عرض وقفات أسرار بلاغية

  • ﴿وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ﴿٧٧﴾    [هود   آية:٧٧]
{وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} [هود: 77] {سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} أي لحقته المساءة بسببهم وضاق ذرعه بهم، أي ضاق صدره بمجيئهم. والذرع يوضع موضع الطاقة والجهد، "يقال: ضقت بالأمر ذرعًا إذا لم تطقه ولم تقو عليه. وأصل الذرع بسط اليد، فكأنك تريد مددت يدي إليه فلم تنله ... ونصبه على أنه تمييز محول عن الفاعل، أي ضاق بأمرهم وحالهم ذرعه" (1). والتحويل عن الفاعل إلى التمييز إنما يكون بقصد المبالغة والشمول مثل قولنا (اشتعلت نار البيت) و(اشتعل البيت نارًا ) (۲). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 300 إلى ص 300. (1) روح المعاني 12/105 وانظر البحر المحيط 5/246، تفسير الرازي 6/378. (2) انظر كتابنا (معاني النحو) ج2 – باب التمييز. {وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ} "أي شديد، وأصله من العصب بمعنى الشد، كأنه لشدة شره عصب بعضه ببعض، وقال أبو عبيدة: سمي بذلك لأنه يعصب الناس بالشر" (1). والآية أظهرت غاية الضيق بمكانهم، فإنها ذكرت أنهم أدخلوا المساءة عليه، وهذه حالة أولى. ثم ذكر حالة بعدها أشد وهي أنه ضاق بهم ذرعًا، وهذه أشد من مجرد المساءة، فإنه قد يسيء مجيء شخص شخصًا ولكن قد لا يضيق به ذرعًا فيكون تحمله فوق طاقته. ثم إنه لم يكتم ذلك في نفسه بل صرح به وقال: {هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ}. ثم انظر كيف وصف ضيقه بأن حول الفاعل إلى تمييز بقصد المبالغة فقال: {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا} والأصل: فضاق ذرعه بهم، وكيف وصف اليوم بأنه (عصيب)، ولم يقل: (هذا أمر عصيب) أو (هذا شيء عصيب) بل جعل الشدة لليوم كله، وذلك لاشتمال الشدة على اليوم وليس على أمر فيه. ثم إن الوصف بالعصيب له دلالته، فإنه لم يقل: (هذا يوم شديد) وذلك أن الوصف بعصيب أشد؛ ذلك لأنه كأنه يعصب الإنسان بالشر، وأنه معصوب بعضه ببعض، فالشر متصل فيه. وقد بحثنا في كتابنا (التعبير القرآني) الفرق بين قوله هنا: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ}، وقوله في العنكبوت: {وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ} [العنكبوت: 33] بزيادة (أن) في آية العنكبوت. فلا نعيد القول فيه (2). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 301 إلى ص 301. (1) روح المعاني 12/105. (2) التعبير القرآني – باب الذكر والحذف 127 – 129.
  • ﴿وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ ﴿٧٨﴾    [هود   آية:٧٨]
{وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} [هود: 78] لقد قال: {وَجَاءَهُ قَوْمُهُ}، ولم يقل: (نفر من قومه) أو جماعة منهم، للدلالة على شيوع هذه الفاحشة فيهم. فالقوم كلهم جاؤوا يهرعون إليه، كما قال في موضع آخر: {وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ} فإن أهل المدينة كلهم جاؤوا إليه وليس مجموعة منهم. وقلنا: (كلهم) لأنهم أهلكوا أجمعون لم يستثن أحدًا منهم. {يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ} أي "يسرعون كأنما يدفعون دفعًا" (۱). {وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ} أي كانوا مستمرين على عمل السيئات وإن ذلك كان "ديدنهم وعادتهم أصروا على ذلك ومرنوا عليه" (2). لقد قال:{ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ}، ولم يقل: (ومن قبل عملوا السيئات) وذلك للدلالة على أن هذه عادتهم. {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} ناداهم بـ (يا قوم) تعطفًا لقلوبهم، وعرض عليهم بناته وقال: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ}، فجاء بالضمير (هن)، ولم يقل: (هؤلاء بناتي أطهر لكم) ليدل على قصر الطهر فيهن وأنه ليس وراء ذلك طهر. ودعاهم إلى تقوى الله ومراعاة حق الضيف، كل ذلك ليرشدوا ويرعوا، ثم قال متحسرًا منكرًا عليهم بما ملؤه الأسى ومستثيرًا لذوي اللب إن كان فيهم من هو كذلك {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ} "يهتدي إلى الحق ويرعوي عن القبيح" (3). فقد ترى أنه حاول دفعهم بكل ما يستطيع: 1- بمناداتهم (يا قوم) تعطفًا لقلوبهم. 2- وعرض ما هو أفضل وأطهر. ٣- ودعوتهم إلى تقوى الله وأن يخشوا عقابه. 4- وإلى مراعاة حرمة الضيف. 5- وأن لا يخجلوا ويخزوا واحدًا من قومهم فيفضحوه ويسيئوا إلى سمعة القرية. 6- ودعا ذوي اللب والرشد إن كان فيهم أحد كذلك ينصح هؤلاء الرعاع. ومن أين يأتي الرشد إذا كانوا كلهم جاؤوا مسرعين إليه. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 302 إلى ص 303. (1) الكشاف 2/108. (2) البحر المحيط 5/246. (3) تفسير البيضاوي 303.
  • ﴿قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ﴿٧٩﴾    [هود   آية:٧٩]
{قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} [هود: 79] فأجابوه أن ليس لهم في بناته أرب ولا غرض، وإنك تعلم غرضنا وما نريد، فلا تدعنا إلى ما ليس لنا فيه أرب ولا إرادة. وجيء بالمؤكدات كلها في ه هذا التعبير: 1- فقد قالوا: (لقد) فأكدوا ذلك بالقسم، فإن (لقد) قسم كما هو معلوم. ٢- وقالوا: (علمت) فجعلوا ذلك من علمه وأنه ليس من باب الظن. 3- وجاؤوا بالجملة الاسمية المنفية بـ (ما) للدلالة على ثبوت هذا الأمر و وكادته ولم يقولوا: (ليس لنا في بناتك من حق). 4- وجاؤوا بـ (من) الدالة على الاستغراق والتوكيد ليبينوا على أنه ليس لهم أي غرض في بناته وذلك على سبيل الاستغراق والشمول. 5- وأكدوا علمه بما يريدون بـ (إن) واللام فقالوا: {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} فقد أكدوا علمه أولاً بأنه ليس لهم في بناته من حق. وأكدوا علمه بما يريدون بعد ذلك. 6- ثم إن قوله: {وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ} يحتمل عدة معان: منها: أن (ما) اسم موصول فيكون المعنى: إنك تعلم الذي نريده، وحذف العائد. ومنها: أن تكون (ما) مصدرية فيكون المعنى: وإنك لتعلم إرادتنا. ويحتمل أيضًا أن تكون (ما) استفهامية فيكون المعنى: وإنك لتعلم ما الذي نريده. وهذه المعاني كلها محتملة: فهو يعلم الذي يريدونه، ويعلم إرادتهم. ويعلم أي شيء يريدون. ولو قال: (لتعلم ما نريده) لانتفى احتمال المصدرية. ولو قال (لتعلم الذي نريده) لانتفى احتمال الاستفهامية والمصدرية. ولو قال: (لتعلم ماذا نريد) لتعينت الاستفهامية وانتفى احتمال ما عداها. وجاء بهذا التعبير ليحتمل كل المعاني، وهي كلها مرادة ومطلوبة، فهو يعلم إرادتهم على العموم، ويعلم الذي يريدونه في مجيئهم هذا، ويعلم ما الذي يريدونه. قد تقول: ولكن لا يتبين وجه الاختلاف في المعنى من كل تعبير، فهو في النتيجة يدل على أمر واحد وهو أنه يعلم غرضهم. فنقول: نعم إنه يعلم غرضهم ولكن لكل تعبير معنى خاص به. فقولك: إنك تعلم إرادتنا، معناه أنك تعلم رغبتنا في أي شيء تكون، فهو يعلم إرادتهم مطلقًا سواء في هؤلاء أم في غيرهم، وسواء كان هناك ما يحقق الرغبة أم لا. وقولك: إنك تعلم الذي أريد، يدل على أمر معين يطلبه. فـ (الذي) اسم موصول معرفة، والمعرفة ما دل على شيء معين. وأما قولك: إنك تعلم ماذا أريد، فمعناه أنك تعلم أي شيء أريده على وجه العموم. فالمصدر يدل على العلم بالحدث، والاسم الموصول يدل على شيء معين، والاستفهام يدل على عموم ما يريد، فهو يدل على علمه بجواب الاستفهام. ومن الملاحظ أنه قدم ههنا عرض بناته على قومه قبل ذكر الضيف فقال: {قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} فذكر البنات ثم ذكر الضيف بعد ذلك. وقدم في الحجر ذكر الضيف قبل عرض البنات قائلًا: {قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الحجر: 68 - 71]. ذلك أنه في هود لم يجر حديث مع الضيف ولا حوار قبل مجيء القوم، وإنما كان الكلام مع أهل المدينة في غيبة الضيف، فلم يجر مع الضيف حديث بعد، فحاول الدفع ببناته. وأما في الحجر فإنه كان له حديث مع الضيف قبل مجيء قومه، فقد قال لضيفه: {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} [الحجر: 62 - 64] فكان مع ضيفه حديث ومحاورة، فلما جاء أهل المدينة أشار إلى ضيفه: {قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ} [الحجر: 68 - 69]. فلما كان الحديث مع الضيف ناسب تقديمهم والإشارة إليهم في الحجر. ولما لم يكن مع ضيفه كلام في هود بل لا يزال الحديث مع قومه والضيف غائبون لم يشر إليهم لأنهم غير حاضرين، فقدم عرض بناته أولًا. فناسب كل موضعه . ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 303 إلى ص 306.
  • ﴿قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ﴿٨٠﴾    [هود   آية:٨٠]
{قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} [هود: 80] أي لو أن لي طاقة فأمنعكم "يقال: ما لي به قوة وما لي به طاقة. ونحوه {لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا} وما لي به يدان؛ لأنه في معنى: لا أضطلع به ولا أستقل به. والمعنى: لو قويت عليكم بنفسي أو أويت إلى قوي أستند إليه وأتمنع به فيحميني منكم. فشبه القوي العزيز بالركن من الجبل في شدته ومنعته. ولذلك قالت الملائكة وقد وجدت عليه: إن ركنك لشديد. وقال النبي  "رحم الله أخي لوطًا كان يأوي إلى ركن شديد" (۱). قال ذلك سيدنا لوط على سبيل التفجع والتمني. فهو تمنى أن يكون له قوة في نفسه أو يكون له من يأوي إليه فيستعين به على دفعهم. جاء في (تفسير الرازي): "واعلم أن قوله: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} لا بد من حمل كل واحد من هذين الكلاميين على فائدة مستقلة، وفيه وجوه: الأول: المراد بقوله: {لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً} كونه بنفسه قادرًا على الدفع، وكونه متمكنًا إما بنفسه وإما بمعاونة غيره على قهرهم وتأديبهم. الثاني: والمراد بقوله: {أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ} هو أن لا يكون له قدرة على الدفع لكنه يقدر على التحصن بحصن ليأمن من شرهم بواسطته. الثالث: أنه لما شاهد سفاهة القوم وإقدامهم على سوء الأدب تمنى حصول قوة قوية على الدفع، ثم استدرك على نفسه وقال: بل الأولى أن آوي إلى ركن شديد وهو الاعتصام بعناية الله تعالى" (۲). ويحتمل أن تكون (لو) شرطية وفيها معنى التمني حذف جوابها ليذهب الذهن كل مذهب فيما سيفعله لردعهم، نظير قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ} [الأنفال: 50] أي لرأيت شيئًا مهولًا لا يقدر على وصفه. جاء في (الكشاف): "جواب (لو) محذوف كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ} يعني لو أن لي بكم قوة لفعلت بكم وصنعت" (3). وجاء في (تفسير الرازي): "وحذف الجواب ههنا لأن الوهم يذهب إلى أنواع كثيرة من المنع والدفع" (4). وجاء بـ (لو) ولم يأت بـ (ليت) فيقول: (ليت لي بكم قوة) ليشمل معنيي التمني والشرط إضافة إلى حذف الجواب للعموم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 306 إلى ص 308. (1) الكشاف 2/108. (2) تفسير الرازي 6/380. (3) الكشاف 2/108. (4) تفسير الرازي 6/380.
  • ﴿قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ﴿٨١﴾    [هود   آية:٨١]
{قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} [هود: 81] نادوه باسمه ليعلموه أنهم يعرفونه فيستمع إليهم. ثم أمنوه بقولهم: {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} وأضاف الرب على ضمير المخاطب ليدل على أن ربه القيم على أمره والمتولي أمره هو الذي أرسلهم إليه فيكون أدعى إلى تطمينه. والرسول إنما يرسل ليبلغ رسالة فطمأنوه بقولهم {لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ}. وجاء بـ (لن) المؤكدة الدالة على الاستقبال ليدل على أنهم لا يستطيعون أن يؤذوه في المستقبل إضافة إلى الحال فليطمئن. وقال: {لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ} ولم يقل: (لن يؤذوك) ذلك أنه نفى الوصول فانتفى الأذى من باب أولى. فإنه لو قال: (لن يؤذوك) لاحتمل الوصول إليه من غير أذى فيناله منهم إزعاج وانقباض نفس. ولكن نفى ما هو أبعد من ذلك، فنفى الوصول إليه فانتفى الأذى. ثم أبلغوه رسالة ربه بقولهم: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ} والقطع من الليل: الطائفة منه، أو بقطعة منه (1) أي لا تتأخر إلى الصبح. {إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ} الهاء ضمير الشأن وهي تفيد تعظيم ما سيصيبهم وتهويله. و(مصيبها) خبر مقدم وليس مبتدأ، ذلك لأن الإضافة غير محضة. فإن اسم الفاعل ههنا للاستقبال فهو نكرة. و(ما أصابهم) معرفة فهو مبتدأ مؤخر. وقدم الخبر المتصل بضمير المرأة لأن الكلام عليها والاهتمام بذكر عاقبتها. وقال: {مَا أَصَابَهُمْ} فجاء بالاسم الموصول (ما) الدال على العموم والإبهام للدلالة على عظم ما سيصيبهم. وقال: {مُصِيبُهَا} ولم يقل: (يصيبها) للدلالة على ثبات ذلك وتحققه. وقال: {أَصَابَهُمْ} بالفعل الماضي ولم يقل: (يصيبهم) وذلك للدلالة على تحقق الوقوع. فانظر كيف أكد بإن وجاء بضمير الشأن، وعدل عن الفعل إلى الاسم في (مصيبها)، وقدم الخبر، وجاء بـ (ما) الدالة على الإبهام، وعدل عن الفعل المضارع إلى الماضي في (أصابهم) للدلالة على عظم ما سيحل بهم وتحققه. جاء في (روح المعاني): "وضمير (إنّه) للشأن، و(ما أصابهم) مبتدأ، و(مصيبها) خبره، والجملة خبر إن ... والمراد من (ما) العذاب، ومن (أصابهم) يصيبهم، والتعبير به دونه للإيذان بتحقيق الوقوع. وفي الإبهام، واسمية الجملة، والتأكيد، ما لا يخفى" (2). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 308 إلى ص 310. (1) انظر البحر المحيط 5/248. (2) روح المعاني 12/112. {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} أي موعد هلاكهم (1). وقدم الموعد لأنه هو المقصود والمطلوب لسيدنا لوط. وقوله: {أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ} يشعر باستطالة سيدنا لوط للوقت وكأنه يريد أسرع من ذلك. وهذا بين مقدار مساءته وضيق ذرعه ومقدار برمه بقومه. "ويروى أن لوطًا عليه السلام قال: أريد أسرع من ذلك، فقالت له الملائكة: أليس الصبح بقريب" (2). وفي المجيء بالاستفهام التقريري وزيادة الباء في خبر (ليس) دون القول (إن الصبح لقريب) أو نحو ذاك ما لا يخفى. وعلى أية حال هو يدل كما ذكرنا على مقدار برمه وضيق ذرعه. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 310 إلى ص 310. (1) البحر المحيط 5/249. (2) البحر المحيط 5/249.
  • ﴿فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ ﴿٨٢﴾    [هود   آية:٨٢]
{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ} [هود: 82] جاء بالفاء للدلالة على القرب ذلك أن موعدهم الصبح وهو قريب من وقت إخبارهم له. و(الأمر) يحتمل واحد الأوامر أي الأمر بالعذاب، بمعنى أمرناهم بذاك. كما يحتمل واحد الأمور بمعنى الشأن كما في قوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} [لقمان: 17]، وقوله: {لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ} [التوبة: 48]. جاء في (روح المعاني): "{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا} أي عذابنا، أو الأمر به. فالأمر على الأول: واحد الأمور، وعلى الثاني: واحد الأوامر" (1). {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} قيل في (السجيل) إنها كلمة معربة من سنكل ومعناها حجر وطين مختلط (2)، وقيل: ماء وطين (3). قيل في (السجّيل) مأخوذ من (السجل) بكسر السين وسكون الجيم بمعنى الصلب الشديد (4). و(السجيل) بفتح السين: الصلب الشديد، والسجيل: حجارة كالمدر (5). وقال أبو عبيدة هو: "الشديد من الحجارة الصلب" (6). و(منضود) متتابع أرسل بعضه إثر بعض (7) كقطار الأمطار (8). وذكر هنا وفي الحجر أن الحجارة من سجيل ولم يقل كما قال في الذاريات: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} [الذاريات: 33] وذلك لأنه ذكر من معاصيهم ومواقفهم في هود والحجر ما لم يذكره في الذاريات، فجاء بما يدل على شدة هذه الحجارة وصلابتها في السورتين دون الذاريات. فكان كل تعبير مناسبًا لموضعه. وذكر في (هود) أنه منضود أي متتابع، ولم يذكر ذلك في الحجر، وذلك لأنه قال في هود: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} [هود: 83] ولم يقل مثل ذلك في الحجر. فلما زاد في وصف الحجارة في هود فقال: {مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ ...} زاد في الوصف فقال: (منضود). ثم إنه لما قال إن مثلها يمكن أن يكون للظالمين على وجه العموم وليس ذلك مختصًا بقوم لوط جاء بـ (منضود) للدلالة على الكثرة. والمنضود هو الذي نضد بعضه فوق بعض، أي تتابع، فناسب ذكر ذلك في هود. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 310 إلى ص 312. (1) روح المعاني 12/112. (2) مفردات الراغب (السجل)، وانظر الكشاف 2/109. (3) البحر المحيط 5/249. (4) انظر القاموس المحيط (السجل). (5) لسان العرب (سجل). (6) البحر المحيط 5/249، وانظر روح المعاني 12/113. (7) انظر الكشاف 2/109. (8) روح المعاني 12/113.
  • ﴿مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ﴿٨٣﴾    [هود   آية:٨٣]
{مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} مسومة، أي عليها سيما، وهي العلامة يعلم من شاهدها أنها ليست من حجارة الأرض (1). {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} "أي الحجارة الموصوفة بما ذكر. (من الظالمين) من كل ظالم. (ببعيد) فإنهم بسبب ظلمهم مستحقون لها. وفيه وعيد لأهل الظلم كافة" (۲). وقال: {وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ} ولم يقل: (وليست من الظالمين بعيدًا) أو (ببعيد) فجاء بالجملة الاسمية المنفية بـ (ما) وزاد الباء في الخبر لتوكيد عدم بعدها عنهم. وقال: (ببعيد) ولم يقل: (ببعيدة) لأنه لا يريد البعد في المكان بل أراد البعد في الوقوع. وقدم الجار والمجرور (من الظالمين) على متعلقه (بعيد) وذلك لأن الكلام على الظالمين وهم مدار الحديث، والعقوبة إنما كانت لهم. وقد تقول: أليس من الأولى لو قال: (وليست هي من الظالمين ببعيد) فيؤكد الضمير المستتر في (ليست) فيفيد ذلك زيادة في التوكيد؟ فنقول: لا، وذلك لعدة أوجه: منها: أن ذلك لا يخرجها عن كونها جملة فعلية، والاسمية أثبت من الفعلية وأكد. ومنها: أن النفي بـ (ما) أقوى وأكد من النفي بـ ( ليس) (3). والأمر الآخر: أنه لو قال: (وليست هي من الظالمين ببعيد) لاحتمل أنه يفيد اختصاص عدم البعد بهذه العقوبة دون غيرها، أما غيرها من العقوبات فقد يكون بعيدًا منهم. وهذا المعنى غير مراد ولا يصح. أما في الآية فإنه ذكر عدم بعد أمثال هذه العقوبة من الظالمين ولم يخصها بالبعد بل قد يعاقبهم بغيرها. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 312 إلى ص 313. (1) البحر المحيط 5/250، وانظر روح المعاني 12/113. (2) روح المعاني 12/114. (3) انظر معاني النحو 4/568.
  • ﴿وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ ﴿٨٤﴾    [هود   آية:٨٤]
  • ﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴿٨٥﴾    [هود   آية:٨٥]
  • ﴿بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ﴿٨٦﴾    [هود   آية:٨٦]
قصة مدين وشعيب قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} [هود: 84 – 95]. وردت هذه القصة في الأعراف وهود، ووردت لها إشارة قصيرة في العنكبوت مقدارها آيتان. قال تعالى: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [العنكبوت: 36 - 37]. إن ما ورد في هاتين الآيتين إنما هو تلخيص لما مر من قصة شعيب مع مدين. فقد ذكر دعوته لهم ملخصة بقوله: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [العنكبوت: 36]. فذكر ما يتعلق بالعقيدة وهو قوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآَخِرَ} وذكر سلوكهم في الأرض وهو قوله: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} ثم ذكر موقفهم وعاقبتهم بـ أوجز تعبير وذلك قوله: {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِين}. لقد ذكرنا ما ورد من هذه القصة في سورتي الأعراف وهود والتشابه والاختلاف فيها في كتابنا (من أسرار البيان القرآني) فلا نعيد القول فيها. غير أننا سنذكر إشارات بيانية قليلة في هذه السورة مما لم نذكره في ذلك الموضع. قال تعالى: {وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} [هود: 84 - 86] لقد قال أولاً: {وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ}، فنهاهم عن النقص فيهما، ثم قال بعد ذلك: {أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}، فأمرهم بالإيفاء. قيل: ومن المعلوم أن عدم النقص يعني الإيفاء، فكان الأمر بالإيفاء كالتكرار لما سبق. جاء في (الكشاف): "فإن قلت: النهي عن النقصان أمر بالإيفاء فما فائدة قوله: (أوفوا)؟ قلت: نهوا أولاً عن القبيح الذي كانوا عليه من نقص المكيال والميزان؛ لأن في التصريح بالقبيح نعيًا على المنهي وتعبيرًا له، ثم ورد الأمر بالإيفاء الذي هو حسن في العقول مصرحًا بلفظه لزيادة ترغيب فيه وبعث عليه" (1). ويمكن أن يقال: إنه بدأ بالنهي عن النقص في المكيال والميزان لأن ذلك أسبق من الإيفاء، فإنه لا بد أن يكون حجم المكيال وما يتعلق بالميزان سالمًا من النقص حتى يكون الإيفاء بالقسط، فإن لم يكونا سليمين فلا يكون إيفاء بالقسط، فنهى عن نقص المكيال والميزان أولاً ثم أمر بالإيفاء بالقسط بعدهما فلا يكون تكرارًا، وإنما قدم السبب على المسبب. وقد يكون ذلك لتعظيم هذا الأمر فيكون ذلك كالتوكيد وذلك نحو قوله: (أقول له ارحل لا تقيمن عندنا) فقوله: (لا تقيمن عندنا) بمعنى ارحل. ونحو قولك: (امش لا تقف) و(استيقظ لا تنم) وذلك غير عزيز في اللغة. وهو من الحسن بمكان إذا اقتضاه الحال. وأما تقييده بالقسط وهو العدل فلإعطاء كل ذي نصيب نصيبه من دون بخس، واختيار (القسط) ههنا أنسب من العدل؛ وذلك لأن من معاني القسط: الحصة والنصيب. والغرض من الكيل والوزن أن يأخذ الشخص نصيبه، فناسب ذلك ذكر القسط. هذا إضافة إلى أنه لم يذكر مع الوزن في القرآن غير القسط، وهو أنسب. {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} أي إنكم في سعة من العيش ورخص في الأسعار فلماذا تلجأون إلى نقص المكيال والميزان، فاستديموا هذا الخير بإعطاء كل ذي حق حقه حتى لا يزول عنكم ما أنتم فيه من الخير. جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ}: "يريد بثروة واسعة تغنيكم عن التطفيف أو أراكم بنعمة من الله حقها أن تقابل بغير ما تفعلون أو أراكم بخير فلا تزيلوه عنكم بما أنتم عليه" (2). وقال: {إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} ولم يقل: (وإنكم بخير) فجعل خيرهم ظاهرًا للعيان يبدو للرائي وليس أمرًا مستورًا كمن يخفي ما عنده من الخير. {وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ}. وصف اليوم بالإحاطة ولم يقل (إني أخاف عليكم عذابًا محيطًا) فجعل اليوم محيطًا لا ينفك عنهم ساعة، وذلك أبلغ وأعم. وقد قال: (إني أخاف عليكم عذابًا محيطًا) لجعل العذاب محيطًا بهم وقد يكون ذلك في ساعة من ساعات اليوم أو وقت من أوقاته، فجعل العذاب شاملاً طوال اليوم. جاء في (الكشاف): "وأصله من إحاطة العدو. فإن قلت: وصف العذاب بالإحاطة أبلغ أم وصف اليوم بها؟ قلت: بل وصف اليوم بها؛ لأن اليوم زمان يشتمل على الحوادث، فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمعذب ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه" (3). {وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} جاء ذلك بعد قوله: {أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ}. وهو أعم من إيفاء المكيال والميزان، فإن البخس قد يكون في غير ما يكال وما يوزن من نحو الاستئجار والتأجير وبيع أو شراء ما لا يكال أو يوزن كالبساتين والدور وعموم الأملاك وعموم ما يشترى أو يباع، وتقويم البضائع وغيرها من الأمور. قال تعالى في يوسف عليه السلام: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] وقال في كتابة الدين: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا} [البقرة: 282]. وقال في توفية الأعمال: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} [هود: 15]. جاء في (روح المعاني): "{وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} يحتمل أن يكون تعميمًا بعد تخصيص، فإنه يشتمل الجودة والرداءة، وغير المكيل والموزون أيضًا. فهو تذييل وتتميم لما تقدم" (4). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 315 إلى ص 320. (1) الكشاف 2/109، وانظر البحر المحيط 5/252. (2) الكشاف 2/109، وانظر البحر المحيط 5/256، روح المعاني 12/114. (3) الكشاف 2/109، وانظر البحر المحيط 5/252. (4) روح المعاني 12/116. {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} وهو أعم من البخس في الحقوق، فإنه يعم جميع مصالح العباد وعموم العدوان على خلق الله والإفساد في الأرض. جاء في (الكشاف): "والعثي في الأرض نحو السرقة والغارة وقطع السبيل" (1). وجاء في (روح المعاني) أن "العثي يعم تنقيص الحقوق وغيره؛ لأنه عبارة عن مطلق الفساد" (2). وجاء في (تفسير الرازي): {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} معناه ولا تسعوا في إفساد مصالح الغير، فإن ذلك في الحقيقة سعي منكم في إفساد مصالح أنفسكم. والثاني: أن يكون المراد من قوله: {وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} مصالح دنياكم وآخرتكم. والثالث: ولا تعثوا في الأرض مفسدين مصالح الأديان" (3). فتدرج من الخصوص إلى العموم، ومن السيء إلى الأسوأ، ومن الكبيرة إلى ما هو أكبر. فبدأ بالنقص في المكيال والميزان، ثم تدرج إلى البخس وهو أعم لأنه يكون في المكيال والميزان وغيرهما، ثم تدرج إلى ما هو أعم وأعظم وهو العثي في الأرض إفسادًا. فبدأ بنقص الحقوق وانتهى بالعدوان والإفساد. {بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } أي ما يبقيه الله لكم من الرزق الحلال خير لكم إن كنتم مؤمنين. وإضافة البقية إلى الله من حيث إنها رزقه (4). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 320 إلى ص 321. (1) الكشاف 2/110. (2) روح المعاني 12/116. (3) تفسير الرازي 6/386. (4) انظر الكشاف 2/110، البحر المحيط 5/252، تفسير الرازي 6/386.
  • ﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ﴿٨٧﴾    [هود   آية:٨٧]
{قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} [هود: 87] أنكروا عليه أمرين بمقابل دعوته لهم إلى أمرين. فقد قال لهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} فقالوا له: {أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا} وقال لهم: {وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ}، {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} فقالوا له: {أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} أي أصلاتك تأمرك أن نترك فعل ما نشاء في أموالنا؟! وذكروا له صفتين فيه: الحليم الرشيد. فدعاهم إلى أمرين، وردوا عليه بأمرين، ووصفوه بصفتين. وقولهم: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ}. الظاهر أي إنك معروف بالحلم والرشد فكيف تقول ذاك؟! وتعريف الوصفين للدلالة على أنه معروف بهاتين الخلتين، أي إنك المعروف بهاتين الخصلتين، ذكروا ذلك تهكما أو حقيقة. وجاء بضمير الفصل والتوكيد بإن واللام وتعريف الوصفين ليدل على قصر الحلم والرشد عليه دون غيره استهزاء، فإنه لم يقل بمقالته أحد من قومه غيره. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 321 إلى ص 322.
  • ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ﴿٨٨﴾    [هود   آية:٨٨]
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: 88] قوله: {يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} مرَّ بيان ذلك في قصة نوح. {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا}. أي رزقًا واسعًا حلالًا ولا أبخس حقًا. ولست فقيرًا حتى تقولوا إنه يبتغي المال والسعة في المكيال والميزان. وقيل: هو ما رزقه من النبوة والحكمة (1). ولا مانع أن يكون ذلك جميعًا في النبوة واليسر في المال. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 322 إلى ص 322. (1) انظر الكشاف 2/111. {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} "يقال: (خالفني فلان إلى كذا) إذا قصده وأنت مول عنه، (وخالفني عنه) إذا ولى عنه وأنت قاصده ويلقاك الرجل صادرًا عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقول: (خالفني إلى الماء) يريد أنه قد ذهب إليه واردًا وأنا ذاهب عنه صادرًا. ومنه قوله تعالى: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتكم عنها لأستبد بها دونكم" (1). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 323 إلى ص 323. (1) الكشاف 2/111، وانظر البحر المحيط 5/254. {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} أي مدة استطاعتي ذلك فلا أقصر في ذلك ما دمت متمكنًا. ونفى وأثبت بـ (أن) و(إلا) للدلالة على قصر إرادة شيء معه، وإنما قال: فإنه لم يقل: (وأنا أريد الإصلاح) فلا ينفي ذلك إرادة شيء معه، وإنما قال: { إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ } فقصر إرادته على ذلك وليس ثمة شيء أخر. ونفى بـ (إن) ولم ينف بـ (ما)؛ لأن (إن) أقوى من (ما) في النفي وأكد (2). {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} قدم الجار و المجرور في الموضعين للدلالة على الحصر، فإنه لا يتوكل إلا عليه حصرًا، ولا ينيب إلا إليه حصرًا. فلا يتوكل على غيره ولا ينيب إلى أحد سواه. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 323 إلى ص 323.
إظهار النتائج من 10691 إلى 10700 من إجمالي 12316 نتيجة.