عرض وقفات أسرار بلاغية

  • ﴿الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَهُم مِّنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ ﴿٤٩﴾    [الأنبياء   آية:٤٩]
{الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)} ذكر من صفات المتقين خشية ربهم بالغيب والإشفاق من الساعة. والخشية "خوف يشوبه تعظيم، وأكثر ما يكون ذلك عن علم بما يخشى منه، ولذلك خص العلماء بها في قوله: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} [فاطر: ۲۸] (1). والإشفاق شدة الخوف (2). لقد ذكر أنهم يخشون ربهم بالغيب، وقيل: إن قوله: (بالغيب) أنهم يخافونه ولم يروه، وقيل: إنهم يخافونه من حيث لا يراهم أحد (3) وذلك عند مغيب الإنسان عن عيون البشر، أي في الخلوة (4). وقد ذكر هنا أنهم يخشون ربهم بالغيب، فقيد الخشية بالغيب. وأطلق الخشية في أكثر من موطن وذلك نحو قوله: {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} [الرعد: 21]. وقد فصلنا القول في التقييد والإطلاق في هذا التعبير في قوله تعالى في سورة يس: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} (5) فلا نعيد القول فيه. وقال: {يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ }بذكر الرب المضاف إلى ضميرهم؛ لأن الرب هو المربي والهادي والمعلم، وأن الفرقان والضياء إنما هما للهداية فناسب ذكر الرب. وقال: {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} بالفعل المضارع الدال على التجدد، فإن الفعل المضارع قد يدل على الاستمرار والتجدد نحو قوله سبحانه: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258]، وقوله: {وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} [البقرة: 245] وقوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)} [آل عمران: 26 – 27] (6). ذلك أن خشية الله تتجدد في كل لحظة فجاء بها بالفعل المضارع الدال على الاستمرار. وذكر اتصافهم بالإشفاق من الساعة بالصيغة الاسمية الدالة على الثبات، ذلك أنها ساعة الحساب على الأعمال، وهم يخافون على الدوام مما عملوه: ما مضى منه، وما هم فيه من العمل، وما سيعملونه في المستقبل، فجاء بها بالصيغة الاسمية الدالة على الدوام والثبات؛ ذلك لأنها متعلقة بحياة الإنسان كلها الماضية والحالية والمستقبلية. جاء في (البحر المحيط): "وتكون الصلة الأولى مشعرة بالتجدد دائمًا كأنها حالتهم فيما يتعلق بالدنيا. والصلة الثانية من مبتدأ ومخبر عنه بالاسم المشعر بثبوت الوصف كأنها حالتهم فيما يتعلق بالآخرة (7). وجاء في (تفسير أبي السعود): "وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على ثبات الإشفاق ودوامه" (8). وقدم الساعة على العامل في قوله: {وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} لأنه ذكر المتقين وهم الذين يحذرون ويتحفظون في أعمالهم لئلا يصيبهم منها سوء في الآخرة. وإنما ذلك يحصل في الساعة فقدمها. ثم إن الكلام على الساعة تردد في السورة في أكثر من موضع: فقد ابتدأت السورة باقتراب الحساب للناس وذلك قوله: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}. وختمت بذلك وذلك قوله: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا....} [الأنبياء: 97 - 104]. وتقدم الآية الكلام على الساعة وذلك قوله: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا}. فناسب ذلك تقديمها. جاء في (تفسير أبي السعود) أن "تقديم الجار لمراعاة الفواصل وتخصيص إشفاقهم منها بالذكر بعد وصفهم بالخشية على الإطلاق للإيذان بكونها معظم المخوفات، وللتنصيص على اتصافهم بضد ما اتصف به المستعجلون" (9). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 120 إلى ص 123. (1) مفردات الراغب (خشي). (2) البحر المحيط. 6/317. (3) البحر المحيط. 6/317. (4) البحر المحيط 7/325. (5) انظر كتابنا (على طريق التفسير البياني – ج2) تفسير سورة يس. (6) انظر (معاني النحو – ج3) – زمن الفعل المضارع. (7) البحر المحيط 6/317. (8) تفسير أبي السعود 3/708. (9) تفسير أبي السعود 3/708.
  • ﴿وَهَذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ﴿٥٠﴾    [الأنبياء   آية:٥٠]
{وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)} إن هذه الآية مناسبة لما ذكر قبلها من إيتاء موسى وهارون الفرقان ضياء وذكرا للمتقين. وأشار بقوله: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ} إلى القرآن، أي هذا كتاب كثير البركة غزير النفع والخير. والإشارة إلى الذكر هنا مناسبة لما ذكره من الذكر في الآية السابقة. جاء في (تفسير أبي السعود): "(ذكر)... وصف بالوصف الأخير للتوراة لمناسبة المقام وموافقة لما مر في صدر السورة الكريمة" (1). ووصف الذكر بأنه مبارك وقدم الوصف بذلك على الإنزال. قد تقول: لقد قال في سورة الأنعام: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}. فقال في الأنعام: {وَهَذَا كِتَابٌ}. وقال ههنا: {وَهَذَا ذِكْرٌ}. وقدم الإنزال على وصفه بأنه مبارك في الأنعام فقال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ}. وقدم الوصف بالبركة على الإنزال في آية الأنبياء. فلم ذاك؟ فنقول: إن كل تعبير مناسب للموطن الذي ورد فيه. فقد قال قبل آية الأنعام: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ (91)}. فقد ذكر قول القائلين: {مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} فأنكروا الإنزال أصلاً. ثم قال: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ}. فقدم الإنزال على كونه مباركًا لأنه هو مدار الإنكار والاهتمام فقال: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ}. ولما كان الله قد أنزله فهو مبارك ولا شك. ولما ذكر الكتاب في الآية فقال: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ}. ناسب أن يقول في الآية بعدها: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ}. فناسب ذكر الكتاب في آية الأنعام سياقه، وناسب ذكر (الذكر) في الأنبياء سياقه. وناسب تقديم الإنزال على كونه مباركًا في آية الأنعام. ولما لم يذكر الإنكار للإنزال في آية الأنبياء قدم عليه ذكر الوصف بالبركة. ثم قال: {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ} استفهام إنكار وتوبيخ للمشركين (2). وقدم الجار والمجرور (له) على الخبر (منكرون) لأن الكلام عليه. جاء في (البحر المحيط): "لما ذكر وقرر أن إنكار من أنكر أن يكون الله أنزل على البشر شيئا وحاجهم بما لا يقدرون على إنكاره أخبر أن هذا الكتاب الذي أنزل على الرسول مبارك كثير النفع والفائدة. ولما كان الإنكار إنما وقع على الإنزال فقالوا: (ما أنزل الله) وقيل: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ}كان تقديم وصفه بالإنزال أكد من وصفه بكونه مباركًا، ولأن ما أنزل الله تعالى فهو مبارك قطعًا، فصارت الصفة بكونه مباركًا كأنها صفة مؤكدة إذ تضمنها ما قبلها. فأما قوله: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} فلم يرد في معرض إنكار أن ينزل الله شيئا بل جاء عقب قوله تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} ذكر أن الذي آتاه الرسول هو ذكر مبارك. ولما كان الإنزال يتجدد عبر بالوصف الذي هو فعل، ولما كان وصفه بالبركة وصفًا لا يفارق عبر بالاسم الدال على الثبوت" (3). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 123 إلى ص 125. (1) تفسير أبي السعود 3/708. (2) انظر البحر المحيط 6/317. (3) البحر المحيط 4/179. قصة سيدنا إبراهيم {وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72)} ورد هذا الجانب من قصة إبراهيم – أي محاجة إبراهيم لأبيه وقومه ودعوته لهم – في سورة الأنعام ومريم والأنبياء والشعراء والعنكبوت والصافات والزخرف، غير أناه لم تتكرر، بل ورد في كل موضع ما يناسب السياق وما يراد أن يسلط عليه من الضوء. ففي سورة الأنعام وهو أول موضع ورد فيه هذا الجانب كان الكلام مع أبيه متعجبًا مع الإنكار من أن يتخذ أصنامًا آلهة. قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74)}. وهو أول موضع ذكر اسم أبيه (آزر) ولم يكرره في موضع آخر، فاكتفى بذكره في الموضع الأول. كان الخطاب لأبيه وحده: {أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً} ولم يقل: (أتتخذون) فكان الحديث مع الأب. ثم قال: {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي هذا ما يراه هو، ولم يذكر أنه جاءه بذلك وحي أو علم. فهو لم يقل له: (إنك وقومك في ضلال مبين) بل قال إن هذا ما يراه. ثم ذكرت القصة كيف اهتدى إلى ربه بالنظر في ملكوت السماوات والأرض، إذ رأى كوكبًا فقال: هذا ربي، حتى إذا أفل قال: لا أحب الآفلين. ثم رأى القمر، فقال: هذا ربي، حتى إذا أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين. ثم رأى الشمس فقال هذا ربي هذا أكبر، فلما أفلت تبرأ من شرك قومه وخاطب قومه معلنًا براءته من شركهم وإيمانه بمن فطر السماوات والأرض. وحاجه قومه في ذلك لهم إيمانه بالله وأنه لا يخاف معبوداتهم التي يشركونها بالله (الآيات 74 - 81). وأما في سورة مريم فالقصة تبين أمرًا آخر، إذ سأل أباه أنه لم يعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنه شيئًا؟ ثم ذكر أنه قد جاءه من العلم ما لم يأته. وهذه مرحلة غير الحالة الأولى. فما ذكره في الأنعام أنه يراه وقومه في ضلال مبين، أي هذا ما يراه. أما في مريم فإنه ذكر لأبيه أنه قد جاءه من العلم ما لم يأته، وأنه طلب منه أن يتبعه ليهديه الصراط السوي. وهذا ما لم يذكره في الأنعام. فكأن هذه مرحلة تتلو المرحلة الأولى قبلها. ثم إن موقف أبيه منه قد تغير الآن، فإن أباه هدده بالرجم إن لم ينته، وأنه طلب منه أن يهجره. وقد أكد ذلك بالقسم: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} وكان موقف إبراهيم في غاية حسن الأدب وتمني الهداية لأبيه قائلاً له: {قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} كما إن موقفه مع قومه قد اختلف. ففي الأنعام ذكر المحاجة مع قومه وانتهى الأمر عند ذاك. أما في هذه السورة سورة مريم فقد ذكر أنه سيعتزلهم وما يدعون من دون الله. وقد اعتزلهم فعلاً، فقد قال لقومه: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)}. ثم نفذ هذا الأمر فاعتزلهم. وقد أخبر ربنا بذلك فقال: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)}. فما ورد في سورة مريم كأنه استكمال لما ورد في الأنعام. وهو الحالة الطبيعية في مواقف الحياة. وهذا ما ورد من القصة في سورة مريم: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45) قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49)} وأما ما ورد في سورة الأنبياء فالأمر مختلف. فإن الموقف قد اختلف، فالمحاجة قد اختلفت في الشدة، وإن العاقبة قد اختلفت. فالخطاب كان للأب في سورتي الأنعام ومريم. وأما في هذه السورة فكان الخطاب عامًا لأبيه وقومه: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ}. ولم يذكروا أمرًا في الإجابة عن هذا السؤال سوى أنهم وجدوا آباءهم لها عابدين. فقال لهم: {قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} فأخبرهم أنهم كانوا هم وآباؤهم في ضلال مبين. ولم يقل كما قال في الأنعام: {إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} أي هذا ما يراه. وإنما هو الآن قرر ذلك بعد ما جاءه العلم من ربه. ثم إن لم يذكر آباءهم في الأنعام بل ذكر أباه وقومه. أما الآن في سورة الأنبياء فإنهم بعد ما ذكروا أنهم وجدوا آباءهم لها عابدين قال لهم: {لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} فقد ذكرهم وذكر آباءهم وقرر ذلك مؤكدًا بلام القسم (لقد). ثم كان عاقبة ذلك أن حطم الأصنام فجعلها جذاذًا إلا كبيرًا لهم. وقرروا إحراقه فلم يفلحوا. وأما في سورة الشعراء فذكر شيئًا آخر من قصة سيدنا إبراهيم مع أبيه وقومه، وهو المناقشة والحوار في أمر الأصنام وماذا تستطيع أن تفعله لهم. وذكر هو ربه وما يفعله له. فقد قال لأبيه وقومه سائلاً لهم: {مَا تَعْبُدُونَ} فأجابوه قائلين: نعبد أصنامًا فنظل لها عاكفين. فسألهم قائلاً: هل يسمعونكم إذا تدعون، أو ينفعونكم أو يضرون؟ فلم يقولوا له: نعم هم كذلك، وإنما قالوا: {بَلْ وَجَدْنَا آَبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} فأعلن عداوته لهذه الآلهة ولم يعلن عداوته لهم فقال: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)} ثم ذكر ما يفعله له ربه رب العالمين: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)} وانتهى الأمر عند هذا الحد ولم يتعد المحاجة والمحاورة. ثم انتهت القصة بالدعاء لنفسه ولأبيه قائلاً: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآَخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} فأنت ترى أنه نفذ ما وعد أباه في سورة مريم أنه سيستغفر له ربه حين قال: {سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي} فقد دعا ربه هنا في الشعراء بالمغفرة لأبيه قائلاً: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ} تنفيذًا لما وعد، كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ} [التوبة: 114]. وأما ما ورد في العنكبوت فكأنه استكمال للحديث والمحاورة لما في الشعراء. إذ بعد أن ذكر لهم ما يفعله ربه له من الخير في الشعراء دعاهم في العنكبوت إلى أن يعبدوا الله ويتقوه ليصيبهم من النعم ما هو خير لهم. فإنه في الشعراء لم يدعهم إلى عبادة الله وإنما لم يتعد الأمر الحوار والحجاج، فلما تبين لهم ضعف حجتهم وأن آلهتهم لا تنفعهم شيئا دعاهم إلى عبادة الله. فذكر ما يفعله ربه له من النعم في الشعراء. وذكر في العنكبوت أنهم إن هم عبدوه واتقوه أفاض عليهم بالخير والنعم. قال تعالى: { وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18) …… فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25) } فما كانت نتيجة الحوار إلا أن قالوا: (اقتلوه أو حرقوه) فأنجاه الله من النار. فكأن هذا نتيجة الحوار والحديث لما ورد في الشعراء والعنكبوت. وأما ما ورد في سورة الصافات فإنه مختلف عن كل ما ورد، فإنه لما ضاق ذرعًا بمحاجتهم وأنهم لا يعبئون بحجة ولا يستمعون لقول، وليس عندهم حجة سوى أنهم رأوا آباءهم كذلك. إقرارهم بأنها لا تسمع أو تنفع أو تضر، وأنه لم ينفع معهم ترغيب أو ترهيب أخذ يقرعهم ويشتد عليهم في الكلام: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) }، فلم يقل: (ما تعبدون) كما قال في الشعراء، وإنما قال لهم: (ماذا تعبدون) فزاد في لفظة الاستفهام لقصد تقريعهم. ذلك أن المقام في الشعراء مقام استفهام ومحاجة، وفي الصافات مقام تقريع، يدل على ذلك قوله بعد هذه الآية: {أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86)}. ثم انتهى الأمر بتحطيم الأصنام وإلقائه في النار (1). ومع أنه ذكر في سورتي الأنبياء والصافات تحطيم الأصنام فإن القصة لم تتكرر فيهما، فإنه ذكر في كل موضع ما لم يذكره في الآخر. فإنه هدد في الأنبياء أنه ليكيدن أصنامهم (٥٧). وفي الصافات ذكر الحجة التي اعتل بها لئلا يخرج معهم في عيدهم فقال: {إِنِّي سَقِيمٌ }(2) ولم يذكر ذلك في الأنبياء. فقال: {أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ}. وذكر في الصافات أنهم قالوا: {ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)}. ولم يذكر ذلك في الأنبياء. ثم تسير القصة في الصافات مسارًا آخر غير مسارها في الأنبياء. فإنه ذكر في الأنبياء أنه نجاه ولوطًا إلى الأرض التي بارك فيها، وذكر شيئًا من قصة لوط. وأما في الصافات فقد ذكرت القصة الأمر بذبح ولده وما بعد ذلك. قال تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آَلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آَلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101)....} وأما في الزخرف وهو آخر موضع وردت فيه هذه القصة فإنه لخص دعوته وخاتمة الأمر بإيجاز. فقد أعلن لأبيه وقومه براءته ما يعبدون أشد البراءة قائلاً لهم: {إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ}، واستثنى من ذلك من فطره فقال: {إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ}. وأنه جعل هذه الكلمة باقية في عقبه، أي في ذريته فلا "يزال فيهم من يوحد الله تعالى ويدعو إلى توحيده عز وجل" (3). {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي لعله يرجع من يشرك بالله إلى التوحيد. قال تعالى في الزخرف: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28)} ويمكن تلخيص قسم من أحداث القصة في السور التي ذكرناها بما يأتي: الدعوة: كان الحديث موجهًا إلى أبيه في الأنعام ومريم. وفي الأنبياء والشعراء والصافات والزخرف موجها إلى أبيه وقومه. وفي العنكبوت كان الكلام موجها لقومه؛ لأن الكلام كان لما هو خير لهم على العموم، ولأنه ذكر عاقبة الأمم المكذبة. فكان الكلام موجهًا لقومه على العموم. موقف إبراهيم: كان موقف إبراهيم في الأنعام لا يعدو المحاجة. وفي مريم كان اعتزاله لهم ولما يعبدون من دون الله. وفي الأنبياء والصافات تحطيم الأصنام مع الاختلاف في التفاصيل. وفي الشعراء التوسع في الاحتجاج. وفي العنكبوت ذكر المنافع والترغيب في عبادة الله والترهيب من معصيته. وفي الزخرف إعلان البراءة مما يعبدون إلا الذي فطره، وجعل كلمة التوحيد باقية في عقبه. موقف قومه منه: في سورة الأنعام ذكر محاجة قومه له ولم يذكر كيف كان الاحتجاج وما كانت حجتهم، والإلماح إلى أنهم خوفوه آلهتهم فقال لهم إنه لا يخاف ما يشركون به. وفي مريم ذكر تهديد أبيه له بالرجم. وفي الأنبياء ذكر سؤال قومه له عمن حطم آلهتهم، ومحاكمته أمام الناس والقضاء بتحريقه. وفي الشعراء لم يتعد الموقف المحاجة وانقطاعهم أمامه في الحجة. وفي العنكبوت ذكر عاقبة المحاجة وهي أنهم طلبوا قتله أو تحريقه. وفي الصافات قرروا أن يبنوا له بنيانًا ويلقوه في الجحيم. ولم يذكر البنيان في الأنبياء وإنما ذكر الحكم بتحريقه. فهناك ذكر الحكم، وهنا ذكر كيفية تنفيذ الحكم. عاقبة إبراهيم: لم يذكر عاقبة إبراهيم في الأنعام سوى أنه ذكر أنه وهب له ذرية صالحة. وفي مريم ذكر أنه لما اعتزل قومه وما يعبدون من دون الله وهب له إسحاق ويعقوب وجعل كلاً منهما نبيًّا. وفي الأنبياء ذكر أن النار جعلها بردًا وسلامًا، ونجاه ولوطاً إلى الأرض التي بارك فيها ووهب له إسحاق ويعقوب. ولم يذكر في الشعراء سوى الدعاء لنفسه في الدنيا والآخرة. وفي العنكبوت ذكر أن الله أنجاه من النار، وذكر أنه مهاجر إلى ربه، وأن الله وهب له إسحاق ويعقوب وآتاه أجره في الدنيا، وفي الآخرة هو من الصالحين. وفي الصافات ذكر أنهم أرادوا به كيدًا فجعلهم الأسفلين. وأنه بشره بغلام حليم، ثم بشره بإسحاق. كيفية النجاة: قال في الأنبياء: إنه قال للنار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم، ونجاه ولوطاً إلى الأرض التي بارك فيها. وذكر في العنكبوت أنه أنجاه الله من النار ولم يقل كيف كان ذلك. وفي الصافات قال: {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ} ولم يقل كيف كان ذلك. ونعود الآن لدراسة القصة دراسة بيانية. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 127 إلى ص 137. (1) انظر كتابنا (التعبير القرآني) 124 وما بعدها، درة التنزيل 336. (2) انظر تفسير ابن كثير 4/13، فتح القدير 4/389. (3) روح المعاني 25/77.
  • ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ ﴿٥١﴾    [الأنبياء   آية:٥١]
{وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)} "الرشد: الاهتداء لوجوه الصلاح" (1). وإضافته إليه يعني كل ما يصح ويليق من الرشد أن يكون له. فاستوفى الرشد اللائق به. جاء في (تفسير أبي السعود): "{وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} أي الرشد اللائق به وبأمثاله من الرسل الكبار، وهو الاهتداء الكامل المستند إلى الهداية الخاصة الحاصلة بالوحي" (2). قد تقول: ولم لم يقل (أتينا إبراهيم الرشد) أو (رشدًا)؟ فنقول: إن كلمة (الرشد) أعم من (رشده)، ولذا لم يستعمل القرآن (الرشد) معرفة بأل للأشخاص، وإنما استعملها لدينه أو سبيله أو نحو ذلك؛ لأن الرشد أعم من (رشده) كما ذكرنا. قال تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة: ٢٥٦]. وقال: {وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا} [الأعراف: ١٤٦]. وقال: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآَنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآَمَنَّا بِهِ} [الجن: ۱ - ۲]. وأما (رشد) المنكرة فهي تعني أي نوع من الرشد وإن كان قليلاً، وذلك نحو قوله سبحانه: {فَإِنْ آَنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]. وهذا شأن عموم العقلاء من خلق الله من المكلفين. فليس في ذلك مزية خاصة به. بخلاف قوله: {آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} أي رشده الذي يليق به، فاستوفى جميع الرشد الذي يمكن أن يكون له. {مِنْ قَبْلُ} أي من قبل موسى وهارون المذكورين في الآية السابقة. {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} كقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} وهذا من أعظم المدح وأبلغه" (3) وتقديم الجار والمجرور (به) على (عالمين) لأن الكلام على سيدنا إبراهيم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 137 إلى ص 138. (1) الكشاف 2/320. (2) تفسير أبي السعود 3/708 – 709. (3) البحر المحيط 6/320.
  • ﴿إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ﴿٥٢﴾    [الأنبياء   آية:٥٢]
{إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)} قيل: إن (إذ) إما أن يتعلق بـ (آتينا) أي آتينا إبراهيم حين قال لأبيه وقومه رشده. وقيل: هو متعلق بـ (رشده) أي آتيناه رشده حين قال لأبيه وقومه. ويحتمل أن يكون متعلقًا بـ (عالمين) أي كنا به عالمين حين قال لأبيه وقومه. وقيل: أو هو متعلق بمحذوف، أي اذكر من أوقات رشده حين قال لأبيه وقومه (1). والذي يبدو لي أن الوجه الأخير هو أولى، ذلك أن أي تقدير آخر يعني أنما يكون الرشد في ذلك الوقت. فقولنا: (آتيناه الرشد حين قال لأبيه) يعني أنه آتاه الرشد في ذلك الوقت خصوصًا. وتعليقه بـ (رشده) يعني أن رشده إنما هو حين قال لأبيه وقومه. وتعليقه بـ (عالمين) أي أن علمنا إنما كان حين قال لأبيه وقومه. فكل تعليق بمذكور إنما يتخصص الرشد بذلك الأمر. في حين إيتاء الرشد كان عامًا، وهذا القول من مظاهر رشده. وتقديره بـ (اذكر) لا يعني تخصيصًا بوقت دون وقت، وإنما أراد أن يذكر من حالات رشده ما ذكره لأبيه وقومه. وبدأ بذكر الأب لأنه الأولى والأهم عنده في إنقاذه مما هو فيه. جاء في (البحر المحيط): "وبدأ أولاً بذكر أبيه لأنه الأهم عنده في النصيحة وإنقاذه من الضلال، ثم عطف عليه (قومه) كقوله: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ}" (2). {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52)} وسؤاله لهم إنما هو من تجاهل العارف إذ هو عالم بذلك، فهو يعلم عاكفون لها. جاء في (الكشاف): "قوله: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ} تجاهل لهم وتغاب ليحقر آلهتهم ويصغر شأنها مع علمه بتعظيمهم وإجلالهم لها" (3). وجاء في (التحرير والتنوير): "وهذا من تجاهل العارف استعمله تمهيدًا لتخطئتهم بعد أن يسمع جوابهم" (4). والتماثيل هي الصور التي تماثل غيرها من المخلوقات و"التمثال اسم للشيء المصنوع مشبهًا بخلق من خلق الله" (5). ومعنى (عاكفون لها): ملازمون لها "والعكوف الإقبال على الشيء وملازمته على سبيل التعظيم له، وقيل: اللزوم والاستمرار على الشيء لغرض من الأغراض" (6). "والظاهر أن اللام في (لها) لام التعليل أي لتعظيمها، وصلة (عاكفون) محذوفة، أي على عبادتها. وقيل: ضمن (عاكفون) معنى عابدين فعداه باللام" (7). وجاء باسم الفاعل (عاكفون) للدلالة على الدوام، بخلاف قوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف: ۱۳۸] بالفعل، ذلك أنهم مروا بهم في طريقهم بعد مجاوزتهم البحر فوجدوهم كذلك ولم يكونوا معهم على الدوام ليروا ملازمتهم لها. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 138 إلى ص 141. (1) انظر الكشاف 2/330، البحر المحيط 6/320. (2) البحر المحيط 6/320. (3) الكشاف 2/330. (4) التحرير والتنوير 17/94. (5) لسان العرب (مثل). (6) روح المعاني 17/59. (7) البحر المحيط 6/320.
  • ﴿قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ﴿٥٣﴾    [الأنبياء   آية:٥٣]
{قَالُوا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53)} فأجابوه بأنهم مقلدون لآبائهم. ولما سألهم عن العكوف بصيغة اسم الفاعل (عاكفون) أجابوه بالعبادة باسم الفاعل (عابدين). ولما كان السؤال عن التماثيل قدم الجار المتصل بضميرها (لها عاكفون) ولم يقل: (عاكفون لها). هذا علاوة على أن عبادتهم مقصورة عليها. فتقديم (لها) على (عابدين) مناسب من ناحيتين: الأولى: أن السؤال كان على التماثيل فقدم ضميرها. ثم ان العبادة مختصة بها فقدم ضميرها أيضًا. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 141 إلى ص 141.
  • ﴿قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ﴿٥٤﴾    [الأنبياء   آية:٥٤]
{قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54)} فقال لهم مؤكدًا: إنهم وآباءهم ساقطون في الضلال الظاهر البين منغمسون فيه. وقال: (في ضلال) بـ (في) الظرفية ولـم يقل: (ضالين) للدلالة على انغماسهم في الضلال فلا يتبينون الحـق وأن الضـلال "قد أحاط بكم إحاطة الظرف بالمظروف" (1) جاء في (روح المعاني): "وفي اختيار (في ضلال) على (ضالين) ما لا يخفى من المبالغة في ضلالهم. وفي الآية دليل على أن الباطل لا يصير حقًا بكثرة المتمسكين به" (2). وقال: (مبين) للدلالة على أن هذا الضلال ظاهر غير خفي. جاء في (تفسير أبي السعود): "(مبين) أي ظاهر بيّن بحيث لا يخفى على أحد من العقلاء كونه كذلك" (3). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 141 إلى ص 142. (1) نظم الدرر 12/436. (2) روح المعاني 17/59. (3) تفسير أبي السعود 3/709.
  • ﴿قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ ﴿٥٥﴾    [الأنبياء   آية:٥٥]
{قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55)} حسبوا أن ما قاله لهم إنما هو من باب المزاح، فقالوا له: أأنت جاد أم مازح؟ "وفي إيراد الشق الأخير بالجملة الاسمية الدالة على الثبات إيذان برجحانه عندهم" (1). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 142 إلى ص 142. (1) تفسير أبي السعود 3/710 وانظر البحر المحيط 6/321
  • ﴿قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ ﴿٥٦﴾    [الأنبياء   آية:٥٦]
{قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)} ذكر أمرين لمن يستحق العبادة ولا يستحقها غيره. الأمر الأول: أنه رب السماوات والأرض. الأمر الآخر: أنه هو الذي فطرهن وأوجدهن من العدم. وذلك هو الله ولا رب غيره ولا يستحق أن يعبد سواه. جاء في (تفسير أبي السعود): "وصفه تعالى بإيجادهن إثر وصفه تعالى بربوبيته تعالى لهن تحقيقًا للحق وتنبيهًا على أن ما لا يكون كذلك بمعزل من الربوبية. أي أنشأهن بما فيهن من المخلوقات التي من جملتها أنتم وآباؤكم وما تعبدونه" (1). وجاء في (البحر المحيط): "ثم أضرب عن قولهم وأخبر عن الجد وأن المالك لهم والمستحق العبادة هو ربهم ورب هذا العالم العلوي والعالم السفلي المندرج فيه أنتم ومعبوداتكم" (2). وهذان الأمران من الاستدلال احتج بهما القرآن على من يعبد غير الله من الكفار، فإنهم يقرون بذلك ولا ينكرونه ومع ذلك يعبدون غيره. فقد أمر سبحانه رسوله أن يسأل الكفار المعاندين قائلا له: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [المؤمنون: ٨٦ - 87]. وقال: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85)} [المؤمنون: ٨٤ - 85]. فهو الرب وهو المالك للأرض ومن فيها. بل هو مالك كل شيء كما يفرون ويعترفون. قال تعالى: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89)} [المؤمنون: ٨٨ - 89]. ثم ذكر أنك لو سألتهم من خلق السماوات والأرض لقالوا: هو الله. قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61)} [العنكبوت: 61]. فهم يقرون بأنه رب السماوات والأرض وأنه هو الذي خلقهن، ومع ذلك فهم يعبدون غيره. {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ}. وشهادته على ذلك إنما هي بإقامة الحجة عليهم. جاء في (الكشاف): "وشهادته على ذلك إدلاؤه بالحجة عليه، وتصحيحه بها، كما تصحح الدعوى بالشهادة، كأنه قال: وأنا أبين ذلك وأبرهن عليه كما تبين الدعاوى بالبينات، لأني لست مثلكم فأقول ما لا أقدر على إثباته بالحجة، كما لم تقدروا على الاحتجاج لمذهبكم ولم تزيدوا على أنكم وجدتم عليه آباءكم" (3). وجاء في (التفسير الكبير) للرازي في قوله: {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} أن في ذلك وجهين: "الأول: أن المقصود منه المبالغة في التأكيد والتحقيق، كقول الرجل إذا بالغ في مدح أحد أو ذمه: أشهد أنه كريم. والثاني:: أنه عليه السلام عنى بقوله: {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} ادعاء أنه قادر على إثبات ما ذكره بالحجة، وأني لست مثلكم فأقول ما لا أقدر على إثباته بالحجة، كما لم تقدروا على الاحتجاج لمذهبكم ولم تزيدوا على أنكم وجدتم عليه آباءكم" (4). إن إبراهيم عليه السلام بين أمرين في الاحتجاج: أمرًا قوليًا، وهو الاحتجاج بربوبية السماء والأرض ومن فطرهن. وأمرًا فعليًا وهو تحطيمه للأصنام التي يعبدونها ليدل على أنها غير قادرة على الدفع، فهي لا تستطيع أن تدفع الضرر عن نفسها، وبالأولى أنها لا تستطيع أن تدفع عن الغير. وعلى أية حال فهي لا تضر ولا تنفع. فهي لا تستحق أن تعبد. جاء في (التفسير الكبير) للرازي: "اعلم أن القوم لما أوهموا أنه يمازح بما خاطبهم به في أصنامهم أظهر عليه السلام بما يعلمون أنه مجد في إظهار الحق الذي هو التوحيد بالقول أولاً وبالفعل ثانيًا. أما الطريقة القولية فهي قوله: {بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ} وهذه الدلالة تدل على أن الخالق الذي خلقهما لمنافع العباد هو الذي يحسن أن يعبد. وأما الطريقة الفعلية فهي قوله: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} فإن القوم لما لم ينتفعوا بالدلالة العقلية عدل إلى أن أراهم عدم الفائدة في عبادتها" (5). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 142 إلى ص 145. (1) تفسير أبي السعود 3/710. (2) البحر المحيط 6/35. (3) الكشاف 2/321. (4) التفسير الكبير 8/153. (5) التفسير الكبير 8/153.
  • ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ ﴿٥٧﴾    [الأنبياء   آية:٥٧]
  • ﴿فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ ﴿٥٨﴾    [الأنبياء   آية:٥٨]
{وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)} جاء بالتاء في القسم بالله ليدل على عظيم ما سيأتي به، فإن التاء تدل على التعظيم والتفخيم، فإنه أقسم على أمر عظيم سيفعله وذلك لتعظيم قومه لهذه الأصنام والعكوف عليها غير مبال بالعاقبة. جاء في (الكشاف): "التاء بدل من الواو المبدلة منها، وإن التاء فيها زيادة معنى وهو التعجب، كأنه تعجب من تسهل الكيد على يده وتأتيه؛ لأن ذلك كان أمراً مقنوطًا منه لصعوبته وتعذره" (1). {لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} الكيد: "هو الاحتيال في وصول الضرر إلى المكيد" (2). فقال: {لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} مع علمه أن الأصنام لا تحتاج إلى الكيد، فإنها لا تعقل ولا تسمع ولا تبصر ولا تدفع ولا تنفع، وذلك ليبين لقومه أنها لا تعي ولا تدرك ما يراد من إيقاع الضرر بها، ولو كانت تعلم أو تقدر لمنعت هذا الكيد، فلعل ذلك يصرفهم عن عبادتها. أو إن المعنى أراد أن يحتال على قومه ليوقع بأصنامهم، وكان ذلك في اختيار يوم عيدهم وفيما ادعاه من سقمه إذ قال: (إني سقيم). جاء في (التفسير الكبير) للرازي: "إن قيل: لماذا قال: {لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} والكيد هو الاحتيال على الغير في ضرر لا يشعر به وذلك لا يتأتى في الأصنام. وجوابه: قال ذلك توسعًا لما كان عندهم أن الضرر يجوز عليها. وقيل: المراد لأكيدنكم في أصنامكم؛ لأنه بذلك الفعل قد أنزل بهم الغم" (3). وقال: {لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} فسماها أصنامًا وقد قال في آية سابقة: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} فسماها (تماثيل)، ذلك أنه سماها، تماثيل لتجاهل العارف - كما ذكرنا - كأنه لا يعرف ما حقيقتها ولماذا هم عاكفون عليها. والتمثال ليس بالضرورة للعبادة. أما بعد أن ذكروا أنهم عابدون لها فقد سماها أصنامًا؛ لأن الصنم "هو ما اتخذ إلها من دون الله" (4). فلما ذكروا عبادتهم لها سماها أصنامًا. ولذا لم يرد في القرآن لفظ الأصنام إلا في مقام العبادة أو اتخاذها آلهة. قال تعالى: {فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ} [الأعراف: ۱۳۸]. فرد عليهم موسى بقوله: {أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا} [الأعراف: ١٤٠]. وقال على لسان سيدنا إبراهيم: {أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ} [إبراهيم: 35]. وقال: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آَزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آَلِهَةً} [الانعام: 7٤]. وقال: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ} [الشعراء: 71]. {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} أي قطعًا من الجذّ وهو القطع (5)، وقيل: حطامًا (6). وقال: {فَجَعَلَهُمْ} بضمير العقلاء، ولم يقل: (فجعلها) لأنها كانت تعبد (7)، فنزلها منزلة العقلاء. {إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ} لم يكسره لعلهم يرجعون إليه فيسألونه، وهو من الكيد الذي دبره سيدنا إبراهيم. {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} قيل: إن الضمير في (إليه) يعود على إبراهيم، أي يرجعون إلى إبراهيم فيسألونه لما تسامعوه من إنكاره لدينهم وسبه لآلهتهم. وقيل: إن الضمير يعود على الصنم الكبير فيسألونه عن ذلك (8). وهو الأصوب في رأيي، لأنه حتى لو حطم الكبير فسيرجعون إلى إبراهيم لما تسامعوه عنه من ذكره لآلهتهم. وعلى هذا لا موجب لبقاء الكبير، فإنهم على أية حال سيرجعون إلى إبراهيم، وإنما استبقى الكبير ليتم إقامة الحجة عليهم بسؤاله وعلمهم بعجزه عن الإجابة. وقدم الجار والمجرور (إليه) على الفعل (يرجعون) للحصر (9). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 145 إلى ص 148. (1) الكشاف 2/321. (2) البحر المحيط 6/322. (3) التفسير الكبير 8/153. (4) لسان العرب (صنم). (5) التفسير الكبير للرازي 8/154. (6) البحر المحيط 6/322. (7) البحر المحيط 6/322. (8) انظر الكشاف 2/321. (9) روح المعاني 17/62.
  • ﴿قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ﴿٥٩﴾    [الأنبياء   آية:٥٩]
{قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59)} استفهموا على سبيل البحث والإنكار والتوبيخ فقالوا: {مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآَلِهَتِنَا} وذلك بعد أن رجعوا من عيدهم وشاهدوا ما شاهدوا من التكسير والتحطيم (1). وقالوا: (بآلهتنا) "ولم يشيروا إليها بـ (هؤلاء) وهي بين أيديهم مبالغة في التشنيع" (2). وقيل: يحتمل أن تكون (من) اسمًا موصولاً، وجملة {إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} خبرًا عنه "والمعنى: الذي فعل هذا الكسر والحطم بآلهتنا إنه معدود من جملة الظلمة" (3). والاستفهام أظهر، يدل على ذلك قوله بعد الآية: {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} فإن كون هذا جوابًا عن سؤالهم أظهر. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن الاستفهام أدل على الإنكار والتوبيخ من الإخبار. وقالوا: {إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ} فأكدوا كلامهم بإن واللام ولم يقولوا: (إنه من الظالمين) للدلالة على كبير ظلمه وشناعة فعله. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 148 إلى ص 149. (1) انظر البحر المحيط 6/323، تفسير أبي السعود 3/711. (2) تفسير أبي السعود 3/711. (3) تفسير أبي السعود 3/711.
إظهار النتائج من 10771 إلى 10780 من إجمالي 12316 نتيجة.