قوله تعالى: (فَنَادَتْهُ المَلاَئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المِحْرَاب أنَّ اللَّهُ يُبَشَرُكَ بِيَحْىَ) .
إن قلتَ: كيف نادت الملائكةُ زكريا وهو قائمٌ
يصلي، وأجابها وهو في الصلاة؟
قلتُ: المرادُ بالصلاة هنا الدُّعاءُ كقوله تعالى " ولا تَجَهرْ بصلاتك ".
فإِن قلتَ: لمَ خصَّ " يحى " عليه السلام بقوله " مصدِّقاً بكلمةٍ من الله " مع أن كل واحدٍ من المؤمنين، مصدِّقٌ بجميع كلمات الله تعالى؟
قلتُ لأن معناه مصدِّقاً بـ " عيسى " الذي كان وجودُه بكلمة من الله تعالى وهو قولُه: كنْ من غير أبٍ في الوجود أو المرتبة، وكان تصديق يحى لعيسى أصدَق من تصديق كل أحدٍ به.
قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ. .) .
قدَّم هنا ذكر " الكِبَرِ " على ذكرِ المرأة، وعكس في " مريم " لأن الذَكَر مقدَّمٌ على الأنثى، فقدَّم كبَره هنا وأخَّر ثَمَّ لتتوافق الفواصل في " عتيّاً، وَسَوِيّاً، وعشيّاً، وصبيّاً " وغيرها.
فإِن قلتَ: كيف استبعد زكريا ذلك، ولم يكن شاكاً في قدرة الله تعالى عليه؟
قلتُ: إنما قال ذلك تعجباً من قدرة الله تعالى، لا استبعاداً.
قوله تعالى: (قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ. .) .
قال في حقِّ زكريا " يَفْعَلُ " وفي حقِّ مريم بعدُ " يَخْلُقُ " مع اشتراكهما في بشارتهما بولدٍ.
لأن استبعاد زكريا لم يكن لأمرٍ خارق، بل نادرٍ بعيد فحسن التعبيرُ بـ " يفعل ".
واستبعاد مريمُ كان لأمرٍ خارقٍ، فكان ذكر " الخلقِ " أنسب.
قوله تعالى: (قَالَ آيَتكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَامً إِلاَ رَمْزاً. .) .
إن قلتَ: ما الجمعُ بين قوله هنا " ثلاثةَ أيامٍ " وقوله في مريم " ثلاثَ ليالً "؟
قلتُ: كلٌّ منهما مقيَّدٌ بالآخر، فلا بد من الجمع بينهما.
قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ العَالَمِينَ) .
كرَّر " اصْطَفَاكِ " لأن الاصطفاء الأول للعبادة التي هي خدمة " بيت المقدس " وتخصيص مريم بقبولها في النَّذر مع كونها أنثى، والاصطفاء الثاني لولادة عيسى.
قوله تعالى: (قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ. .) .
قال هنا " ولدٌ " وفي مريم " غلامٌ ".
لأن ذكر المسيح تقدَّم هنا وهو ولدها، وفي مريم تقدَّم ذكرُ الغلام.
قوله تعالى: (وَمَا كنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أقْلَامَهُمْ أيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ. .) .
إن قلتَ: كيف نفى وجودَ النبي - صلى الله عليه وسلم - في زمن مريم،
مع أنه معلوم عندهم، وتَرَكَ ما كانوا يتوهمونه من استماعه ذلك الخبر من حُفَّاظه؟
قلتُ: لأنهم يعلمون أنه - صلى الله عليه وسلم - أميٌّ لا يقرأ ولا يكتب، وإنما كانوا منكرين للوحي، فنفى اللَّهُ الوجودَ الذي هو في غاية الاستحالة، على وجه التهكّم بالمنكرين للوحي، مع علمهم أنه لا قراءة له ولا رواية.
قوله تعالى: (اسْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى أبْنُ مَرْيَمَ. .) .
فيه التفاتٌ إذِ القياسُ " ابْنُكِ ".
فإِن قلتَ: كيف قال " ابن مريم " والخطابُ معها،
وهي تعلمُ أنَّ الولد الذي بُشِّرت بِهِ يكون ابنَها؟
قلتُ: لأن النَّاسَ يُنْسبون إلى الآباء، لا إلى الأمهات، فأُعلمتْ بنسبتهِ إليها أنه يُولد من غير أبٍ، فلا يُنسب إِلّاَ إلى أمه.
قوله تعالى: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهْدِ وَكهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ) .
إن قلتَ: أيُّ معجزةٍ لعيسى عليه السلام في تكليمه النَّاسَ كهلاً؟
قلتُ: معناه تكلُّمه في الحالتيْن بكلامِ الأنبياء، من غير تفاوت بين الطفولة والكهولة، التي يستحكم فيها العقل وتُنبَّأ فيها الأنبياء.
وقال الزجَّاجُ: هذا أُخرج مخرج البشارة لمريم، ببقاء " عيسى " إلى وقتِ الكهولة.
قوله تعالى: (أنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطينِ كهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ. .) الآية.
نسبة هذه الأفعال إِلى عيسى، لكونه سبباً فيها ومعنى " بإِذن اللَّهِ " بإِرادته، وقال هنا " فأنفخُ فيهِ " وفي المائدة " فتنفخ فيها " بإِعادة الضمير هنا إلى الطير أو الطين، وفي المائدة إلى هيئة الطَّير، تفنُّناً جرياً على عادة العرب في تفنُّنهم في الكلام. وخَصَّ ما هنا بتوحيد الضمير مذكراً، وما في المائدة بجمعه مؤنثاً!!
قيل: لأنَّ ما هنا إخبارٌ من عيسى قبل الفعل فوحَّده،
وما في المائدة خطاب من الله له فى القيامة، وقد سبق من عيسى الفعلُ مرَّاتٍ فجمعه.