عرض وقفات أسرار بلاغية

  • ﴿وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ﴿٤٥﴾    [هود   آية:٤٥]
{وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 45 - 45]. 1- قال في أية سابقة: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا} [هود: 42] فاستعمل فعل النداء وحده (نادى) ولم يستعمل معه فعل القول، فلم يقل: (ونادى نوح ابنه فقال يا بني). وقال ههنا: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} فاستعمل فعل القول (فقال) إضافة إلى الفعل (نادى) وذلك أن هذا الموقف أهم من الأول، فإنه بعد غرق ابنه حين أدركته عاطفة الآباء وأدركه الحزن لغرقه. وقد ذكرنا الفرق بين ذكر ما فيه معنى القول من الأفعال وحده نحو نادى ووصى وسأل، وما ذكر معه فعل القول نحو (نادى فقال) و(سأل فقال) ونحوها في كتابنا (الجملة العربية تأليفها وأقسامها) وبينا أن ما ذكر فيه القول مع ما فيه معناه أكد وأهم، فلا نعيد القول فيه (1). لقد قال: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ} والفاء هذه للترتيب الذكري وهي تفيد التفصيل بعد الإجمال، وذلك أن تذكر المعنى مجملًا أو لًا ثم فصله بقوله: {فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً} [النساء: 153] فقد ذكر السؤال مجملًا أولًا ثم فصله بقوله: {فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً}، وقوله: {وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ} [الأعراف: 4] فذكر الإهلاك على العموم وفصله فيما بعد. ونحوه قوله: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} فإن قوله: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} تفصيل للنداء" (2). فكان الاهتمام في التعبير في الآية من أكثر من جهة: منها أنه جمع لفظ القول مع ما فيه معنى القول وهو (نادى) (فقال) ومنها أنه فصل بعد الإجمال، والتفصيل بعد الإجمال يفيد المبالغة والاهتمام (3). 2- لقد قال: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ} فذكر لفظ الرب ولم يذكر غيره من الأسماء الحسنى، فلم يقل مثلًا: (ونادى الله) أو (نادى الحي القيوم) أو غير ذلك من أسمائه الحسنى، ذلك أنه لم يستعمل فعل المناداة في القرآن الكريم إلا مع الرب دون بقية أسمائه الحسنى، سواء كان النداء من العبد لله أو من الله للعبد وذلك نحو قوله: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3]، وقوله: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [الأنبياء: 83]، وقوله: {وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ} [الأنبياء: 89]. وكذلك إذا كانت المناداة من الله فإنه يسند الفعل إلى لفظ الرب فقط، وذلك نحو قوله: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الشعراء: 10] وقوله:{ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ} [الأعراف: 22] وقوله: {هَلْ أتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى} [النازعات: 15 - 16]. وهو المناسب فإن الإنسان إذا احتاج شيئًا طبله من ربه وهو مربيه والقائم على أمره. ونحو ذلك الدعاء. فإنه لم يرد في القرآن إلا مع لفظ الرب وذلك نحو قوله: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} [آل عمران: 147]، وقوله: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} [طه: 114]، وقوله: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ} [الشعراء: 83]. ولم يرد الدعاء بغير لفظ الرب إلا في موطن واحد وهو قوله {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32]. وهو الأنسب، فلا يناسب أن يقال: (ربنا إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء) لأن الرب هو المربي والمعلم والهادي، فالمناسب إذا جاء بلفظ الرب أن يقال: (إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا إليه واشرح صدورنا له) فلما كان الدعاء بطلب العذاب لم يصح أن يطلب ذلك من ربهم الذي هو متولي أمرهم والقيم عليهم. ولم يرد الدعاء بلفظ (اللهم) وحده في غير هذا الموطن. قد تقول: ولكنه قال: {قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ} [المائدة: 114]. فنقول: إنه ذكر الرب مع (اللهم) فقال: {اللَّهُمَّ رَبَّنَا}. وقد تقول: لقد قال في أصحاب الجنة: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} [يونس: 10]. فنقول: ليس في هذا القول دعاء شيء ولا طلب حاجة. 3- قال: {فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} بحذف حرف النداء وذلك ليصل إلى مقصودة بأقصر سبيل ولئلا يضيع الوقت وابنه غارق تحت الماء، إذ لعله يجد سبيلًا على إنقاذه في أقصر وقت. والقرآن يحذف حرف النداء في نداء كلمة (رب) في الأكثر فيقول مثلًا: {رَبِّ قَدْ آَتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ} [يوسف: 101]، {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران: 38]. ولم يذكر حرف النداء في نداء الرب على كثرة ما ورد إلا في موطنين وهما قوله: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30]، وقوله: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ} [الزخرف: 88] وذلك أن الرسول ضاق صدره بقومه وكفرهم كما أخبر عنه سبحانه بقوله: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر: 97] فمد صوته بنداء ربه لعله يخفف عما يجد في نفسه من الضيق والبرم. ومد الصوت قد يخفف عما في النفس، والفضفضة في الكلام تخفف، وحبس الكلام قد يقتل صاحبة فقال: (يا رب) فأطال شيئًا في الكلام لعله يروّح عما يجد في نفسه. هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى أن ذكر حرف النداء هو المناسب للسياق في الموطنين. ففي أية الفرقان ناسب ذكر (يا) سياق ما ورد من عذاب أهل النار ومدهم الصوت بالندم وذلك قوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} [الفرقان: 27 - 28] فناسب مدهم الصوت بالندم في الآخرة مد صوت الرسول بنداء ربه لما فعلوا به في الدنيا من ضيق وأذى. فالرسول قال في الدنيا: {يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا}. وهم يقولون في الأخرة: {يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا}. بذكر (يا) في الموطنين. وكذا السياق في أية الزخرف، فإن مد صوت الرسول بالنداء مناسب لمناداة أهل النار مالكًا ليقضي عليهم ربه كما أخبر عنهم سبحانه قائلًا: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} [الزخرف: 77]. وهذا مناسب لإيذائهم رسولهم في الدنيا، فإنه مد صوته مناديًا ربه قائلًا: {يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ} [الزخرف: 88]. فقال له ربه: {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 89]. فالرسول نادى ربه في الدنيا قائلًا: يا رب إن هؤلاء لا يؤمنون، وهم في الأخرة ينادون مالكًا قائلين: يا مالك ليقض علينا ربك. فما أجمل التناسب في التعبير وأجله! 4- وقال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} مشيرًا إلى ما وعده ربه من نجاة أهله ولم يصرح بذلك تأدبًا مع ربه، فإنه لم يقل: (لقد وعدتني بنجاة أهلي وهذا ابني قد غرق، فكيف ذاك؟) وقال: {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} ولم يقل: (وما وعدتني به الحق) وإنما أخرج وعده مخرج العموم، فكل ما يعد به ربه هو الحق فدخل فيه ما وعده. جاء في (روح المعاني): "{وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} أي وإن وعد ذلك أو كل وعد تعده حق لا يتطرق إليه خلف، فيدخل فيه الوعد المعهود دخولًا أوليًا" (4). وقال: {وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} ولم يقل: (وإن وعدك حق) بل جعل وعده هو الحق حصرًا وهو سيقع حتمًا لا يمكن أن يتخلف أو يتغير. جاء في (الكشاف) : "{وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} أي وإن كل وعد تعده فهو الحق الثابت الذي لا شك في إنجازه والوفاء به، وقد وعدتني أن تنجي أعلي فما بال ولدي؟" (5). {وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} يجوز أن يكون ذلك من الحكم وهو القضاء، ويجوز أن يكون من الحكمة. فيجمع التعبير عدة معان: (أقضى القضاة) و(أحكم القضاة) و(أقضى الحكماء) و(أكثرهم حكمة) (6) فجمع التعبير عدة معان كلها مرادة. جاء في (الكشاف): "{وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} أي أعلم الحكام وأعدلهم؛ لأنه لا فضل لحكام على غيره إلا بالعلم والعدل ... ويجوز أن يكون من الحكمة على أن يبني من الحكمة حاكم بمعنى النسبة، كما قيل دارع من الدرع" (7). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 174 إلى ص 180. (1) انظر كتابنا (الجملة العربية تأليفها وأقسامها) 257 وما بعدها. (2) انظر كتابنا (معاني النحو) 3/277 (العطف بالفاء). (3) انظر كتابنا (معاني النحو) 3/378، وانظر حاشية الصبان 2/195. (4) روح المعاني 12/68. (5) الكشاف 2/100. (6) انظر كتابنا (التعبير القرآني) – تفسير سور التين. (7) الكشاف 2/100.
  • ﴿قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ﴿٤٦﴾    [هود   آية:٤٦]
{قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [هود: 46] قال له ربه إنه ليس من أهلك؛ لأن الكفر يقطع النسب، وبين له علة ذلك قائلًا: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} فأخبر عن ابنه بالمصدر وذلك للمبالغة، فإنه إذا كان الشخص مكثرًا من الوصف مبالغًا فيه قد يخبر عنه بالمصدر وقد يوصف بالمصدر فيقال مثلًا: هو رجل صوم أو زَوْر ونحوه. ولا يقال ذلك لمن لم يكثر. والمعنى أن ابنك يا نوح قد تحول إلى كتلة عمل غير صالحة ليس فيها من عنصر الذات شيء جاء في (الكشاف): "وجعلت ذاته عملًا غير صالح مبالغة في ذمه كقولها: (فإنما هي إقبال وإدبار)" (1). وجاء في (تفسير الرازي): "إن الرجل إذا كثر عمله وإحسانه يقال له: إنه علم وكرم وجود. فكذا ههنا لما كثر إقدام ابن نوح على الأعمال الباطلة حكم عليه بأنه في نفسه عمل باطل" (2). وقال: {فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} فحذف ياء المتكلم في الرسم وأشار إليها بالكسرة. وذلك أنه كما أشار إلى طلب في نجاة ابنه ولم يصرح به أشار به بالكسرة إلى ياء المتكلم ولم ترسم خطًا. في تقول: ولكنه قال في سورة الكهف في موسى والرجل الصالح: {قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا} [الكهف: 70] فقال أولًا: إن السؤالين مختلفان في المعنى، فالسؤال الذي خوطب به نوح معناه الطلب، أي لا تطلب ولا تلتمس مني ما ليس لك به علم. وأما السؤال الذي خوطب به موسى فمعناه الاستفهام والاستفسار، أي لا تستفهم ولا تستفسر عن شيء حتي أبينه لك. ولا شك أن الاستفهام والسؤال يحتاج إلى إيضاح وشرح أكثر مما يحتاجه طلب الحاجة أو طلب شيء من الأشياء. فطالب الحاجة إما أن يجاب بالإيجاب أو الرفض. وأما المستفهم فلا بد أن يبين له الأمر حتى يعيه. ثم إن السؤال الذي خوطب به نوح إنما هو إشارة إلى طلب معين وهو نجاة ابنه. وأما الذي خوطب به موسى فإنه غير معين، ومن الراجع أن تتعدد الأسئلة بحسب الحوادث التي سيوجهها. فلما كان السؤال في قصة نوح لأمر واحد حذف الياء لقلة الأسئلة. ولما كان السؤال في قصة موسى غير محدد ويحتمل التعدد ذكر الياء لأنه سيواجه المسؤول أكثر من مرة. فاختصر في السؤال الواحد بحذف الياء واكتفى بالكسرة. وأعطى اللفظ كله في احتمال التعدد. وقد قيل إن الياء كسرتان فاكتفى بكسرة واحدة في الطلب الواحد. وجاء بما هو أطول وأكثر في احتمال التعدد. فناسب كل تعبير موضعه. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 180 إلى ص 182. (1) الكشاف 2/101. (2) تفسير الرازي 6/357، وانظر تفسير البيضاوي 297.
  • ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ ﴿٤٧﴾    [هود   آية:٤٧]
{قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47] ذكرنا في كتابنا (على طريق التفسير البياني) في تفسير سورة الفلق متى يستعمل القرآن (إني أعوذ) بتوكيد الاستعادة، ومتى يقول: (أعوذ) من غير توكيد. ومما ذكرنا هناك هذه الآية فلا نعيد القول (1). لقد قال: {إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} ولم يقل (إني أعوذ بك من ذلك) لئلا يفهم أن الاستعادة من ذلك السؤال الذي سأله نوح لربه حصرًا، وإنما قال ما قال ليشمل كل سؤال في المستقبل مما ليس له به علم. وقال: {أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ} ولم يقل لربه بعدما نهاه (سأفعل) ذلك لأنه أراد أن يلتجئ إلى ربه ويحترز به ليقيه ويحفظه من نحو هذا السؤال. وهذا إعلان لضعفه وعدم الاعتداد بقراره من غير إعانة الله له. وهو غاية الالتجاء إلى الله سبحانه. جاء في (روح المعاني): "ولم يقل أعوذ بك منه أو من ذلك مبالغة في التوبة وإظهارًا للرغبة والنشاط فيها وتبركًا بذكر ما لقنه الله تعالى. وهو أبلغ من أن يقول: (أتوب إليك أن أسالك) لما فيه من الدلالة على كون ذلك أمرًا هائلًا محذورًا لا محيص منع إلا بالعوذ بالله تعالى وأن قدرته عليه السلام قاصرة من النجاة من المكاره إلا بذلك" (2). وقد تقول: هل يدل قوله: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أنه وقع في معصية؟ والجواب: لا يدل ذلك على ما ذكرت، فإن طلب المغفرة لا يدل على وقع صاحبها في المعصية حتمًا بل قد يسأل المسلم المغفرة والتوبة وإن لم يكن قد أذنب. فقد سأل الأنبياء لأنفسهم المغفرة، فقد قال سيدنا إبراهيم: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41]. وقال نوح: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا} [نوح: 28]. وقال موسى: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف: 151]. وغير ذلك وغيره. وأمر الله رسوله أن يستغفر ولم يصدر منه ذنب فقال: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [غافر: 55]. وقال: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} [محمد: 19]. وقال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)} [النصر: 1- 3] وكذلك التوبة فإن المسلم يتوب إلى الله سواء أذنب أم لم يذنب. وهي من الذنب أولى بل هي مطلوبة. وقد وصف الله المؤمنين بأنهم تائبــون فقال: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآَمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 112]. وحذر ربنا أزواج النبي إن طلقهن رسوله أن يبدله ربه أزواجًا خيرًا منهن {مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ} التحريم: 5]. وقد أمر الله المؤمنين جميعًا بالتوبة فقال: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31]. وربنا سبحانه يحب التوابين. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة: 222]. وقد أخبر الله أنه تاب على النبي مع أنه لم يأت بذنب، وأخبر أنه تاب على المهاجرين والأنصار فقال: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة: 117]. فاتضح ما قلناه. وقد ذكرنا في كتابنا (التعبير القرآني) قوله تعالى: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} وقوله على لسان أدم: {وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف: 23]. وقوله على لسان بني إسرائيل بعدما عبدوا العجل: {لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ }[الأعراف: 149]. والفرق بين هذه التعبيرات فلا نكرر ما قلناه. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 182 إلى ص 185. (1) على طريق التفسير البياني 1/31 وما بعدها (تفسير سورة الفلق). (2) روح المعاني 12/71 – 72.
  • ﴿قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴿٤٨﴾    [هود   آية:٤٨]
{قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} [هود: 48] إن قوله سبحانه: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا ...} بعد قول نوح: {وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} فيه مناسبة لطيفة فإن ربه بشره بالسلامة والأمان والبركات عليه وذلك يدل على مغفرته له ورحمته إياه. جاء في (البحر المحيط): "{اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا} والباء للحال: أي مصحوبًا بسلامة وأمن وبركات وهي الخيرات النامية في كل الجهات. ويجوز أن يكون السلام بمعنى التسليم، أي اهبط مسلمًا عليك مكرمًا ... وبشر بالسلامة إيذانًا له بمغفرة ربه له ورحمته إياه وبإقامته في الأرض أمنًا من الآفات الدنيوية" (1). وجاء في (روح المعاني): "ثم ذكر بعد توبته عليه السلام قبولها بقوله عز وجل: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ} إلخ وهو من الحسن بمكان" (2). قد تقول: قال هنا: (قيل) ببناء الفعل للمجهول، وقال فيما قبلها: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} بالبناء للمعلوم فلم ذاك؟ والجواب: أنه في الآية السابقة، أعني قوله: {قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} إنما هو حكم شرعي، والحكم الشرعي إنما هو لله حصرًا. ولا يجوز أن يكون ذلك لغيره، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} الشورى: 21]. وأما الآية هذه فإنها أمر بالهبوط من السفينة إلى الأرض وهو يصح من كل قائل. وقد قيل: إن القائل ههنا، أي في قوله: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ} هم الملائكة" (3). والظاهر أن القائل هو الله بدليل قوله: {بِسَلَامٍ مِنَّا}، وقوله: {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ} (4). ففرق بين القولين كما ذكرنا. هذا إضافة إلى أنه في الآية الأولى ما يدعو إلى البناء للمعلوم غير ما ذكرت منها: 1- أنه نادى ربه قائلًا: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} فكان من المناسب أن يجيبه ربه لا أن يبني للمجهول. 2- أن ربه قال: {فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} فذكر نفسه سبحانه. 3- وقال: {إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} فذكر نفسه. فناسب كل ذلك أن يقول: (قال) لا (قيل). وقال: {بِسَلَامٍ مِنَّا} فذكر أن السلام منه، في حين قال مخاطبًا أصحاب الجنة: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ }[الحجر: 46]، وقال: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ} [ق: 34] ولم يقل: (منا) وذلك لأنه القائل هناك معلوم من السياق وهو الله. ففي سياق أية الحجر كان الحوار بين الله سبحانه وإبليس فقال سبحانه: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] ثم يستمر الكلام فيقول: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آَمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [الحجر: 45 - 47] فلا يحتاج إلى ذكر جهة السلام. ونحو ذلك في سورة (ق) فإن المتكلم هو الله والكلام مع أهل النار، ثم يلتفت إلى أهل الجنة. فقد قال ربنا لأصحاب النار: {قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} [ق: 28 - 29] ثم يستمر الكلام إلى أن القول: {ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 34 - 35] فالقائل معلوم من السياق، بخلاف آية هود التي بني فيها الفعل للمجهول. ثم إن السلام على أهل الجنة ليس من جهة واحدة، فإن الملائكة تحييهم إضافة إلى تحية رب العزة قائلًا: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} [يس: 58] والملائكة يحيونهم قائلين: {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} [الزمر: 73]، {سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} [الرعد:24]. حتى إن أصحاب الأعراف يحيونهم كما قال تعالى: {وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} [الأعراف: 46]. فلما بين جهة السلام في أية هود بقوله: (منا) علم القائل وهو الله. ولو لم يقل: (منا) لم يعلم القائل أهو الله أم الملائكة. وقدم السلام على البركات لأن السلامة والأمان أهم من البركات، وهو مقدم عليها، فإن السلام مقارن للهبوط، والبركات وهي الخيرات متأخرة. وذكر جهة السلام فقال: {بِسَلَامٍ مِنَّا} ولم يقل: (وبركات منا عليك) لأن جهتها معلومة؛ لأن القائل واحد، فالذي قال: {بِسَلَامٍ مِنَّا} هو الذي قال: {وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ} فالسلام والبركات منه. {عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} أي على أمم تنشأ ممن معك في السفينة هي من أمن من الأمم، ولذا نكر الأمم، ولم يقل: (وعلى الأمم ممن معك) فتشمل جميع الأمم المتفرعة. ثم استأنف الكلام على أمم أخرى فقال: {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} فذكر أنه سيمتعها في الدنيا ثم يمسهم منه عذاب أليم وهو عذاب الأخرة. والمعنى: أنه ستنشأ أمم من الذين معك في السفينة، منها أمم مؤمنة وهؤلاء هم الذين قال فيهم: {وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ}، ومنها أمم كافرة وهي التي سيمتعها في الدنيا ثم يمسها العذاب الأليم في الأخرة. جاء في (البحر المحيط): "والذي ينبغي أن يفهم من الآية أن من معه ينشأ منهم مؤمنون وكافرون. ونبه على الإيمان بأن المتصفين به من الله عليهم سلام وبركة، وعلى الكفر بأن المتصفين به يمتعون في الدنيا ثم يعذبون في الأخرة" (5). وجاء في (الكشاف): "والمعنى أن السلام منا والبركات عليك وعلى أمم مؤمنين ينشأون ممن معك. وممن معك أمم ممتعون بالدنيا منقلبون إلى النار" (6). وجاء في (روح المعاني): "{وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ} بعض الأمم المتشعبة منهم وهي الأمم الكافرة المتناسلة منهم إلى يوم القيامة" (7). قد تقول: لقد قال في أية سابقة: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} مخاطبًا بالجمع. وقال في هذه الآية: {يَا نُوحُ اهْبِطْ} بالإفراد، فلِمَ لَمْ يخاطب بالجمع في هذه الآية فيقول: (اهبطوا) كما قال: (اركبوا)؟ فنقول: إن المتكلم في الآية السابقة هو نوح مخاطبًا من أمن معه فلا بد أن يقول: (اركبوا) ولا يصح الإفراد. وأما ههنا فالمتكلم هو الله والمخاطب نوح وهو رسوله، ولا يصح أن ينادي الله المؤمنين في السفينة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لا يصح الخطاب بالجمع حتى لو قال: (يا نوح اهبطوا) فيخاطب نوحًا ويأمر الجميع بالهبوط كما قال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} [الطلاق: 1]، فنادى النبي وخاطب المؤمنين، وذلك أنه قال: {وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} فلو خاطب بالجمع لقال: (وبركات عليكم وعلى أمم من الذين معكم) وهذا يقتضي أن في السفينة أممًا مع المخاطبين من غير المؤمنين، وأن البركات إنما هي على الأمم التي هي من الذين معهم وليست منهم. وهذا لا يصح قطعًا، وهو ظاهر. وقد تقول: هل خص السلام نوحًا والبركات عليه وعلى الأمم التي ستأتي، ولم يشمل السلام البركات من معه؟ والجواب: كلا، فإن السلام والبركات شملت نوحًا ومن معه ومن سيأتي ممن معه، وذلك أن (من) يحتمل - كما قيل - أن تكون بيانية فيكون من معه هم المعنيين، وذلك كما تقول: (عنده أربعة من البنين) و(أكرمت مائة من الرجال) أي من جنس الرجال، وذلك إذا كان الرجال مائة وليسوا أكثر. وكما تقول: (وعد الله الكفار من المنافقين والمشركين نار جهنم) فبينت جنس الكفار بـ (من). كما يحتمل أن تكون (من) ابتدائية فتشملهم وتشمل من بعدهم، كما تقول: (أكرمتهم من كبيرهم إلى صغيرهم) فدخل الصغار مع الكبار. ونحو ذلك قوله : (فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة) فدخلت الجمعة الاولى في المطر. وعلى كلا التقديرين شمل السلام والبركات من معه. جاء في (الكشاف): "{وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} يحتمل أن تكون (من) للبيان فيراد الأمم الذين كانوا معه في السفينة، لأنهم كانوا جماعات ... وأن تكون لابتداء الغاية، أي على أمم ناشئة ممن معك وهي الأمم إلى اخر الدهر" (8). وكون (من) لابتداء الغاية هو الأظهر، أي أن البركات تبدأ ممن معهم إلى من سيأتي بعدهم، وذلك أنه قال: {وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ} وليس مع نوح أمم بل أفراد. قال تعالى: {وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ}. جاء في البحر المحيط "والظاهر أن (من) لابتداء الغاية، أي ناشئة من الذين معك، وهم الأمم المؤمنون إلى أخر الدهر" (9). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 185 إلى ص 190. (1) البحر المحيط 5/231. (2) روح المعاني 12/72. (3) انظر البحر المحيط 5/231، روح المعاني 12/72. (4) انظر البحر المحيط 5/231. (5) البحر المحيط 5/231. (6) الكشاف 2/102. (7) روح المعاني 12/74. (8) الكشاف 2/102. (9) البحر المحيط 5/231.
  • ﴿تِلْكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلَا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ﴿٤٩﴾    [هود   آية:٤٩]
{تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود: 49] لقد تحدى القرآن أهل الكفر قبل هذه الآية في السورة نفسها بقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 13 - 14]. ولم يستجيبوا لهذا التحدي فلم يأتوا بما طلب وانقطعوا فألزمهم الحجة. وفي هذه الآية دليل وبرهان من نوع أخر، فإنه بعد أن سرد أحداث قصة نوح مفصلة أعلن على الناس جميعًا أن هذه المعلومات إنما هي من أنباء الغيب أوحاها الله إليه، وأنه لم يكن يعلمها هو ولا قومه من قبل هذا التنزيل. ولم ينكر ذلك أحد من قومه، ولم يدع أحد أنه كان يعلمها أو أنه أخبر محمداً بها فألزم الناس جميعهم الحجة. فمن أعلمه بها إذن إن لم يكن ذلك وحيًا من عند الله؟ لا يمكن أن يقال: إنما علمه بشر، أو علم ذلك من أي مصدر غير الوحي، فقد قال: إنما من أنباء الغيب أوحاها الله إليه. فلو كان قومه أو أحد من قومه يعلمها لرفع صوته وقال: أنا أعلمها، ولو كان علمه أحد لقال: أنا علمته، ورفع صوته بذلك والقرآن يتلى في مكة والمدينة، والأعداء متربصون وهم كثر. والأن لننظر في هذه الآية وتأليفها: 1- وقال: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْب} ولم يقل: (تلك من الأنباء نوحيها إليك) فتكون نبأ من الأنباء علمه الناس أو جهلوه، بل ذكر أنها من الغيب الذي لم يكن يعلمه هو ولا قومه. وهذه حجة ملزمة. 2- وقال: {نُوحِيهَا إِلَيْكَ} أي نحن الذين أخبرناك بها ولم تعلمها من طريق أخر. وهذه حجة وإلزام اخر. جاء في (روح المعاني) : "{نُوحِيهَا} والتعبير بصيغة المضارع لحكاية الحال الماضية ... والمقصود من ذكر كونها موحاة إلجاء قومه صلى الله تعالى عليه وسلم للتصديق بنبوته عليه الصلاة والسلام وتحذيرهم مما نزل بالمكذبين" (1). 3- وقال: {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا} فنفى بـ (ما)، ولم يقل: (لم تكن تعلمها) وذلك أن نفي الماضي بـ (ما)أكد، فإنه نفي لـ (لقد فعل) (2). وهي تقع في جواب القسم المنفي إذا كان الفعل ماضيًا. فأفاد ذلك توكيد عدم علمه هو وعدم علم قومه. 4- وقال: {مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْت} فأكد الفاعل المستتر بـ (أنت) ولم يقل: (ما كنت تعلمها ولا قومك) مع أنه يصح أن يقال ذلك لوجود الفاصل وهو الضمير (ها)، ووجود فاصل أخر وهو (لا) وكل منهما مسوّغ للعطف على الضمير المتصل ظاهرًا أو مستترًا. وفي القرآن نظير لكل منهما (3). ولكنه جاء بـ (أنت) توكيدًا لعدم العلم. 5- وقال: {وَلَا قَوْمُكَ} فجاء بـ (لا) النافية، ولم يقل: (ماكنت تعلمها وقومك) و(لا) هذه تفيد التوكيد وتفيد القطع بعدم علمه وعلمهم بها لا على سبيل الإفراد ولا سبيل الاجتماع. فأنت لا تعلمها، وقومك لا يعلمونها. ولو قال: (ما كنت تعلمها وقومك) لاحتمل أن نفي العلم إنما هو عن المجموع وقد يعلمها أحد الطرفين. 6- وقال: {مِنْ قَبْلِ هَذَا} فجاء بـ (من) ليدل على أن علمهم بها إنما جاء الأن بعد الإيحاء. ولم يقل: (قبل هذا) فيحتمل القبلية القريبة والبعيدة. 7- وقال: {فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} فأمره بالصبر لينال الخاتمة المحمودة في الدنيا والأخرة، وذلك بعد أن ذكر قصة نوح وصبره على قومه لتكون له عبرة ولئلا يضيق صدره بأذى قومه، ومن المحتمل أن يكون قد حصل له ذلك وقد أشار به إلى هذا الأمر فيما تقدم من السورة بقوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} [هود: 12] جاء في (تفسير الرازي): "{فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} والمعنى: يا محمد اصبر أنت وقومك على أذى هؤلاء الكفار كما صبر نوح وقومه على أذى أولئك الكفار. وفيه تنبيه على أن الصبر عاقبته النصر والظفر والفرح والسرور كما كان لنوح عليه السلام ولقومه" (4). 8- وقال: {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} وكان المظنون أن يقال: (فاصبر إن العاقبة للصابرين) وذلك أن المتقين يشملون الصابرين وزيادة. فلما ذكر المتقين دخل فيهم الصابرون، ويدل على ذلك قوله تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177]. فذكر أن الصبر في البأساء والضراء وحين البأس إنما هو وصف واحد من أوصاف المتقين المذكورة في الآية. فناسب أن يقول: {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} فدخل في ذلك الصابرون. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أنه لم يرد مثل هذا التعبير في القرآن مع غير المتقين، فلم يرد مثلًا (إن العاقبة للصابرين) أو (للمؤمنين) أو غيرهم من غير أصحاب هذا الوصف. وقد ورد نحو هذا التعبير في ثلاثة مواضع من القرآن الكريم وهي قوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128]، [القصص: 83] وقوله: {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} وهي آية هود هذه. وورد تعبير قريب من هذا وهو قوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132]. 9- وقال: {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} بالتوكيد بـ (إن)، في حين ورد نحو هذا التعبير من غير توكيد في موضعين من القرآن وهما قوله: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} في سورة الأعراف: 128، والقصص: 83. أما آية القصص فهي قوله: {تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83]. وهي ترى في الدار الآخرة، والعاقبة الحسنة في الدار الآخرة ليست للمتقين فقط بل لعموم المؤمنين وإن لم يكونوا متقين. فقد تكون لعصاة المسلمين ولمن لم يبلغ درجة المتقين أيضًا. فلم يؤكد أن العاقبة للمتقين. والمقام ليس مقام توكيد كما ترى. وأما آية الأعراف فهي قوله: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 128 - 129]. وأنت ترى أن القائل هو موسى لقومه بني إسرائيل. فإذا كان المقصود بالعاقبة وراثة الأرض المذكورة في الآية، أعني قوله: {إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} فالمقام ليس مقام توكيد فإن موسى لم يعدهم بذلك وعدًا قاطعًا، وإنما قال: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 129]. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه ليس استخلافًا على الدوام، وإنما هو استخلاف زائل. بخلاف أمة محمد الذين وعدوا بالاستخلاف في الأرض وعدًا قاطعًا من الله وهو قوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور: 55]. فأكد العاقبة للمسلمين بقوله: {إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} بتوكيدها لنبيهم، ولم يؤكد موسى لقومه. وهو المناسب. وإن كان المقصود بالعاقبة الحسنة في الآخرة فإن المتقين من أمة محمد أكثر بكثير من بني إسرائيل، فإن اليهودية دين منسوخ نسخته النصرانية ونسخهما الإسلام، والإسلام باق إلى يوم القيامة، وأتباعه باقون حتى نهاية الدنيا، فلا شك أن العاقبة سواء كانت في وراثة الأرض أو في الآخرة فهي في أتباع الرسول محمد أكثر وأتم وأوسع ولذا فهي أكد. فناسب التوكيد في خطاب الرسول دون الموطنين الآخرين. وقد ذكرنا أمة محمد وبني إسرائيل؛ لأن أية هود إنما هي في خطاب نبي الإسلام محمد والوعد يشمله ويشمل أمته. وإن آية الأعراف إنما هي في خطاب بني إسرائيل كما نصت عليه الآية. ثم هناك أمر آخر حسن التوكيد في آية هود دون آية الأعراف وهو أن الخطاب في آية هود إنما هو الله سبحانه لرسوله محمد. وأن الخطاب في آية الأعراف إنما هو من موسى لبني إسرائيل. ولا شك أن خطاب الله أكد من خطاب موسى، فناسب التوكيد في آية هود من جهة أخرى. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 191 إلى ص 196. (1) روح المعاني 12/75. (2) انظر كتاب سيبويه 1/460، الاتقان 1/176، معاني النحو 4/227. (3) قال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آَبَائِهِمْ} [الرعد: 23] فعطف (من صلح) على الواو في (يدخلونها)، والفاصل الضمير (ها). وقال: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا} فعطف (آباؤنا) على الضمير (نا)، والفاصل (لا). والضمير المستتر من الضمائر المتصلة، وأما المحذوف فقد يكون متصلًا وقد يكون منفصلًا. (4) تفسير الرازي 6/361. قصة هود كما ذكرنا في قصة نوح فإن قصة هود في القرآن في مواضع متعددة ولكنها ليست متطابقة، بل قد يذكر في موضع ما لا يذكره في المواضع الأخرى، وذلك بحسب السياق وبحسب ما يريد التركيز عليه. لقد وردت هذه القصة في الأعراف وفي سورة هود والشعراء وفضلت والأحقاف والذاريات والقمر والحاقة والفجر. وهي قد يكون فيها تفصيل في موضع، وفي موضع آخر يذكر جانبًا من جوانبها بإيجاز. وإليك إيضاح ذلك: 1- فقد جاء في سورة الأعراف - وهي أول سورة وردت فيها هذه القصة - أن هودًا دعا قومه إلى عبادة الله وتوحيده: {قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} [الأعراف: 65]. فتصدى له الملأ الذين كفروا من قومه وسفهوه واتهموه بالكذب {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [الأعراف: 66]. فنفى أن يكون به سفاهة وأكد لهم أنه رسول من رب العالمين وأنه لهم ناصح أمين. فرفضوا ادعاءه قائلين: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف: 70]. فاشتد عليهم نبيهم قائلًا: {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [الأعراف: 71]. ويظهر أن قوله: {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} إنما هو جواب لتحديهم {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} فهم قالوا له: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} وهو أجابهم بقوله: {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ } ثم جاء الأمر الحاسم بنجاته ومن وإهلاك المكذبين تصديقًا لما وعدهم به { فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 72]. 2- وفي سورة هود ذكر أيضًا أنه دعاهم إلى عبادة الله وتوحيده{ قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ }[هود: 50] غير أن ما قاله في هود لا يطابق ما قاله في الأعراف. فإنه قال لهم في الأعراف: {أَفَلَا تَتَّقُونَ}. وقال في هود: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ}. وذلك أنهم قالوا في الأعراف: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا} [الأعراف: 70] فقال لهم: {أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} أي إنهم افتروا على الله. فقال لهم في هود: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} فكان ما ذكره في هود إنما هو تعقيب على ما قالوه في الأعراف و استكمال له. ثم إنه قال لهم إنه لا يسألهم على دعوته أجرًا. ولم يقل مثل ذلك في الأعراف. ووعدتهم بالخير الكثير إن هو أطاعوه، فإن ربه سيرسل السماء عليهم مدرًارًا ويزيدهم قوة إلى قوتهم. ولم يقل مثل ذلك في الأعراف. فردوا عليه قائلين إنه لم يأتيهم ببينة، وإنهم لا يتركون آلهتهم بسبب قوله. غير أنه لم تكن المواجهة بينهما على نحو ما ورد في الأعراف، بل كانت أخف، ذلك أن ما ورد في الأعراف إنما هو قول الملأ الذين كفروا من قومه خاصة. وأما المواجهة في هود فقد كانت مع عموم القوم، وعموم القوم ليسوا كالملأ الذين كفروا، أي أشراف قومه الكافرين، فهم متفاوتون في الإجابة. وعلى كل حال فهم أخف من الملأ الذين كفروا، ولذا لم يصفوه بالسفه ولم يصرحوا بكذبه، وإنما قالوا له: { يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 53 - 54]. أي أصابك سوء من بعض الآلهة فتقول ما تقول، ولم يصرحوا بأنه أصابه جنون مع أنهم يعنون ذلك، وإنما خففوا في المواجهة فقالوا: (أصابك سوء). ولذا كان جوابه لهم مناسبًا لما قالوا فيه. فقد قال لهم: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} فقد تحداهم وتحداهم وتحدى آلهتهم بأن يكيدوه ولا يمهلوه. ولم يرد نحو ذلك في الأعراف. ولما كانت المواجهة في الأعراف أشد وإنهم تحدوه كانت العقوبة أشد، فقد قال فيها: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِين} [الأعراف: 72]. ولم يقل مثل ذلك في هود، وإنما قال: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58] ولم يذكر أنه قطع دابر الذين كذبوه. فهم في الأعراف تحدوه، وفي هود هو تحداهم. فأنت ترى أنه ذكر في كل موطن جانبًا لم يذكره في الآخر. 3- وفي سورة الشعراء بدأ القصة بقوله تعالى: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِين} [الشعراء: 132]. وهذا ما تبدأ به جملة من القصص في هذه السورة. فالقصة هنا متناسبة مع القصص في السورة من ناحية، ومن ناحية أخرى كأنها استكمال لما ورد في الأعراف وهود، وذلك بعد تكذيب عاد لرسولهم الأعراف وهود قال في الشعراء: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِين}. ولم يذكر أنه دعاهم إلى عبادة الله وتوحيده كما فعل في الأعراف وهود، وإنما ذكر ما بعد ذلك فقال: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 123 - 127]. وهذه العبارات قالتها عموم الرسل لأقوامهم في هذه السورة، فقد قالها نوح لقومه، وقالها هود وقالها صالح وقالها لوط وقالها شعيب. ثم بكتهم بما يفعلون قائلًا: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 128 - 130] وذكرهم بالنعم التي أمدهم بها رب العالمين. ولم يرد مثل ذلك في قصة هود في المواضع الأخرى من القرآن الكريم. وهذا متناسب مع سائر القصص في السورة. فرد عليه القوم قائلين: {سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [الشعراء: 136 - 138] فأهلكهم رب العزة وجعلهم آية فقال: {فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الشعراء: 139 - 140]. وهذا التعقيب جرى بعد عموم القصص في الشعراء. فأنت ترى أنه ذكر الجواب من القصة لم يذكرها فيما سبق من القصص. 4- وأما في سورة فصلت فقد ذكر استكبارهم واعتدادهم بقوتهم واغترارهم بها حتي قالوا: {مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}، ثم ذكر عقوبتهم وأنه أرسل عليهم ريحًا صرصرًا أذاقتهم عذاب الخزي في الدنيا ولعذاب الآخرة أخزى. وهذا أول موضع يذكر فيه نوع العذاب الذي حل بهم وأنه بالرياح. ولم يذكر دعوة رسولهم لهم ولا موقفًا منه، وإنما لخص قصتهم لأهل مكة ولمن يعتبر. فهي تختلف عن كل ما مر من القصص. وهذا ما رود من هذه القصة في فصلت: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ} [فصلت: 15 - 16]. 5- وأما في سورة الأحقاف فإنه ذكر مساكنهم، وهي أول مرة تذكر فيها المساكن وأنها بالأحقاف فقال: {وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ} [الأحقاف: 21]. والاحقاف في اليمن. وقال لهم رسولهم منذرًا ومحذرًا: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأحقاف: 21]. فأجابوه قائلين: {أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آَلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأحقاف: 22]. فإنه لما خوفهم بعذاب يوم عظيم، تحدوه قائلين: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} ثم ذكر كيف أنهم استقبلوا عارض العذاب فظنوه سحابًا ممطرًا وقالوا: {هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا} ثم ذكر مآلهم وأنه أرسل عليهم ريحًا دمرتهم فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم (الآية25). وهذه أول مرة تذكر فيه مساكنهم المدمرة الخالية، كما أنه أول مرة ذكرت مساكنهم في الجزيرة. 6- وأما في الذاريات والقمر والحاقة والفجر فلم يذكر دعوة ولا موقفًا من رسولهم، وإنما ذكر عاقبتهم وهلاكهم. وهو يذكر في كل موضع ما لم يذكره في الموضع الآخر من التفصيل وكيفية الإهلاك. وكل منها مناسب لما ورد في موضعه. وبهذا يتضح أن القصة ليست متماثلة في تفصيل أحداثها. تذكيرهم بالنعم: إن التذكير بالنعم في القصة ليس متماثلًا. فقد يذكّرهم في موضع على وجه الإجمال، وفي موضع آخر على وجه التفصيل. وقد لا يذكر ذلك في مواضع أخرى إذ لا يقتضي السياق ذكره. 1- فقد قال في الأعراف: {وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف: 69]. فذكرهم ببصطة أجسامهم وقوتها، وذكرهم بما أنعم الله عليهم على العموم. 2- وأما في سورة هود فإنه دعاهم إلى الاستغفار والتوبة ليمدهم ربهم ببركات السماء ويزيدهم قوة إلى قوتهم. ومعنى ذلك أن الله قد أعطاهم قوة وأنه سيزيدهم قوة إلى قوتهم، فذكر أن لهم قوة على العموم ولم يخصصها. لقد ذكر في آية الأعراف بصطة الجسم وقوته، وهنا ذكر القوة على العموم، قال تعالى: {وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52]. 3- وقد ذكر في الشعراء شيئًا من مظاهر قوتهم وعدد آلاء الله عليهم، وكيف تصرفوا في هذه النعم فقال: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آَيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} [الشعراء: 128 - 134]. ففصل ما أجمله في الأعراف وهود من آلاء الله عليهم في أجسامهم وأنهم إذا بطشوا بطشوا جبارين. وفصل فيما أنعم عليهم من الأنعام والبنين والجنات والعيون. فكأن ما ورد في الشعراء تفصيل لما أجمله في الموطنين السابقين. 4- وفي فصلت ذكر استكبارهم في الأرض بغير الحق واعتدادهم بقوتهم واغترارهم بها والاستطالة على خلق الله. قال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15] 5- ولم يذكر شيئاً عن ذلك في الأحقاف ولا في الذاريات ولا في القمر ولا في الحاقة. 6- وكذلك في سورة الفجر، فإنه لم يذكرهم بالنعم وإنما وصفهم أو وصف بلادهم بأنها ذات العماد ثم ذكر صب العذاب عليهم وعلى الأقوام الكافرة الأخرى. العاقبة والهلاك: لم يكرر ذكر عاقبة عاد ولا كيفية هلاكهم، وإنما يذكر في كل موضع جانبًا من جواب العقوبة. فقد يذكر العقوبة على وجه العموم في موضع ويفصل في موضع آخر، ولكنه لم يذكرها على نمط واحد، بل يذكر في كل موضع ما يناسب السياق وجو السورة. 1- فقد قال في الأعراف: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 72]. فذكر نجاته والذين معه، وذكر أنه قطع دابر الذين كذبوا، غير أنه لم يذكر نوع العقوبة ولا كيف قطع دابرهم. 2- وفي هود لم يذكر نوع العقوبة أيضًا وإنما ذكر الأمر بصورة أخرى، فقد قال إنه نجى هوداً والذين آمنوا من عذاب غليظ. ولم يذكر نوع هذا العذاب ولا أنه قطع دابر الذين كذبوا، وإنما قال إنهم أتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة. قال تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 58 - 60]. 3- وأما في الشعراء فقد قال: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ} ولم يذكر كيفية الإهلاك، كما أنه لم يذكر نجاته ونجاه من معه، ذلك أنه خوفهم بالعذاب قائلًا: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} فقالوا له: {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} فأهلكهم . 4- وأول موطن يرد فيه ذكر نوع العقوبة إنما هو في فصلت، فقد ذكر أنه أرسل عليهم ريحًا صرصرًا في أيام نحسات، ولم يذكر عدد الأيام تلك. ولم يذكر ماذا فعلت هذه الريح بهم أو بمساكنهم. قال تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآَخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُون} [فصلت: 16] ولم يذكر نجاة هود ومن معه، ذلك أنه حذر قريشًا أن تصيبهم صاعقة مثل صاعقة عاد وثمود، فذكر عذابهم. 5- وأما في الأحقاف فزاد في وصف الريح وأنها جاءت على هيئة عارض، أي سحاب ممطر واستبشروا بها فإذا هي ريح مدمرة تدمر كل شيء فلم يبق منهم إلا مساكنهم. قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [ الأحقاف: 24 - 25]. وهذا هو الموطن الوحيد الذي ذكر فيه محل سكناهم وأنه بالأحقاف، وأن الريح أهلكتهم فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم. وهذه هي المرة الوحيدة التي ذكرت فيها المساكن وأنها بقيت بعدهم خاوية خالية. ولم يذكر في موضع آخر محل سكناهم ولا مساكنهم. وذكر المساكن مناسب لذكر موضع سكناهم وهي الأحقاف. ولم يذكر نجاته، وذلك أنه خوفهم بالعذاب قائلًا: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} فقالوا غير مبالين: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأحقاف: 22] فذكر هلاكهم على نحو ما ورد. 6- وأما في الذاريات فقد زاد في وصف الريح وعتوها وأنها عقيم لا تأتي بخير وأنها لا تأتي على شيء إلا دمرته دمارًا تامًا. قال تعالى: {وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ} [الذاريات: 41 - 42]. 7- وأما في القمر فقد ذكر عمل الريح في الناس فخصص الوصف. ففي الأحقاف ذكر الدمار على العموم وذكر المساكن. وزاد في وصفها في الذاريات. وأما في القمر فخصص فعلها في الناس فقال: {إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 19 - 21]. وهذا أول موطن يذكر فيه ما فعلته الريح في الناس وأنها تنزعهم كأنهم أعجاز نخل منقعر. فخصص بعد العموم. 8- وأما في الحاقة فزاد في وصفها وذكر أنها عاتية وذكر مدتها. وهذا هو الموطن الوحيد الذي ذكرت فيه مدة الريح وأنها سبع ليال وثمانية أيام حسومًا. ثم ذكر أنه لم يبق من عاد أحد. قال تعالى: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 6 - 8]. وانتهى المشهد وكانت الخاتمة ههنا، ولم يذكر بعد ذلك شيئًا عن نهاية عاد وعاقبتها، فقد انتهى كل شيء بقوله: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ}. 9- وختم ذكر عاد في سورة الفجر، فقد ذكر في هذه السورة اسم بلدهم على ما قيل ووصفها. وهو ما لم يرد في موطن آخر، فقد ذكر أنها {إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ}. ومما قيل في إرم "أنها مدينة عظيمة في اليمن، والوصفان لها و المراد ذات البناء الرفيع أو ذات الأساطين التي لم يخلق مثلها سعة وحسن بيوت وبساتين في بلاد الدنيا" (1). وقيل: إن إرم هي اسم للقبيلة في عاد إرم (2). وعلى كلا التفسيرين فقد ذكر في هذه السورة ما لم يذكره في أي موضع آخر من القرآن، سواء كانت إرم اسمًا لمدينتهم أم اسمًا لقبيلتهم. ومن الملاحظ في هذه القصة أنه ذكر في الأعراف النجاة والإهلاك. وفي هود ذكر النجاة ولم يذكر عقوبة غير قوله:{ وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ } وفي الشعراء وفصلت والأحقاف والذاريات والقمر والحاقة والفجر ذكر العقوبة والإهلاك ولم يذكر النجاة. وكل ذلك متناسب مع السياق في كل سورة، ومع جو السورة وما ورد فيها. ومن الملاحظ أيضًا في قصة عاد أنه لم يذكر أن نبيهم دعا على قومه أو دعا بالنجاة في كل ما ورد من القصة. كما أنه لم يذكر أهله وكيف كانوا كما مر في قصة نوح. فاتضح من ذلك أن القصة لم تتكرر وأنه في كل موطن يذكر ما لا يذكره في موطن آخر. والآن نعود إلى آيات القصة في سورة هود لنتلمس شيئاً من جوانبها الفنية. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 197 إلى ص 208. (1) روح المعاني 30/123. (2) فتح القدير 5/423، روح المعاني 30/123.
  • ﴿وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ ﴿٥٠﴾    [هود   آية:٥٠]
{وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} [هود: 50] ناداهم بقوله: (يا قوم) استعطافًا لهم ليسمعوا قوله وليلينوا له وأضافهم إلى نفسه. قيل: "وقرأ ابن محيصن (يا قوم) بضم الميم ... وهي لغة في المنادى المضاف حكاها سيبويه وغيره" (1). والقراءة بكسر الميم – وهي قراءة القراء العشرة – أولى وأظهر في الإضافة إلى ياء المتكلم، ذلك أن قوله: (يا قوم) بضم الميم ليست نصًا في الإضافة، بل هي تحتمل النكرة المقصودة، كما تقول: (يا رجل) أو (يا واقف) بخلاف كسر الميم فإنها نص في إضافة القوم إلى نفسه. علاوة على كون القراءة بالكسرة قراءة متواترة قرأ بها العشرة. {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} جاء بـ (من) الاستغراقية لنفي أن يكون ثمة إله غير الله على سبيل الاستغراق. وقال ههنا: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ}، وقال في الأعراف: {أَفَلَا تَتَّقُونَ} [الأعراف: 65] وذلك أن القصة في الأعراف كانت أول تبليغ لهم ورد في القرآن دعاهم فيه إلى عبادة الله فلا يناسب أن يقول: (إن أنتم إلا مفترون). وأما القصة في هود فكانت بعدما ورد في الأعراف من استمساكهم بآلهتهم وردهم على نبيهم قائلين: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا} [الأعراف: 70] واشتداد نبيهم عليهم بقوله: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ} [الأعراف: 71] أي إنهم افتروا على الله باتخاذهم الأوثان شركاء الله (2). فناسب أن يقول في هود: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} فكأن هذا التعبير استكمال للمحاورة بينهما والرد عليهم. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن التعبير في هود مناسب أيضًا لما ورد في السورة من الكلام على آلهتهم التي افتروها على الله، فقد قالوا لنبيهم: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} [هود: 53] وقالوا له أيضًا: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54]. فكان كل تعبير في مكانه أنسب. ونفى {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ} بـ (إن) ولم ينفه بـ (ما) ذلك لأن (إن) أقوى من (ما) في النفي وأكد (3). فأكد افتراءهم على الله سبحانه. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 208 إلى ص 210. (1) البحر المحيط 5/232. (2) انظر الكشاف 2/102. (3) انظر معاني النحو 4/235.
  • ﴿يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿٥١﴾    [هود   آية:٥١]
{يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [هود: 51] نفي عن نفسه ما قد يظنونه أنه يبغي مطمعًا أو مالًا فقال لهم إنه لا يسألهم أجرًا على ما يبذله من النصح لهم، وذلك أدعى إلى قبول النصيحة؛ لأن ذلك يدل على أنه ناصح لهم حقًا يبغي لهم الخير. فإنه إذا كان القول مشوبًا بمطمع كان أبعد عن القبول وأدعى إلى التهمة. جاء في (روح المعاني) في هذه الآية: "خاطب به كل رسول قومه إزاحة لما عسى أن يتوهموه وتمحيضًا للنصيحة، فإنها ما دامت مشوبة بالمطامع بمعزل عن التأثير" (1). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 210 إلى ص 210. (1) روح المعاني 12/80 {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} قال ههنا: (فطرني) أي أوجدني من العدم. وهذا تعريض بآلهتهم التي يعلمون أنها ليست هي التي أوجدتهم بل أوجدهم الله كما أخبر عن المشركين سبحانه بقوله: {ولَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف: 87]. ومعنى ذلك أن آلهتهم لا تستحق أن تعبد وإنما يستحق العبادة الذي فطرهم وفطر السماوات والأرض. جاء في (البحر المحيط): "ونبه بقوله: {الَّذِي فَطَرَنِي} على الرد عليهم في عبادتهم الأصنام، واعتقادهم أنها تفعل. وكونه تعالى هو الفاطر للموجودات يستحق إفراده بالعبادة" (1). وجاء في (روح المعاني): "وإيراد الموصول للتفخيم، وجعل الصلة فعل الفطر الذي هو الإيجاد والإبداع لكونه أبعد من أن يتوهم نسبته إلى شركائهم" (2). قد تقول: لقد قال في قصة نوح في هذه السورة: {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} [هود: 29]. فقال: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ} فذكر اسمه العلم. وقال ههنا: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي} فذكر الذي فطره. فما السبب؟ فنقول: إنه لم يجر ذكر للآلهة وعبادتها في قصة نوح في هذه السورة فجاء باسمه العلم، بخلاف هذه القصة فإنه جرى ذكر لآلهتهم، فناسب ذكر الذي فطره تعريضًا بآلهتهم ودعوتهم إلى عبادة الله وحده وإبطال عبادة ما يعبدون من دون الله. {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} وهذا من ألطف التعقيب، فإنه مناسب لقوله: {لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} فإن الذي لا يبتغي مصلحة لنفسه ناصح صادق، أفلا تعقلون هذا؟ أليس الذي لا يبتغي مصلحة لنفسه ناصحًا صادقًا؟ وهو مناسب لقوله: {إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي}، وفحواه أفلا تعقلون أنه لا يستحق العبادة غير فاطر السماوات والأرض وفاطر الإنسان؟ ألا تعقلون أن غير الفاطر لا يستحق أن يعبد "أو تجهلون كل شيء فلا تعقلون شيئًا أصلاً، فإن الأمر مما لا ينبغي أن يخفي على أحد من العقلاء" (3). جاء في (البحر المحيط): "و{أَفَلَا تَعْقِلُونَ} توقيف على استحالة الألوهية لغير الفاطر. ويحتمل أن يكون {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} راجعًا إلى أنه إذا لم أطلب عرضًا منكم وإنما أريد نفعكم فيجب انقيادكم لما فيه نجاتكم، كأنه قيل: أفلا تعقلون نصيحة من لا يطلب عليها أجرًا إلا من الله تعالى، وهو ثواب الآخرة؟ ولا شيء أنفى للتهمة من ذلك" (4). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 210 إلى ص 212. (1) البحر المحيط 5/232. (2) روح المعاني 12/80. (3) روح المعاني 12/80. (4) البحر المحيط 5/232.
  • ﴿وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ﴿٥٢﴾    [هود   آية:٥٢]
{وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52] مناسبة هذه الآية لما قبلها مناسبة لطيفة، فإنه نفى إرادة مصلحة نفسه في الآية السابقة ودعاهم إلى مصلحتهم هم في هذه الآية. فقد قال إنه لا يطلب أجرًا لنفسه ولكن إن هم أجابوه آتاهم الله المال والقوة. فإنهم إذا استغفروا ربهم وتابوا إليه أرسل السماء عليهم مدرارًا وهم أصحاب زروع وثمار وبساتين (1) وزادهم قوة إلى قوتهم، وماذا يطلب الإنسان لدنياه أكثر من ذلك: المال والزيادة في القوة؟ وقد ذكرنا في أول السورة تقديم الاستغفار على التوبة وسبب ذلك فلا نعيد القول فيه. وقدم هنا إرسال الغيث على زيادة القوة لأن ذلك سبب في زيادتها، فإن زيادة المال من أسباب زيادة القوة. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 212 إلى ص 213. (1) انظر البحر المحيط 5/233، الكشاف 2/102، فتح القدير 2/481.
  • ﴿قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ ﴿٥٣﴾    [هود   آية:٥٣]
{قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} [هود: 53 - 55] بعد أن محض لهم النصح ودعاهم إلى أن يحكموا عقولهم فيما هم عليه وأن فيما دعاهم إليهم مصلحتهم هم لا مصلحته هو ردوا عليه بقولهم: {مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} ومعنى ذلك أنك لم تأتنا بحجة واضحة. ولعلك لو جئت بينة لآمنا لك وصدقناك. وقولهم هذا لا ينفي أن يكون هو صادقًا، فقد يكون صادقًا غير أنه لم يأت بحجة تبين ذاك. ثم ذهبوا أبعد من ذلك فقالوا: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} مؤكدين موقفهم، وأنهم لا يتركون آلهتهم لقول قاله. ثم ذهبوا أبعد من ذلك فقالوا: {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} أي لسنا مصدقين لك أصلاً. فقد نفوا أن يكون صادقًا، فذهبوا من السيء إلى الأسوأ، ذلك أنهم قالوا له أولاً: {مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} فلم ينفوا صدقه، ثم أمنعوا في السوء حتى قالوا له: {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} فنفوا ان يكون صادقًا. ثم ذهبوا أبعد من ذلك في السوء فقالوا: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ} أي أصابك بعض الآلهة بالجنون، فكأنه لما قال لهم: {أَفَلَا تَعْقِلُونَ} أرادوا أن يتهموه بعقله أيضًا وأن يرموه بأبعد مما رماهم به فاتهموه بالجنون، فلم يدعوا مجالاً للإيمان وأيسوه من ذلك، فكل حالة أسوأ من التي قبلها. جاء في (روح المعاني): "لقد سلكوا طريق المخالفة والعناد على سبيل الترقي من السيء إلى الأسوأ حيث أخبروه أولاً من عدم مجيئه بالبينة مع احتمال كون ما جاء به حجة في نفسه وإن لم تكن واضحة الدلالة على المراد. وثانيًا: عن ترك الامتثال لقوله عليه السلام بقولهم: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} مع إمكان تحقيق ذلك بتصديقهم له في كلامه. ثم نفوا عنه تصديقهم له عليه السلام بقولهم: {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} مع كون كلامه عليه السلام مما يقبل التصديق. ثم نفوا عنه تلك المرتبة أيضًا حيث قالوا ما قالوا" (1). إن هذه الآية كل جزئياتها مؤكدة، إذ كل تعبير فيها مؤكد بمؤكد أو أكثر. فقوله: {مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} تعبير مؤكد، فإنه قال: {مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} فنفى الفعل الماضي بـ (ما)، ولم يقل: (لم تأتنا ببينة) فينفه بـ (لم). والفعل الماضي المنفي بـ (ما) أكد من الفعل المنفي بـ (لم)، ذلك أن الفعل الماضي المنفي بـ (ما) يقع جوابًا للقسم، بخلاف المنفي بـ (لم) فهو أكد (2). فهذا التعبير منفي نفيًا مؤكدًا. وقوله: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} تعبير مؤكد، فإنه قال: {وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ} ولم يقل: (ولسنا تاركي آلهتنا عن قولك) بالجملة الفعلية. فنفى التعبير بالجملة الأسمية المصدرة بـ (ما)، والجملة الأسمية اكد من الجملة الفعلية كما هو معلوم. ثم جاء بالباء الزائدة المؤكدة في الخبر فقال: {بِتَارِكِي} و{عَنْ قَوْلِكَ} فيه معنيان: المعنى الأول: (صادرين عن قولك) والمعنى الآخر: التعليل أي (لقولك) أي لا نترك آلهتنا لقول قلته على أية حال. وقوله: {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} تعبير مؤكد، ذلك أنهم نفوا إيمانهم بالجملة الأسمية المنفية بـ (ما)، وجاء بالباء الزائدة في الخبر وهي تفيد التوكيد. وقدم الجار والمجرور على العامل (مؤمنين) وهو – أي التقديم – يفيد الاختصاص في الغالب، أي: نحن نخصّك بعدم الإيمان. ولو قال مثلاً: (ولسنا مؤمنين لك) لم يكن التعبير مؤكدًا. وقوله: {إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ} تعبير مؤكد، فإنه جاء بأسلوب القصر، فقد نفى بـ (إن) وأثبت بـ (ألا) ولم يقل: (نقول اعتراك بعض آلهتنا بسوء). والتعبير بأسلوب القصر تعبير مؤكد. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه نفى بـ (إن) ولم ينف بـ (ما)، و(إن) أكد من (ما) في النفي كما أسلفنا. فكل جزء من الآية تعبير مؤكد – كما ترى-. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 213 إلى ص 216. (1) روح المعاني 12/82. (2) انظر معاني النحو 4/228.
  • ﴿إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ﴿٥٤﴾    [هود   آية:٥٤]
  • ﴿مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنظِرُونِ ﴿٥٥﴾    [هود   آية:٥٥]
{إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ} [هود: 54 – 55]. لما قالوا ما قالوا وأيسوه من إيمانهم وقالوا: إن بعض آلهتهم اعتراه بسوء، أعلن البراءة من آلهتهم وأشهد الله وطلب منهم أن يشهدوا على ذلك فقال: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ}. ثم تحداهم وتحدى آلهتهم جميعًا، وليس فقط بعض القوم وليس بعض الآلهة فقط أن يكيدوه ولا يمهلوه. وهو تهاون عظيم بهم وبآلهتهم كلها، فهم وآلهتهم أضعف من أن يفعلوا له شيئًا. وقوله: {مِمَّا تُشْرِكُونَ} يحتمل معنيين: أن تكون (ما) اسمًا موصولًا بمعنى (الذي)، أي أنا برئ من الذي تشركون. أو ان تكون (ما) مصدرية فيكون المعنى: أنا برئ من إشراككم آلهة من دونه (1). وقد أراد المعنيين جميعًا: البراءة من إشراكهم ومن الذين يشركونهم
إظهار النتائج من 10661 إلى 10670 من إجمالي 12316 نتيجة.