﴿مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ﴾:
من دقائق الإعجاز والبيان وعظمة آيات القرآن أن اختيار اللفظ يوضح ويعبر عن عمق المقصد: قال تعالى (ما تسبق من أمة أجلها وما يستأخرون):
• (أمة: مؤنث).
• (أجلها: مؤنث).
• (تسبق: فعل بصيغة التأنيث).
• ولكن (يستأخرون) مذكر.
قال الفراء رحمه الله تعالى: إنما قال (أجلها) لأن الأمة لفظها مؤنث، وإنما قال (يستأخرون) استخراجا له على معنى الرجال. ليفيد أن المقصود هم أهل القرية؛ إنها دقائق في الإعجاز والبيان. وعظمة آيات القرآن العظيم.
﴿وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا﴾:
من روعة البيان وجماله، وكمال معانيه، قوله تعالى عن خطاب أنبيائه المرسلين إلى أقوامهم (ولنصبرن على ما آذيتمونا) ففيه الربط بين ماضي الإيذاء ومستقبل الصبر، إذ ورد الإيذاء بصيغة الماضي، والصبر بصيغة المستقبل، فأفاد استمرار أذاهم، مع استمرار صبر النبي (ﷺ) والمؤمنين معه (ولنصبرن) تفيد صبر المرسلين على ما مضى من الأذى، وما سيكون في مستقبل الأيام، بما يفيد لزوم المثابرة وعدم التراجع (آذيتمونا) تفيد تحقق الأذى منكم، والذي سنقابله بالصبر وليس بالإنهزامية ولطف مقابلة الأذى بالإحسان والصبر، وليس بالإيذاء كما آذيتمونا.
﴿وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ﴾:
من بلاغة البيان كلمة (دانية) من قوله تعالى: (ومن النخل من طلعها قنوان دانية)؛ القنوان: هي عناقيد التمر، أو العذق، ويسمى القنو. ودانية: أي قريبة. لانحنائها فالقرب بالإندلاء أو التدلي: هي صفة عناقيد النخل فشملت كلمة الدنو أمرين:
• الأول: قرب عناقيدها من الجاني لها، سواء كان قاعدا، أو قائما، وهذا في القصير من النخل.
• الثاني: قُرب عناقيدها من الجذع، وذلك باندلائها نحو جذعها. فيسهل على الجاني جنيها. وهذا في الطويل من النخيل.
﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاءَ وَجَعَلَكُم مُّلُوكًا وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِّنَ الْعَالَمِينَ﴾:
وهناك فرق بين كلمة (جعل فيكم) • (وجعلكم) فجعل فيكم أي منكم وليس كلكم. ولكن (جعلكم) تفيد الجميع وبالتالي لا يمكن أن يصبحوا جميعهم ملوكا إلا بمعنى الاستقلال والاكتفاء بما يملكون من الزوجة والبيت والخادم. فيصبح بمنزلة الملك من الخدمة والغنى. فجعلكم أحرارا تملكون زمام أنفسكم. بعد أن كنتم مملوكين في أيدي الغبط. فأنقذكم منهم وذكر النعمة يستوجب الشكر. والشكر يستوجب الامتثال للمنعم فيما يأمر وينهى. فكيف وهذا المنعم هو الخالق الذي تفضل عليهم بعظيم النعم.
﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا﴾:
من جماليات البيان والأدب في القرآن الكريم قوله تعالى عن بر الوالدين (إما يبلغن عندك الْكِبَرَ) فكلمة (الْكِبَرَ) أعطت صورة الضعف في البدن مع رفعة مقام السن فجمعت الضعف في صورة علو القدر (الْكِبَرَ) فاستوفى الوصف التكريم وحفظ المكانة. وتعليم المخاطبين غاية الأدب وذروته. وكلمة (يبلغن) أفادت امتداد العمر بهما. واستوفت كلمة (عندك) حاجتهما إليك بعد حاجتك إليهما إنهما في كنفك وكفالتك بعد أن كنت في كنفهما وكفالتهما ولذلك لا ينبغي المزاح مع الكبير بما يقلل من قدره، أو يستثير مشاعر العجز عنده. ولعل البعض يُورد أمثلة على ذلك.
﴿فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾:
ورد كلام خليل الله إبراهيم (ﷺ) عن علاقته بمن تبع دينه في بيان عظيم الدلالة (فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي) فأعطت صورتين عميقتين:
الأولى: تعلقه بالدين وامتثاله لربه، حتى تمثل بالدين وعبر به عن نفسه (تَبِعَنِي).
الثانية: وصف علاقة من تبعه بعلاقة الجزء من الكل، فكان قطعة منه (مِنِّي).
فكأنه ودينه صنوان، يجمعهما أصل واحد، فأصبحت صورة ومنزلة التابع لدينه كعضو منه عليه الصلاة والسلام فأضحت العلاقة الترابطية هي علاقة الجزء بالكل فكان تعبيرا بلاغيا غاية في البيان .. وصورة دلالية في أوضح المعاني وأقواها.
﴿إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ • ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُّبِينٌ﴾ • ﴿إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾:
ومن بلاغة البيان حجب الكلمة عند زوال مقتضاها فمن مهامه وصفاته (ﷺ) أنه نذير وبشير قال تعالى: (إنا أرسلناك بالحق بشيرا ونذيرا) وقال (ﷺ) لقومه: (إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون) وفي بيان آخر اقتصر على الإنذار دون البشارة (إن هو إلا نذير مبين) لأن النذارة تكون للكافر والعاصي، والخطاب هنا للكافرين من قومه ومن غيرهم. فخصهم بما يناسب المقام والحال وهذه من دقائق البيان في القرآن الكريم.
﴿إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا﴾:
الفرق بين الخَطأ والخِطَأ (إن قتلهم كان خِطئا كبيرا) أن الخِطأ بالكسر هو العمد في تحصيل الإثم. بينما الخَطأ بالفتح لغير العمد. وذكر ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى: أنه يُحكى عن العرب: خَطِئتُ: إذا أذنبت. وأخطأت إذا وقع منك الذنب على غير عمد منك له.
﴿إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيَكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِّنَ الْمَلَائِكَةِ مُنزَلِينَ﴾:
في جملة (أَلَن يَكْفِيَكُمْ) أسلوب إنكاري لتأكيد النفي. بأنه يكفيكم ذلك المدد من الله تبارك وتعالى. وهو كذلك اسلوب استفهامي لتقرير حقيقة كفاية العدد.
﴿لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾:
من البلاغة القرآنية استيفاء اللفظة لجميع الدلالات المرادة كلفظة (الْبِرَّ) من قوله تعالى: (لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) فالبر: الجنة، والخير الذي يستحق به الأجر وهو اسم جامع للخيرات. وهو الطريق الموصل للجنة. فالإنفاق من المحبوب طريق (الْبِرَّ).