{لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5)}
ذكر في الآية السابقة أنه خلق السماوات والأرض، والصانع قد لا يكون ملكًا، فذكر أنه الصانع وأنه المالك حصرًا فلا ملك سواه، وأن الأمور ترجع إليه وحده، وأن ملكه ممتد بعد انقضاء الدنيا، وأن الأمور ترجع إليه في الآخرة كما هي في الدنيا، فإن في قوله: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} إشارة إلى البعث.
جاء في (نظم الدرر): "ولما كان صانع الشيء قد لا يكون في مملكته والقدرة عليه، وكان إنكارهم للبعث إنكارًا لأن يكون ملكًا أكد بذلك بتكرير الإخبار به فقال: (له). أي: وحده ملك السماوات" (1).
وجاء في (تفسير الرازي): "{لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} أي إلى حيث لا مالك سواه. ودل بهذا القول على إثبات المعاد" (2).
فقوله: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} يفيد معنين:
المعنى الأول: أن الأمور كلها هو الذي يقطع فيها ولا يعمل شيء إلى بأمره.
والمعنى الآخر: إثبات المعاد.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 341 إلى ص 342.
(1) نظم الدرر 7/438.
(2) تفسير الرازي 29/216.
{آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7)}
أمرهم بشيئين: الإيمان بالله والرسول، والإنفاق. وهذان الأمران يطبعان السورة بطابعهما إلى حد كبير. فالإيمان بالله والرسول يشيع ذكره في السورة. وهو لم يذكر جميع أركان الإيمان، وإنما خصص ركنين من اركانه بالذكر وهما الإيمان بالله والرسل، وذلك في السورة كلها، فلم يذكر غير هذين الركنين من أركان الإيمان.
فقد قال: {آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الآية: 7]، وقال: {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ} [الآية: 8]، وقال: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} [الآية: 19]، وقال: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [الآية: 21]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ} [الآية: 28].
وكذلك الأمر بالإنفاق فإنه يطبع السورة أيضًا، فقد قال: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الآية: 7]، وقال: {فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} [الآية: 7]، وقال: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الآية: 10]، وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [الآية: 11]، وقال: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [الآية: 18]، وقال: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} [الآية: 24].
فالسورة تكاد تكون مخصصة للأيمان والإنفاق، فهي لم تذكر جميع أركان الإيمان، كما لم تذكر عموم العمل الصالح، وإنما ذكرت الإنفاق وذكرت القتال ولم تأمر به كما أمرت بالإنفاق، فقد جاء فيها: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الآية: 10] وجاء فيها ذكر للشهداء فقال: {الشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} [الآية: 19]، وقال أيضًا: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الآية: 25] وهو من مظان الجهاد.
فالسورة – كما ترى – يشيع فيها التخصيص بركنين من أركان الإيمان وبالإنفاق. والآية التي نحن بصدد تفسيرها ذكر فيها هذين الركنين.
{وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}
طلب الإنفاق مما استخلفنا فيه ورغبنا فيه أكبر ترغيب فقال: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا} فجاء بـ (من) التبعيضية، ولم يقل: (وأنفقوا ما جعلكم مستخلفين فيه)، فقد طلب أن ننفق بعضًا مما استخلفنا فيه ليهون الإنفاق علينا.
ثم قال: {جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} أي هو الذي جعلكم مستخلفين في المال، وهو طالب الإنفاق.
ومعنى {مُسْتَخْلَفِينَ} أن الأموال التي بين أيديكم إنما هي أمواله. هو الذي خلقها وخولكم الاستمتاع بها ولستم إلا وكلاء عليها. ثم إنه نقلها إليكم وقد كانت لغيركم، ثم إنه سينقلها إلى غيركم، فلستك إلا خلقاء من قبلكم فيها.
وكل معنى من هذين المعنيين مدعاة للخروج من الشح إلى الإنفاق. فالمال ماله، ثم إنه سينقله منكم إلى غيركم بعد موتكم أو في حياتكم. ومع ذلك فإنه جعل للذين آمنوا وأنفقوا أجرًا كبيرًا مضاعفًا.
جاء في (الكشاف): "{مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} يعني أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها، وإنما مولكم إياها وخولكم الاستمتاع بها وجعلكم خلفاء في التصرف فيها، فليست هي بأموالكم في الحقيقة، وما أنتم إلا بمنزلة الوكلاء والنواب، فأنفقوا منها في حقوق الله، وليهن عليكم الإنفاق منها كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له. أو جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم في أيديكم بتوريثه إياكم، فاعتبروا بحالهم حيث انتقل منهم إليكم، وسينقل منكم إلى من بعدكم، فلا تبخلوا به وانفعلوا بالإنفاق منها أنفسكم" (1).
وجاء في (روح المعاني): "وفيه أيضًا ترغيب في الإنفاق وتسهيل له؛ لأن من علم أنه لم يبق لمن قبله وانتقل إليه علم أنه لا يدوم له وينتقل لغيره فيسهل عليه إخراجه ويرغب في كسب الأجر بإنفاقه ... والمعنى الأول هو المناسب لقوله تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}" (2).
{فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}
ذكر أن لمن آمن وأنفق أجرًا كبيرًا. وقد تقول: لند أكد الأجر في موطن آخر بان، فقد قال في سورة الإسراء: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا} [الآية: 9] ولم يؤكد في آية الحديد هذه مع أنه وصف الأجر بأنه كبير في الآيتين فهل ذلك لفواصل الآية؟
والجواب: أن فاصلة كل من الآيتين تتناسب مع فواصل الآية في سياقها، غير أن ذلك ليس هو السبب الأول، بل إن كل آية تقتضي ما ورد فيها من التعبير وإن لم تكن فواصل الآية كذلك، وإليك إيضاح ذلك:
1- قال في آية الحديد: {فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ}.
وقال في آية الإسراء: {وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ}.
فذكر في آية الحديد (الذين آمنوا) بصيغة الفعل، وذكر في آية الإسراء (المؤمنين) بالصيغة الاسمية، والاسم أثبت وأقوى من الفعل كما هو معلوم.
2- خصص الإيمان في آية الحديد بالإيمان بالله والرسول {آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}، وأطلق الإيمان في آية الإسراء فجعله عامًا لكل أركان الإيمان.
3- ذكر في آية الحديد الإنفاق ولم يذكر معه شيئًا آخر. وذكر في آية الإسراء {الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ} وهو أعم، والإنفاق إنما هو من العمل الصالح، فكان التوكيد أولى في آية الإسراء. فناسب كل تعبير موطنه، هذا إضافة إلى ما اقتضته فواصل الآية.
وقد تقول: لقد أضاف في آيات أخرى المغفرة إلى الأجر الكبير، وذلك نحو قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [فاطر: 7]، وقوله {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الملك: 12] فما السبب في هذه الزيادة؟
فنقول: إن كل ما ذكرت فيه المغفرة مع الأجر الكبير إنما هو في سياق ذكر الذنوب والكافرين وذلك يقتضي ذكر المغفرة. أما ما لم يرد فيه المغفرة فإنه ليس في هذا السياق، فقد قال في سورة فاطر: {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} [الآية: 7]، وقال في سورة الملك: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} ... إلى قوله تعالى: {فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الآيات: 7 - 11] ثم قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}، وهكذا كل ما وردت فيه المغفرة بخلاف ما لم يرد. فناسب كل تعبير موطنه.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 343 إلى ص 347.
(1) الكشاف 4/61، وانظر تفسير الرازي 29/217.
(2) روح المعاني 27/169.
{وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8)}
لما تقدم طلب الإيمان في الآية السابقة قال في هذه الآية: {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} أي كيف لا تؤمنون ولم لا تؤمنون ودواعي الإيمان متكاثرة ملزمة؟
فالرسول يدعوكن للأيمان وقد وجاء بالآيات البينات والدلائل الواضحة على صحة ما يدعو إليه وصدقه.
ثم إن الله سبحانه قد أخذ الميثاق منكم على الإيمان به بما أودعه في عقولكم من الاستدلال على وجوده بآياته الكونية وبما أودعه في فطركم على الإيمان به. فإن الإنسان مفطور على الإيمان بأن له ربًا وإلهُا يلجأ إليه إذا اضطرته الحاجة إلى ذلك، فحتى الملحد إذا وقع في شدة لا مخلص منها وانقطعت به الأسباب لجأ إلى الله كما أخبر ربنا: {ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53]، {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ} [الإسراء: 67]، فقد تضافرت الدواعي العقلية والنفسية علاوة على السماع المؤيد بالحجج القاطعة على الإيمان بالله فلم لا تؤمنون؟
وجاء في (الكشاف): في قوله: {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ}: "وقبل ذلك قد أخذ الله ميثاقكم بالإيمان، حيث ركب فيكم العقول ونصب لكم الأدلة ومكنكم من النظر وأزاح عللكم" (1).
وجاء في (تفسير الرازي): "وحاصل الأمر أنه تطابقت دلائل النقل والعقل، أما النقل فبقوله: {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ}، وأما العقل فبقوله: {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} ومتى اجتمع هذان النوعان فقد بلغ الأمر إلى حيث تمتنع الزيادة عليه" (2).
وجاء في (البحر المحيط): "{وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ} أي كيف لا تثبتون على الإيمان ودواعي ذلك موجودة، وذلك ركزة فيكم من دلائل العقل، وموجب ذلك من السمع في قوله: {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ} لهذا الوصف الجليل، وقد تقد أخذ الميثاق عليكم بالإيمان، فدواعي الإيمان موجودة وأسبابه حاصلة فلا مانع منه ولا عذر في تركه" (3).
وجاء في (التحرير والتنوير): "وعلى هذا الوجه فالميثاق المأخوذ عليهم هو ميثاق من الله، أي ما يماثل الميثاق من إيداع الإيمان بوجود الله وبوحدانيته في الفطرة البشرية، فكأنه ميثاق قد أخذ على كل واحد من الناس في الأزل وشرط التكوين فهو ناموس فطري" (4).
وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} يعني: إن كنتم تنون الإيمان وتعتزمونه فلم لا تؤمنون؟ وهو نظير قولنا: (نحن خارجون إن كنت خارجًا) و(هم راحلون إن كنت راحلًا) أي إن نويت ذلك وعزمت عليه فافعل.
جاء في (التحرير والتنوير): "واسم الفاعل في قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} مستعمل في المستقبل بقرينة وقوعه في سياق الشرط، أي فقد خصل ما يقتضي أن تؤمنوا من السبب الظاهر والسبب الخفي المرتكز في الجبلة" (5).
وقال: {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ} ولم يقل: (لتؤمنوا به) مع أنه قد مر ذكره وهو قوله: {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ}؛ وذلك لأنه أراد أن يجب إليهم الإيمان، فإنه إيمان بربهم الذي يربهم ويرعاهم.ثم إن لفظ (الرب) مناسب لما ذكر بعد وهو قوله: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} فإن مهمة الرب الأولى هي التوجيه والإرشاد والهداية، فناسب ذلك ما جاء بعده.
وقال: (يدعوكم) للدلالة على استمراره في الدعوة لم يتوقف عنها.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 347 إلى ص 349.
(1) الكشاف 4/62.
(2) تفسير الرازي 29/18، وانظر روح المعاني 27/170.
(3) البحر المحيط 10/102.
(4) التحرير والتنوير 27/370.
(5) التحرير والتنوير 27/370.
{هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9)}
قوله: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أي هو الذي ينزل الآيات لا غيره. ووصف رسوله بصفة العبدية فقال: {عَلَى عَبْدِهِ} ليعلم أن رسوله إنما هو عبد لله. وأضافه إلى ضميره تكريمًا له. وصفة (العبد) إنما يذكرها الله تكريمًا لمن تطلق عليه، فقد كرمه الله سبحانه بهذا الوصف، وكرمه أيضًا بإضافته إلى ضميره، تكريمًا له. وصفة (العبد) إنما يذكرها الله تكريمًا لمن تطلق عليه، فقد كرمه الله سبحانه بهذا الوصف، وكرمه أيضًا بإضافته إلى ضميره، وكرمه مرة ثالثة بأن ذكر أنه هو الذي ينزل عليه الآيات البينات. وذكر (ينزل) بصيغة المضارع للدلالة على استمرار التنزيل.
إن هذه الآية والتي قبلها مرتبطتان بصدر الآية الأولى وهي قوله: {آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}. فقوله: {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} مرتبط بقوله: {آَمِنُوا بِاللَّهِ}، وقوله: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } مرتبط بقوله: (ورسوله). وقد وصف الآيات بأنها بينات أي ظاهرات الحجة واضحات الدلالة على أنه رسول الله وعلى أن فيها الهدى التام. وإنما أنزل هذه الآيات البينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور. والفاعل في قوله: {لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} يحتمل أن يكون هو الله كما يحتمل أن يكون هو الرسول.
{وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ}
الرأفة أخص من الرحمة وأرق. وقد جمع الله بين الرأفة والرحمة للدلالة على عظم رحمته بنا.
ولم يفرد الله اسمه (الرؤوف) عن اسمه (الرحيم) إلا في موطنين هما قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة: 207]، وقوله: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [آل عمران: 30]؛ وذلك لأن المقام يقتضي ذاك، فقد قال في البقرة: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 204 - 206].
فلا يناسب المقام ذكر الرحمة مع هؤلاء الذين ذكر فيهم: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} ثم ذكر بعد ذلك {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}.
وقال في آل عمران: {وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ} والتحذير لا يناسب ذكر الرحمة.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 350 إلى ص 351.
{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)}
قال: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} بذكر (أن) مع (لا)، وقال في الآية السابقة: {وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} من دون (أن)، ذلك أن (أن) تفيد الاستقبال، فلما كان الإيمان لا يحتمل التأخير وإنما هو مطلوب منهم في الحال لم يذكر (أن). ولما كان الإنفاق في سبيل الله يحتمل الاستقبال وقد يكون هذا الإنفاق مطلوبًا للجهاد، والجهاد ليس قائمًا في وقت الطلب جاء بأداة الاستقبال.
والمعنى: لم لا تنفقون في سبيل الله والله سبحانه وارث أموالكم، أي مهلكهم وستؤول إليه أموال الخلق كلها، بل له ميراث السماوات والأرض، فأنفقوا منها بأنفسكم لتنالوا جزاء المنفقين قبل أن تؤول إليه رغمًا عنكم فينالكم عقاب الممسكين الباخلين.
جاء في (الكشاف): "{وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا} في ألا تنفقوا {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} يرث كل شيء فيهما لا يبقى منه باق لأحد من مال وغيره، يعني: وأي غرض لكم في ترك الإنفاق في سبيل الله والجهاد مع رسوله والله مهلككم فوارث أموالكم، وهو من أبلغ البعث على الإنفاق في سبيل الله" (1).
وجاء في (تفسير الرازي): "والمعنى أنكم ستموتون فتورثون فهلا قدمتموه في الإنفاق في طاعة الله، وتحقيقه أن المال لابد وأن يخرج عن اليد إما بالموت وإما بالإنفاق في سبيل الله، فإن وقع على الوجه الأول كان أثره اللعن والمقت والعقاب، وإن وقع على الوجه الثاني كان أثره المدح والثواب، وإذا كان لابد من خروجه من اليد فكل عاقل يعلم أن خروجه عن اليد بحيث يستعقب المدح والثواب أولى منه بحيث يستعقبه اللعن والعقاب" (2).
وقوله: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} مناسب لاسمه الآخر الذي ورد في أول السورة.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 351 إلى ص 352.
(1) الكشاف 4/62.
(2) تفسير الرازي 29/219.
{لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا}
أي "لا يستوي منكم من أنفق قبل فتح مكة، قبل عز الإسلام وقوة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجًا وقلة الحاجة إلى القتال والنفقة فيه، ومن أنفق من بعد الفتح، فحذف لوضوح الدلالة، (أولئك) الذين أنفقوا قبل الفتح وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار ... أعظم درجة" (1).
وجاء في (روح المعاني): "وإنما كان أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا بعد لأنهم إنما فعلوا ما فعلوا عند كمال الحاجة إلى النصرة بالنفس والمال لقلة المسلمين وكثرة أعدائهم وعدم ما ترغب فيه النفوس طبعًا من كثرة الغنائم، فكان ذلك أنفع وأشد على النفس، وفاعله أقوى يقينًا بما عند الله تعالى وأعظم رغبة فيه، ولا كذلك الذين أنفقوا بعد" (2).
واستعمل لمن أنفق من قبل الفتح الاسم الموصول (من) والفعل (أنفق وقاتل) بالإفراد، واستعمل لمن أنفق بعد ذلك الاسم الموصول (الذين) والفعل (أنفقوا وقاتلوا) بضمير الجمع، ولعل ذلك لقلة المنفقين والمقاتلين قبل الفتح فاستعمل لهم ضمير المفرد، بخلاف المنفقين والمقاتلين بعده، فهم كثرة، فاستعمل لهم ضمير الجمع.
والقرآن يراعي ذلك في الاستعمال نظير قوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ} [يونس : 43] بالإفراد، وقوله: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس : ٤٢] بالجمع (3)
وقدم الإنفاق على القتال وهو نظير قوله تعالى: {وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 41] بتقديم الجهاد بالمال على الجهاد بالنفس.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 353 إلى ص 354.
(1) الكشاف 4/62.
(2) روح المعاني 27/172.
(3) انظر معاني النحو 1/167 (باب الاسم الموصول).
{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)}
القرض الحسن هو الإنفاق بإخلاص النية الله وكونه عن طيب نفس وبشاشة وجه من دون من أو تكدير، وتحري المال الطيب الكريم وأفضل الجهات التي ينفق فيها (1).
فالقرض الحسن هو ما اجتمعت فيه عدة أمور:
منها: في المقرض، وهو الإخلاص وكونه عن طيب نفس وبشاشة وجه كما ذكرنا.
ومنها: في المال وهو أن يكون حلالاً طيبًا وأن يكون من كريم المال.
ومنها: الجهة التي ينفق فيها وهي ما كان أشدها حاجة وأكثرها نفعًا للمسلمين.
وسمى الصدقة قرضًا؛ لأنه وعد بإعادتها مضاعفة، وذلك لأن المقترض يعيد ما اقترض وذلك لتهوينها على النفس وللترغيب فيها، فإن النفس يسهل عليها الإقراض أكثر مما يسهل عليها الخروج عن المال من غير إعادة.
قد تقول: لقد قال في آية أخرى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة : 245].
فذكر في هذه الآية أنه يضاعف القرض أضعافًا كثيرة، ولم يقل في آية الحديد ذلك، وإنما قال: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} فلم ذاك ؟
والجواب: أنه قال في آية الحديد: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} فزاد الأجر الكريم على المضاعفة فأغنى ذلك عن قوله: {أَضْعَافًا كَثِيرَةً} ولم يقل مثل ذلك في البقرة.
جاء في (البحر المحيط): "والظاهر أن قوله: {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} هو زيادة على التضعيف المترتب على القرض، أي وله مع التضعيف أجر كريم" (2).
والأجر الكريم: هو الحسن البالغ الجودة والجامع لأنواع الخير والشرف والفضائل (3)، فذكر جزاء القرض الحسن في الكم وهو المضاعفة، وفي الكيف وهو وصفه بالكرم.
وقد تقول: ولكنه ذكر في البقرة الأضعاف الكثيرة وهو الكم ولم يذكر الكيف، ثم إن خاتمة كل من الآيتين تختلف عن الأخرى، فلم ذلك؟
فنقول: إن سياق كل من الآيتين يقضي بذاك، فإن آية الحديد وردت في سياق الإنفاق، فقد تكرر طلب الإنفاق في السورة، فقد قال قبل الآية: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}، وقال بعد ذلك: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ....} ثم جاءت الآية: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا}.
في حين لم يكن الإقراض في البقرة في سياق الإنفاق، وإنما هو في سياق القتال، فناسب ذلك ذكر الجزاء في آية الحديد بالكم والكيف.
كما ناسب أن يكون ختام كل آية السياق الذي وردت فيه، فلما كان السياق في البقرة في ذكر الموت والقتال ناسب أن يكون ختام الآية {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فإن الموت رجوع إلى الله، والقتال مظنة الرجوع إليه. فقد قال في سياق آية البقرة: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ .... وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ...... أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ .....} [البقرة: 243 - 246] ويستمر الكلام على القتال.
فناسب ختام كل آية السياق الذي وردت فيه.
وقد تقول: لقد قال في آية سابقة من السورة: {فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} وقال في هذه الآية: {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} فوصف الأجر، في الآية الأولى بأنه كبير، ووصفه هنا بأنه كريم، فما السبب؟
والجواب: - والله أعلم - أنه ذكر في الآية الأولى الذين آمنوا وأنفقوا، فزاد الإيمان على الإنفاق، فكبرت الدائرة واتسعت، فوصف الأجر بأنه كبير.
وفي الآية الأخرى ذكر مضاعفة الأجور وهذا من الكرم، فالذي يعطي الكثير على القليل إنما هو كريم. ومن معاني (الكريم) في اللغة الجواد المعطي الذي لا ينفد عطاؤه (4).
فناسب ختام كل آية الموطن الذي ورد فيه، والله أعلم.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 354 إلى ص 356.
(1) انظر روح المعاني 27/173 – 174، التحرير والتنوير 27/377.
(2) البحر المحيط 10/104.
(3) لسان العرب (كرم).
(4) انظر لسان العرب (كرم)، تاج العروس (كرم).
{يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)}
{يَوْمَ تَرَى}: يجوز أن يكون {يَوْمَ تَرَى} ظرفًا لقوله تعالى: {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} أي له أجر كريم في ذلك اليوم، أو على تقدير (اذكر يوم ترى المؤمنين) تعظيمًا لذلك اليوم (1).
وذكر المؤمنين والمؤمنات كما ذكر بعد ذلك المنافقين والمنافقات والمصَّدقين والمصّدقات لتنال البشري جميع من آمن وينال التبكيت جميع من نافق.
{يَسْعَى نُورُهُمْ}
قال: (يسعى) ولم يقل: (يمشي) للدلالة على إسراعهم أو الإسراع بهم للدخول إلى الجنة، وإلا لو كان النور يسعى وهم يمشون لسبقهم النور وتركهم في الظلمة.
وأسند السعي إلى النور ولم يقل (يسعون) لأن السعي قد يفضي بهم إلى الجهد والتعب، فأسند السعي إلى النور للدلالة على أنه يسعى بهم في مراكب أو محاف أو مطايا أو بغير ذلك، "وذلك على الصراط يوم القيامة وهو دليلهم إلى الجنة" (2).
وأضاف النور إليهم فقال: (نورهم) ولم يقل: (يسعى النور)، للدلالة على أنه نور أعمالهم، فيعطى لكل مؤمن نور على قدر عمله.
{بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ}
ذكر هاتين الجهتين لأن ما بين أيديهم هو الأمام وهي جهة السير والسعي، والأيمان هي جهة إيتاء كتب السعداء، ولم يذكر الشمائل لأنها جهـة كتب الأشقياء، جاء في (الكشاف): "وإنما قال: {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ومن وراء ظهورهم" (3).
قال تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا} [الانشقاق: 10 – 11].
وقال (بأيمانهم): ولم يقل: (عن أيمانهم) للدلالة على أن النور ملاصق للأيمان وليس مبتعدًا أو منحرفًا عنها.
وقـال: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} ولـم يقـل: (المسلميـن والمسلمات) لإخراج المنافقين والمنافقات الذين لم يدخل الإيمان قلوبهم وقد أسلموا ظاهرًا، كما قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8]، وقال: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14].
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 357 إلى ص 358.
(1) انظر الكشاف 4/63، تفسير الرازي 29/223.
(2) فتح القدير 5/240.
(3) الكشاف 4/63.
{بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)}
حذف القول، أي مقولًا لهم أو يقال لهم، لإرادة أن الأمر مشاهد مرئي مسموع وليس إخبارًا عن غائب، فأنت ترى المؤمنين وتسمع القول من دون أن تخبر بذاك، والدليل على ذلك قوله: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ} فذكر الرؤية مما يدل على أن الأمر مشاهد لا منقول سماعًا. والمراد بالبشرى ما يبشر به، أي ما تبشرون به جنات (1).
وذكر (اليوم) لأن ذلك كائن في ذلك اليوم وليس بعده، فهو قريب واقع، وقوله: {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} واقع على جميع ما مر ذكره في الآية وآخره الجنة، فالنور الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم فوز عظيم، والبشرى فوز عظيم، والجنات فوز عظيم، والخلود فيها فوز عظيم. والذي يدل على أن البشري فوز عظيم قوله تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [يونس: 63 - 64]. وعرف الفوز وجاء بضمير الفصل للدلالة على القصر وعلى أن ذلك وحده هو الفوز العظيم وليس ثمة فوز غيره، وأن ما عداه هو الخسران المبين.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 359 إلى ص 359.
(1) انظر روح المعاني 27/174.
{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آَمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)}
{يَوْمَ يَقُولُ ....} بدل من {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ ....} (1)ويجوز أيضًا أن يكون منصوبًا على تقدير (اذكر) (2) وذكر المنافقين والمنافقات ليدل على أن كل فرد من الجنسين ينال جزاءه ولا يشفع لأحدهما قرابة، فلا تغني المؤمنة عن قريبها المنافق أو قريبتها المنافقة، ولا المؤمن عن قريبه أو زوجته المنافقة. ولا تقول المنافقة إني كنت تبعًا لزوجي أو أخي أو أبي، فإن كل واحد مسؤول عن نفسه وعما قدّم أو أخر.
{انْظُرُونَا}
أي انتظرونا، غير أنهم لم يقولوا: (انتظرونا) لأن الانتظار فيه تمهل وإبطاء، والمؤمنون يسرعون أو يسرع بهم إلى الجنة، فطلبوا انتظارا قليلاً أو تمهلاً قليلاً، وقد أدركوا أنهم لو طلبوا انتظارًا لم يجابوا. ولو كان في الوقت فسحة لساغ طلب الانتظار، كما في قوله تعالى: {فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [يونس: 102] فقال {فَانْتَظِرُوا}، وقال: {إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} لأن في الوقت متسعًا.
جاء في (نظم الدرر): "وكأن الفعل جرد في قراءة الجماعة لاقتضاء الحال الإيجاز بغاية ما توصل المقدرة إليه خوف الفوت؛ لأن المسؤولين يسرعون إلى الجنة كالبرق الخاطف" (3).
قيل: ويجوز أن يكون المعنى (انظروا إلينا) "لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به" (4).
{نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ}
أي "نصب منه وذلك أن يلحقوا بهم فيستنيروا به" (5)، وقالوا: (نقتبس) ولم يقولوا: (نأخذ) لأن الاقتباس لا ينقص من المقتبس منه، بخلاف الأخذ فإنك إذا اقتبست من النار فإن ذلك لا ينقصها بخلاف ما إذا أخذت منها، والمعنى نستفد منه فلا ينقص فانظرونا.
وقالوا: (نقتبس) ولم يقولوا: (نقبس)؛ لأن الاقتباس أبلغ من القبس، وذلك دليل على عظم نور المؤمنين وهو لا ينقص بالاقتباس.
وقالوا: {مِنْ نُورِكُمْ} ولم يقولوا: (من النور الذي معكم) للدلالة على أنه نورهم هم، قيل: "يعطى يوم القيامة كل أحد نورًا على قدر عمله ... ثم على ذلك تغشاهم ظلمة فتطفئ نور المنافقين، فهنالك يقول المنافقون: {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} كقبس النار" (6).
{قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا}
لم يقل: (قالوا) بل (قيل): "ويظهر من إسناد (قيل) بصيغة المبني للمجهول أن قائله غير المؤمنين المخاطبين، وإنما هو من كلام الملائكة السائقين للمنافقين. وتكون مقالة الملائكة للمنافقين تهكمًا، إذ لا نور وراءهم" (7).
و(وراءكم) إما أن يكون ظرفًا مؤكدًا، فإن الرجوع إنما يكون إلى الوراء، وإما أن يكون اسم فعل بمعنى (ارجعوا) فيكون أيضًا مؤكدا لفعل الأمر (8).
{فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ}
قيل: الباء في (بسور) زائدة للتوكيد، والتقدير: ضُرب بينهم سور (9)، وقيل: ضمن (ضرب) معنى (حجز) أي حجز بينهم بسور ولذلك عدي بالباء "أي ضرب بينهم سور للحجز به بين المنافقين والمؤمنين" (10)، والسور: هو ما أحاط بالشيء من بناء وغيره.
وقال: {لَهُ بَابٌ} لئلا يظن أن المؤمنين محتجزون فيه، وإنما ينفذون منه إلى مرادهم وهو الطريق إلى الجنة والله أعلم. فالمنافقون لا يتمكنون من الدخول فيه ليلتقوا بالمؤمنين، والمؤمنون يتمكنون من الخروج منه.
ووصف السور بأن باطنه فيه الرحمة وهي الجهة التي فيها المؤمنون، وأن ظاهره يأتي العذاب من جهته للمنافقين ولمن حقت عليه كلمة العذاب. وهذا السور - كما ترى - يخالف باطنه ظاهره، كما أن المنافقين يخالف باطنهم ظاهرهم، فهم يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، وذلك السور باطنه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، وهو تناظر لطيف بين السور والمنافقين في اختلاف الباطن عن الظاهر.
{يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ}
استعمل الفعل (ينادونهم) وقد استعمل قبل قليل الفعل (يقول)؛ ذلك لأنه صار بينهم حاجز فاحتاجوا إلى رفع الصوت للنداء.
{أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} ولم يقولوا: (ألم نكن منكم) لأنهم كانوا معهم ولم يكونوا منهم، ولذلك أجابوهم بـ (بلي)، ولو قالوا: (ألم نكن منكم) لأجابوهم بكلاّ.
{قَالُوا بَلَى} ولم يقل: (فنادوهم بلى) ذلك أنه حيث استعمل القرآن الفعل (نادي) أو متصرفاته يكون الجواب بفعل القول، وذلك نحو قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ} [هود: 42 – 43].
{وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي أوقعتموها في الفتنة. واختيار هذا الفعل اختيار رفيع، فإن (فتن) له معان كثيرة، أكثرها مراد هنا.
فمن معانيه: إدخال الذهب في النار لتظهر جودته من رداءته. وأنتم وضعتم أنفسكم في هذا الموضع ففتنتم أنفسكم وبانت رداءتكم وخسة معدنكم.
ومن معانيه: الامتحان والاختبار، وقد وضعتم أنفسكم في هذا الموضع أيضًا فأوقعتم أنفسكم في الفتنة والاختبار والامتحان؛ لأنكم أظهرتم الإيمان وأبطنتم الكفر، فتقولون للمؤمنين: نحن معكم، وتقولون للكافرين: إنا معكم، ولا شك أن كل فريق يختبركم ويمتحنكم ليتبين أأنتم معه أم عليه.
ثم إن هذا الأمر يحتاج إلى موازنة الموقف وإظهار تعامل خاص لكل فريق، وهذا امتحان أيضًا لبيان القدرة على السلوك المتناقض الذي يرضي الطرفين المتباينين، فأنتم وضعتم أنفسكم تحت الاختبار والمراقبة من كل فريق ومن أنفسكم أيضًا.
ومن معانيه: الشدة والتعذيب، ومنه قوله تعالى: {وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ} [البقرة: 191]، وقوله: {فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ} [يونس: 83] أي يعذبهم.
وأنتم فتنتم أنفسكم فأوقعتموها في الشدة والتعذيب في الدنيا والآخرة بالتربص والخوف ومحاولة إخفاء الحقيقة بصورة مستمرة ولجوئكم إلى الكذب والمراوغة واختلاق المعاذير، وفي الآخرة أنتم كما ترون.
ومن معانيه: إدخال الإنسان النار (11)، قال تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات: 13 - 14] وأنتم فتنتم أنفسكم في الدنيا والآخرة وأوقعتموها في المحنة والعذاب وأدخلتموها النار، فأنتم الذين فتنتم أنفسكم في الدنيا والآخرة وأوقعتموها في المحنة والعذاب وأدخلتموها النار، فأنتم الذين فتنتم أنفسكم. جاء في (الكشاف): "{فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ}: محنتموها بالنفاق وأهلكتموها" (12).
{وَتَرَبَّصْتُمْ}
وتربصهم مطلق، فهم كانوا يتربصون بالمؤمنين الدوائر ليتمكنوا من إعلان كفرهم صراحة، وكانوا أيضًا يتربصون ظهور أحد الفريقين وانتصاره ليعلنوا أنهم كانوا معه، كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء : 141].
فالفتنة هذه تقتضي التربص للانتفاع من كل فريق، وهذا التربص يفضي إلى الريبة فيمن سيفوز ويربح ليعلنوا أنهم معه، فقال: (وارتبتم) أي شككتم في أمر محمد وهل هو على حق، وارتبتم فلا تعلمون أي فريق سيغلب.
ولما لم يتبين لكم الأمر على حقيقته (غرتكم الأماني) وخدعتكم وقلتم: لعله سيُغلب محمد، وبقيتم في هذه التمنيات الخادعة حتى جاءكم أمر الله وهو الموت. هذا علاوة على ما خدعكم به الشيطان وغركم بالله وقال لكم: إن الله سيغفر لكم ولا يعذبكم (13)، فغرتكم أماني أنفسكم والشيطان.
إن هذه المذكورات مرتبة ترتيبًا منطقيًا يفضي أحدها إلى الآخر، فهم فتنوا أنفسهم بأن أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر فكان عليهم التربص والانتظار، وبذا كان التربص من أثر الفتنة والاختبار. ثم لما طال التربص ولم تظهر له نتيجة حاسمة داخلتهم الريبة والشكوك فيمن سيظهر ويغلب. وبعدها جاء دور الأماني الخادعة تغرهم وتمنيهم. ثم إن الشيطان ولج لئلا تصحو ضمائرهم ويخافوا بطش الله فغرهم بالله وهون عليهم الأمر. واستمروا على ذلك حتى جاء أمر الله ورحلوا عن الدنيا منافقين مغرورين من أنفسهم ومن الشيطان فسوف يلقون غيًّا.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 359 إلى ص 365.
(1) تفسير الرازي 29/224.
(2) انظر روح المعاني 27/176.
(3) نظم الدرر 7/444.
(4) الكشاف 4/63، وانظر تفسير الرازي 29/225، روح المعاني 27/176.
(5) الكشاف 4/63.
(6) تفسير الرازي 29/226.
(7) التحرير والتنوير 27/382.
(8) انظر روح المعاني 27/177.
(9) ينظر تفسير الرازي 29/227، روح المعاني 27/177.
(10) التحرير والتنوير 27/383.
(11) انظر المفردات في غريب القرآن (فتن).
(12) الكشاف 4/63.
(13) انظر الكشاف 4/63، تفسير الرازي 29/227، البحر المحيط 10/106.
{فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)}
ذكر الفدية لأنه تكرر في السورة ذكر الإنفاق والدعوة إليه وذكر القرض الحسن والبخل والذين يأمرون به، فقال: {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ} وقد كان بإمكانكم أن تفدوا أنفسكم في الدنيا بالإنفاق في سبيل الله فلم تفعلوا. والظاهر أن الفدية ههنا تعني المال وإن كانت الفدية عامة في كل ما يفتدى به، فقد قال تعالى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196].
غير أن الذي يرجح معنى المال قوله: (لا يؤخذ) ولم يقل: (لا تقبل) والذي يؤخذ هو المال المناسب لجو السورة وما شاع فيها من ذكر للإنفاق والقرض الحسن، والله أعلم.
وقال: {لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} مع أن المنافقين من الذين كفروا، ذلك أن المقصود بـ (الذين كفروا) هم الكافرون من غير وهو المنافقين وهم الذين أظهروا كفرهم ولم يستروه (1). فلا تؤخذ الفدية لا من المنافقين ولا من سائر الكافرين الآخرين.
{مَأْوَاكُمُ النَّارُ} أي هي دار إقامتكم والمأوى الذي تأوون إليه، والمأوى يعني الملجأ والمكان الذي يحتمى به، فالنار ملجؤهم الذي يأوون إليه.
{مَأْوَاكُمُ النَّارُ} أي هي التي تتولى أمركم فذكر المأوى والمولى، ذلك أن الشر إنما يأتيهم من جهتين: المأوى والمولى. فقد يكون المأوى سيئًا غير أن المولى حسن، وقد يكون العكس، أما هؤلاء فالنار مأواهم ومولاهم.
وقيل: إن معنى {هِيَ مَوْلَاكُمْ}: "هي أولى بكم ... وحقيقة مولاكم: محراكم ومقمنكم، أي مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم ... ويجوز أن يراد هي ناصركم، أي لا ناصر لكم غيرها، والمراد نفي الناصر على البتات. ونحوه قولهم: (أصيب فلان بكذا فاستنصر الجزع)، ومنه قوله تعالى: {يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ} وقيل: تتولاكم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار" (۲).
ويجوز أن يكون اشتقاق (المولى) من الولي وهو القرب، فيكون معنى مولاكم، أي مكانكم عن قرب (3).
والمعنيان مرادان، فهي تتولى أمرهم وهي مكانهم عن قرب.
ولم يرد في جهنم (هي مولاكم) إلا في هذا الموطن، وذلك لسببين والله أعلم:
السبب الأول: أنه ذكر في آية الحديد هذه أن المنافقين تربصوا وغرتهم الأماني حتى الموت، فبعد طول الأمل والتربص الطويل كانت النار أقرب إليهم، فهم كانوا يستبعدونها وهي أقرب إليهم وأدنى من آمالهم.
والسبب الآخر: أن كل الآيات الأخرى التي ورد فيها (مأواه جهنم وبئس المصير) ونحوها إنما قيلت وهم في الدنيا، والدنيا لا تزال غير منقضية، وأما هذا القول فإنه قيل وهم في الآخرة وقد ضرب السور بينهم وبين المؤمنين وأتاهم العذاب من قبله فالنار قريبة منهم فقال: {هِيَ مَوْلَاكُمْ}.
{وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} وهذه أنسب خاتمة لهم، فقد كانوا في ترقبهم وأمانيهم ينتظرون المصير الحسن والمستقبل المشرق، فكانت لهم الظلمة والمصير الأسوأ.
إن هذه الآيات يتجلى فيها إكرام المؤمنين وإبعاد النصب عنهم، بخلاف المنافقين فإنها يتجلى فيها إرهاقهم وإهانتهم والتهكم بهم.
فقد قال في المؤمنين:
1- {يَسْعَى نُورُهُمْ}: ولم يقل: (يمشي نورهم) للدلالة على الإسراع بهم إلى الجنة وهذا إكرام، فإن الإبطاء إلى السعادة ليس كالإسراع إليها، وفي الإسراع ما فيه من الإكرام.
2- أنه أسند السعي إلى النور ولم يسنده إليهم، فلم يقل: (يسعون) لأن السعي قد يجهدهم، فأسنده إلى النور، فدل على أنه يسعى بهم. فهو لم يقل: إنهم يمشون؛ لأن المشي قد يكون فيه إبطاء، ولم يقل: (يسعون) لأن سعيهم قد يكون فيه إجهاد، ولكنه أفاد السعي من ذكر سعي النور.
3- قال: {يَسْعَى نُورُهُمْ} فذكر الفاعل ولم يقل (يسعى بهم) بالبناء للمجهول وحذف الفاعل فلا يدرى أيسعون في ظلمة أم في نور، فذكر أن لهم نورا يسعى.
4- أضاف النور إليهم، وهذا فيه أمران:
الأول: الدلالة على أن هذا النور إنما هو نور المؤمن وهو يعطى على قدر عمله، فهو إهابة بالمؤمن ليعظم نوره ويكثره.
ومن ناحية أخرى لم يقل: (يسعى النور) فيجعله عامًا فيستضيء به المنافقون، فجعل لكل مؤمن نوره الذي يستضيء به فلا يشاركه فيه غيره. فهذا إكرام للمؤمنين وإرهاق وحسرة على المنافقين.
5- قال : {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}، ومعنى {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} أمامهم، غير أنه لم يقل: (أمامهم) لأن الأمام قد يكون بعيدًا عن الشخص، فقد تسأل عن قرية فيقال: هي أمامك. وقد يكون النور أمامك ولا تتمكن من الاستضاءة به لبعده فقال: {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ}.
6- وقال: {وَبِأَيْمَانِهِمْ} ولم يقل: (عن إيمانهم) لأن معنى بأيمانهم أنه ملتصق بالأيمان وليس مبتعدًا عنها، كما قال تعالى: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17]، ولو قال: (عن أيمانهم) لدل أنه متراخ عن أيمانهم أو منحرف عنها؛ لأن (عن) تفيد المجاوزة، والباء تفيد الإلصاق.
7- قال: {بُشْرَاكُمُ} ولم يقل: (يقال لهم بشراكم) لأنه أراد أن يجعل المشهد حاضرًا ليس غائبًا يسمع فيه التبشير ولا ينقل.
8- وأضاف البشرى إلى ضمير المخاطبين لتنال البشري كل واحد، ولم يقل: (البشرى جنات) وهو إكرام آخر.
9- وقال: {الْيَوْمَ} للدلالة على قرب البشرى وأنها ليست من الوعد البعيد الوقوع. والبشرى كلما كانت أقرب كانت أحب وأدعى إلى المسرة.
10- وقال: {جَنَّاتٌ} ولم يقل: (جنة) للدلالة على أن لكل منهم جنة أو أكثر، كما قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46].
۱۱- قال: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} ولم يقل: (فيها أنهار) وذلك للدلالة على أنها جارية وليست راكدة، والركود مظنة الأسون، هذا إضافة إلى التمتع بمشهد الجري، ولذلك عندما لم يذكر الجري في قوله: {جَنَّاتٌ} [محمد: 15] قال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} لينفي عنها صفة الأسون، ولما ذكر الجري لم يذكر ذلك لأنه لا حاجة إليه.
12- وقال: {الْأَنْهَارُ} ولم يقل: (نهر) للدلالة على كثرة الأنهار.
۱۳- قال: {خَالِدِينَ} وهي بشرى أخرى، وقال: {فِيهَا} للدلالة على أن الخلود في الجنات وليست الجنة مرحلة أو مكانًا ينتقلون منه إلى ما هو أقل سعادة.
14- وقال: {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ولم يقل: (ذلك فوز عظيم) وإنما عرف الفوز بأل للدلالة على القصر وعلى أنه لا فوز أعظم منه. ثم جاء بضمير الفصل للزيادة في التوكيد.
ثم إن الأمر يعظم ويكبر بعظم قائله، فإن الفوز الذي يذكره طفل أو رجل من ضعفة الناس يختلف عن الفوز الذي يذكره قائد أو ملك. فكيف وقد ذكره ملك الملوك ووصفه بالعظمة وقصره وأكده؟!
15- ذكر أن المنافقين يقولون: {انْظُرُونَا} ولم يقولوا: (انتظرونا) فإنهم يدركون أنه لا يسعهم الانتظار، وإنما طلبوا منهم مهلة قصيرة لينظروهم، أي ينتظروهم. وفي هذا دلالة على الإسراع بهم إلى الخير والسعادة، فإن الذي يسرع به إلى الخير والسعادة أكرم من الذي يبطأ به.
16- ثم قال: {نَقْتَبِسْ} ولم يقل: (نقبس) والاقتباس أكثر من القبس، وذلك يدل على عظم النور الذي عندهم.
17- قال: {مِنْ نُورِكُمْ} ولم يقل: (من النور) وهذا تكريم آخر، فإن النور نورهم.
18- قال: {قِيلَ ارْجِعُوا} ولم يقل: (قالوا) لأنه أراد ألا ينشغلوا بما لا فائدة فيه من الكلام، فتكلم الملائكة أو غيرهم بالنيابة عنهم، ولم يشغلوهم بالكلام عما هو أهم ولا يرهقوهم بكثرة القيل.
19- قال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ} فحجزوهم عن أولئك السائلين المنافقين.
20- ثم قال: {لَهُ بَابٌ} للدلالة على أنهم غير محتجزين فيه، وإنما ينفذون منه إلى مرادهم.
21- ثم قال: {بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} وهو تكريم آخر، وكيف لا وهم في رحمة الله؟
أما دلالتها على إهانة المنافقين وإرهاقهم فهو أوضح ما يكون:
1- فقد ذكر أن المنافقين والمنافقات يطلبون من المؤمنين أن ينظروهم للاقتباس من نورهم، وهذا يدل على أنهم في ظلمة. وقد قيل إنهم أعطي لهم نور ثم انطفأ (4)، من باب إهانتهم وخديعتهم والاستهزاء كما كانوا يخادعون ويستهزئون في الدنيا، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142]. جاء في (تفسير ابن كثير): "ويقول المنافقون للذين آمنوا {انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا} وهي خدعة الله التي خدع بها المنافقين حيث قال: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئًا فينصرفون إليهم وقد ضرب بينهم بسور له باب" (6).
2- وقال: {قِيلَ ارْجِعُوا} ولم يذكر أن المؤمنين ردوا عليهم فبنى الفعل للمجهول، وقيل: إن القائل هم الملائكة، فهم الذين تولوا الرد عليهم، أما المؤمنون فلا هذا الطلب وإنما هم مشغولون بما هو أهم. وهذا إهانة للمنافقين أن يطلبوا من المؤمنين فلا يجيبوهم وإنما يعنيهم يجيبهم آخرون.
3- قال: {ارْجِعُوا} وهو إهانة أخرى.
4- وقال: {وَرَاءَكُمْ} وهو إما أن يكون ظرفًا مؤكدًا أو يكون اسم فعل بمعنى {ارْجِعُوا}، فيكون كأنه قيل لهم: ارجعوا ارجعوا، وهو إهانة ظاهرة.
5- قال: {فَالْتَمِسُوا نُورًا} وهم يعلمون أنه ليس ثمة نور وهو من باب الاستهزاء بهم.
6- وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ} فحجـزوهـم عـن اللحاق بالمؤمنين، وهو إهانة ظاهرة.
7- وقال: {وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ} وهي جهتهم.
8- قال: {يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} فذكر أنه يرفعون أصواتهم من وراء السور ينادون المؤمنين ليلتحقوا بهم ولكن حيل بينهم وبين ما يريدون.
9- وفي رد المؤمنين عليهم إهانات متعددة، فقولهم لهم: إنكم فتنتم أنفسكم، وتربصتم، وارتبتم، وغرتكم الأماني، وغركم بالله الغرور، كل خصلة منهن إهانة وتبكيت.
10- وقوله تعالى: {فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} {مَأْوَاكُمُ النَّارُ} {هِيَ مَوْلَاكُمْ} {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} كله إهانات وإخبار لهم بما سيلاقونه من سوء العاقبة والمنقلب، نعوذ بالله.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 365 إلى ص 372.
(1) انظر نظم الدرر 7/446.
(2) الكشاف 4/64.
(3) انظر فتح القدير 5/242.
(4) انظر تفسير ابن كثير 4/364 – 365.
(5) تفسير ابن كثير 4/365.