عرض وقفات أسرار بلاغية

  • ﴿وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ﴿٨﴾    [هود   آية:٨]
{وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [هود: 8] أسند تأخير العذاب إلى نفسه سبحانه فقال: (أخرنا)، ثم قال: {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} ولم يقل: (ليس منصرفًا عنهم) ليدل على أن العذاب لا ينصرف من نفسه وإنما يصرفه صارف. كم لم يقل: (ألا يوم يأتيهم لا نصرفه عنهم) فيسند عدم صرف العذاب إلى نفسه وإنما جعله اسم مفعول. فأسند تأخير العذاب إلى نفسه، ولم ينسب عدم صرفه إلى نفسه سبحانه إشارة إلى رحمته بخلقه. والأمة: هي المدن من الزمان. ومعنى الآية: أن الذين كفروا إذا تأخر عنهم ما يوعدون من العذاب استهزءوا وقالوا: ما يحسبه؟ أي: أيّ شيء يمنعه من الوقوع؟ يقولون ذلك استهزاء. فقال ربنا: {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} فقال: {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ} ولم يقل: (ألا يوم نأتي به) فأسند الإتيان إلى العذاب ولم يسنده إتيانه إلى نفسه. فأنت ترى أنه أسند التأخير إليه سبحانه. وأسند الإتيان إلى العذاب لا إليه سبحانه. ونفى الصرف بصيغه اسم المفعول ولم يقل: (لا نصرفه عنهم). كل ذلك تلطفًا بعباده لعلهم يرجعون إليه. وقال: {وَحَاقَ بِهِمْ} "على لفظ الماضي مع أنه لم يقع مبالغة في التأكد والتقرير" (1). والفعل (حاق) يقال لما يصيب الإنسان من مكروه وسوء. لقد قال: {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} فجعل استهزاءهم هو الذي حاق بهم وهو الذي أوجب عليهم العذاب. فهذا الذي وقع بهم إنما هو من ظلمهم لأنفسهم. وقدم {يَوْمَ يَأْتِيهِمْ} على قوله: {لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ}، قيل: وهو متعلق بقوله: {مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} وأصل التعبير (ليس مصروفًا عنهم يوم يأتيهم). ومنع قسم من النحاة مثل هذا التقديم، قالوا: لأن خبر (ليس) لا يتقدم عليها لأنها فعل جامد فلا يتقدم معمول الخبر عليها. وخرجوا التعبير على تقدير آخر. وقد تقول: ولماذا هذا التقديم، ولماذا لم يأت به على الأصل فيقول: (ألا ليس مصروفًا عنهم يوم يأتيهم)؟ فنقول: إن التعبير القرآني أولى، ذلك لأنه لو قال: (ألا ليس مصروفًا عنهم يوم يأتيهم ) لنفى صرف العذاب يوم يأتيهم، ولكنه قد يصرف في يوم آخر. كما تقول: (لست مسافرًا يوم الجمعة) فإنك قد تسافر في يوم آخر. وأما التعبير القرآني فقد ذكرت فيه توجيهات غير التقديم: منها: تقدير فعل يتعلق به الظرف وهو (ألا يلازمهم يوم يأتيهم) أو نحوه. ومنها: أن يعرب (يوم) مبتدأ مبنيًا على الفتح (2) لأنه أضيف إلى جملة وإن كان فعلها معربًا، وهذا ما جوزه الكوفيون وآخرون ومنعه الجمهور. فيكون (يون يأتيهم) مبتدأ ليس متعلقًا بشيء وجملة {لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ} خبرًا عنه. وعلى ذلك يكون عدم الانصراف مطلقًا غير مقيد بزمن. ويؤيد هذين التقديرين قوله: {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} فأطلقه ولم يقيده. فيكون التعبير القرآني أولى، ويكون تقدير الأخرين مرجوحًا، حتى أننا لو قلنا بجواز التقديم في مثل هذا التعبير فإن المعنى يضعف على جعل (يوم) متعلقًا بمصروف كما رأيت. وهو نظير ما يجوز فيه أوجه إعرابية متعددة بعضها أرجح من بعض وقد تقول: ولماذا لم يقل: (ألا يوم يأتيهم ليس مصروفًا عنهم) برفع اليوم على الابتداء ويزول الإشكال ويخرج من الندرة أو الضعف ومن الاختلاف في بناء نحو هذا، كما قال تعالى: {هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119] برفع (يوم)؟ فنقول: لو قال ذلك لكان المعنى ضعيفًا أيضًا، ذلك أنه لو قال: (ألا يوم يأتيهم ليس مصروفًا عنهم) برفع اليوم كانت جملة (ليس مصروفًا عنهم) خبرًا عن اليوم وسيكون المعنى أن اليوم لا ينصرف، في حين أن المقصود أن العذاب لا ينصرف وليس اليوم، وإنما اليوم مصروف لا محالة. وهذا الضعف حاصل على تقدير إعرابه مبتدأ مع بنائه على الفتح أيضًا. والذي نراه راجحًا في هذا هو تقدير عامل للظرف (يوم) وهو (يلازمهم) أو نحوه لسلامته مما ذكرناه، ويؤيد قوله: {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} فجعله مطلقًا ولم يقيده بزمن والله أعلم فيكون التعبير القرآني أولى من كل ما يذكر. ثم إنك تري أنه لم يذكر نوع العذاب وإنما قال: {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} فجعل استهزاءهم وفعلهم هو الذي يحدد العذاب الذي سيلحقهم وهو الذي يحيق بهم، فلا يقول قائل إنه أقل مما يستحقون أو أكثر مما يستحقون. وهو منتهي العدل، والحمد لله رب العالمين. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 33 إلى ص 36. (1) تفسير الرازي 18/321. (2) انظر روح المعاني 12/15.
  • ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ ﴿٩﴾    [هود   آية:٩]
{وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} [هود: 9] ذاق الشيء: خبره وجرّبه. والذوق يكون بالفم وبغير الفم، ويكون في المحمود والمكروه (1). وهو يصلح للقليل والكثير (2). قال تعالى: {فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآَتُهُمَا}. [الأعراف: 22]، وقال: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [السجدة: 21] وهذا الذوق القليل. وقال: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء: 56]. والعذاب هنا دائم مستمر لا ينقطع، واستعمل له الذوق. وقال: {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} [الحج: 22] ، وهو نحو ما مر. وقال: {وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ} [القمر: 38، 39]، فذكر أن العذاب مستقر، أي ثابت لا يتحول، ثم قال: {فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ }وهو عذاب متصل وقد عنه بالذوق؟ وقال: {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا} [الفرقان: 19] فوصفه بأنه عذاب كبير. وقال: {ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس: 70] فوصفه بأنه عذاب شديد. والرحمة نعمة من صحة أو مال أو كل ما تقتضيه راحه البال، ونزعها سلبها. واليؤوس "شديد اليأس من أن تعود إليه مثل تلك النعمة المسلوبة، قاطع رجاءه من سعة فضل الله من غير صبر ولا تسليم لقضائه ولا استرجاع. و{الْكَفُورَ}: "عظيم الكفران لما سلف من التقلب في نعمة الله نساء له" (3). وهذا تبيين لحال الإنسان وهي أنه إذا سلبت منه نعمة كان يتقلب فيها يئس من عودتها، وكفر النعمة التي كان ينعم فيها إلا ممن استثناه الله فيما ذكر بعد. وقد قدم الجار والمجرور (منا) على الرحمة فقال: {أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً}، في حين أخره عنها في موضع أخر، فقد قال في فصلت: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} [فصلت: 50]. فقدَّم الرحمة وأخر الجار والمجرور (منا) ذلك أنه في أية هود ذكر ما يفعله نزع الرحمة لا ما تفعله الرحمة فأخرها، لأن الكلام ليس عليها بل على نزعها. وأما أية فصلت فإن الكلام ما تفعله الرحمة بعد الضراء. فآية هود في نزع الرحمة فأخرها، وأما أية فصلت فالكلام على الرحمة فقدمها. لقد ختم آية هود هذه بقوله: {إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} فختمها باليأس والكفران. وفي آية أخري ختمها باليأس والقنوط. فقد قال في فصلت: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} [فصلت: 49] فختمها بقوله: {فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} والقنوط شديدة اليأس من الخير، ذلك - والله أعلم - أنه في هود ذكر أمرين: إذاقة الرحمة ونزعها، وبين أن الإنسان إذا سلبت منه النعمة التي كان يتقلب فيها أدركه اليأس ولم يشكر ما سلف من نعمة الله عليه فهو يؤوس كفور. مع أن إذاقة الرحمة تقتضي الشكر وأن نزعها يقتضي الصبر والدعاء والرجاء غير أنه يئس وكفر. وأما في فصلت فلم يذكر نعمة أو خيرًا أصابه قبل أن يمسّه الشر وإنما ذكر مَسَّ الشر فحسب. وأما قبل ذلك فلم يذكر أنه مسه خير أو أصابته حسنه، وإنما قال: {لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} وهذا لا يدل على حال بعينها من نعمة أو سوء. ولما ذكر مَسَّ الشر له فحسب جاء بصفتين من صفات اليأس، فقال: (يؤوس قنوط). فناسب كل تعبير موضعه الذي ورد فيه. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 36 إلى ص 39. (1) انظر لسان العرب (ذوق)، المصباح المنير (ذوق). (2) انظر مفردات الراغب (ذوق). (3) الكشاف 2/92.
  • ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ ﴿١٠﴾    [هود   آية:١٠]
  • ﴿إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ﴿١١﴾    [هود   آية:١١]
{وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [هود: 10 – 11]. النعماء: قيل هي "أنعام يظهر أثره على صاحبه. والضراء: مضره يظهر أثرها على صاحبها ... وهذا هو الفرق بين النعمة والنعماء، والمضرة والضراء" (1). وقال: {ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} بتذكير الفعل (ذهب)، ولم يقل: (ذهب السيئات عني)، وهذا جار في جميع القرآن إذا جعل السيئات فاعلًا فإنه يذكر الفعل. قال تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر: 48] وقال: {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر: 51]، وقال: {وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} [الزمر: 51]، وقال: {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا} [الجاثية:33]. وذلك مراعاه للمعنى والله أعلم، إذا المقصود أنه يصيبهم جزاء السيئات وما توجبه السيئات من العذاب ونحو ذلك، فذكر لأنه أراد معنى المذكر، ويوضح ذلك قوله: {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ}. [الزمر: 50 - 51]. بتذكير الفعلين (أصابهم) و(سيصيبهم) ذلك أنه ليس المقصود أنه أصابتهم سيئات أعمالهم، وإنما المقصود أنه أصابهم عذاب هذه السيئات أو جزاء هذه السيئات، ولذلك قال: {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} إشارة إلي العذاب الذي حل بهم. ثم هَدَّد من كان في زمنه من الظالمين قائلًا: {وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} [الزمر: 51] أي سيصيبهم جزاء سيئاتهم وما يستحقون من العذاب ولذا قال: {وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ}. فذكر الفعل إشارة إلي المعنى. وأراد هنا بقوله: {ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي} ذهاب البؤس وذهاب سيء العيش وزوال ما ساءه منه فذكر الفعل مراعاة للمعنى ، وليس المقصود ذهاب السيئات من الأعمال التي يعملها الفرد، والله أعلم. والفرح الأشر البطر "وهذا الفرح مطلق فلذلك ذم المتصف به ولم يأت في القرآن للمدح إلا مقيدًا بما فيه خير كقوله: {فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [آل عمران: 170]" (2). والفخور: هو الذي يفخر على الناس بما عنده، وهنا يفخر على الناس "بما أذاقه الله من نعمائه قد شغله الفرح والفخر عن شكر" (3). ولم تأت كلمة (فخور) في القرآن إلا في ذم من اتصف بها، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18]، وقال: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 32]. {إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا} على ما أصابهم من الضراء. {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} في كل أحوالهم سواء في حال الضراء أو النعماء. ومن العمل الصالح شكرهم لربهم على ما أنعم عليهم فأولئك لهم مغفرة؛ لأن المؤمن إذا أصابته ضراء صبر فكان خيرًا له، والمصائب كفارة للذنوب. فذكر المغفرة لأن ما أصابهم من الضراء مدعاة للمغفرة إذا صب صاحبها. {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} وذلك لأن هذا الأجر أصابهم في حالتي الضراء والنعماء، ففي الضراء نالهم أجر الصابرين المحتسبين، قال تعالى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10]، وفي حال النعماء نالهم أجر الشاكرين إضافة على أجر العمل الصالح الذي ذكره في قوله: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} فكان الأجر كبيرًا. جاء في (البحر المحيط): "واستثنى تعالى الصابرين يعني على الضراء وعاملي الصالحات، ومنها الشكر على النعماء، أولئك لهم مغفرة لذنوبهم يقتضي زوال العقاب والخلاص منه، وأجر كبير هو الجنة، فيقتضي الفوز بالثواب" (4). وجاء في (روح المعاني): "وأيًا ما كان فالمراد صبروا على ما أصابهم من الضراء سابقًا أو لا حقًا إيمانًا بالله تعالى واستسلامًا لقضائه ... {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} شكرًا على نعمه سبحانه السابقة واللاحقة. قال المدقق في الكشف: لما تضمن اليأس عدم الصبر، والكفران عدم الشكر، كان المستثنى من ذلك ضده ممن اتصف بالصبر والشكر. فلما قيل: (إلا الذين)... إلخ كان بمنزلة إلا الذين صبروا وشكروا" (5). وذكر أحوال الأنسان في حالي إذاقة الرحمة ونزعها، وحالي إذاقة النعماء ومس الضراء، بيانًا لما تقدم من قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [هود: 7]، فإن هذا من البلاء في السراء والضراء. جاء في (روح المعاني): "وقال بعض المحققين: إن وجه التعلق من حيث إن إذاقة النعماء ومساس الضراء فصل من باب الابتلاء واقع موقع التفصيل من الإجمال في قوله سبحانه: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}" (6). ومن الملاحظ أنه أسند مظاهر الرحمة والخير إلي نفسه سبحانه دون مقابلها فقد قال: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ} فأسند تأخير العذاب إلي نفسه، في حين قال: {أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ} فأسند تأخير العذاب إلي نفسه، فلم يقل: (ألا يوم نأتي به)، كما سبق أن ذكرنا. وقال: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً} فأسند إذاقة الرحمة إلي نفسه. وقال: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ} فأسند إذاقة النعماء إلي نفسه. في حين قال: {بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} فأسند المس إلي الضراء ولم يقل: (بعدما مسسناه بالضر) ونحوه، كل ذلك من باب إسناد الخير إلي نفسه سبحانه دون السوء والشر. وقد تقول: ولكنه قال: {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ}. فنقول: إذا هذا ما يقتضيه قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} فإن البلاء يكون في السراء والضراء، والخير والشر، كما قال تعالى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35]. ومع ذلك فقد اختار أهون الأمور، فلم يقل: (مسسناه بالشر) أو (مسسناه بالسوء) ونحو ذلك، وإنما قال: {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} أي أعاده إلي حالته قبل إذاقته الرحمة. وهو كما يعطي أحد أحدًا شيئًا على سبيل الاختبار ثم يسترجعه منه ليري كيف يفعل. فهو لم يقل إنه أصابه بالضر أو السوء أو بالشر، وإنما قال أذاقه شيئًا ثم أعاده ليختبره. وهو أخف من إصابته بالضراء أو بالشر أو نحوه. جاء في (روح المعاني): "وفي إسناد الإذاقة إليه تعالى دون المس إشعار بأن إذاقة النعمة مقصودة بالذات دون مس الضر بل هو مقصود بالعرض... وفي التعبير عن ملابسة الرحمة والنعماء بالذوق المؤذن على ما قيل بلذتهما وكونهما مما يرغب فيه، وعن ملابسة الضراء بالمس المشعر بكونها في أدنى ما يطلق عليه اسم الملاقاة من مراتبها من اللطف ما لا يخفى ولعله يقوي عظم شأن الرحمة"(7). ثم لننظر نسق الآيات وترتيبها: فقد بدأ بعموم المكلفين وطلب منهم أن لا يعبدوا إلا الله. ثم خص الكافرين بالذكر وذلك قوله: {أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ} ثم ذكر ما هو أعم وهو كل دابة في الأرض فقال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} ثم عاد إلي ذكر عموم المكلفين فقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}. ثم خص الكافرين فقال: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}. ثم ذكر ما هو أعم وهو الأنسان فقال: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً}. فكان النسق على النحو الآتي: عموم المكلفين – الكافرين – ما هو أعم وهو كل دابة. عموم المكلفين – الكافرين – ما هو أعم. ثم إنه بدأ وانتهي بالكتاب، فقد بدأ بقوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ}. وانتهى بقوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ ….. أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} [هود: 12 - 13]. فكان النسق في ترتيب الآيات واحدًا. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 39 إلى ص 44. (1) تفسير الرازي 18/322. (2) البحر المحيط 5/206. (3) الكشاف 2/92. (4) البحر المحيط 5/206. (5) روح المعاني 12/16. (6) روح المعاني 12/16. (7) روح المعاني 12/15.
  • ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴿١٢﴾    [هود   آية:١٢]
{فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هود: 12]. ومناسبة الآية لما قبلها، ذلك أنه لما ذكر الذين صبروا في الآية السابقة أشار إلى ما يقتضي الصبر في هذه الآية، ذلك أنه مثل هذا الضيق ينبغي الصبر، الصبر على ما يجد في نفسه، والصبر على ما يقولون. قيل: (ولعل) في نحو هذا تفيد الزجر "والعرب تقول للرجل إذا أرادوا إبعاده عن أمر: لعلك تقدر أن تفعل كذا، مع أنه لا شك فيه. ويقول لولده لو أمره: (لعلك تقصر فيما أمرتك به) ويريد توكيد الأمر، فمعناه: لا تترك" (1). وقال: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} ولم يقل: (تارك ما يوحى إليك) ليحذره من ترك أي شيء من أمور الدين بسبب أقوال الكافرين واستهزائهم، بل إن عليه أن يبلغه كله أيًا كان موقف الكافرين منه، ومهما سبب ذلك من ضيق في صدره" وكانوا لا يعتدون بالقرآن ويتهاونون به وبغيره مما جاء به من البينات، بكان يضيق صدر رسول الله أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه، فحرك الله منه وهيجه لأداء الرسالة وطرح المبالاة بردهم واستهزائهم واقتراحهم بقوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} أي لعلك تترك أن تلقيه إليهم وتبلغه إياهم مخافة ردهم وتهاونهم به وضائق به صدرك بأن تتلوه عليهم، (أن يقولوا) مخافة أن يقولوا: لولا أنزل عليه كنز، هلا أنزل عليه ما اقترحنا نحن من الكنز والملائكة ، ولم ينزل عليه ما لا نريده ولا نقترحه" (2). وقال: (ضائق) ولم يقل: (ضيق) "ليدل على أنه ضيق عارض غير ثابت؛ لأن رسول الله  كان أفسح الناس صدرًا. ومثله قولك: زيد سيد وجواد، تريد السيادة والجود الثابتين المستقرين، فإذا أردت الحدوث قلت: سائد وجائد" (3). وذلك لأن اسم الفاعل يدل على الحدوث، بخلاف الصفة المشبهة فإنها تدل على الثبوت. فـ (حسن) يدل على الثبوت و(حاسن) يدل على الحدوث، تقول: ( هو حاسن غدًا) أي سيحسن، ونحوه: كريم وكارم. جاء في (البحر المحيط): "وليس هذا الحكم مختصًا بهذه الألفاظ، بل كل ما بيني من الثلاثي للثبوت والاستقرار على غير وزن (فاعل) رد إليه إذا أريد معنى الحدوث، فنقول: حاسن من حسن، وثاقل من ثقل، وفارح من فرح، وسامن من سمن" (4). وقال: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ} بتنوين (تارك) ولم يقلها بالإضافة، للدلالة على تحذيره من فعل ذلك في المستقبل، أي لعلك ستترك؛ لأن إعمال اسم الفاعل شرطه أن يدل على الحال أو الاستقبال. ولو قالها بالإضافة لاحتمل المضيّ أيضًا فيكون الزجر عما فعل، أي لعلك تركت بعض ما يوحى إليك، فهو يحذره من أن يكون قد ترك بعض ما يوحي إليه. وهذا لا يصح، إذا هو  أحرص الخلق على تبليغ الوحي. وقدم {تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ} على {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} مع أنه قد يكون ضيق الصدر سببًا للترك، ذلك أنه قدم ما هو الأهم وهو ما يوحي إليه، فإن ترك بعض ما يوحي إليه هو أهم وأخطر من ضيق الصدر. وقد يضيق صدر المرء من شيء غير أنه لا يترك الأهم. وقد ذكر ربنا عن رسوله في موطن آخر أنه يضيق صدره بما يقولون فأرشده إلي التسبيح والصلاة فقال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 97 – 98]. وقال: {وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} فقدم (به) على الصدر، ولم يقل (وضائق صدرك به ) ذلك لأن المجرور وهو الهاء في (به) يعود على بعض ما يوحي إليه وهو أهم من الفاعل ، فقدم ما هو أهم. ألا ترى أنه قال في آية أخرى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} فقدم (الصدر) على (ما يقولون) لأن صدره  أهم مما يقوله المستهزئون؟ وقال: {أَنْ يَقُولُوا} ولم يقل: (أن قالوا) أو (لقولهم) ذلك أن قوله: {أَنْ يَقُولُوا} يفيد الدوام والاستمرار، أي لأنهم يقولون ذلك. أما (أن قالوا) فإنه يفيد أنهم قالوه في الماضي وانتهى الأمر، وقد يكونون قالوه مرة واحدة. وكذلك لو قال: (لقولهم) فإنهم يحتمل المضي وأنهم قالوه مرة واحدة. في حين أنهم يقولون ذلك باستمرار مما يدعو إلى ضيق صدره  بذلك. {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ} "أي مال كثير ، وعبروا بالإنزال دون الإعطاء لأن مرادهم التعجيز بكون ذلك على خلاف العادة ، لأن الكنوز إنما تكون في الأرض ولا تنزل من السماء. ويحتمل أنهم أرادوا بالإنزال الإعطاء من دون سبب عادي" (5). {إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ} "أي ليس عليك إلا أن تنذرهم بما أوحي إليك وتبلغهم ما أمرت بتبليغه، ولا عليك ردوا أو تهاونوا أو اقترحوا. {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} يحفظ ما يقولون، وهو فاعل بهم ما يجب أن يفعل، فتوكل عليه وكل أمرك إليه" (6). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 44 إلى ص 47. (1) تفسير الرازي 18/324. (2) البحر المحيط 5/206 – 207. (3) الكشاف 2/92. (4) البحر المحيط 5/207. (5) روح المعاني 12/19. (6) البحر المحيط 5/206.
  • ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴿١٣﴾    [هود   آية:١٣]
  • ﴿فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَن لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴿١٤﴾    [هود   آية:١٤]
{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 13 – 14]. اٍن مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، ذلك أنهم اٍنما يقولون: لولا أنزل عليه كنز ذلك لعدم تصديقهم برسالته ، وأنهم يرون أن ما يأتي به هو افتراء، فذلك ههنا وتحداهم بأن يأتوا بعشر سور مثله وأن يفتروا هم كما افترى وأن يدعوا كل من يستطيعون ليفعلو ذلك. وقد ذكرنا في كتابنا (أسئلة بيانية في القرآن الكريم) هذه الآية وما كان نحوها من آيات التحدي وبينا ما فيها من أمور بيانية فلا نعيد القول فيها. جاء في (البحر المحيط): "ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنها لا تتعلق أطماعهم بأن يترك بعض ما يوحى اٍليه اٍلا لدواعهم أنه ليس من عند الله وأنه هو الذي افتراه" (1). وجاء في (الكشاف): "أم منقطعة، والضمير في (افتراه) لما يوحى اٍليك. تحداهم أولًا بعشر سور، ثم بسورة واحدة، كما يقول المخابر في الخط لصاحبه: اكتب عشرة أسطر نحو ما أكتب، فاٍذا تبين له العجز عن مثل خطه قال: قد اقتصرت منك على سطر واحد ... فاٍن قلت: ما وجه جمع الخطاب بعد اٍفراده وهو قوله: {لَكُمْ فَاعْلَمُوا} بعد قوله: (قل)؟ قلت: معناه فاٍن لم يستجيبوا لك وللمؤمنين لا رسول الله  والمؤمنين كانوا يتحدونهم" (2). ومن الملاحظ في رسم الآية أنه أخفى حرف الشرط في هذه الآية، أدغم نون (اٍن) في (اللام) {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ} [هود: 14]، وأظهر في أية أخرى وذلك في قوله: {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 50]. وهذا الأمر يتعلق برسم المصحف، ورسم المصحف لا يقاس عليه اٍلا أنه قد يمكن تعليله من الناحية البيانية أحيانًا. فقد قال في (القصص): {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ} [القصص: 48 – 50]. ومن الظاهر أن التكذيب في آية هود اٍنما هو لمحمد خاصةً، فإنه قال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} وقال قبلها: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} وقال {فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} يعني القرآن. وأما في القصص فاٍن التكذيب لمحمد وموسى، فقد قال على لسانهم: {قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ} أي محمد وموسى. وقال: {قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ}يعني التوراة والقرآن. فلما كان الكلام هود على واحد وحد الرسم. ولما كان الكلام في القصص على اثنين جعل الرسم اثنين وفصل بينهما، ذلك أن الرسولين اٍنما هما في زمانين منفصلين وأن الكتابين منفصلان والله أعلم. {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} أي القرآن. {وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} أي واعلموا ذلك. والعلم بهذا اٍنما هو من مقتضيات ما مر من التحدي. فاٍنه بعد أن تبين عجز الجميع من دون الله عن الاستجابة لما طلب علم أن ما عداه ليس باٍله ولا ند لله، لأنه لو كان اٍلهًا لم يعجز عن الاٍتيان بمثله. وقال: { فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} فأمرهم بالعلم (فاعملوا) ليكون اٍيمانهم عن علم وبصيرة وليس تصديقًا بلا حجة وتسليمًا بلا دليل، كما قال تعالى في عباد الرحمن: {وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا} [الفرقان: 73]. وقدم قوله: {أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ }على قوله: {وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} لأن السياق اٍنما هو خير الكلام على القرآن وليس التوحيد. ثم اٍن القرآن يتضمن التوحيد ويأمر به، فالإيمان به اٍيمان بالتوحيد قطعًا. وبعد أن ذكر ما ذكر من مقتضيات الاٍيمان والعلم به حفزهم اٍلى الاٍسلام، وهو الانقياد لأمر الله والاستجابة له، ولم يكتف بمجرد الاٍيمان والعلم فقال: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} لأنه لو صدق المرء بقلبه وعلم الحق ولم يكن منقادًا لأمر الله مستجيبًا له لم ينفعه ذلك ولم ينجه من النار، كما قال تعالى في عادٍ وثمود: {وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ} [العنكبوت: 38] فلم ينفهم استبصارهم. وكما قال في قوم الرسول: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الانعام: 33] فلم ينفعهم عدم تكذيبهم، بل سيكونون من الذين أضلهم الله على علم. وقال: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} أي أفلا يدعوكم ذلك إلى الإسلام؟ أولاً يدعوكم ذلك إلى الاستجابة بعد ما تبين صدق الرسول وما جاء به؟ وهو ما أبلغ مما لو قيل (أسلموا) فيأمر بالإسلام، ذلك أنه ينبغي أن يستجيبوا هم من أنفسهم من بعد توفى دواعي الإسلام وإن لم يطلب منهم ذلك أحد. إن قوله تعالى: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} إنما هو السبيل للدخول في الإسلام. فالذي يريد الدخول في الإسلام عليه أن ينطق بالشهادتين: (إله إلا الله محمد رسول الله). وهذا الجزء من الآية تضمنهما، فقوله: {فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} إقرار بنبوة محمد. وقوله: {لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} إقرار بكلمة التوحيد. ولما كانت هاتان الشهادتان هما المدخل إلى دين الله وهو الإسلام قال بعد ذلك: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 47 إلى ص 51. (1) البحر المحيط 5/208. (2) الكشاف 2/92.
  • ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ ﴿١٥﴾    [هود   آية:١٥]
  • ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿١٦﴾    [هود   آية:١٦]
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 15 – 16]. هاتان الآيتان مناسبتان للجو الذي وردتا فيه. فقد ذكر في أول السورة سبيل المتاع الحسن في الدنيا وهو الاستغفار والتوبة فقال: {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 3]. والمتاع الحسن مما يريده الإنسان في هذه الدار مؤمنهم وكافرهم. فقال فيمن يريد الحياة الدنيا وزينتها أنه يوفي إليهم أعمالهم فيها. ولم يقل إنه يمتعهم متاعًا حسنًا. في حين قال في الصنف المستغفر التائب إنه يمتعهم متاعًا حسنًا. وقال فيمن يريد الحياة الدنيا: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} وقال في الصنف التائب: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}. ولا شك أن الصنف التائب متاعه أفضل ممن يريد الحياة الدنيا وزينتها. ثم ذكر بعد ذلك أثر الرحمة والنعماء في الإنسان فقال: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: ۹ - ۱۰]. وذكر الذين يقولون: {لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ} [هود: ١٢] والكنز من وسائل متاع الحياة الدنيا وزينتها. فناسب ما مر ذكره من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها. جاء في (البحر المحيط): "مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما ذكر شيئًا من أحوال الكفار المناقضين في القرآن ذكر شيئًا من أحوالهم الدنيوية وما يؤولون إليه في الآخرة. وظاهر من العموم في كل من يريد زينة الحياة الدنيا والجزاء مقرون بمشيئته تعالى، كما بين ذلك في قوله تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ} [الإسراء: ۱۸]" (1). لقد قال: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}، فأدخل (كان) على الفعل المضارع (يريد)، وهذا التعبير يفيد الاستمرار، أي يريدها على وجه الـدوام. جاء في (روح المعـانـي): "وإدخـال (كـان) للدلالة على الاستمرار، أي من يريد ذلك بحيث لا يكاد يريد الآخرة أصلًا" (2). {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ} "نوصل إليهم أجور أعمالهم وافية كاملة من غير بخس في الدنيا، وهو ما يرزقون فيها من الصحة والرزق. وقيل: هم أهل الرياء، يقال للقراء منهم: أردت أن يقال فلان قارئ، فقد قيل ذلك. ولمن وصل الرحم وتصدق: فعلت حتى يقال، فقيل، ولمن قتل فقتل: قاتلت حتى يقال فلان جريء فقد قيل. وعن أنس بن مالك: هم اليهود والنصارى، إن أعطوا سائلاً أو وصلوا رحمًا عجل لهم جزاء ذلك بتوسعة في الرزق وصحة في البدن. وقيل: هم الذين جاهدوا من المنافقين مع رسول الله  فأسهم لهم في الغنائم" (3). وجاء في (روح المعاني): "(نوف) متضمن معنى (نوصل) ولذا عدي بـ إلى، وإلا فهو مما يتعدى بنفسه. وقيل: إنه مجاز عن د ذلك" (4). وقد عدى (نوف) هنا بـ (إلى) وعداه إلى مفعولين في آيات أخرى، فقد قال في آية أخرى من سورة هود: {وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} [هود: ۱۱۱]. فعداه إلى ضميرهم وإلى الأعمال. وقال: {وَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} [آل عمران: 57]. وغير ذلك من الآيات (5). والذي يظهر من الفرق بين الاستعمالين في القرآن الكريم: أن تعدية هذا الفعل بـ (إلى) إنما خصها بالأموال، قال تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: ٢٧٢]. وقال: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60]. وقال في آية هود هذه: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ}، والحياة الدنيا وزينتها إنما تتأتى عن طريق الأموال. ثم إن تعدية هذا الفعل بـ (إلى) أفادت معنى (نوصل إلى) كما مر، فمعنى (نوف إليه) نوصل إليه. والإيصال إلى شخص ما لا يقتضي المباشرة بالإيصال أو المواجهة، فقد توصل شيئًا إلى أحد عن طريق شخص آخر أو وسيلة ما. ويتضح من الاستعمال القرآني أن ما جاء معدى بنفسه إنما هو في الآخرة وذلك نحو قوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ} [النور: ٢٥]. وقوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} [الأحقاف: 19] وقوله: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [النحل: 111]. وغير ذلك. ومعنى ذلك أن الأمر يدل على المواجهة والتوفية المباشرة، ذلك أنه في يوم القيامة يعرض الجميع على ربهم فيواجههم بأعمالهم، كما قال: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الكهف: 47 – 48]. وأما ما عداه بـ (إلى) فهو لا يخص الآخرة، فقد يكون الإيصال في الدنيا، فإن آية هود إنما هي خاصة بالدنيا كما هو واضح، فقد قال تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ} ... وأما آية الإنفاق فإنها لا تختص بالآخرة، بل قد يكون أثره في الدنيا، فإن قوله تعالى: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [الأنفال: 60]، وقوله: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: ٢٧٢]، قد يكون ذلك في الدنيا والآخرة، أي يوفيه ما أنفق في الدنيا، ويؤتيه أجره في الآخرة. ومصداق ذلك قوله تعالى: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [سبأ: 39] وقوله : (ما نقص مال من صدقة). وعلى هذا فالفرق بين (وفاه) و(وفى إليه) في الاستعمال القرآني: 1ـ إن (وفى إليه) خصه القرآن بالأموال، وأما (وفاه) فهو عام. ٢ـ إن (وفى إليه) قد يكون ذلك في الدنيا، وأما (وفاه) فاستعمله لما بعد الدنيا. 3ـ لما كان (وفى إليه) تضمن معنى الإيصال فإن ذلك لا يقتضي المواجهة والمباشرة بالتوفية، بل قد تكون عن طريق آخر. ومن المعلوم أن ربنا إذا أراد أن يوفي في الدنيا من أنفق هيأ له أسباب التوفية. وأما (وفاه) فلما كان في الآخرة اقتضى ذلك مواجهة الرب الذي يوفي الأعمال. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 51 إلى ص 55. (1) البحر المحيط 5/209. (2) روح المعاني 12/23. (3) الكشاف 2/93. (4) روح المعاني 12/23. (5) انظر على سبيل المثال: النور 25، فاطر 30، النساء 173 وغيرها. {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} أي في الدنيا. وقوله: {وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} يحتمل معنيين: أحدهما: أن قوله: (فيها) أي في الأعمال، فالضمير في (فيها) يعود على الأعمال، والمعنى أننا نوفي إليهم أعمالهم في الدنيا ولا يبخسون على في أعمالهم. والآخر: أن (فيها) يعود على الدنيا، أي وهم في الدنيا لا يبخسون. وهذا هو الأظهر. فتكون التوفية في الدنيا، وكذلك عدم البخس. قد تقول: أما كان يمكن الاكتفاء بضمير واحد فلا يكرر (فيها) فيقول مثلاً: (نوف إليهم أعمالهم فيها وهم لا يبخسون)؟ فنقول: لو قال ذلك لكان عدم البخس في الدنيا والآخرة، ولكان المعنى أنه يوفي إليهم أعمالهم في الدنيا وأنهم لا يبخسون مطلقًا، فيكون عدم البخس في الدنيا والآخرة. في حين أنه أراد أن كل ذلك في الدنيا، فإنه يوفي إليهم أعمالهم فيها، وأنهم فيها لا يبخسون. وأما الآخرة فإنهم حبطت أعمالهم فيها وأنه ليس لهم فيها إلا النار، كما قال تعالى في الآية بعدها. جاء في (روح المعاني) في قوله: {وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} "أي لا ينقصون، والظاهر أن المجرور للحياة الدنيا. وقيل: الأظهر أن يكون للأعمال لئلا يكون تكرارًا بلا فائدة. ورد بأن فائدته إفادته من أول الأمر أن عدم البخس ليس إلا في الدنيا، فلو لم يذكر توهم أنه مطلق" (1). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 55 إلى ص 56. (1) روح المعاني 12/24. {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ١- لقد ذكر الصنع ثم ذكر العمل فقال: {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا}، ثم قال:{ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }والصنع هو إجادة العمل، وأما العمل فهو عام يشمل الصنع وغيره، وقد ذكر بطلانه كله: ما بذلوا فيه جهدهم لإحسانه، وما عملوه على وجه العموم. وذكر الصنعة الحبوط، ومع العمل البطلان؛ ذلك أن الحبوط أخص من البطلان، فالحبوط خاص بالأعمال، وأما البطلان فهو عام في الأعمال وغيرها كما سنبين. والصنع أخص من العمل لأنه ما أجيد منه. فذكر الخاص مع الخاص، والعام مع العام. ٢- قوله: {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا} يحتمل أن يكون الجار والمجرور (فيها) متعلقًا بـ (حبط) فيكون المعنى: (وحبط فيها ما صنعوا) أي في الآخرة، فيعود الضمير على الآخرة فيكون الحبوط في الآخرة. كما يحتمل أن يكون الجار والمجرور متعلقا بـ (صنعوا) فيكون المعنى: (وحبط ما صنعوا في الدنيا) فيعود الضمير على الدنيا. والمعنيان مرادان، فإنه حبط في الآخرة ما صنعوا في الدنيا. وهذا من التوسع في المعنى. ولو قدم الجار والمجرور فقال: (وحبط فيها ما صنعوا) لكان احتمالاً واحدًا. فالتعبير القرآني أولى لأنه يشمل معنيين. جاء في (البحر المحيط): "والضمير في قوله: {مَا صَنَعُوا فِيهَا} الظاهر أ أنه عائد على الآخرة والجار والمجرور متعلق بحبط. والمعنى: وظهور حبوط ما صنعوا في الآخرة . ويجوز أن يتعلق بقوله: (صنعوا) فيكون عائدًا على الحياة الدنيا كما عاد عليها في (فيها) قبل" (1). 3- قوله: (ما صنعوا) يحتمل أن تكون فيه (ما) مصدرية فيكون المعنى: وحبط صنعهم. كما يحتمل أن تكون (ما) اسمًا موصولاً فيكون المعنى: وحبط الذي صنعوه من الأعمال. والمعنيان مرادان، فقد حبط الصنع والعمل، وحبط ما صنعوه، وهذا من التوسع في المعنى أيضًا. ولو قال: (ما صنعوه) لكان اسمًا موصولاً فقط. فما ذكره أولى لأنه أعم وأشمل. جاء في (البحر المحيط): "و(ما) في (ما صنعوا) بمعنى (الذي) أو مصدرية" (2). ثم لننظر في تأليف هذه العبارة، أعني قوله تعالى: {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} من جهة أخرى. فإن القسم الأول منها وهو قوله: {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا} مبني على الخصوص. والقسم الآخر: وهو قوله: {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} مبني على العموم. فقوله: {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أعم من قوله: {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا} من أكثر من جهة : 1- فقد قال في العبارة الأولى: (وحبط). وقال في العبارة الثانية: (وباطل). والباطل أعم من الحبوط، فإن الحبوط خاص بالأعمال، ولم يرد في القرآن إلا كذلك. قال تعالى: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5]. وقال: {فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ} [البقرة: ٢١٧] وقال: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: 53]. وأما الباطل فهو عام في الأعمال وغيرها مما لا يصح فيه الحبوط. قال تعالى: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: ۱۱۸]، وقال: {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [هود: 16]. ويكون الباطل لغير العمل، فقد يكون في المعبودات والمعتقدات وغيرها مما هو نقيض الحق. قال تعالى: {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: ٤٢]. وقال : {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: ٢٩]. وقال: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: ۷۲]. وقال: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا} [الإسراء: ٨١]. وقال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} [الحج: ٦٢]. وقال: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} [غافر: 5]. وقال: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [العنكبوت: 52]. وغير ذلك وغيره. فقد يكون الباطل يعني المعبودات الباطلة من دون الله، وقد يكون من المعتقدات الباطلة غير دين الله، وغير ذلك. فالباطل أعم من الحبوط. 2- وقال: (حبط) بالفعل الماضي. وقال: (باطل) بالاسم. والاسم على العموم أثبت وأعم من الفعل. فكان الباطل أعم من الحبوط من حيث الدلالة ومن حيث الصيغة. ٣- وقال في العبارة الأولى: (ما صنعوا). وقال في العبارة الثانية: (ما كانوا يعملون). والصنع هو إجادة العمل وإحسانه، فالعمل أعم من الصنع لأنه قد يكون بإجادة أو بغيره. 4- قال في العبارة الأولى: (ما صنعوا) بالفعل الماضي. وقال في العبارة الثانية: (ما كانوا يعملون). والعبارة الثانية أعم لأنها تدل على الاستمرار في الماضي. فقوله: (صنعوا) قد يدل على زمن من أزمنة الماضي، وقد يدل على الحدوث مرة واحدة في الزمن الماضي. أما قوله: {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فإنه يدل على الاستمرار في الماضي فهو أعم. فقولك: (صنعوا) حالة واحدة وزمن واحد من قولك: (كانوا يصنعون). 5- قال في العبارة الأولى: {مَا صَنَعُوا فِيهَا} فقيد الصنع في الدنيا أو الحبوط كما ذكرنا. وأطلق في العبارة الثانية فلم يقل (وباطل فيها)، كما لم يقل: (ما كانوا يعملون فيها)، فالعبارة الثانية أعم. 6- قوله : { وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ }أعم من حيث التأليف من قوله: {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا} ذلك أن قوله: {وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا} فعل وفاعل. وقوله: {وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} يحتمل أن يكون (باطل) خبرًا مقدمًا، وقوله: {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} مبتدأ مؤخر. كما يحتمل أن يكون {مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فاعلاً لاسم الفاعل (باطل)، والباطل خبر ثان لأولئك. (3) فهو أعم على كل حال. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 57 إلى ص 61. (1) البحر المحيط 5/210. (2) البحر المحيط 5/210، وانظر الكشاف 2/93. (3) انظر البحر المحيط 5/210.
  • ﴿أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ ﴿١٧﴾    [هود   آية:١٧]
{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} [ هود: ۱۷] إن صحة الحكم في القضاء تستند إلى أحد أمرين: البيئة أو الشهود العدول، فإن ثبت أحدهما صح الحكم على الدعوى بالصحة. فإن تعاضد على ذلك البينة والشهود والعدول فذلك ما لا مطمع وراءه في الصحة. وقد ذكر ههنا الأمرين الذي يحكم بأحدهما على صحة الدعوى: البينة والشاهد. فقد ذكر البينة فقال: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ}. وذكر الشاهد أيضًا فقال: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ}، وهذا الشاهد عدل لأنه (منه) أي من ربه. ولما كانت الدعوى أنه مرسل من ربه، أي أرسله ربه، لزم أن تكون البينة من ربه فقال: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} أي إن الله آتاه بينة وبرهانًا على أنه رسوله. ولما كان الشاهد يشهد على هذه القضية لزم أن يكون الشاهد من ربه فقال: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ}، وترتب على ذلك أن يكون عدلاً، لأن الشاهد من الرب لا يكون إلا عدلاً. ولم يكتف بذلك بل ذكر شاهدًا آخر لا تدفع شهادته، وهو أن هناك كتابًا سابقًا من ربه، أي من الجهة نفسها، وذلك قبل أن يأتي هذا الشخص إلى الدنيا بقرون يشهد على ما جاء به هذا الرسول. وهذا الكتاب السابق ذكر ذلك صراحة بما لا يحتمل التأويل في أن هذا أ الشخص هو المقصود بعينه. فقد ذكر اسم الرسول ومكان نشأته وعلامته البدنية ومن أي شعب هو وإلى أين يهاجر وإلام يؤول أمره. كل ذلك مذكور في التوراة (1) يعرفه من اطلع على ذلك كما يعرف الأب ابنه، وإن أهل الكتاب كما يعرفونه كما يعرفون أبناءهم. قال تعالى: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: ١٤٦]. فقال في ذلك: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} أي يشهد على ذلك. وقيل: إن الإنجيل (2) شاهد أيضًا فقد ذكره صراحة. وبهذا يكون قد ذكر جملة أدلة كل منها كافٍ في إثبات صحة الدعوى: 1- البينة. ٢- الشاهد. 3- الكتب السابقة. وكل ذلك من الجهة التي جاء رسولاً عنها، فهل يبقى في نفس أجد شك أو ريبة في صحة رسالته؟ ولذا قال بعد ذلك: {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} بحذف نون (تكن)، أي لا يك في نفسك أي شيء من شك أو ريبة، واحذف ذلك من نفسك كحذف نون ( تكن ) من أصل الكلمة . فتعاضد على إزالة المرية من النفس النهي وحذف النون وتقرير الحق، فقد قال بعد ذلك: {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}. ثم احتاط بعد ذلك بما يمنع كل خاطر شك، فقد يرى أن كثيرًا من الناس لم يؤمنوا بذلك فقال له إن هذا من طبيعة الناس، فإن أكثرهم لا يؤمنون وإن جاءتهم كل آية، وإن أتيتهم بكل دليل، كما قال في موطن آخر: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103]، وقال: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116]. فذكر كل أمر يدفع الريبة ويمنعها فلا يبقى في النفس منها شيء. فنهاه عن ذلك بقوله: {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} أبلغ ما يكون النهي. 1- فقد جاء بـ (الفاء) الدالة على السبب في قوله (فلا تك) ، أي إن ما ذكرناه سبب كاف للانتهاء عن الريبة. 2- النهي بقوله: (لا تك). 3- حذف النون من (تكن) وقد ذكرنا دلالة ذلك على قوة النهي. 4- قال: (في مرية) فجاء بـ (في) الظرفية، أي لا تكن فيها كما يكون الشخص في اللجة وكن بعيدًا عنها. 5- نكر المرية ليشمل كل شك فيه. 6- ثم قال: (منه) أي من القرآن، ولم يقل: (ولا تك في مرية) فتكون عامة مطلقة، إذ المرء لا ينفك عن شك أو ريبة في أمر من الأمور، وإنما طلب الانتهاء عن الريبة في هذا الأمر. 7- ثم أثبت صحة ما هو عليه بقوله: (إنه الحق) فأكده بـ (إن). 8- عرّف (الحق) ولم يقل: (إنه حق) ليدل على أنه وحده الحق ولا حق سواه، فلو اتبعت أي كتاب آخر كان اتباعك باطلًا. فكل كتاب قبله منسوخ وقد دخله التحريف والتبديل، فلا حق فيما سواه لا في نصه ولا في قبوله عند الله. 9- ذكر الجهة التي قررت أحقيته وقضت بذلك فقال: {إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} فلا أحد أعلم بالحق منه، ولا شيء أحق بالاتباع من هذا الحق. 10- ثم قال بعد ذلك: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} ليطمئن قلبه إلى ما هو عليه ولا توحشه كثرة من لا يؤمن من الناس. 11- ثم حذر من لا يؤمن بأن موعده النار فقال: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} فذكر في الآية أن البينة من ربه، وأن الشاهد من ربه، وأن الكتب السابقة التي شهدت له من ربه، وأنه الحق من ربه، فهل بعد ذلك شيء من الريبة؟! ثم نعود إلى الآية: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} فقد قيل: إن البيئة هي القرآن، وقيل: هي الأدلة العقلية والمعجزات التي تقطع بصحة نبوته . والشاهد قيل هو القرآن، ومن ذلك نظمه المعجز الذي تحدى به البشر. وقيل: الإنجيل وقد شهد له بذلك وذكر اسمه صراحة. وكتاب موسى هو التوراة. لقد قال: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} ولم يذكر المعادل للدلالة عليه بمن تقدم ذكره وهو من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها، وبمفهوم المخالفة ممن لم يكن على بينة ولا دليل. وقال: {عَلَى بَيِّنَةٍ} فجعله مستعليًا عليها متمكنًا منها، وهذا نظير قوله تعالى في أكثر من موضع: (على هدى) فجعله مستعليًا عليه متمكنًا منه. والبيئة نظير الهدى . وقال: {مِنْ رَبِّهِ} فذكر الرب لأن الرب هو المربي والمرشد والموجه والمعلم وهو الأنسب مع ذكر البينة. ولم ترد (البينة) في القرآن مقرونة إلا مع الرب، ولم ترد مع غيره من أسماء الله الحسنى، وذلك نحو قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [الأنعام: 57]، وقوله: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 73، 85]، وقوله: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} [محمد: 14] وغيرها. وذكر شاهدين: شاهدًا يتلوه وشاهدًا من قبله. ويبدو – والله أعلم – أن الشاهد الذي يتلوه مستمر إلى يوم القيامة، ففي كل زمان يظهر شاهد على صدقه  كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53]. وكما قال  عن القرآن إنه (لا تنقضي عجائبه). ولذا جاء بالفعل مضارعًا فقال: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} فاستغرقت الشهادة له الماضي والحال والاستقبال. فشهادة الماضي شهادة الكتب السابقة، وشهادة الحال والاستقبال ما يتلوه من الشاهد. وقال: {وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ} فجاء بفعل الشرط مضارعًا ليشمل كل من يكفر به في الحال والمستقل، ولم يقل: (ومن كفر) فيحتمل اختصاص ذلك بمن كفر في زمانه. وقال: (به) ولم يقل: (ومن يكفر) فقط فيجعل ذلك عامَّا، فجعل الكفر به على الخصوص مدعاة إلى دخول النار وإن لم يكفر بغيره، فلو آمن بكل شيء وكفر به فهو من أهل النار. جاء في (تفسير الرازي): "فالحاصل أنه يقول اجتمع في تقرير صحة هذا الدين أمور ثلاثة: أولها: دلالة البينات العقلية على صحته. وثانيها: شهادة القرآن بصحته. وثالثها: شهادة التوراة بصحته ... فقوله: {أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} المراد بالبينة الدلائل العقلية اليقينية. وقوله: {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ} إشارة إلى الوحي الذي حصل لمحمد عليه السلام. وقوله: {وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً} إشارة إلى الوحي الذي حصل لموسى عليه السلام. وعند اجتماع هذه الثلاثة قد بلغ هذا اليقين في القوة والظهور والجلاء إلى حيث لا يمكن الزيادة عليه" (3). وجاء في (الكشاف): "{أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ} معناه: أفمن كان يريد الحياة الدنيا كمن كان على بينة؟ أي لا يعقبونهم في المنزلة ولا يقاربونهم، يريد أن بين الفريقين تفاوتًا بعيدًا وتباينًا بينًا. وأراد بهم من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام وغيره كان على بينة (من ربه) أي على برهان من الله وبيان أن دين الإسلام حق. (ويتلوه) ويتبع ذلك البرهان (شاهد منه) يشهد بصحته وهو القرآن (منه) من الله، أو شاهد من القرآن، فقد تقدم ذكره آنفًا. (ومن قبله) ومن قبل القرآن (كتاب موسى) وهو التوراة، أي ويتلو ذلك البرهان أيضًا من قبل القرآن كتاب موسى. ( إمامًا) كتابًا مؤتمًا به في الدين قدوة فيه. (ورحمة) ونعمة عظيمة على المنزل إليهم. (أولئك) يعني من كان على بينة (يؤمنون به) يؤمنون بالقرآن" (4). وجاء في (البحر المحيط): "لما ذكر حال من يريد الحياة الدنيا ذكر حال من يريد وجه الله تعالى بأعماله الصالحة. وحذف المعادل الذي دخلت عليه الهمزة، والتقدير: كمن يريد الحياة الدنيا. وكثيرًا ما حذف في القرآن كقوله: {أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَنًا} وقوله: {أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ} وهذا استفهام معناه التقرير ... والبينة: القرآن أو الرسول، والهاء للمبالغة ... والشاهد: القرآن و(منه) عائد على ربه، ويدل على أن الشاهد القرآن ذكر قوله (ومن قبله) أي ومن قبل القرآن كتاب موسى، فمعناه أنه تظافر على هدايته شيئيان: كونه على أمر واضح من برهان العقل. وكونه يوافق ذلك البرهان هذين الكتابين الإلهيين: القرآن والتوراة فاجتمع له العقل والنقل" (5). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 61 إلى ص 68. (1) انظر كتابنا (نبوة محمد من الشك إلى اليقين). (2) انظر فتح القدير 2/465. (3) التفسير الكبير 18/329 – 330. (4) الكشاف 2/93. (5) البحر المحيط 5/210.
  • ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ﴿١٨﴾    [هود   آية:١٨]
  • ﴿الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ ﴿١٩﴾    [هود   آية:١٩]
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [هود: ۱۸ - ۱۹]. هذه الآية مناسبة لما تقدم من قوله سبحانه: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} فقد ذكر فيها شأن المفترين على الله وحالهم ومآلهم. 1- فقد قال: {وَمَنْ أَظْلَمُ} على سبيل الاستفهام، والمعنى: ولا أحد أظلم ممن يفتري على الله. وقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ} ولم يقل: (ولا أظلم) ليشارك المخاطب في الجواب، فيقول: (لا أحد أظلم منه). وهو أبلغ من (لا أظلم) لأن كل مخاطب أو سامع إذا سئل عن ذلك فقيل له: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} فسيقول: لا أحد أظلم منه، ويقرر ذلك بنفسه. ٢- وقال: {مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} فنكر الكذب ليشمل كل كذب، ولا يختص بأمر معين. فدخل في ذلك كل افتراء وكل مفتر. فيشمل ذلك من قال: أوحي إلي ولم يوح إليه شيء، ومن زعم أن ما جاء به هو كلام الله أو من شرع الله وحلل وحرم ما لم يأذن به الله ونسب ذلك إلى الله، وغير ذلك وغيره من الافتراءات. 3- وقال: {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ} لتقريرهم بفعلتهم والإشهاد عليهم لفضيحتهم وإلحاق الخزي بهم. وعرضهم على ربهم إذلال لهم لأنهم عرضوا على من كذبوا عليه، فيكونون بمواجهته، ولئلا ينكروا ذلك جاء بالأشهاد فيشهدون عليهم ويقولون: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} 4- قال أولاً: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ} فذكر اسمه العلم (الله). ثم قال: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} فذكر اسم الرب مضافًا إليهم. فهؤلاء افتروا على الله خالق السماوات والأرض. وافتروا على (ربهم) هم، ربهم الذي أحسن إليهم ورباهم وقام على أمرهم. فالافتراء على الرب من أسوأ الأفعال وأقبحها، فمن افترى على ربه وسيده ومتولي أمره ومن أحسن إليه كان مسيئًا بالغ الإساءة. فإن كان الرب هو (الله) ازدادت الفعلة سوءًا، فقد جمعت الإساءة الكذب على الله وعلى ربه فكانت أسوأ فعلة وأخزى فضيحة. ولو جاء باسم واحد فقال في التعبيرين: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} ثم قال: (هؤلاء الذين كذبوا على الله) لم تكن بتلك الإساءة، فإن لكل اسم من أسماء الله الحسنى دلالته فافتروا عليه بذاته وافتروا عليه مع أنه ربهم. فازدادوا ظلمًا على ظلم وقبحًا على قبح. 5- قال تعالى: {وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ} والأشهاد جمع: شاهد كأصحاب جمع صاحب، أو جمع شهيد كأشراف جمع شريف(1). وجاء بالأشهاد ليشهدوا شهادة علنية أمام الثقلين على أن هؤلاء كذبوا على ربهم ليفضحوهم ويخزوهم. والإشارة إليهم بـ (هؤلاء) زيادة في إذلالهم وفضحهم. جاء في (البحر المحيط): "لما سبق قولهم: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ} ذكر أنه لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبًا، وهم المفترون الذين نسبوا على الله الولد واتخذوا معه آلهة وحرموا وحللوا من غير شرع الله. وعرضهم على الله بمعنى التشهير لخزيهم والإشارة بكذبهم وإلا فالطائع والعاصي يعرضون على الله {وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا}. وفي قوله: (هؤلاء) إشارة إلى تحقيرهم وإصغارهم بسوء مرتكبهم. وفي قوله: (على ربهم) أي على من يحسن إليهم ويملك نواصيهم وكانوا جديرين ألا يكذبوا عليه. وهذا كما تقول إذا رأيت مجرمًا: (هذا الذي فعل كذا وكذا)" (2). فاستحق هؤلاء اللعنة والطرد من رحمة الله. إنه لم يقل: (ألا لعنة الله عليهم) وإنما قال: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} فشملت اللعنة كل ظالم ودخل فيها هؤلاء لأنه لا أحد أظلم منهم فهم أولى باللعنة. وختم الآية بقوله: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} فذكر الظالمين مناسبة لقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ}. وقوله: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} يحتمل أن يكون من قول الأشهاد كما في قوله تعالى في سورة الأعراف: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف: ٤٤]. ويحتمل أن يكون ذلك من قول الله سبحانه (3). فتكون إحدى اللعنتين من الأشهاد والأخرى من الله فيتحقق منهما معًا قوله تعالى: {يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} 6- وصف الظالمين بقوله: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} فقال: (يصدون) و(يبغونها) بالمضارع. فإن كان ذلك من قول الأشهاد كان من حكاية الحال الماضية وذلك إحضار لسوء الفعلة ومعاينتها، كما في قوله تعالى: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ} [البقرة: 91]، فقتل الأنبياء ماض بدليل قوله: {مِنْ قَبْلُ} وعبر عنه بالمضارع حكاية للحال. وإن كان من قول الله تعالى احتمل أن يكون من حكاية الحال أيضًا. واحتمل أن يكون ذلك للحال والاستقبال حقيقة، فتشمل اللعنة هؤلاء في الدنيا والآخرة. وقوله: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي يفعلون ذلك على سبيل الدوام. وكذلك قوله: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا}. ومعنى {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} "يصفونها بالاعوجاج وهي مستقيمة، أو يبغون أهلها أن يعوجوا بالارتداد" (4). ۷- قال تعالى: {وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} فذكر (هم) الثانية توكيدًا. جـاء فـي (الكشـاف): "و(هـم) الثـانيـة لتـأكـيـد كـفـرهـم بـالآخـرة واختصاصهم به" (5). وقـد تقـول: لقـد قـال فـي الأعـراف: {وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ} [الأعراف: 45] فلم يكرر (هم) مع أن السياقين متشابهان فما السبب؟ فنقول: إن السياقين مختلفان، فقد قال في الأعراف: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ كَافِرُونَ} [الأعراف: ٤٤ - ٤٥]. وقال في هود: { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ..... } فزاد في هود ذنبًا آخر وهو الكذب على الله الذي هو من أكبر الظلم فقال: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ}. فلما زاد في ذكر المعصية زاد في وصفهم بالكفر، فناسب كل تعبير موضعه. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 68 إلى ص 73. (1) انظر الكشاف 2/94. (2) البحر المحيط 5/212. (3) انظر البحر المحيط 5/212، روح المعاني 12/31. (4) الكشاف 2/94. (5) الكشاف 2/94.
  • ﴿أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ ﴿٢٠﴾    [هود   آية:٢٠]
  • ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴿٢١﴾    [هود   آية:٢١]
{أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [هود ۲۰ - ۲۱] أولئك لم يكونوا يعجزون الله لو أراد أن يعاقبهم في الدنيا. وقال: {لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ} ولم يذكر مفعولاً لـ (معجزين) وإنما أطلق ذلك فنفى عنهم صفة الإعجاز أصلاً، فهم أذل وأضعف من يعجزوا أحدًا. وقال: {فِي الْأَرْضِ} أي في مكانهم وموضع استقرارهم. والإنسان أعز ما يكون إذا كان في داره، فإذا انتفى إعجازهم في مكانهم فانتفاؤه في غير الأرض أظهر. وقد بين ذلتهم وصغارهم من أكثر من ناحية: 1- فقد نفى أن يعجزون أحدًا فأطلق النفي ولم يذكر مفعولاً فدل ذلك على أنهم لا يعجزون أحدًا. ٢- وقد بين نفي قدرتهم واستطاعتهم في مكانهم ومستقرهم. وهذا أذل ما يكون وأهون ما يكون. ٣- وجـعـل عـدم الإعجـاز وصفهـم الثـابـت فـقـال: {لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ} فجاء بالاسم الدال على الثبات، ولم يقل: (لم يكونوا يعجزون) بل دل على ضعفهم وعدم قدرتهم على جهة الثبوت والدوام. 4- ثم ذكر أنه ما كان لهم من أولياء من دون الله. فنفى عنهم القدرة في ذواتهم وأنفسهم، ونفى عنهم الولي فلا ولي لهم يتولى أمرهم. وهذا أدل على ضعفهم وصغارهم. فهؤلاء الذين كانوا يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا ولا يؤمنون بالآخرة هم أذل ما يكون على الحقيقة. جاء في (الكشاف): {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} أي ما كانوا يعجزون الله في الدنيا أن يعاقبهم لو أراد عقابهم، وما كان لهم من يتولاهم فينصرهم منه ويمنعهم من عقابه، ولكنه أراد إنظارهم وتأخير عقابهم إلى هذا اليوم" (1). وقد تقول: لقد قال ههنا: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} فجاء بالأولياء مجموعة، وفي مواضع أخرى يفرد الولي فيقول مثلاً: {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 107]. أو يقول: {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [الشورى: 8]. فما السبب مع أن الإفراد في نحو هذا أدل على الشمول، فقولك: (ما في الدار من رجال) نفيت فيه جنس الرجال في حال الجمع ولم تنف وجود رجلين أو رجل واحد. أما قولك: (ما في الدار من رجل) فقد نفيت فيه وجود الجنس على سبيل الاستغراق واحدًا أو أكثر. وقولك: (ما لهم من ولي) نفيت فيه أن يكون لهم ولي على سبيل الاستغراق واحدًا أو أكثر. أما إذا قلت: (ما لهم من أولياء) فإنه ينفي الجنس في حالة الجمع، ولا ينفي أن يكون لهم ولي واحد أو اثنان؟ والجواب: أن الجمع في هذا الموضع هو الأصوب ولا مندوحة عنه، ذلك أن هذا الكلام في الآخرة، والمذكورون هم جماعات مختلفة ومن أمم متعددة وأزمان مختلفة متباعدة، وقد يكون بين جماعة وأخرى قرون كثيرة فلا يمكن أن يكون لهؤلاء الجماعات ولي واحد، وإنما يكون لكل جماعة أو أمة ولي أو أولياء يتولونهم، فلا يصح أ أن يقال: (ما كان لهم من دون الله من ولي). هذا علاوة على أنه قد يتخذ أهل البلد الواحد أو المجتمع الواحد أولياء متعددين، فنفي الأولياء هو الأصوب بل هو المتعين وليس نفي الولي؛ وخاصة أن هؤلاء الأولياء إنما هم غير الله فلا بد أن يتعددوا. هذا علاوة على أنه حيث نفى الأولياء في نحو ذلك، أي في نحو قوله: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ}، وقوله: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ} [الشورى: ٤٦] فإنما ذلك في الآخرة. وحيث أفرد الولي في نحو ذلك إنما هو الكلام في الدنيا، ويكون الكلام إما عن فرد واحد أو مجموعة معينة فينفي الولي له أو لها. جاء في (روح المعاني): {مِنْ أَوْلِيَاءَ}: (من) زائدة لاستغراق النفي، وجمع (أولياء) إما باعتبار أفراد الكفرة، كأنه قيل: وما كان لأحد منهم من ولي، أو باعتبار تعدد ما كانوا يدعون من دون الله تعالى فيكون ذلك بيانًا لحال آلهتهم من سقوطها عن رتبة الولاية" (2). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 73 إلى ص 75. (1) الكشاف 2/94. (2) روح المعاني 12/32. {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ} "يشدد ويكثر، وهذا استئناف إخبار عن حالهم في الآخرة؛ لأنهم جمعوا إلى الكفر بالبعث الكذب على الله وصد عباده عن سبيل الله وبغي العوج لها وهي الطريقة المستقيمة" (1). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 75 إلى ص 76. (1) البحر المحيط 5/212. {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} أي يكرهون سماعه فلا يطيقون أن يسمعوه لشدة بغضهم له. كما يكرهون أن ينظروا إليه فلا يطيقون ذلك لشدة بغضهم لرؤيته. جاء في (الكشاف): "أراد أنهم لفرط تصماهم عن استماع الحق وكراهتهم له كأنهم لا يستطيعون السمع ... كأنه لم يسمع الناس يقولون في كل لسان: هذا كلام لا أستطيع أن أسمعه وهذا مما يمحه سمعي" (1). وجاء في (البحر المحيط): {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} إخبار عن حالهم في الدنيا على سبيل المبالغة، يعني السمع للقرآن ولما جاء به الرسول . {وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} أي ينظرون إليه لبغضهم فيه، ألا ترى على حشو الطفيل بن عمرو أذنيه من الكرسف وإباية قريش ما نقل إليهم من كلام الرسول" (2). وجاء في (روح المعاني): {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ} أي إنهم كانوا يستثقلون سماع الحق الذي جاء به الرسول  ويستكرهونه إلى أقصى الغايات حتى كأنهم لا يستطيعونه ... {وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} أي إنهم كانوا يتعامون عن آيات الله تعالى المبسوطة في الأنفس والآفاق" (3). لقد قدم السمع على الإبصار ههنا فقال: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ}. وقدم آلة الإبصار على السمع في الكهف فقال:{ الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا } [الكهف: 101]: وذلك أنه ذكر في سياق آية هود ما يسمع وهو الكذب فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}، وقال:{ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ}، وقال: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 24]. في حين ذكر في الكهف ما يرى وهو عرض جهنم فقال: {وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي}، فقدم في كل موضع ما يناسبه. وهناك أمر آخر في هاتين الآيتين، فقد عرّف السمع في آية هود فقال: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ}، ونكره في آية الكهف فقال: {وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} ذلك أن آلة السمع في آية هود غير معطلة وإنما كانوا يستثقلون سماع نوع معين من الكلام وهو الكلام في دين الله. أما غيره من الكلام فإنهم يسمعونه ويستحبونه. فعرّف السمع الذي يستثقلونه ويكرهونه. وأما في الكهف فإن آلة الإبصار معطلة وآلة السمع معطلة، فقد قال في آلة الإبصار: {الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} فهي لا تبصر لأنها مغطاة. وقال في السمع: {وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} وهذا إثبات لعدم استطاعة السمع، أي إنهم لا يسمعون لأن آلة السمع معطلة فلا يسمعون أي نوع من الكلام (4). ومن كانت آلة السمع معطلة عنده لا يسمع شيئا فنكره لذلك. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 76 إلى ص 78. (1) الكشاف 2/94. (2) البحر المحيط 5/212. (3) روح المعاني 12/32. (4) انظر كتابنا (معاني النحو) 1/277، روح المعاني 16/45، 12/22، الكشاف 2/94. {أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } لقد ذكر أن هؤلاء خسروا أنفسهم وهذا أكبر الخسران، فإن أكبر الخسران أن يخسر الإنسان نفسه. { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ } أي زال عنهم افتراؤهم ولم ينفعهم شيئًا. وزالت عنهم أصنامهم وآلهتهم التي كانوا يفترون فيها ويقولون فيها ما يقولون وضلت عنهم. فلا تهتدي إليهم ولا يهتدون إليها. جاء في (روح المعاني): "والمراد بها الأصنام التي كانوا يعبدونها ويقولون فيها: {هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} أو نحو ذلك ... أي زالت وذهبت عنهم أوثانهم التي كانوا يفترون فيها ما يفترون فلم تغن عنهم من الله شيئًا. وقيل: إن (ما) مصدرية، أي ضل افتراؤهم، كقوله سبحانه: {ضَلَّ سَعْيُهُمْ} أي لم ينفعهم ذلك" (1). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 78 إلى ص 78. (1) روح المعاني 7/124، وانظر تفسير الرازي 4/504.
  • ﴿لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ ﴿٢٢﴾    [هود   آية:٢٢]
{لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} [ هود: 22]. فلا أخسر منهم . وقال : ( الأخسرون ) ولم يقل : ( هم الخاسرون ) أو ( من الخاسرين ) ليبين أنه لا أخسر منهم. وقال ههنا: {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ}. وقال في سورة النمل: {إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} [النمل: 4 - 5]. فقال في آية هود: {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ}. وقال في آية النمل: {وَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ}. فأكد الخسران في آية هود ما لم يؤكده في آية النمل. فقد قال: (لا جرم) ومعنى (لا جرم) لا بد ولا محالة، وقيل: معناه حقًا (1). وهي عند العرب تنزل منزلة القسم للتأكيد، وقد تجاب بما يجاب به القسم فيقال: لا جرم لآتينك (2). وقال: (أنهم) فأكد بـ (أن) وذلك أنه في سياق آية هود زاد على ما ذكره في سياق آية النمل من الآثام. فقد قال في آية النمل إنهم لا يؤمنون بالآخرة. وقال في سياق آية هود: 1- إنهم كذبوا على ربهم. ٢- يصدون عن سبيل الله. ٣- يبغونها عوجًا. ٤- هم بالآخرة هم كافرون. ثم ذكر أنه يضاعف لهم العذاب فأكد خسرانهم. فكان كل تعبير مناسبا للمكان الذي ورد فيه. جاء في (تفسير الرازي): "اعلم أن الله تعالى وصف هؤلاء المنكرين الجاحدين بصفات كثيرة في معرض الذم: الصفة الأولى: كونهم مفترين على الله، وهي قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}. والصفة الثانية: أنهم يعرضون على الله في موقف الذل والهوان والخزي والنكال، وهي قوله: {أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ}. والصفة الثالثة: حصول الخزي والنكال والفضيحة العظيمة، وهي قوله: {وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ } والصفة الرابعة: كونهم ملعونين من الله، وهي قوله: {أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} والصفة الخامسة: كونهم صادين عن سبيل الله مانعين من متابعة الحق، وهي قوله: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}. والصفة السادسة: سعيهم في إلقاء الشبهات وتعويج الدلائل المستقيمة، وهي قوله: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا}. والصفة السابعة: كونهم كافرين، وهي قوله: {وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ}. والصفة الثامنة: كونهم عاجزين عن الفرار من عذاب الله، وهي قوله: {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} قال الواحدي: معنى الإعجاز المنع من تحصيل المراد. يقال: أعجزني فلان، أي منعني من مرادي. ومعنى (معجزين في الأرض) أي لا يمكنهم أن يهربوا من عذابنا ... والصفة التاسعة: إنهم ليس لهم أولياء يدفعون عذاب الله عنهم. والمراد منه الرد عليهم في وصفهم الأصنام بأنهم شفعاؤهم عند الله. والمقصود أن قوله: {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ} دل على أنهم لا قدرة لهم على الفرار. وقوله: {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ} هو أن أحدًا لا يقدر على تخليصهم من ذلك العذاب. فجمع تعالى بين يرجع إليهم وبين ما يرجع إلى غيرهم. وبين ذلك انقطاع حيلهم في الخلاص من عذاب الدنيا والآخرة ... والصفة العاشرة: قوله تعالى: {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ}، قيل: سبب تضعيف العذاب في حقهم ... أنهم مع ضلالهم الشديد سعوا في الإضلال ومنع الناس عن الدين الحق ... والصفة الحادية عشرة: قوله: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ}. الصفة الثانية عشرة: قوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ}، ومعناه: أنهم اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله تعالى فكان هذا الخسران أعظم وجوه الخسران. الصفة الثالثة عشرة: قوله: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ}. الصـفـة الـرابـعـة عشرة: قوله: {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} (3). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 78 إلى ص 82. (1) انظر لسان العرب (جرم). (2) انظر شرح الرضى على الكافية 2/389، شرح الأشموني 1/279، لسان العرب (جرم)، معاني القرآن للفراء 2/8. (3) التفسير الكبير 6/332 – 334.
إظهار النتائج من 10631 إلى 10640 من إجمالي 12316 نتيجة.