{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 113]
الركون هو الميل اليسير (1)، أي لا تميلوا إلى الذين ظلموا أدنى ميل (2). وقال: {إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} ولم يقل: (إلى الظالمين) أي لا تميلوا إلى من وقع منهم ظلم وإن لم يكن الظلم وصفًا ثابتًا فيهم.
وهذا نهي عظيم عن مداهنة الظالمين، فقد نهى عن الميل اليسير إلى من وجد منهم ظلم فكيف بمن اتصف به على جهة الثبوت، فكيف بتعظيمهم واتخاذهم أصحابًا وخلطاء، وكيف باتخاذهم أولياء ؟!
جاء في (روح المعاني): "(الذين ظلموا) بمن وجد منه ما يسمى ظلمًا مطلقًا. قيل: ولإرادة ذلك لم يقل: إلى الظالمين" (3).
{وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ}
فلا تظنوا أن الظالمين سيكونون أولياء لكم، فإنهم ليسوا كذلك وما لكم من ولي من دون الله.
وأنتم لا تنصرون ما دمتم تركنون إلى الذين ظلموا.
وقال: {مِنْ أَوْلِيَاءَ} ولم يقل: (من ولي) لأنه ذكر الذين ظلموا وهم جمع فناسب أن يذكر الأولياء.
وجاء بـ (من) الاستغراقية ليدل على أنهم ليس لهم ولي من دون الله على سبيل الاستغراق.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 357 إلى ص 358.
(1) الكشاف 2/118.
(2) روح المعاني 12/154.
(3) روح المعاني 12/154، وانظر البحر المحيط 5/269.
{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 114]
إقامة الصلاة: أداؤها على تمامها والمداومة عليها.
والمراد بطرفي النهار على ما قيل: الصبح والعصر، وقيل: الصبح والمغرب (1).
والزلف: صلاة المغرب والعشاء (2)، وقيل: هي صلاة العشاء، ذلك أن معنى الزلف: الساعات القريبة من آخر النهار، من أزلفه إذا قربه (3).
وقيل: معنى (زلفًا) قربًا، والمعنى "وأقم زلفًا من الليل على معنى وأقم صلاة تتقرب بها إلى الله عز وجل في بعض الليل" (4). وهي صلاة التهجد. وقيل المراد بها صلاة العشاء والتهجد، وقد كان التهجد واجبًا عليه (5).
وهذا المعنى يناسب الأمر بصورة الإفراد في قوله: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ...} لأن التهجد كان واجبًا عليه وليس واجبًا على المسلمين. ولو قال: (وأقيموا) لكان التهجد واجبًا عليهم.
وقيل: إن هذا "من البلاغة القرآنية أن الأوامر بأفعال الخير أفردت للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم وإن كانت عامة في المعنى.
والمناهي جمعت للأمة، وما أعظم شأن الرسول عليه الصلاة والسلام عند ربه جل وعلا" (6).
يعني بالأوامر قوله تعالى: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ ...} {وَاصْبِرْ}.
والمناهي قوله: {وَلَا تَطْغَوْا} {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا}.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 358 إلى ص 359.
(1) روح المعاني 12/156.
(2) الكشاف 2/118.
(3) انظر الكشاف 2/118 وانظر روح المعاني 12/156.
(4) الكشاف 2/118، وانظر روح المعاني 12/156.
(5) انظر روح المعاني 12/156.
(6) روح المعاني 12/160.
{إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}
قال: (يذهبن) ولم يقل: (تذهب) ليبين أن الحسنات وإن كانت قليلة يذهبن السيئات، ولو قال: (تذهب) لدل على أن الحسنات إذا كانت كثيرة تذهب السيئات.
فإن النون في نحو هذا تفيد القلة، والإفراد يفيد الكثرة كما هو معلوم.
وقوله: {ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} يدل أن ذلك يشمل عموم من اتعظ وعمل بهذا وليس مخصوصًا بالرسول .
فكل من تقرب إلى الله وعمل بهذا شمله قوله: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ}
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 359 إلى ص 360.
{وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [هود: 115]
{وَاصْبِرْ} " أي على مشاق امتثال ما كلفت به" (1) من الاستقامة على ما أمر به وإقامة الصلاة وغيرها من الطاعات، وعلى ما نهاه عنه.
وأطلق الأمر بالصبر ولم يقيده بشيء ليشمل كل ما يقتضي الصبر.
وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} وفيه إيماء إلى أن الصبر من الإحسان (2).وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} ولم يقل: (إن الله لا يضيع أجركم) أو أجر من فعل ذلك ونحوه للإطلاق وليشمل كل من فعل ذلك وكل محسن.
فدخل في ذلك كل من فعل هذا الفعل وكل من أحسن، سواء فعل هذا الفعل أم غيره من وجوه الإحسان.
جاء في (روح المعاني): "وعدل عن الضمير ليكون كالبرهان على المقصود مع إفادة فائدة عامة لكل من يتصف بذلك. وهو تعليل للأمر بالصبر (3).
قد تقول: لقد قال في آية سابقة من السورة: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49].
وقال ههنا: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}
فاختلف ختام كل من الآيتين، فقال في الآية الأولى: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ}.
وقال في هذه الآية: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}
فما السبب؟
فنقول: إن سبب الاختلاف بين الخاتمتين أن الآية الأولى ليس فيها أمر بعمل ولا طلب بتكليف، فذكر أن العاقبة للمتقين، أي للذين يتقون الله. ولو اتقى قوم نوح ربهم ما حل بهم ما حل.
ثم إنه أيضًا لم يذكر الأجر كما ذكر في الآية الثانية، لأن الأجر إنما يكون على العمل وهو لم يذكر عملًا في الآية.
هذا ومن ناحية أخرى أنه حيث ذكر عاقبة أهل الفلاح ذكر المتقين والتقوى وذلك نحو قوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ }، وقوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} ولم يذكر غيرهم من أهل الفلاح.
وأما في هذه الآية فإنه أمرهم بأوامر ونهاهم عن نواه فناسب ذكر الإحسان، فإن من الإحسان ما يكون في العمل كما قال تعالى: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30].
وقد تقول: ولم يقل هنا: {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} كما قال في آية الكهف؟
فنقول: إن كل تعبير في مكانه أنسب، فقد قال في الكهف: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} فقد ذكر الذين عملوا الصالحات، فناسب ذكر أجر من أحسن عملًا.
وأما في سياق آية هود فقد ذكر أعمالًا وذكر أمورًا أخرى ليست أعمالًا، فقد ذكر إقامة الصلاة والأمر بالصبر، والصبر ليس عملًا.
وذكر من تاب فقال: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} والتوبة ليست عملًا، وغير ذلك مما ذكر مما يناسب ذكر الإحسان.
وقال في آية الكهف: {أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} فقال: (أحسن) بالفعل الماضي.
وقال في آية هود: {لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} فذكر المحسنين بالاسم، والاسم يدل على الثبوت كما هو معلوم.
ذلك أنه قال في الكهف: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فقال: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} بالماضي، فناسب أن يقول: {أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ} بالماضي.
وأما في هود فقد ذكر أمورًا تدل على الدوام، فقد قال: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} والاستقامة إنما تكون على الدوام.
وقال: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} وإقامة الصلاة إنما تكون على الدوام والاستمرار.
وقال: (واصبر) وهو أمر بالصبر على وجه الدوام وعلى الإطلاق، فناسب أن يذكر ما يدل على الثبات والدوام وهم المحسنون. والله أعلم.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 360 إلى ص 362.
(1) روح المعاني 12/160.
(2) انظر روح المعاني 12/160.
(3) روح المعاني 12/160.
{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 116 – 117]
{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ}
أي فهلا كان من الأمم التي قبلكم أولو فضل وخير ينهون عن الفساد في الأرض.
و(هلا) تفيد التحضيض والتندم والتأسف والتحسر، أي هلا فعلوا ذلك فلم يصيبهم ما أصابهم.
والمعنى: ليتحسر عليهم العباد وليتفجعوا عليهم لما أصابهم، وهو نظير قوله تعالى: {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [يس: 30].
جاء في (تفسير الثعالبي): "{لَوْلَا} هي التي للتحضيض، لكن يقترن بها هنا معنى التفجع والتأسف الذي ينبغي أن يقع من البشر على هذه الأمم التي لم تهتد. وهذا نحو قوله سبحانه {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ}
والقرون من قبلنا قوم نوح وعاد وثمود ومن تقدم ذكره" (1).
و(أولو بقية) "أولو فصل وخير، وسمي الفضل والجود بقية؛ لأن الرجل يستبقي مما يخرجه أجوده وأفضله فصار مثلًا في الجودة والفضل" (2).
وفي قوله: {بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} تحضيض لهذه الأمة وتنبيه لها لتفعل ذلك، وتحذير لمن لم يفعل أن يصيبهم مثل ما أصاب الأولين.
وقوله: {يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ} مناسب لما جاء بعده وهو قوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} ، فأن المصلح يصلح ما فسد.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 362 إلى ص 364.
(1) تفسير الثعالبي 3/307، وانظر روح المعاني 12/160.
(2) الكشاف 2/119، وانظر البحر المحيط 5/271.
{وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ}
أي اتبعوا الشهوات و ما أنعموا فيه.
{وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} ولم يقل: (تبع) للدلالة على المبالغة في ذلك.
وقال: {وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا} ولم يقل: (واتبع الناس) أو (أولئك) ليدل على أنهم فعلوا ذلك إضافة إلى ظلمهم.
وكل من الوصفين مدعاة إلى العقوبة.
{وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} أي إضافة إلى ما مضى من الظلم واتباع الشهوات كانوا مجرمين "أي مرتكبي جرائم غير ذلك" (1).
فذكر فيهم عدة مساوئ كل منها مدعاة إلى العقوبة.
1- فقد قال: {وَاتَّبَعَ} أي بالغوا في الاتباع.
2- وقال: {الَّذِينَ ظَلَمُوا} فاتصفوا بالظلم.
3- وقال: {مَا أُتْرِفُوا فِيهِ} أي من التنعم واتباع الشهوات.
ولم يرد الإتراف في القرآن إلا وصفًا سيئًا مدعاة إلى العقوبة في الدنيا والآخرة.
قال تعالى: {وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآَخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ...} [المؤمنون: 33] وقال فيما قال في أصحاب الشمال: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ} [الواقعة: 45].
وقال: {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} [المؤمنون: 64].
4- وقال: {وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} أي مرتكبي جرائم غير ذلك.
5- ووصفهم بالإجرام على جهة الثبوت فقال: {وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} فجاء بالاسم ليدل على ثبات هذا الوصف فيهم.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 364 إلى ص 365.
(1) روح المعاني 12/162.
{وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117]
جعل ربنا الإصلاح عاصمًا من الهلاك، أي ما صح وما استقام أن يهلك ربنا القرى التي أهلكها أو غيرها من القرى (بظلم) أي ظالمًا لها وأهلها مصلحون (1).
فإذا كان أهل القرى يتعاطون الإنصاف فيما بينهم فإن ربنا لا يهلكهم.
فإذا تظالموا أهلكهم كما قال: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59].
قد تقول: لقد قال تعالى في سورة الأنعام: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 131].
فقال في آية الأنعام هذه: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى}
وقال في هود: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى}
وقال في الأنعام: {وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ}
وقال في هود: {وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ}
فلم ذاك؟
فنقول: إن آية الأنعام إنما هي في الآخرة والكلام على ما كان في الدنيا، قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 130 – 131].
فالكلام على ما مضى فقال: {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى} أي إن ذلك الأمر قد وقع لأنه لم يكن ربك قد أهلك القرى بظلم وأهلها غافلون، من دون إقامة حجة عليهم وإرسال الرسل إليهم. فذكر أنه بلغهم وأرسل الرسل إليهم وأقام الحجة عليهم، وهم أقروا بذلك وشهدوا على أنفسهم فاستحقوا العقوبة.
وأما آية هود فالكلام فيها على الدنيا.
وما ورد فيها عام يشمل الماضي والحال والاستقبال. فإن ربنا لا يهلك القرى إذا كان أهلها مصلحين.
قال تعالى: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [التوبة: 70].
وهذا في الأمم السابقة.
وقال: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: 179].
وقال: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ} [التوبة: 122].
وقال: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُم} [النساء: 168]
فالحكم عام كما ترى. وهو كذلك في آية هود يشمل جميع الأزمنة.
وأما خاتمة كل من الآيتين فهي مناسبة لسياق كل منهما.
فقد ختم آية الأنعام بقوله: {وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} "لأن سياق الكلام في ذكر الرسل والإنذار والتبليغ. قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} [الأنعام: 130 – 131]
فأنت ترى أن سياق الكلام في ذكر الرسل والإنذار والتبليغ وتبيان أن الله لم يهلك أقوامًا غافلين لم يُنذروا ولم يكلفوا، فإن من لم ينذر فهو غافل. قال تعالى: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ} [يس: 6] وما كان الله ليهلك مثل هذه الأقوام، ولذا ختمها بقوله: {وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ}
وأما آية هود فهي في الكلام على الإصلاح والنهي عن الفساد في الأرض، ولذا ختمها بالإصلاح قال تعالى: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 116 - 117].
فناسب ختام كل آية السياق الذي هي فيه" (2).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 365 إلى ص 367.
(1) انظر روح المعاني 12/163.
(2) التعبير القرآني 276 – 277، وانظر درة التنزيل 131 – 132.
{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} [هود: 118 – 119]
أي لو شاء ربك لجعل الناس ملة واحدة: ملة هدى أو ضلال، ولكنه لم يشأ ذلك فكانوا مختلفين: بعضهم على هدى وبعضهم على ضلالة.
وجاء باللام في جواب (لو) فقال: (لجعل) للتوكيد؛ للتوكيد؛ لأن ذلك مما يستحيل جمعهم عليه، لكن الله لو شاء لفعل.
وقال: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} ولم يقل: (وجعلناهم مختلفين) فأسند الاختلاف إليهم لا إليه سبحانه، أي هم اختاروا ذلك فاختلفوا كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا} [يونس: 19].
والمعنى: أنه لو شاء ربنا لجعل الناس ملة واحدة ولكنه لم يشأ، فهم لا يزالون مختلفين إلا من رحمه الله فهداه إلى صراطه المستقيم.
وقوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} قيل فيه: إنه خلقهم للاختلاف.
وقيل: خلقهم لرحمته (1).
وقيل: خلقهم للاختلاف والرحمة.
جاء في (روح المعاني) إنه قيل: إن "الإشارة للرحمة والاختلاف، أي لاختلاف الجميع ورحمة بعضهم خلقهم.
وجاءت الإشارة لاثنين كما في قوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ}" (2).
والظاهر فيما يبدو لي – والله أعلم – أن قوله: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} يعني أنه خلقهم ليرحمهم، ذلك أنه سبحانه ذكر أنه خلق الجن والإنس ليعبدوه، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].
أي خلقهم ليعبدوه فيرحمهم، فإن في عبادته رحمتهم.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 367 إلى ص 369.
(1) تفسير القرطبي 9/114.
(2) روح المعاني 12/164.
{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}
{وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ}
"أي نفذ قضاؤه وحق أمره" (1).
وقوله: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِين} مناسب لما تردد في السورة من ذكر الأمم المعذبة وقلة المؤمنين الناجين، وهو وصف لعموم الناس كما قال تعالى: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} [هود: 17].
وقال: {فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ} [هود: 116].
فناسب ذلك ذكر ملء جهنم.
وتقديم الجنة على الناس لأنهم سبب في كثير من معاصي الناسي بما يوسوسون لهم ابتداء من إبليس مع آدم إضافة إلى معاصيهم هم.
قد تقول: لقد قال الله في موضع آخر: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [النحل: 93].
وقال ههنا: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً}
فأسند المشيئة في آية النحل إلى الله فقال: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ}، وأسندها في آية هود إلى الرب مضافًا إلى ضمير المخاطب فقال: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ}.
وقال في النحل: {لَجَعَلَكُمْ}
وقال في هود: {لَجَعَلَ النَّاسَ}
فما سبب ذلك؟
فنقول: إن الخطاب في سياق آية هود موجه إلى الرسول . قال تعالى:
{فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ} [109]، {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ} [112]، {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ} [114]، {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [115]، {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ} [117]، {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ} [118]، {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [119]، {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} [120]، { وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [120]، {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ} [120]، {وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} [121]، {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [123]. {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ} [123].
فناسب أن يقول: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ} بإضافة الرب إلى ضمير المخاطب، وأن يقول: {لَجَعَلَ النَّاسَ}.
وأما الخطاب في سياق النحل فللمخاطبين عمومًا. قال تعالى:
{وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} [91]، {وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} [91]، {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا} [91]، {إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}، {وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا} [92]، {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} [92]، {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [92]، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [93]، {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [93]، {وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [94] ... إلخ.
فناسب أن يقول: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ} وليس {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ} لأن الخطاب ليس موجهًا إلى الرسول، وأن يقول: (لجعلكم) لأن الخطاب موجه إليهم.
هذا إضافة إلى أن كلمة (ربك) ترددت في هود أكثر مما ترددت في سورة النحل.
فقد وردت في سورة هود (17) سبع عشرة مرة.
ووردت في النحل (11) إحدى عشرة مرة.
وأن كلمة (الله) ترددت في النحل أكثر مما وردت في سورة هود.
فقد وردت في هود (38) ثمانيًا وثلاثين مرة.
ووردت في النحل (84) أربعًا وثمانين مرة.
فناسب كل تعبير موضعه من جهة أخرى.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 369 إلى ص 371.
(1) تفسير القرطبي 9/114.
{وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120]
أي نقص عليك كل نبأ من أنباء الرسل ما فيه تثبيت لفؤادك وطمأنينة لقلبك، فإنك ستعلم بذلك أنك لست الوحيد في عدم استجابة قومك لك، بل ذلك شأن الأمم مع رسلهم فإنهم لاقوا الكثير منهم.
وقوله: {مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} بدل من (كلا) ويحتمل أوجهًا إعرابية أخرى (1).
والإشارة بـ (هذه) يحتمل أن تكون إلى القصص وما جاء فيها من الأنباء، ويحتمل أن تكون إلى السورة أو الإشارة إليها مع نظائرها (2).
وعرّف (الحق) لأنه الحق المعلم الذي لا حق سواه.
ونكر الموعظة والذكرى لأنهما قد يكونان في غير ما ذكر مما يتعظ به الناس ويكون لهم به ذكرى.
فالموعظة والذكرى قد تتعدد، أما الحق الواحد.
جاء في (روح المعاني) أنه قيل: "الظاهر أن يقال إنما عرف الأول لأن المراد منه ما يختص بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم، وأما الموعظة والتذكير فأمر عام لم ينظر فيه لخصوصية" (3).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 371 إلى ص 372.
(1) انظر تفسير القرطبي 9/116، روح المعاني 12/167.
(2) انظر روح المعاني 12/167.
(3) روح المعاني 12/167.
{وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} [هود: 121 – 122]
أي اعملوا على حالتكم التي أنتم عليها فإنا عاملون على ما نحن عليه. فكل منا ومنكم يعمل على حالته.
وانتظروا ما سيحصل لنا ونحن ننتظر ما يحيق بكم، وسترون ونرى عاقبة كل منا ومنكم.
وقدم العمل على الانتظار لأن العمل يسبق العاقبة.
وقال هنا: {إِنَّا عَامِلُونَ}، وقال في فصلت: {إِنَّنَا عَامِلُونَ} بالفصل بين (إن) و(نا)، ذلك أنه فصل في ذكر إعراضهم وزاد فيه فقال: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} [فصلت: 5].
فلما ذكر زيادة إعراضهم وفصل فيه بقوله: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا
عَامِلُونَ}، {وَفِي آَذَانِنَا وَقْرٌ}، {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} زاد في التعبير والتوكيد، فناسب كل تعبير موضعه والله أعلم.
قد تقول: لقد قال في أكثر من موضع: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ} [الأنعام: 135، الزمر: 39]
وقال على لسان سيدنا شعيب: {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ} [هود: 93]
فقال: {إِنِّي عَامِلٌ} بالإفراد.
وقال ههنا: {إِنَّا عَامِلُونَ} بالجمع.
فلم ذلك؟
فنقول: مل ما ورد فيه: (إني عامل) فالسياق في مقام المتكلم المفرد وليس في مقام الجمع، وأما المخاطبون فهم جمع.
فلم يذكر في سياق آية الأنعام من آمن معه، فقد قال: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آَخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآَتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 133 - 135]
وكذلك ما جاء في سورة الزمر فقد قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} [الزمر: 38 - 40].
وكذلك ما ورد على لسان سيدنا شعيب فالخطاب إنما هو خطاب شعيب لقومه ولم يذكر من معه فقد قال: {وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ} [هود: 93].
أما آية هود التي ذكر فيها (إنا عاملون) فالسياق في ذكر المؤمنين مع الرسول . فقد قال: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} [هود: 112 - 113]
وقال: {وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120]
فناسب أن يقول: (إنا عاملون) بالجمع.
فناسب كل تعبير موضعه.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 372 إلى ص 374.
{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [هود: 123]
بعدما طلب منهم الانتظار قال: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وذلك لأن عاقبة الانتظار من الغيب؟
وقدم الجار و المجرور (لله) للدلالة على الحصر، فإنه لا يعلم الغيب إلا هو. ثم قال: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} فهو عالم الغيب وهو الحاكم والقادر فلا يقطع أمرًا أحد دونه.
فعملنا وعملكم مرجعه إليه، وهو وحده الذي يقطع بالأمر ويقضي فيه.
وقدم الجار والجرور (إليه) ليدل على أن ذلك إليه حصرًا لا إلى غيره.
وقال: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} على سبيل الاستغراق لا يقطع أحد غيره في شيء من ذلك مهما كان حقيرًا أو عظيمًا.
فجمع في قوله: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} العلم المطلق والقدرة المطلقة والحكم المطلق كل ذلك له حصرًا.
{فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} فالذي له الغيب والقادر على كل شيء والذي يرجع إليه الأمر كله هو من يستحق العبادة وحده فاعبده وتوكل عليه.
وقدم العبادة على التوكل؛ لأن التوكل لا ينفع من دونها فهي المطلب الأول. ونظير ذلك قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
ثم قال: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}.
أي إنا ربنا ليس غافلاً عما نعمل، فهو يراقبنا ويعلم ما نعمل غير غافلٍ عنه ولا ينتظر أن يرفع إليه الأمر ليعلم ماذا حصل.
فقد يظن ظان أن ربك يقطع بالأمر بعد أن يرفع إليه ويعلم به فقال: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} ليدفع هذا الظن، فهو يعلم ما نعمل الآن وفي المستقبل.
لقد قال أولًا: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فجاء باسمه العلم، ثم قال: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ} بإضافة الرب إلى الضمير المخاطب ليدل على أن ربه هو الله الذي له غيب السماوات والأرض وإليه يرجع الأمر كله. فهو الذي أرشدك وهداك وأمرك بعبادته والتوكيل عليه.
وفي ذلك إلماح إلى نصره في الدنيا والآخرة والله أعلم.
وجاء في (البحر المحيط) : "{وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ...}
والجملة الأولى: دلت على أن عمله محيط بجميع الكائنات كليهما وجزئيها، حاضرها وغائبها، لأنه إذا أحاط علمه بما غاب فهو بما حضر محيط، إذ علمه تعالى لا يتفاوت.
والجملة الثانية: دلت على القدرة النافذة والمشيئة.
والجملة الثالثة: دلت على الأمر بإفراد من هذه صفاته بالعبادة الجسدية والقلبية، والعبادة أولى الرتب التي يتحلى بها العبد.والجملة الرابعة: دلت على الأمر بالتوكل، وهي آخرة الرتب لأنه بنور العبادة أبصر.
إن جميع الكائنات معذوقة بالله تعالى، وأنه هو المتصرف وحده في جميعها لا يشركه في شيء منها أحد من خلقة فوكل نفسه إليه تعالى..
والجملة الخامسة: تضمنت التنبيه على المجازاة فلا يضيع طاعة مطيع ولا يهمل حال متمرد" (1).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 374 إلى ص 376.
(1) البحر المحيط 5/275.
بسم الله الرحمن الرحيم
إن هذه السورة مرتبطة بخواتيم السورة التي قبلها وهي سورة (طه) من أكثر من وجه منها:
1- أنه قال في خواتيم سورة طه:
{وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى}
وقال في أول سورة الأنبياء:
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ}
وممل قيل في الأجل المسمى المذكور في آية طه أنه يوم القيامة (1) وهو موعد الحساب.
2- قال سبحانه في خواتيم سورة طه:
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)}
أي أتتك آياتنا فأعرضت عنها.
وقال سبحانه في أول سورة الأنبياء: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } فكلتا الآيتين في المعرضين عن آيات ربهم.
3- قال في أواخر سورة طه: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}
وقال في أول سورة الأنبياء: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) }
وقال فبها أيضًا: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ (5) }
فأمره في طه أن يصبر على ما قالوه في الأنبياء.
4- وقال في أواخر طه:
{وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)}
وقال في أول الأنبياء:
{فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)}
فكلتا الآيتين في طلب آية.
جاء في (البحر المحيط): "مناسبة هذه السورة لما قبلها أنه لما ذكر: {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا} [طه: 135] قال مشركو قريش: محمد يهددنا بالمعاد والجزاء على الأعمال، وليس يصح، وإن يصح ففيه بعد فأنزل الله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} (2).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 5 إلى ص 6.
(1) انظر روح المعاني 16/280.
(2) البحر المحيط 6/295 وانظر كتابنا (التناسب بين السورة في المفتتح والخواتيم) 116.