{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) }
هذه الآية وقعت في سياق ما قبلها من آية التوحيد وإبطال الشرك من مثل قوله سبحانه:{أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ}
وقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}.
وقوله: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ}
ثم قال: {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} فذكر في هذه الآية، أعني { وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ........} ماذا أوحى إليه في ذكر من قبله.
فذكر أن كل رسول أرسله ربنا سبحانه أوحى إليه {أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ }.
فبين أنه أوحى إليه بالتوحيد والأمر بعبادته سبحانه.
وقال: {مِنْ رَسُولٍ} فجاء بـ (من) الدالة على الاستغراق، فدل ذلك على أن كل رسول أوحي إليه هذا الأمر بلا استثناء، فلم يستثن رسولاً من ذلك.
وقال: {إِلَّا نُوحِي} بالمضارع، ولم يقل: (أوحينا) لحكاية الحال وذلك يدل على الاهتمام بما أوحى إليه.
جاء في (تفسير أبي السعود): "وأياً ما كان فصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية استحضارًا لصورة الوحي" (1).
بل إن التعبير في الآية كله دل على الاهتمام والتوكيد.
فالحصر في قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ} يفيد التوكيد، وهو أكد من نحو قولنا: (وأوحينا إلى الرسل قبلك أنه لا إله إلا أنا).
والنفي بـ (ما) في (ما أرسلنا) يفيد التوكيد؛ لأن (ما) تكون جوابًا للقسم، وهي أكد من (لم).
وقال: (من قبلك) فجاء بـ (من)، وهو أكد مما لو قال: (وما أرسلنا قبلك)، فـ (من) تفيد الابتداء فاستغرقت كل من كان قبله.
وقد مر شيء من ذلك فيما ذكرنا.
وقال: (من رسول) فأدخل (من) الاستغراقية المؤكدة على المجرور فاستغرق ذلك جميع الرسل مع التوكيد كما ذكرنا قبل قليل.
وقال: (نوحي) بالمضارع لحكاية الحال وذلك يدل على الاهتمام كما ذكرنا.
وقال: (أرسلنا) و( نوحي) بالإسناد إلى ضمير التعظيم.
ووردت قراءتان متواترتان في (نوحي) هما (نوحي) و(يوحى) بالبناء للمجهول (2) فجمعت معنيين وصيغتين.
وقال: (أنه) بإدخال (أن) على ضمير الشأن الدال على التعظيم والاهتمام، ولم يقل: (أن لا إله إلا أنا) بحذف ضمير الشأن. ومن المعلوم أن الذكر أكد من الحذف.
إنه لم يقل كما قال في غير هذا الموطن (أن لا إله إلا هو) وذلك نحو قوله تعالى في سورة هود: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14).}
فقال: {وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} ولم يقل: (وأنه) كما قال في آية الأنبياء.
وكما قال في سورة الأنبياء في موضع آخر: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87)}.
وذلك أن آية هود في سياق الدلالة على أن القرآن ليس مفترى وإنما هو من عند الله. في حين أن السياق في آية الأنبياء إنما هو في سياق التوحيد ونفي الشرك.
فلما كان السياق في التوحيد أكد وعظم بذكر ضمير الشأن.
كما أن آية الأنبياء الأخرى ليست في سياق التوحيد، وإنما هي سياق التسبيح والدعاء والإقرار بما فعل من خلاف الأولى فقال: {أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ} ولم يقل (أنه).
وكل تعبير مناسب في سياقه الذي ورد فيه.
وقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا} كله مؤكد.
وقوله: (فاعبدون) أمر بعبادة الله وهي الغاية التي خلق لها الثقلان كما قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
{فَاعْبُدُونِ}:
إن قوله: (فاعبدون) أمر للجمع مع أن الموحى إليه واحد، فلم يقل: (إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدني) ذلك أن الأمر له ولمن أرسل إليهم على الأظهر. جاء في (البحر المحيط) في قوله: (فاعبدون): "ويحتمل أن يكون الأمر له ولأمته" (3).
قد تقول: لقد قال في سورة النحل: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)}.
فأمر في هذه الآية بالتقوى فقال: {فَاتَّقُونِ}.
وأمر في آية الأنبياء بالعبادة فقال: {فَاعْبُدُونِ}.
فما سر الاختلاف في ذلك؟
فنقول: إنه قال في آية النحل (أن أنذروا)، والإنذار يقتضي اتقاء ما أنذروا به. فالنذير يخوفهم من أمر عليهم أن يتقوه، فناسب ذلك قوله: (فاتقون).
وأما آية الأنبياء فإنها في توحيد الله وعبادته، وهي في سياق إفراده بالعبادة والتوحيد وذلك نحو قوله سبحانه: {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ}.
وقوله: {أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ}، وقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا}، وقوله: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً}.
وقال في موضع آخر من السورة: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92}، وتكرر ذكر العبادة في السورة.
وناسبت آية النحل – إضافة إلى ما ورد فيها من ذكر الإنذار – ختام ما ورد في السورة وهو قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)}.
كما تكرر ذكر الاتقاء في أكثر من موضع في السورة وذلك نحو قوله: {أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52)}، وقوله: {كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31)} وغيرها.
فناسب كل تعبير ما ورد فيه من أكثر من جهة.
وقد تقول: لقد قال في سورة الإسراء: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)}.
فقال: (قبلك) ولم يقل: (من قبلك) كما قال في آية الأنبياء فما سبب ذلك؟
والجواب أنه قال قبل آية الإسراء: {وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)}، ثم قال: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)}.
والعقوبة التي ذكرها في قوله: {لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا} إنما حصلت قبل الرسول بزمن طويل، فإنها لم تحصل لقوم عيسى، وإنما حصلت لفرعون ومن معه حين اتبع موسى بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم، وحصلت للأقوام القديمة كعاد وثمود وغيرهم من الأقوام في الأزمان السحيقة.
إن هذا الأمر لم يحصل ابتداء من زمن الرسالة قبل بعثة الرسول، وإنما حصل قبل ذلك بما لا يعلمه إلا الله، فلم يقل: (من قبلك) بـ (من) التي تفيد ابتداء الغاية، وإنما قال: (قبلك) وهو ما يدل على عموم الزمن قبله فقد يكون ذلك قريبًا أو بعيدًا.
فناسب كل تعبير سياقه الذي ورد فيه والله أعلم.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 64 إلى ص 68.
(1) تفسير أبي السعود 3/696.
(2) انظر البحر المحيط 2/306 وروح المعاني 17/32.
(3) البحر المحيط 6/306 وانظر روح المعاني 17/32.
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)}
نزه سبحانه نفسه عن اتخاذ الولد، ذلك أن من الكفار من قال: (ولد الله) كما ذكر ذلك عنهم في سورة الصافات فقال: {أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152)}.
ومنهم من قال: إن الملائكة بنات الله، فرد عليهم سبحانه بقوله: {أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22)} [النجم: ۲۱ - ۲۲].
وقال: {أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا} [الإسراء: 40].
وقال في آية الأنبياء هذه: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} وقد قيل: إن هذه الآية "نزلت في خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات الله. نزه ذاته عن ذلك، ثم أخبر عنهم بأنهم عباد والعبودية تنافي الولادة" (1).
وقيل: إن بعض العرب من غير خزاعة قالوا ذلك أيضًا (2).
فذكر أن الملائكة هم عباد الله.
ثم وصف هؤلاء العباد بأنهم مكرمون مصطفون؛ لأن من العباد من ليس بمكرم كما ذكر سبحانه عن قسم من عباده الضالين فقال: {أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} [الفرقان: ١٧].
ثم ذكر أن هؤلاء العباد المكرمين لا ينطقون بشيء قبله سبحانه، فهم لا يتقدمونه بقول. وإنه سبحانه إذا أمر بشيء فإنهم يعملون بأمره. وقدم الجار والمجرور فقال: {بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} للدلالة على أنهم لا يعملون بأمر غيره وإنما يعملون بأمره خاصة.
جاء في (نظم الدرر): "(وهم بأمره) أي خاصة إذا أمرهم (يعملون) لا بغيره لأنهم في غاية المراقبة له، فجمعوا في الطاعة بين القول والفعل وذلك غاية الطاعة" (3).
وجاء في (تفسير أبي السعود) في قوله تعالى: {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ}، "بيان لتبعيتهم له تعالى في الأعمال إثر بيان تبعيتهم له في الأقوال. فإن نفي سبقهم له تعالى بالقول عبارة عن تبعيتهم له تعالى فيه. وكأنه قيل هم بأمره يقولون وبأمره يعملون لا بغير أمره أصلاً. فالقصر المستفاد من تقديم الجار والمجرور معتبر بالنسبة إلى غير أمره لا إلى أمر غيره" (4).
ولئلا يظن أنهم قد يتركون شيئا من أمره ذكر أنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، أي ما تقدم من أفعالهم وأقوالهم وما تأخر، وما عملوا وما لم يعملوا بعد (5).
ثم ذكر أنهم لا يشفعون إلا لمن ارتضاه الله، فهم لا يسبقونه بقول ولا يشفعون إلا لمن علموا أن الله يرتضي ذلك.
ثم ذكر أنهم في خوف منه ومراقبة له سبحانه لا يأمنون مكره.
وقال: (مشفقون) ولم يقل: (يشفقون) ليدل على أن ذلك وصفهم الدائم الثابت.
ومع هذا الثناء عليهم فذلك لا يمنع من أن يعذبهم إذا تجاوزوا الحد فقال: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ}. وهذا لا يخصهم وحدهم بل يشمل كل ظالم فقال: {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}.
وقد مر قبل هذه الآية ذكر لعقوبات الظالمين من نحو قوله: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً}.
وقوله: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)}.
جاء في (الكشاف): "(لا يسبقونه)... والمعنى أنهم يتبعون قوله ولا يقولون شيئا حتى يقوله، فلا يسبق قولهم قوله... أي لا يتقدمون قوله بقولهم... وكما أن قولهم تابع لقوله فعملهم أيضًا كذلك مبني على أمره، لا يعملون عملا ما لم يؤمروا به...
ومن تحفظهم أنهم لا يجسرون أن يشفعوا إلا لمن ارتضاه الله وأهله للشفاعة في ازدياد الثواب العظيم. ثم إنهم مع هذا كله من خشية الله (مشفقون) أي متوقعون من أمارة ضعيفة، كائنون على حذر ورقبة لا يأمنون مكر الله...
وبعد أن وصف كرامتهم عليه وقرب منزلتهم عنده وأثنى عليهم... فاجأ بالوعيد الشديد، وأنذر بعذاب جهنم من أشرك منهم إن كان ذلك على سبيل الفرض والتمثيل" (6).
وجاء في (تفسير أبي السعود): "(مشفقون) مرتعدون. وأصل الخشية الخوف مع التعظيم ولذلك خص بها العلماء. والإشفاق الخوف مع الاعتناء.
فعند تعديته بـ (من) يكون معنى الخوف فيه أظهر، وعند تعديته بـ (على) ينعكس الأمر" (7).
وجاء في (روح المعاني): {مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} وفرق بين الخشية والإشفاق بأن الأول خوف مشوب بتعظيم ومهابة ولذلك خص به
العلماء في قوله تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} (8).
وفي (التحرير والتنوير): "الإشفاق توقع المكروه والحذر منه" (9).
لقد جاء نحو هذا التعبير في عدة مواضع من القرآن الكريم، غير أنه لم يكن التعقيب واحدًا، بل ذكر في كل موضع نوعًا من التعقيب والتبيين يختلف عما ذكر في المواضع الأخرى.
وأول موضع ورد فيه نحو هذا التعبير ما جاء في سورة البقرة وهو قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115) وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)}.
فرد عليهم بأن له ما في السماوات والأرض وأنهم كلهم خاضعون له، وأنه أبدع السماوات والأرض وأوجدهما وأنه على كل شيء قدير، فإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون، فلا يحتاج إلى الولد، فهو الغني المستغني المقتدر فلماذا يتخذ ولدا؟
فرد عليهم بغناه وقدرته، غير أنه لم يذكر فظاعة هذه الكلمة ولا ماذا ستكون عاقبة الذين يقولون بهذا القول.
ثم ورد نحو هذا التعبير في سورة يونس فقال: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)... قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)}
فذكر قبل الآية أن له من في السماوات ومن في الأرض فلماذا يتخذ الولد؟
ثم ذكر أنه الغني، ولم يقل: (إنه غني) بل ذكر أنه الغني ولا غني غيره، فإن له ما في السماوات وما في الأرض، فكرر (ما).
ففي آية البقرة لما لم يذكر أنه الغني لم يكرر (ما)، وإنما قال: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}.
ولما قال في آية يونس: {هُوَ الْغَنِيُّ} كرر (ما) فقال: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} للتوكيد والتوسع في ذكر الغنى.
ثم رد على القائلين بهذا القول بأنهم ليس عندهم سلطان بهذا وأنهم يقولون على الله ما لا يعلمون.
وألمح إلى أن هذا من الافتراء على الله، وأنه سيعاقب الكافرين، وهذه إشارة إلى أن القول بهذا إنما هو كفر.
ولم يرد مثل ذلك في البقرة. وهي مرحلة بعد الذكر الأول.
ثم ذكر القائلين بهذا في سورة الكهف وأنه ينذرهم فليحذروا فقال: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)}.
فإنه بعد أن ذكر القائلين في موضعين ناسب أن ينذرهم بعد ذلك فقال: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا}
فتدرج في القول فلم يذكر في يونس أنه سيعذب القائلين بهذا بصورة مباشرة، وإنما قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ}.
فذكر عموم الافتراء على الله، وليس ذلك خاصًا بهذا القول.
وأما في آية الكهف فإنه أنذر الذين يقولون هذا القول بصورة مباشرة، وأنه نفى العلم عنهم وعن آبائهم، ثم عظم هذه المقالة وأنها كبيرة فقال: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ}.
وصرح بأن هؤلاء لم يقولوا إلا الكذب.
ولم يذكر غناه فاكتفى بما مر من ذلك، وإنما ذكر أمرًا آخر وهو الإنذار المباشر وعظم هذه المقالة وكذبها.
ثم قال في سورة مريم: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آَتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)}.
فإنه قبل هذا الموطن ذكر كذب هذا القول وأن هذه الكلمة كبيرة، أما ههنا فقد فصل في هذا القول وذكر أنه عظيم ثقيل تكاد السماوات يتفطرن منه وتنشق رض وتخر الجبال هدًّا.
ولم يذكر نحو هذا فيما سبق، وإنما ألمح إلى أنه كذب، ثم صرح بأنه كذب، وذكر قبل هذه السورة أن هذه الكلمة كبرت تخرج من أفواههم.
أما ههنا فأنت تلاحظ أنه عظم هذه المقالة في السماوات والأرض والجبال وفظعها، وأن كل من في السماوات والأرض إن هم إلا عبيد له.
ومن الملاحظ في هذه الآية أنه ذكر اسمه (الرحمن) ولم يذكر لفظ الجلالة (الله) كما في الآيات السابقة. ولعل ذلك لأنه لم يذكر تهديدًا لمن قال هذا القول.
ثم إن سورة مريم تردد فيها اسم الرحمن كثيرًا، وهي أكثر سورة تردد فيها هذا الاسم الجليل. فناسب ذلك من جهة أخرى.
ثم ذكر في سورة الأنبياء نحو ذلك فقال: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)}
فذكر صفة هؤلاء الذين قالوا فيهم إنهم اتخذهم الرحمن ولدًّا فذكر أنهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون كما ذكرنا.
ولم يعد ما ذكره في المواطن السابقة، بل ذكر شيئا آخر وهو صفة الملائكة هؤلاء. وهو أمر لم يذكره في المواطن الأخرى.
وقد ذكر ههنا اسمه (الرحمن) كما في آية مريم، ولعل سبب ذلك أنه لم يذكر تهديدًا لمن قال هذا القول، وهو المناسب لاسمه الرحمن.
ومن الملاحظ في هذه الآيات أنه إذا ذكر اسمه (الله) فهو إما يذكر غناه أو يذكر إنذارًا لمن قال هذا القول أو يذكرهما معًا.
ففي سياق آية البقرة قال: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)}.
وقال: {بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ}وأنه بديع السماوات والأرض.
ثم إنه لم يرد في سورة البقرة اسمه (الرحمن) إلا في موضع واحد وهو قوله: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)}.
بخلاف اسم (الله) الذي تردد فيها كثيرًا كثيرًا.
وفي آية يونس ذكر عناه وأشار إلى التهديد والإنذار فقال: {هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}.
ثم ذكر عاقبة هؤلاء الكفرة فقال: {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ}.
وأنذر في آية الكهف من قال بهذا القول فقال: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا}.
ولم يذكر تهديدًا أو غنى مع اسمه (الرحمن) في آيتي مريم والأنبياء. فلم يكرر ما ورد من هذا الأمر وإنما ذكر في كل موطن أمرًا يتناسب مع المقام والسياق والتدرج في شأن المقالة والقائلين.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 68 إلى ص 76.
(1) الكشاف 2/326 وانظر البحر المحيط 6/307.
(2) انظر روح المعاني 17/32.
(3) نظم الدرر 12/408 – 409.
(4) تفسير أبي السعود 3/697
(5) انظر البجر المحيط 6/307.
(6) الكشاف 2/326.
(7) تفسير أبي السعود 3/697.
(8) روح المعاني 17/33.
(9) التحرير والتنوير 17/52.
{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30)}
أي ألم يتفكروا أولم يعلموا أن السماوات والأرض كانتا مرتوقتين أي لاصقة إحداهما بالأخرى ففصلنا الأرض عن السماوات؟
وقال: (رتقًا) دون (مرتوقتين) لأن (رتقًا) مصدر، والمصدر يخبر به عن المفرد وغيره كما يقال: رجل عدل ورجال عدل. ورجل صوم وامرأة صوم ورجال صوم.
وأخبر عنهما للمبالغة.
والرؤية قلبية، أي: ألم يعلموا (1)؟
قد تقول: لعلهم لم يكونوا يعلمون ذلك.
فنقول: إن ذلك يقال لمن يعلم أو لإعلام من لم يكن يعلم. كما تقول لصاحبك: (ألم تعلم أن فلانًا حصل على جائزة؟) وهو لا يعلم ذاك وإنما أردت إخباره، وهذا جار كثير في اللغة.
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج: 18].
وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ} [النور: 41].
وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} [النحل: 48].
وقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آَتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ} [البقرة: 258].
وهو إنما يخبره بذلك.
ونحو هذا كثير في القرآن الكريم.
{وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}
أي "صيرنا كل شيء حي بسبب من الماء لا بد له منه" (2)، فالماء هو سبب الحياة.
فبدأ بذكر الحالة الأولى لوجود الكون وهي أن السماوات والأرض كانتا ملتحمتين لاصقة إحداهما بالأخرى ففصلهما.
ثم ذكر أصل الحياة وما يسبق الحياة، ثم جعل الأشياء حية بسبب الماء.
فذكر حالتين متناظرتين:
ما يسبق هذا الكون المشاهد.
وما يسبق وجود الأحياء.
وهو تناظر جميل.
ولما ذكر في أول الآية الذين كفروا فقال: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا}ختمها بدعوتهم إلى الإيمان فقال: {أَفَلَا يُؤْمِنُونَ}.
وجاء بالفاء الدالة على السبب في قوله: {أَفَلَا يُؤْمِنُونَ } أي ألا يكون ذلك سببا لإيمانهم؟!
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 76 إلى ص 78.
(1) أنظر الكشاف 2/326 – 327، روح المعاني 17/34.
(2) الكشاف 2/327.
{وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31)}
الرواسي من الجبال: الثوابت الرواسخ (1).
ومن لطائف التعبير القرآني أنه لا يعبر بالرواسي في أحداث القيامة، بل يعبر عنها بالجبال وذلك نحو قوله تعالى: {وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} [المرسلات: 10]، وقوله: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} [الحافة: 14].
وذلك لأنها لم تعد رواسي. وإنما خص التعبير بـ (الرواسي) في الحياة الدنيا، وذلك نحو قوله تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا} [النحل: 15].
وقوله: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا} [فصلت: 10].
وقوله: {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} [المرسلات: 27].
أما التعبير بالجبال فهو عام، وذلك نحو قوله تعالى: {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ} [الحجر: 82].
وقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} [النحل: 81].
{أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ}
أي لئلا تميد وتضطرب (2).
ومن لطائف التعبير في القرآن أن نفي الميد يجعله مع لفظ (الرواسي) دون غيرها فلم يجعله مع لفظ الجبال، ذلك أن معنى الرواسي – كما ذكرنا – هو الثوابت الرواسخ، فهي تثبت الأرض لئلا تميد.
{وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا}
الفج: الطريق الواسع بين جبلين، وقيل: هو الطريق الواسع في الجبل (3)، وقيل: هو الطريق الواضح الواسع (4).
والسبيل: الطريق الذي فيه سهولة (5).
وجمع بين الفجاج والسبل لإفادة معنى السعة والسهولة واليسر وذلك من تمام النعمة.
جاء في (روح المعاني): "(فجاجًا) جمع فج، قال الراغب: هو شقة يكتنفها جبلان. وقال الزجاج: كل مخترق بين جبلين فهو فج. وقال بعضهم: هو مطلق الواسع سواء كان طريقًا بين جبلين أم لا...
وقوله سبحانه: (سبلاً) بدل منه. فيدل ضمنًا على أنه تعالى خلقها ووسعها للسابلة مع ما فيه من التأكيد؛ لأن البدل كالتكرار وعلى نية تكرار العامل، والمبدل منه ليس في حكم السقوط مطلقًا...
[وقيل]: إن (سبلاً) عطف بيان وهو سائغ في النكرات حيث قال: هو تفسير للفجاج وبيان أن تلك الفجاج نافذة، فقد يكون الفج غير نافذ" (6).
قد تقول: لقد قدم الفجاج على السبل ههنا، وقدم السبل على الفجاج في سورة نوح فقال: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)}
فنقول: لما ذكر الرواسي في آية الأنبياء ناسب تقديم الفجاج على السبل؛ لأن الفج هو الطريق في الجبل كما ذكرنا.
ولما قال (بساطًا) في سورة نوح قدم السبل وهي الطرق الميسرة السهلة (7).
{لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ}
أي يهتدون في سيرهم أو يهتدون إلى الإيمان بالله، فإن هذه من الآيات التي تهدي إلى الإيمان.
وكلا الأمرين مطلوب، فإن الجبال من وسائل الهداية في السير، قال تعالى: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 15 - 16].
وهي من الآيات الدالة على توحيده وقدرته سبحانه. قال تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19)} [الغاشية: 17 - 19].
وقال: {وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 3].
وقال: {أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَئِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [النمل: 61].
جاء في (التحرير والتنوير): "وجملة {لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} مستأنفة إنشاء رجاء اهتداء المشركين إلى وحدانية الله، فإن هذه الدلائل مشاهدة لهم واضحة الدلالة.
ويجوز أن يراد بالاهتداء الاهتداء في السير، أي جعلنا سبلاً واضحة غير محجوبة بالضيق إرادة اهتدائهم في سيرهم فتكون هذه منة أخرى" (8).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 78 إلى ص 81.
(1) انظر لسان العرب (رسا).
(2) انظر لسان العرب (فجج).
(3) انظر الكشاف 2/327.
(4) المصباح المنير (الفج)، وانظر الكشاف 2/327.
(5) انظر مفردات الراغب (سبل).
(6) روح المعاني 17/38.
(7) انظر التعبير القرآني 76 – 77.
(8) التحرير والتنوير 17/57.
{وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ}
ذكر في آية سابقة أن السماوات والأرض كانتا رتقًا ففتقهما.
ثم بدأ بما يتعلق بالأرض وأهلها، فذكر أنه جعل من الماء كل شيء حي.
ثم ذكر أنه جعل في الأرض رواسي لئلا تميد بأهلها وجعل فيها فجاجًا سبلاً لعلهم يهتدون.
ثم انتقل في هذه الآية إلى ذكر السماء فقال:
{وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} أي محفوظًا من الوقوع على الأرض، كما قال تعالى: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [الحج: 65].
ومحفوظًا من الشياطين كما قال سبحانه: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ} [الحجر: 16 – 18].
وجعل فيها ما يحفظها كما ذكر سبحانه: {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} [الصافات: 6 – 7].
فهي سقف محفوظ بأمر الله سبحانه من كل ما يمنع من الحفظ.
وهم عن آياتها وما أودع الله فيها من دلائل من شمس وقمر ونجوم وأحوال معرضون لا يتدبرون فيها.
جاء في (الكشاف): "(محفوظًا) حفظه بالإمساك بقدرته من أن يقع على الأرض ويتزلزل، أو بالشهب عن تسمع الشياطين على سكانه من الملائكة.
(عن آياتها) أي عما وضع الله فيها من الأدلة والعبر بالشمس والقمر وسائر النيرات ومسايرها وطلوعها وغروبها" (1).
وجاء في (التفسير الكبير) للفخر الرازي: "قوله تعالى: {وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} عما وضع الله تعالى فيها من الأدلة والعبر في حركاتها وكيفية حركاتها وجهات حركاتها ومطالعها ومغاربها واتصالات بعضها ببعض وانفصالاتها على الحساب القويم والترتيب العجيب الدال على الحكمة البالغة والقدرة الباهرة" (2).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 81 إلى ص 83.
(1) الكشاف 2/327 وانظر تفسير أبي السعود 3/700.
(2) التفسير الكبير 22/140.
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)}
لما قال في الآية السابقة: {وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ} ذكر شيئًا من آياتها في هذه الآية، فذكر الليل والنهار وآيتيهما وهما الشمس والقمر. فالشمس آية النهار، والقمر آية الليل.
وقدم الليل على النهار لسبقه، وقدم الشمس على القمر لسبقها.
فالليل أسبق في الوجود من النهار، والشمس أسبق في الوجود من القمر.
لقد قال: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ} أي هو لا غيره، فإن هذا التعبير يفيد القصر.
وقال: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} فجاء بضمير الجمع للإشارة إلى كل ما يسبح في فلكه في السماء فنوّن (كل)، والتنوين في (كل) يفيد العموم، ولو أضاف أو بين بمن فقال: (وكل منهما) لتخصص الكلام بهما.
جاء في (التحرير والتنوير): "وضمير (يسبحون) عائد إلى عموم آيات السماء وخصوص الشمس والقمر" (1).
وقال: (يسبحون) بضمير العقلاء، ولم يقل: (يسجن) أو (تسبح) لأن السباحة من أفعال الآدميين. وهذه الآية نظير قوله سبحانه في سورة يس: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40].
وقوله: {وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4].
جاء في (نظم الدرر): "ولما ذكر السماء ذكر ما ينشأ عنها فقال: (وهو) أي لا غيره {الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} ثم أتبعها آيتيهما فقال: (والشمس) التي هي آية النهار وبها وجوده. (والقمر) الذي هو آية الليل" (2).
وجاء في (الكشاف): "(كل) التنوين فيه عوض من المضاف إليه، أي كلهم {فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}. والضمير للشمس والقمر، والمراد بهما جنس الطوالع كل يوم وليلة، جعلوها متكاثرة لتكاثر مطالعها... وإنما جعل الضمير واو العقلاء للوصف بفعلهم وهو السباحة" (3).
وجاء في (البحر المحيط): "وجاء (يسبحون) بواو الجمع العاقل. فأما الجمع فقيل ثم معطوف محذوف وهو (والنجوم) ولذلك عاد الضمير مجموعًا، ولو لم يكن ثم معطوف محذوف لكان (يسبحان) مثنى...
وأما كونه ضمير من يعقل ولم يكن التركيب (يسبحن) فقال الفراء: لما كانت السباحة من أفعال الآدميين جاء ما أسند إليهما مجموعًا جمع من يعقل كقوله: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} (4).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 83 إلى ص 84.
(1) التحرير والتنوير 17/60.
(2) نظم الدرر 12/416.
(3) الكشاف 2/327.
(4) البحر المحيط 6/310. وانظر روح المعاني 17/39.
{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)}
وذلك من حكمته سبحانه الذي جعل من الماء كل شيء حي، وجعل في الأرض رواسي أن تميد بهم، وخلق الليل والنهار والشمس والقمر.
والليل يمضي ولا يعود إلى يوم القيامة ويأتي بعده ليل آخر.
والنهار يمضي ولا يعود إلى يوم القيامة ويأتي بعده نهار آخر.
والبشر يموت ولا يعود إلى يوم القيامة فيبعثه الله ويحاسبه.
فلم يجعل لبشر من قبله الخلد.
ونفى الفعل بـ (ما) ولم ينفه بـ (لم) لأن (ما) أكد من (لم).
وإذا تربصوا بك ريب المنون فمت أفهم خالدون في الدنيا؟
وقال: {فَهُمُ الْخَالِدُونَ} ولم يقل: (فهم خالدون) وذلك للحصر، أي: أفهم الخالدون دون غيرهم من البشر الذين قضى الله أن لم يجعل لأحد منهم الخلد.
لقد قال ههنا: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} فقال: (الخلد) ولم يقل: (الخلود)، فإن القرآن الكريم يستعمل (الخلد) كثيرًا، واستعمل (الخلود) في موطن واحد وذلك قوله سبحانه: {مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} [ق: 33 – 34].
واستعمل (الخلد) فيما عدا ذلك وذلك نحو قوله سبحانه: {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ} [يونس: 52].
وقوله: {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} [فصلت: 28].
وقوله: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ} [الفرقان: 15].
فاستعمل (الخلد) لمن هم أقل عددًا ممن ذكر في آية (ق).
فقد قال في (ق): {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} ويوم الخلود ليس خاصًا بمؤمن أو كافر، بل كلهم يشملهم ذلك اليوم فهو يوم الخلود للجميع سواء كان من أهل الجنة أم من أهل النار.
قد تقول: ولكن الكلام على المتقين فقد قال سبحانه في سياق الآية: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31)... ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34)}.
فنقول: لم يقل: (تلك دار الخلود) أو (جنة الخلود) في إشارة إلى الجنة، وإنما قال: {ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ}، وهو وإن بشرهم بالخلود في خطابه لهم غير أن التعبير بيوم الخلود لا يخصهم وحدهم. فيوم الخلود ليس خاصًا بصنف دون صنف وإنما هو عام لكل المكلفين.
هذا إضافة إلى أنه ورد في السياق ذكر أهل النار وأهل الجنة. وأما (الخلد) فلم يستعملها إلا مخصصة بصنف دون آخرين. فقد قال: {ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ}، وقال: {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ}، وهذا خاص بالكافرين.
{ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ}،
وقال: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ} وهذا خاص بالمؤمنين.
فاستعمل (الخلود) التي هي أكثر حروفًا من (الخلد) لمن هم أكثر عددًا. فـ (خلود) أربعة أحرف، و(خلد) ثلاثة أحرف.
فناسب بين القلة والكثرة في بناء المفردة والمكلفين.
وكذلك الأمر في آية الأنبياء هذه وهي قوله: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ}، فالبشر هنا يعني واحدًا من الناس، وحتى إذا قصد بها مجموعة من الناس فهم قلة بالنسبة إلى مجموع البشر. وهذا من لطائف التعبير.
لقد قال: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ} فأسند الجعل لنفسه سبحانه فهو الذي قضى بذلك وقدره.
ثم بين ذلك بقوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ}
فلا تنجو نفس من الموت بل لا بد أن تذوقه.
{وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}
"أي نختبركم بما يجب فيه الصبر من البلايا، وبما يجب فيه الشكر من النعم، وإلينا مرجعكم فنجازيكم على حسب ما يوجد منكم...
و(فتنة) مصدر مؤكد لـ (نبلوكم) من غير لفظه" (1).
ويحتمل أيضًا أن تكون (فتنة) مفعولاً لأجله، أي (لنفتنكم) كما يحتمل أن تكون حالاً أي: فاتنين لكم، بمعنى: مختبرين لكم، كما يحتمل أن تكون مفعولاً مطلقًا مؤكدًا من غير لفظ الفعل كما ذكر صاحب الكشاف.
وجاء بالمصدر ليحتمل المعاني الثلاثة: المصدر المؤكد والمفعول له والحال وهو من التوسع في المعنى.
و"قدم الشر لأن الابتلاء به أكثر... وعن ابن عباس: الخير والشر هنا عام في الغني والفقر، والصحة والمرض، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال...
والظاهر أن المراد من الخير والشر هنا كل ما صح أن يكون فتنة وابتلاء...
وانتصب (فتنة) على أنه مفعول له، أو مصدر في موضع الحال، أو مصدر من معنى نبلوكم...
{وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} فنجازيكم على ما صدر منكم في حالة الابتلاء من الصبر والشكر وفي غير الابتلاء" (2).
"وأكد فعل البلاء بمصدر من معناه مقرون بالهاء تعظيمًا له فقال: (فتنة) أي كما يفتن الذهب إذا أريدت تصفيته بمخالطة النار له" (3).
{وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} أي لا إلى غيرنا فنحاسبكم ونجزيكم على ما قدمتم.
وهذا التعقيب مناسب لمفتتح السورة وهو قوله: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}
ولما ذكره في آخر السورة من عاقبة الكافرين والمؤمنين.
قد تقول: لقد قال ههنا: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}.
وقال في سورة العنكبوت: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}.
فلم يقل في آية العنكبوت: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) كما قال في آية الأنبياء.
وقال في آية الأنبياء: {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} بالواو.
وقال في آية العنكبوت: {ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} بثم.
فلم ذاك؟
أما إنه لم يقل في آية العنكبوت: (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) فقد قيل: إنه "لما تقدم أول سورة العنكبوت {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [الآيتان: 2 – 3]. أغنى ذلك عن (ونبلوكم بالشر والخير فتنة) في آية العنكبوت فحذف منها" (4).
وهو توجيه مقبول.
وأما قوله في آية الأنبياء: {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}
وقوله في آية العنكبوت: { ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ }
فلأن آية الأنبياء – والله أعلم – هي في الرجوع إلى الله عند الموت أو في القيامة.
وأما آية العنكبوت فهي فيما بعد ذلك وهو دخول الجنة أو النار.
يدلك على ذلك سياق آيات العنكبوت، فهو في ذكر من يدخل النار ومن يدخل الجنة. قال تعالى: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58}.
فجاء بـ (ثم) التي تفيد التراخي.
وليس السياق كذلك في آية الأنبياء.
وقد ذكرنا آنفًا أن هذه الآية مناسبة لما ورد في أول السورة من ذكر للحساب وهو قوله: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} والحساب قبل القضاء بدخول الجنة أو النار.
جاء في (البرهان) للكرماني: "قوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}. وفي العنكبوت: {ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} لأن (ثم) للتراخي، والرجوع هو الرجوع إلى الجنة أو النار، وذلك في القيامة.
وخصت هذه السورة بالواو لما حيل بين الكلاميين بقوله: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} وإنما ذكرًا لما لم يتقدم ذكرهما. فقام مقام التراخي وناب الواو منابه" (5).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 84 إلى ص 90.
(1) الكشاف 2/328.
(2) البحر المحيط 6/311 وانظر روح المعاني 17/47.
(3) نظم الدرر 12/418.
(4) حاشية البرهان للكرماني ذات الرقم 11 ص 240.
(5) البرهان 240.
{وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)}
(إذا) ظرف زمان تجردت للظرفية وليس فيها معنى الشرط، بدليل عدم اقتران جوابها بالفاء، نظير قوله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآَبَائِنَا} [الجاثية: ٢٥].
و(هزوا) مصدر بمعنى اسم المفعول، أي مهزوءً بك، وذلك للمبالغة.
لقد نفى الفعل (يتخذونك) بـ إن دون (ما) ذلك أن النفي بـ (إن) أقوى من النفي بـ (ما).
ولم يقل: (وإذا رآك الذين كفروا اتخذوك مهزوءًا بك) وإنما قال: {إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا} فجاء بـ (إن) و(إلا) للقصر، أي لم يعاملوه بمعاملة أخرى غير الاستهزاء، فقصروا معاملتهم له على الاستهزاء (1)، وذلك للمبالغة في ذلك.
وقال: (هزوًا) بالمصدر للمبالغة كما ذكرنا.
فكانت المبالغة بالقصر، والنفي بـ (إن)، وبالمصدر دون الوصف.
وجاء بالفعل المضارع (يتخذونك) للدلالة على تكرر الاستهزاء.
وحذف القول، أي: قائلين أو يقولون: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ}
وقولهم: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ} استهزاء به، أي يعيبها ويذكرها بسوء، وتعظيم لآلهتهم التي لا ينبغي لأحد أن يعيبها بل ينبغي أن يعظمها - فيما يرون -.
والغريب أنهم بذكر الرحمن الذي خلقهم وأفاض عليهم بالنعم كافرون وأنهم يعظمون آلهة اتخذوها لا تضر ولا تنفع ولا تعقل ولا تنطق ولا تسمع ولا تبصر.
وقوله: {بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ}يحتمل أن يكون المقصود به ذكر الله بما يجب أن يذكر، كما يحتمل أن يكون المقصود بذكر الرحمن القرآن، وقد سماه الله ذكرًا في أول السورة فقال: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2}
وقال في الشعراء: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5)}.
وكلاهما مقصود، فهم كافرون بالرحمن وبالقرآن الذي هو ذكر من الرحمن.
جاء في (الكشاف): "الذكر يكون بخير وبخلافه، فإذا دلت الحال على أحدهما أطلق ولم يقيد، كقولك للرجل: (سمعت فلانا يذكرك)، فإن كان الذاكر صديقًا فهو ثناء، وإن كان عدوا فذم، ومنه قوله تعالى: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ}، وقوله: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ}... وأما ذكر الله وما يجب أن يذكر به من الوحدانية فهم به كافرون لا يصدقون به أصلاً، فهم أحق بأن يتخذوا هزوا منك...
وقيل: (بذكر الرحمن): بما أنزل عليك من القرآن" (2).
والضمير الثاني في قوله: {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} توكيد للأول.
جاء في (تفسير أبي السعود): "والضمير الثاني تأكيد لفظي للأول فوقع الفصل بين العامل ومعموله بالمؤكد وبين المؤكد والمؤكد بالمعمول" (3).
وجاء في (نظم الدرر): "وكرر الضمير تعظيمًا بما أتوا به من القباحة فقال: (هم)" (4).
قد تقول: لقد قال ههنا: {وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36)}.
فختم الآية بقوله: {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ}.
وقال في سورة الفرقان: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41)}.
فختم الآية بقوله: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41)}، فما توجيه ذلك؟
فنقول: إن السياق في الأنبياء في ذكر الرحمن سبحانه وما أفاض من الخلق والنعم، فقد قال سبحانه: {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ}…
واستمر في ذكر ما فعله سبحانه من نحو قوله: { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا..... وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ...... وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا...... وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ......... وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}.
وبعد الآية قال: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} فالسياق فيما أفاض ربنا من الخلق والنعم، فناسب ختم الآية بذكر الرحمن.
في حين كان السياق في الفرقان في الكلام على الرسول، فقد قال سبحانه بعد آية الفرقان: {إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا (46)}. وتقدم الكلام على الرسول فقد قال سبحانه: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27)....... وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32)......}
ثم قال: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آَلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا.....} فناسب ختم الآية بذكر الرسول.
جاء في (ملاك التأويل) في بيان المناسبة لخاتمة كل من الآيتين "أنه لما تقدم في سورة الأنبياء قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21} وقوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آَلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} وقوله: {أَمِ اتَّخَذُوا آَلِهَةً}، فتكرر ذكر مرتكبهم في اتخاذهم معبودات لا تغني عنهم، ناسبه قولهم: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ}.
أما آية الفرقان فقد تقدمها قوله: {وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ} فأنكروا كون الرسول من البشر، فجرى مع ذلك وناسبه قولهم: {أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41)} تعجبًا واستعبادًا أن يكون الرسل من البشر. وقد رد ذلك عليهم بقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ} فوضح التناسب فيها، والله أعلم" (5).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 90 إلى ص 94.
(1) انظر تفسير أبي السعود 3/701.
(2) الكشاف 2/328.
(3) تفسير أبي السعود 3/701.
(4) نظم الدرر 12/420.
(5) ملاك التأويل 2/695.
{خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)}
لما كان الإنسان مطبوعًا على العجلة معتادًا لها قال سبحانه: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} كأنه مخلوق منها على سبيل المبالغة. والإنسان من صفاته العجلة كما قال سبحانه: {وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا} [الإسراء: 11].
جاء في (تفسير أبي السعود): "جعل لفرط استعجاله وقله صبره كأنه مخلوق منه... إيذانًا بغاية لزومه له وعدم انفكاكه عنه" (1).
وبنى الفعل (خلق) للمجهول لأن هذه الصفة غير محمودة فلم يرد أن يسندها إليه سبحانه، والخالق معلوم. وهذا كثير جار في القرآن الكريم (2).
ونحو ذلك قوله سبحانه: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]، وقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} [المعارج: 19 – 21].
في حين قال: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] لما كان ذلك من مظاهر نعمته عليه.
قال سبحانه في سورة المؤمنون: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} إلى أن قال: {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)}
وقال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر: 26] ثم ذكر أنه أسجد له ملائكته أجمعين فقال: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ}
وهذا تكريم لآدم فقال: (خلقت).
{سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ}
وآياته هي آيات الوعيد التي ستحل بهم في الدنيا، وعذاب الآخرة الذي وعدهم به.
وقيل: هي أدلة التوحيد التي تدل على صدق الرسول.
جاء في (البحر المحيط): "أي آيات الوعيد، فلا تستعجلون في رؤيتكم العذاب الذي تستعجلون به...
والآيات هنا قيل: الهلاك المعجل في الدنيا والعذاب في الآخرة، أي يأتيكم في وقته.
وقيل: أدلة التوحيد وصدق الرسول" (3).
{فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ} فإنها ليست في مصلحتكم، وإذا وقعت تمنيتم أنها لم تقع، سواء ما كان في الدنيا أم ما يكون في الآخرة.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 94 إلى ص 95.
(1) تفسير أبي السعود 3/701، وانظر نظم الدرر 12/420، البحر المحيط 6/312.
(2) انظر كتابنا (التعبير القرآني) – تفسير سورة التين.
(3) البحر المحيط 6/312 – 313 وانظر روح المعاني 17/49.
{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)}
يقولون ذلك استهزاء بما وعدهم رسولهم (1).
وقال: (يقولون) ولم يقل: (قالوا) للدلالة على تكرار القول منهم.
وقال: (هذا الوعد) بحرف الإشارة للقريب، ولم يقل: (ذلك) للدلالة على أنهم يقولون ذلك حين يعدهم ولا يدعون ذلك فيقولونه بعد حين.
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} يدل على أن المسلمين كانوا يعدونهم بما أنزل الله كما يعدهم رسولهم فقالوا: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} بالجمع، ولم يقولوا: (إن كنت من الصادقين) فيجعلون الخطاب للرسول وحده.
في حين قال في الرسل الآخرين: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فجعلوا الخطاب للرسول فهو الذي كان يعدهم، وذلك في عاد قوم هود (انظر الأعراف 70، الأحقاف 22)، وقوم نوح (انظر هود 32)، وقوم صالح إذ قالوا لرسولهم: {يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 77].
في حين ورد قوله سبحانه: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38)} في ستة مواضع كلها في خطاب أصحاب الرسول وذلك في يونس 48، والأنبياء 38، والنمل 71، وسبأ 29، ويس 48، والملك 25.
مما يدل على أن المسلمين كانوا يبلغون ما أرسل به رسولهم.
وهذه إشارة إلى أن المسلمين ما كانوا يقعدون عن الدعوة إلى الله سبحانه وتبليغ ما أنزل إليهم.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 96 إلى ص 97.
(1) انظر البحر المحيط 6/313، روح المعاني 17/49.