﴿وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كبِيرًا﴾:
من الإعجاز البلاغي في كتاب الله تعالى أن للتقديم والتأخير مقصد دقيق (وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا) فقدم توثيق صغير الدين على كبير الدين؛ ليلفت الانتباه إلى أهمية التوثيق حتى فيما يستهان به لقلته وصغره لأن المنازعات لا تنتفي وتمتنع في القليل.
﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ﴾:
من دقة البيان: اختلاف الجواب: لما بشرت الملائكة زكريا بالغلام استغرب، لسببين: لكبر سنه، وكون امرأته عاقر (قال ربِّ أنى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر) فقال الله تعالى: (كذلك الله يفعل ما يشاء)، وأما مريم فعندما بشرتها الملائكة بعيسى عليه السلام واستغربت فعندما بشرت الملائكة مريم واستغربت، قال الله تعالى: (كذلك الله يخلق ما يشاء) فذكر لها الخلق بينما ذكر لزكريا الفعل (كذلك الله يفعل ما يشاء) لوجود السبب. بينما ذكر لمريم الخلق دون السبب لانعدامه، ولإزالة أي شك. (كذلك الله يخلق ما يشاء) وهذه دقة في الجواب بما يناسب العلة والأسباب.
﴿إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ﴾:
من أساليب الإيضاح عطف الخاص على العام، كما في قوله تعالى عن الشيطان (إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوء والفحشاء) فالفحشاء خاص وهو ما تناهى قبحه. كالقتل وشرب الخمر. فعُطف على العام وهو السوء. للبيان والتنبيه، ولفت الذهن للخاص من بين العام. لإظهار شدته. فيكون الحذر منه أوجب.
﴿فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ﴾:
دقة اللفظ في القرآن الكريم؛ إذ سمى انتصار المؤمنين (فتح) وسمى انتصار الكافرين (نصيب)؛ (فإن كان لكم فَتْحٌ مِّنَ اللَّهِ قالوا أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ للكافرين نَصِيبٌ قالوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عليكم وَنَمْنَعْكُم مِّنَ المؤمنين) كما أن استخدام اللفظة دون غيرها بلاغة بيانية لأنه يحقق مرادا مخصوصا. فيعطى دقة في البيان. فتكسبه الدقة البيانية بلاغة إعجازية وفيما يخص اللفظتين: فالفتح يكون في الشيء العظيم. وأما النصيب فيكون في الجزء من الشي. وفي هذا تصغير لنصيب الكافرين. وتعظيم لحظ المسلمين.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا﴾:
من غزارة البيان القرآني دقة الوصف، كذكر الخاص بعد العام، للتنبيه عليه، وإظهاره، كما في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الذين اتخذوا دينكم هُزُوا وَلَعِبًا) فاللعب أخص من الاستهزاء. والاستهزاء أعم، فهو يشمل الاستخفاف والاحتقار والسخرية، فيظهر منه اللعب، كأحد دلالاته.
﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ﴾ • ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾:
فروق بيانية: في سورة النجم قال تعالى: (فلا تزكوا أنفسكم)، وفي سورة الشمس: (قد أفلح من زكاها) فالأولى: نهي عن المدح بزكاء الأعمال، وفي الثانية: ثناء على تطهير النفس من الدنس، ومن جمال التوجيه أن حث سبحانه وتعالى على تطهير النفس بإثبات الفلاح دون الأمر ليفيد الإطماع.
﴿وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ﴾:
من البلاغة ذكر الصفة التي تستوفي كمال الوصف المراد كقوله تعالى في وصف الخيل ضمن ما زُيّن للناس (والخيل المسومة) فكلمة (مسومة): جمعت أوصاف تكامل المطلوب؛ فهي الراعية في المروج، والحسنة الخلقة، والمُعدة للجهاد، والتامة الخلْق، والمُعَلَّمة بعلامة حتى تُعرف من غيرها لأهميتها.
﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ • أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ • أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ﴾:
من البلاغة الإعجازية السبر والتقسيم كقوله تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِن غيرِ شيءٍ أمْ هُمُ الخَالِقُونَ، أمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ والأرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ. أمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أمْ هُمُ المُسَيْطِرُونَ) فلا أحد يقول بأنه خُلِق من غير شيء. ولا يقول أنه خلق نفسه. فإذا هناك خالق خلقه. فهذا سبر للإيجاد بتقسيماته. فانتفت كلها وانحصرت في وجود الخالق سبحانه وتعالى إنه غرس التوحيد بتربية الفكر. ولذلك يقول جبير بن مطعم رضي الله عنه سمعت النبي (ﷺ) يقرأ بسورة الطور حتى إذا بلغ قوله تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِن غيرِ شيءٍ أمْ هُمُ الخَالِقُونَ، أمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ والأرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ) قال كاد قلبي أن يطير إلى الإسلام فقوة الحجة أذهلته حتى عبر عن ذلك بقوله ذلك فأسلم.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾:
من البلاغة البيانية في القرآن الكريم أن اللفظة قد تستوعب دلالتين لموقعها في الجملة فلفظة (كافَّةً) من قوله تعالى: (ياأَيُّهَا الذين آمَنُوا ادخُلُوا في السِّلْم كافَّةً) متعلقة بالمؤمنين: أي جميعكم ادخلوا في طاعته وكذلك متعلقة بالسلم: أي اعملوا بجميع شعب الإيمان وشرائع الإسلام فسواء كانت متعلقة بالسلم أو بالمؤمنين فإنها في كلا الوجهين ذات دلالة وجيهة ومطلب ديني مهم. وهذا من عظيم كلام ربنا تبارك وتعالى.