر الانقطاع، ولذا حيث قال: (سخر لكم) لم يقل: (إلى أجل مسمى) (3). (1) التفسير الكبير 9/130. (2) روح المعاني 21/102. (3) انظر على سبيل المثال سورة إبراهيم 33، النحل 12. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 493 إلى ص 494. * * * {كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} قال ههنا: {يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ} فعدى الفعل (يجري) بإلی، وقال في آيات أخرى: {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} فعداه باللام (1). ومما ذكر في الفرق بينهما أن (إلى) تفيد انتهاء الغاية، واللام تفيد الاختصاص وتفيد التعليل، فمعنى (يجري لأجل) أنه يجري لهذه الغاية، أي لإدراك الأجل المسمى، كما تقول: يجري لغرض وصول الهدف وبلوغه. ومعنى (يجري إلى أجل) أنه يجري إلى أن يبلغ الأجل المسمى. ومجيء (إلى) في هذه الآية أنسب لأنها جاءت في سياق الآيات المنبهة على الحشر والإعادة. جاء في (درة التنزيل): "للسائل أن يسأل عن اختصاص ما في سورة لقمان بقوله: {كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} وما سواه إنما هو يجري لأجل مسمى. والجواب أن يقال: إن معنى قوله: {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} يجري لبلوغ أجل مسمى، وقوله: {يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ}؛ معناه: لا يزال جاريًا حتى ينتهي إلى آخر وقت جريه المسمى له. وإنما خص ما في سورة لقمان بـ (إلى) التي للانتهاء واللام تؤدي نحو معناها لأنها تدل على أن جريها لبلوغ الأجل المسمى؛ لأن الآيات التي تكتنفها آيات منبهة على النهاية والحشر والإعادة، فقبلها: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}، وبعدها {اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ}؛ فكان المعنى: كل يجري إلى ذلك الوقت وهو الوقت الذي تكور فيه الشمس وتنكدر فيه النجوم كما أخبر الله تعالى. وسائر المواضع التي ذكرت فيها اللام إنما هي في الإخبار عن ابتداء الخلق وهو قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} فالآيات التي تكتنفها في ذكر ابتداء خلق السماوات والأرض وابتداء جري الكواكب وهي إذ ذاك تجري لبلوغ الغاية، وكذلك قوله في سورة الملائكة إنما هو في ذكر النعم التي بدأ بها في البر والبحر، إذ يقول: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} إلى قوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}. فاختص ما عند ذكر النهاية بحرفها، واختص ما عند الابتداء بالحرف الدال على العلة التي يقع الفعل من أجلها" (2). وقال: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى }ولم يقل: (إلى أجل) ليدل على أن مدة جريها محددة مسبقًا. وقال بعد ذلك: {وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} إلماحًا إلى أن هذا الأجل المسمى هو وقت النظر في الأعمال والمحاسبة عليها، فارتبط قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} بقوله: {كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}. وارتبط أيضًا بقوله: {فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، وقوله: {فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا}، وارتبط أيضًا بما بعده من التحذير من اليوم الآخر. وقدم الجار والمجرور (بما تعملون) على (خبير) للاهتمام بالعمل. وناسب هذا الاهتمام ما تردد في السورة من ذكر الأعمال والتنبئ بها ومآل أصحابها، والله أعلم. (1) انظر سورة الرعد 2، فاطر 13، الزمر 5. (2) درة التنزيل 374 – 375، وانظر معاني النحو 3/75. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 494 إلى ص 496.
  • ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ﴿٣٠﴾    [لقمان   آية:٣٠]
{ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)} أي ما ذكره من إيلاج الليل في النهار وإيلاج النهار في الليل وتسخير الشمس والقمر وغير ذلك مما ذكر؛ إنما كان بسبب أن الله هو الحق الخالق الموجد القادر وأن ما يدعون من دونه هو الباطل؛ لأنها عاجزة عن أي شيء. وأن ما أمر به أو نهى عنه إنما يجب طاعته فيه لأنه الحق، فكل ما ذكره عنه من صفات الكمال والقدرة إنما هو بسبب أنه الحق. وكل أوامره ونواهيه لازمة بسبب أنه الحق. فقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} تعليل لكل أفعاله وصفاته وتعليل للزوم طاعة كل أوامره ونواهيه. ثم إنه لم يقل: (ذلك بأن الله حق) فيجعله من جملة ما هو حق، وإنما قال: (هو الحق) للدلالة على أنه لا حق سواه، فإنه لولا الله لم يكن شيء في الوجود أصلاً، فإن الله هو الحق الأول والآخر، وهو الحق الذي لولاه لم يكن هناك حق أصلًا، ولكان كل شيء باطلًا غير موجود. قد تقول: ولكن هناك أشياء أخرى توصف بأنها حق، فإن الجنة حق، وإن النار حق، وإن النبيين حق، وإن الملائكة حق كما قال . فنقول: ومن ينكر ذلك؟ ولكن كل ما ذكرته وما لم تذكره مما هو حق إنما هو حق بإيجاد الله له وهو يكتسب هذا الحق من الله، فلو لم يكن الله موجودًا لم يكن شيء مما ذكرت ولا غيره، فإن الله هو الحق الأول وهو الذي يحق الحق ويبطل الباطل. جاء في (التفسير الكبير): "ما معنى قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} وأي تعلق له بما تقدم؟. الجواب فيه وجهان: أحدهما: أن المراد أن ذلك الوصف الذي تقدم ذكره من القدرة على هذه الأمور إنما حصل لأجل أن الله هو الحق، أي هو الموجود الواجب لذاته الذي يمتنع عليه التغيير والزوال فلا جرم أتي بالوعد والوعيد. ثانيهما: أن ما يفعل من عبادته هو الحق وما يفعل من عبادة غيره فهو الباطل كما قال: {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآَخِرَةِ} (1). وجاء في (الكشاف): "ذلك الذي وصف من عجائب قدرته وحكمته التي يعجز عنها الأحياء القادرون العالمون، فكيف بالجماد الذي تدعونه من دون الله، إنما هو بسب أنه هو الحق الثابت إلهيته وأن من دونه باطل الإلهية" (2). وقال: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} بتكرار (أن) لتوكيد بطلان ما يدعون من دونه، فإنه كان من الممكن أن يقول: (وما يدعون من دونه الباطل) من دون تكرار لـ (أن) فيكون أقل توكيدًا. ثم إنه عرف الباطل وكان من الممكن أن يقول: (وأن ما يدعون من دونه باطل) فيجعل ما يدعون من دونه من جملة ما هو باطل. وما ذكره أولى، ذلك أنه لم يذكر مسألة ثانوية أو جزئية مما توصف بالبطلان، كأن تقول: أنت أخذت مني درهمًا وهذا باطل. أو تقول: أنت ذكرت أن ذلك الشيء البعيد حيوان مع أنه شجرة وهذا باطل. ولكنه ذكر أعظم المسائل على الإطلاق وهي مسألة العبادة، فهؤلاء المعنيون اتخذوا من دون الله آلهة، وهذا أكبر من الشرك، فإن الشرك أن تتخذ مع الله إلهًا، وهؤلاء اتخذوا من دونه آلهة، وهذا أبطل الباطل. فإن كان الله هو الحق فما يدعون من دونه هو الباطل. وعرف الباطل للدلالة على أنه أظهر الباطل وأتمه، فهو الباطل الظاهر التام. وقال: (ما يدعون) دون (من يدعون لإظهار شناعة فعلهم، وذلك أن (ما) لغير العاقل، فهم يدعون ما لا يعقل أصلًا وهو من أظهر الباطل. وقد تقول: لقد قال ههنا: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} من دون ضمير فصل، وقال في سورة الحج: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} {الحج: 62}، فجاء بضمير الفصل مع الباطل فقال: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ} فما السبب؟. فنقول: إن سياق كل من الآيتين يوضح سبب ذلك، "فآية الحج واقعة في سياق الصراع مع أهل الباطل ومجاهدتهم أشق أنواع الجهاد. ويبدأ الصراع بعد ذكر الأمم السالفة وتكذيبهم لرسلهم بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} {الحج: 51}، إلى أن يقول: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} {الحج: 58}. وهذا من نتائج الصراع: الهجرة من الديار والأرض والقتل والموت، فهنا أنصار الباطل ساعون لإطفاء نور الله معاجزون معاندون. ولا تجد مثل هذا في سورة (لقمان)، وإنما هو عرض لأصحاب الباطل من وجه آخر ليس فيه هذا الصراع، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} {لقمان: 21}. {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} {لقمان: 23 – 25}. {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} {لقمان: 29 – 30}. فأنت ترى أن السياق مع أهل الباطل هنا يختلف. فهم في الصورة الأولى معاجزون معاندون مصارعون متمكنون في الأرض، نتيجته هجرة المؤمنين أو قتلهم أو موتهم، فاحتاج الأمر إلى زيادة تثبيت المؤمنين وعدم افتتانهم بسلطة أصحاب الباطل وتمكينهم من رقاب الناس، فإن للسلطان فتنة ورهبة، فاقتضى السياق توكيد أن ما هم عليه هو الباطل. وأما الآية الثانية ففي سياق الجدل العقلي والمحاجة بين الفريقين، وليس فيها ذكر لصولة الباطل وبطشه. فلم يقتض السياق ما اقتضاه في الآية الأولى من التوكيد. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه لما تقدم في سورة الحج ذكر ما يدعون من دون الله من المعبودات الباطلة فقال: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} {الحج: 12 – 13}، ولم يتقدم مثل ذلك في (لقمان) أكد ذلك في الحج. جاء في (ملاك التأويل): "إن سورة الحج ورد فيها ما يستدعي هذا التأكيد بالضمير المنفصل ويناسبه وهو تكرر الإشارة إلى آلهتهم والإفصاح بذكرها تعريفا بوهن مرتكبهم وشنيع حالهم، وأوضح هذا التكرر وأشده ملاءمة الإتيان بهذا الضمير المعتد فصلا أو مبتدأ قوله تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} {الحج: 31}، وقوله في آخر السورة: {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ} {الحج: 73}، هذه الآية والتي ذكرنا قبلها أنسب شيء لقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} {الحج: 62}" (3). وجاء في (روح المعاني): "وكأنه إنما قيل هنا: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} بدون ضمير الفصل، وفي سورة الحج {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} بتوسيط ضمير الفصل لما أن الحط على المشركين وآلهتهم في هذه السورة دون الحط عليهم في تلك السورة" (4). وجاء في أيضًا أن زيادة (هو) في آية الحج دون أية لقمان لأن ما في الحج إنما وقع بين عشر آيات كل آية مؤكدة مرة أو مرتين، ولهذا أيضًا زيدت اللام في قوله تعالى الآتي: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} دون نظيره في تلك السورة. ويمكن أن يقال: تقدم في هذه السورة ذكر الشيطان فلهذا ذكرت هذه المؤكدات، بخلاف سورة (لقمان) فإنه لم يتقدم ذكر الشيطان هناك" (5). وقال: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}، فكرر (أن) وجاء بضمير الفصل وعزف الخبر والصفة لحصر العلو والكبر فيه سبحانه ولبيان أنه لا علي ولا كبير غيره على الحقيقة، فهو العلي القاهر كما قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} {الأنعام: 18}، وهو الكبير السلطان العظيم الشأن. وقد ذكر هذين الاسمين الكريمين بعد أن وصف نفسه بالحق ووصف ما يدعونه بالباطل لبيان أن الحق عال على وجه الثبوت والدوام، وأنه يعلو الباطل ويزهقه، فالحق عال ظاهر والباطل سافل مهين، والحق كبير والباطل صغير صغارا وصغا. فمهما انتفش وانتفخ فإنه قميء ذليل حقير. وقد ذكر هذين الاسمين تطمينًا وتثبيتًا لأهل الحق، وإنذارًا وتحذيرًا لأهل الباطل. جاء في (التفسير الكبير): "أي تعلق لقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} بما تقدم؟. والجواب: معنى العلي: القاهر المقتدر الذي لا يغلب، فنبه بذلك على أنه القادر على الضر والنفع دون سائر من يعبد مرغا بذلك في عبادته زاجرا عن عبادة غيره. فأما الكبير فهو العظيم في قدرته وسلطانه، وذلك أيضا يفيد كمال القدرة" (6). (1) التفسير الكبير 8/246. (2) الكشاف 2/520. (3) التعبير القرآني 172 – 174، وانظر ملاك التأويل 2/724. (4) روح المعاني 21/104. (5) روح المعاني 17/191. (6) التفسير الكبير 23/61. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 497 إلى ص 502.
  • ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴿٣١﴾    [لقمان   آية:٣١]
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)} لما ذكر تسخير بعض ما في السماوات في آية سابقة، ذكر في هذه الآية تسخير بعض ما في الأرض وهي الفلك. فذكر هناك جري الشمس والقمر، وذكر هنا جري الفلك. ولما قال: {بِنِعْمَةِ اللَّهِ}، وقال: {لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ} علمنا أن الله هو مجريها ومسيرها فأغنى ذلك عن أن يقول: (ألم تر أن الله يجري الفلك) أو نحو ذلك. وقوله: {بِنِعْمَةِ اللَّهِ} يفيد معنيين: الأول: أنها تجري بسبب نعمة الله وهو تسخيرها وتسخير البحر، فمن نعمة الله أنه سخر الفلك لنا كما قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} {إبراهيم: 32}، وأنه سخر البحر لتجري فيه الفلك كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ} {الجاثية: 12}. والمعنى الآخر: أنها تجري بنعمة الله، أي بما تحمله من البضائع مما أنعم الله به على الإنسان. والمعنيان مرادان، فهي تجري بنعمة التسخير، وهي تجري بما تحمله من النعم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 503 إلى ص 503. * * * {لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ} وهي آيات عظيمة، منها آيات في التسخير، ومنها آيات في أسرار البحار وما أودع فيها من العجائب، ومنها آيات في ضعف الإنسان وخوفه وعجزه وإنابته إلى ربه حين يركب البحر، وكيف يعود إلى ما كان عليه حين ينجيه إلى البر، ومنها آيات في أهوال البحر وعجيب قدرة الله إذا شاء أن ينجي المرء بعد أن انقطعت به الأسباب. وغير ذلك من الآيات. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 503 إلى ص 504. * * * {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} صبار على طاعة الله وعلى ما يصيبه من الشدائد، شكور على ما أفاض عليه من النعم أو على ما يمن عليه من النجاة. فالصبر إما أن يكون صبرًا على الطاعة أو صبرًا على الشدة، فالطاعات تحتاج إلى الصبر، فالصلاة مثلا تحتاج إلى الصبر كما قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} {طه: 132}، والصوم يحتاج إلى الصبر، بل إنه نصف الصبر كما قال ، والجهاد يحتاج إلى الصبر. والطاعات كلها تحتاج إلى الصبر. والشدائد تحتاج إلى الصبر كما هو معلوم. والشكر يكون على النعمة، ولذا كثيرًا ما تقترن النعمة بطلب الشكر في القرآن الكريم، قال تعالى: {وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} {النحل: 114}، وقال: {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} {المائدة: 6}. وقال في إبراهيم عليه السلام: {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} {النحل: 121}. وقد يكون الشكر على النجاة من الشدة كما قال تعالى على لسان راكبي البحر: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} {يونس: 22}. وقال ههنا لكل صبار شكور فذكر الشكر لما ذكر نعمته فقال: {تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ} {لقمان: 31}، وذكر الصبر لما قال بعد ذلك: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ}. جاء في (البحر المحيط): "ولما تقدم ذكر جري الفلك في البحر وكان في ذلك ما لا يخفى على راكبه من الخوف، وتقدم ذكر النعمة، ناسب الختم بالصبر على ما يحذر، وبالشكر على ما أنعم به تعالى" (1). وقد اقترن وصف (الصبار) بالشكور دومًا في القرآن، فلم ترد كلمة (صبار) إلا وقال معها: (شكور). وقد جاء بهذين الوصفين على صيغة المبالغة للدلالة على أن الإنسان يحتاج إلى الصبر على وجه الدوام، ويحتاج إلى الشكر على وجه الدوام. فالإنسان تلزمه طاعة ربه على الدوام، فيحتاج إلى الصبر على الطاعة. وهو عرضة لما يكره فيحتاج إلى الصبر على ما يكره. ويحتاج إلى الشكر على الدوام؛ لأن نعم الله عليه دائمة مستفيضة. ومن الملاحظ في التعبير القرآني أنه إذا ذكر تهديدًا في البحر أو خوفًا فيه قرن ذكر الصبر بالشكر، فإن لم يذكر التخويف والتحذير ذكر الشكر وحده ولم يذكر الصبر، ولما قال في هذه الآية: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ} ذكر الصبر فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} ومثله ما جاء في سورة الشورى وهو قوله: {وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} {الشورى: 32 – 34{. فإنه لما هددهم بالإغراق وإهلاكهم في البحر بقوله: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} ذكر الصبر فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}. فإن لم يذكر التهديد ذكر الشكر وحده ولم يذكر الصبر كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} {النحل: 14}. وقوله: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} {الروم: 46}. وقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} {فاطر: 12}. وقوله: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} {الجاثية: 12}. فإنه لما ذكر النعم عليهم ولم يذكر تهديدًا أو تخويفًا ذكر الشكر ولم يذكر الصبر، والله أعلم. (1) البحر المحيط 7/188. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 504 إلى ص 506.
إظهار النتائج من 11281 إلى 11290 من إجمالي 11693 نتيجة.