عرض وقفات أسرار بلاغية

  • ﴿وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿٣٠﴾    [الإنسان   آية:٣٠]
{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)} والمعنى: - والله أعلم – أنكم لا تشاؤون إلا أن يشاء الله أنكم تشاؤون، أي أن مشيئتكم واختياركم كانا بمشيئة الله وإرادته، فإنه شاء لكم أن تختاروا ولو شاء لم يمنحكم هذه المشيئة، وذلك أن الله عليم بما يخلق وكيف يخلق، وكل ذلك لحكمة أرادها سبحانه. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 268 إلى ص 268.
  • ﴿يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴿٣١﴾    [الإنسان   آية:٣١]
{يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)} قد تقول: كيف يدخل من يشاء في رحمته وربما كان فيهم من لا يستحق الرحمة؟ والجواب: أنه لما قال: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} علم أنه يفعل ذلك لعلم وحكمة، وأنه لا يدخل في رحمته إلا من علم الله أنه يستحق ذلك واقتضت ذلك حكمته. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه لما قال: {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} علم أن من يدخلهم في رحمته هم من غير الظالمين. وقد يقول قائل: ولم قال في أول السورة: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} وقال هنا: {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} فإن العذاب الأول أشد؛ لأن العذاب الأليم قد لا يكون بالسعير والنار والسلاسل والأغلال؟ والجواب: أنه ذكر العذاب الأول للكافرين، وهذا العذاب للظالمين، والظالم قد لا يكون كافرًا، فإن كل كافر ظالم وليس كل ظالم كافرًا، قال تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة: 254] فاقتضى أن يكون العذاب الأول أشد؛ لأن صاحبه كافر ظالم والثاني ظالم. إن هذا الآية هي خاتمة السورة، وقد ارتبطت ببداية السورة ارتباطًا لطيفًا، فقد بدأت السورة بالإنسان وهو لم يكن شيئًا مذكورًا، وانتهت بخاتمة هذا الإنسان ومصيره، فبدأت ببدئه وختمت بخاتمته. وكما ذكر صنفين من الناس في أول السورة وهما الشاكر والكفور، ذكر صنفين في خاتمتها وهما المرحوم والمعذب. إن لهذه السورة خطوطًا تعبيرية ظاهرة فيها؛ فمن الخطوط التعبيرية فيها أنها بنيت على التثنية، فإنها ترد الأشياء فيها صنفين، ومن ذلك على سبيل المثال: 1- أنه ذكر صنفين من الناس: الشاكر والكفور {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}. 2- ذكر صنفين من العذاب: القيود والسعير: والقيود نوعان: وهما السلاسل والأغلال. 3- ذكر صنفين من أصحاب الجنة: الأبرار وعباد الله وهم السابقون {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ}. 4- ذكر نوعين من الشراب الممزوج: شرابًا ممزوجًا بالكافور، وآخر ممزوجًا بالزنجبيل. 5- ذكر نوعين من العبادات الظاهرة: وهما الوفاء بالنذر والإطعام. 6- ذكر نوعين من العبادات القلبية: الخوف والإخلاص {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا} {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ}. 7- نفى المطعمون عن أنفسهم إرادة شيئين: الجزاء والشكور، والجزاء: هو المكافأة بالفعل، والشكور: هو الثناء باللسان. 8- ذكر تعالى أنه لقاهم شيئين: النضرة والسرور، والنضرة تكون في الوجوه، والسرور في القلب. 9- ذكر أنه جزاهم بصبرهم شيئين: جنة وحريرًا، والجنة للأكل، والحرير للبس. 10- ونفى عنهم رؤية شيئين: الشمس والزمهرير. 11- وذكر دنو شيئين منهم: الظلال والقطوف {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا}. 12- وذكر الطواف بشيئين: الآنية والأكواب {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ}. 13- وذكر الشرب بصورتين: من الكأس ومن العين {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} 14- وذكر نوعين من الشرب من الكأس: الشرب دون ساق، والسقي { إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا}. 15- ذكر نوعين من الثياب: السندس والإستبرق. 16- وذكر نوعين من الزينة: اللباس والأساور. 17- ذكر أنه قال لهم شيئين: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً}، {وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا}، وهذا بمقابل قولهم: {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}. 18- نهى رسوله عن إطاعة صنفين من الناس: الآثم والكفور {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا} 19- طلب منه التسبيح والصلاة في النهار والليل، فالبكرة والأصيل في النهار، وقوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} في الليل. 20- ذكر وقتين من أوقات النهار: وهما البكرة والأصيل {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}. 21- ذكر عبادتين في الليل: السجود والتسبيح. 22- ذكر الحياتين: الدنيا والآخرة {إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا}. 23- ذكر الحب والترك: {يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ} 24- وذكر أمرين من أمر الإنسان: الخلق وشد الأسر {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} 25- ذكر مشيئتين: مشيئة الله ومشيئة الإنسان {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 26- ختم السورة بذكر صنفين من الناس: المرحوم والمعذب {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} وهناك خط آخر في ذكر الأحداث، وهو ذكر الأحداث المستقبلة بالفعل الماضي، ومن ذلك قوله تعالى: 1- {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ} 2- {يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} 3- {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} 4- {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ} 5- {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} 6- {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا} 7- {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا} 8- {وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ} 9- {قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} 10- {كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا} 11- {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} 12- {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} 13- {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً} 14- {وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} 15- {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} إلى غير ذلك من الخطوط والله أعلم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 268 إلى ص 272.
  • ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿١﴾    [الصف   آية:١]
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)} التسبيح: هو التنزيه، فمعنى {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أن هؤلاء نزهوه عما لا يليق من الصفات، وأنهم ذكروا ذلك بما يليق من حالهم مما نفقه من التسبيح ومما لا نفقه. لقد ورد فعل التسبيح في القرآن الكريم معدّى بنفسه ومعدّى باللام، فمما ورد معدى بنفسه قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41 – 42]، وقوله: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 49]. ومما ورد معدّى باللام هذه الآية التي افتتح بها السورة. ونظيرها في مفتتح سورة الحديد وسورة الحشر، وقوله: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [الإسراء: 44] وغيرها. إن معنى (سبّحه): نزّهه – كما ذكرنا – ومعنى (سبّح له): أي فعل ذلك لأجله، فاللام تفيد التعليل، فالتسبيح هو الفعل، والتسبيح له هو الفعل لأجله، كما تقول: صلّى وصلّى له، ونسك له. ولا ينفع الفعل حتى يكون له سبحانه، فكل فعل أو عبادة لا تنفع حتى تكون له وحده وإلا كان ذلك ضلالاً. فكل فعل لا يكون له باطل، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]. فمن سبّح رياء فليس بمسبّح لله، ومن صلى رياء فليس بمصل له، فالتسبيح ينبغي أن يكون له تعالى خالصًا كسائر العبادات. فالتسبيح هو الفعل، والتسبيح له هو إخلاص النية والعمل لله. جاء في (البحر المحيط): "واللام في (لله) إما أن تكون بمنزلة اللام في (نصحت لزيد) يقال: (سبح الله) كما يقال: (نصحت زيدًا) فجئ باللام لتقوية وصول الفعل إلى المفعول، وإما أن تكون لام التعليل، أي أحدث التسبيح لأجل الله، أي لوجهه خالصًا" (1). ومن الملاحظ في هذين الاستعمالين في القرآن الكريم، أي في نحو (سبح لله) و(سبحه) أنه يستعمل اللام مع العاقل وغير العاقل، وأما المتعدي بنفسه فلا يستعمله إلا للعقلاء. قال تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} [الحديد: 1]، وقال: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} [الإسراء: 44] فهذا لغير العاقل والعاقل. وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ } [النور: 41] فهنا اختلط العقلاء بغيرهم. وقال: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ} [النور: 36 – 37]، وقال: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] وهذا خاص بالعقلاء. أما المتعدي بنفسه فلم يرد إلا للعاقل، قال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 9]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41 – 42]: فتسبيح غير العقلاء لم يرد إلا باللام، أما تسبيح العقلاء فقد ورد باللام وبدونها. وثمة ملاحظة أخرى في استعمال هذين التعبيرين، وهي أنه يستعمل اللام مع ما هو أعم وأشمل، سواء كان ذلك من حيث المسبحون أم من حيث أوقات التسبيح، فقد قال الله: إنه يسبح له ما في السماوات وما في الأرض، وإنه تسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن، وهذا أعم تسبيح وأشمله. في حين أنه قد يستعمل المتعدي بنفسه للواحد أو للجماعة التي لا تبلغ ذلك المبلغ في الشمول والسعة، قال تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 40]، وقال: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان: 26]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41 – 42]. ولم يرد في المتعدي بنفسه نحو ذلك الشمول في المسبحين. ويكفي ذلك بيانًا أن الفعل مع اللام يستعمل للعقلاء وغيرهم، أما المتعدي بنفسه فلم يستعمله إلا للعقلاء. ومثل ذلك الاتساع في الأوقات، فما ورد من الأوقات مع اللام أكثر اتساعًا وأعم وأشمل. قال تعالى مع المتعدي بنفسه: {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح: 9]، وقال: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 42]. في حين قال مع اللام: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ (36) رِجَالٌ} [النور: 36] فذكر ذلك بصيغة الجمع لا بصيغة المفرد، فالغدو جمع غدوة، والآصال جمع أصيل. وقال: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 40]، وقال: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 49]، وقال: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان: 26] ففي كل ذلك قال: (من الليل) بـ (من) التبعيضية، ثم ذكر وقتًا آخر ليس طويلًا وهو (أدبار السجود) أو (إدبار النجوم) حتى أنه في آية الإنسان لم يذكر غير الليل. في جين قال: {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] فقال: {بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} بإطلاق الليل والنهار من دون تقييد، ولم يذكر (من) الدالة على البعضية، بل ذكر الباء التي تفيد الظرفية. ثم قال: {وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} للدلالة على مداومة التسبيح وطوله. لقد ورد التسبيح في القرآن الكريم بصور شتى، فقد ورد بالفعل الماضي نحو {سَبَّحَ لِلَّهِ}، وورد بالمضارع نحو {يُسَبِّحُ لِلَّهِ} وورد بالأمر نحو {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] وقوله: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}. كما ورد باسم المصدر وهو (سبحان) وذلك ليشمل الأزمنة كلها ويستغرقها. فالفعل الماضي يستغرق الزمن الماضي، والمضارع يستغرق الحال والاستقبال، والأمر يفيد طلب التسبيح في المستقبل، والمصدر على حدوث التسبيح سواء كان هناك من يسبحه أم لا، فاستغرق ذلك الأوقات كلها، وأفاد أنه مستحق التسبيح على الدوام سواء كان هناك من يسبح أم لم يكن. جاء في (التفسير الكبير): "ثم إنه تعالى قال في البعض في السور: {سَبَّحَ لِلَّهِ}: وفي البعض (يسبّح)، بصيغة الأمر، ليعلم أن تسبيح الله تعالى دائم غير منقطع لما أن الماضي يدل عليه في الماضي من الزمان، والمستقبل يدل عليه في المستقبل من الزمان، والأمر يدل عليه في الحال" (2). لقد افتتحت السورة بالتسبيح بالفعل الماضي {سَبَّحَ لِلَّهِ} شأن سور أخرى، وقد افتتح قسم آخر من السور بالفعل المضارع، أي {يُسَبِّحُ لِلَّهِ}. ومن الملاحظ أن كل سورة تبدأ بالفعل الماضي، أي {سَبَّحَ لِلَّهِ} يجري فيها ذكر للقتال، بخلاف ما يبدأ بالفعل المضارع، أي {يُسَبِّحُ لِلَّهِ}، فقد قال في سورة الحديد: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ} [الحديد: 10]. وذكر في سورة الحشر إخراج الكافرين من حصونهم وتكرر في السورة ذكر القتال (انظر على سبيل المثال الآيات 10، 11، 13). وقال في سورة الصف: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}، وذكر الجهاد بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}، وكل تلك السور تبدأ بالفعل الماضي (سبّح)، ولم يرد مثل ذلك فيما بدأ بالفعل المضارع. ومن الملاحظ أيضًا أنه في قسم من الآيات يكرر (ما) فيقول: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} ولا يكرر في قسم آخر فيقول: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}، وقد كرر (ما) في هذه الآية فقال: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فكرر (ما) فقال: {وَمَا فِي الْأَرْضِ}. وحيث كرر (ما) في آيات التسبيح أعقب ذلك بالكلام على أهل الأرض، وإذا لم يكرر (ما) فإنه لا يذكر شيئًا يتعلق بأهل الأرض بعدها. وقد ذكر بعد هذه الآية أمرًا يتعلق بأهل الأرض فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ} فكان تكرار (ما) هو المناسب (3). وقد قدم الجار والمجرور (لله) على الفاعل وهو {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} وذلك لأن المجرور أهم، فإن السياق ليس على الفاعل، وإنما هو على مستحق التسبيح وهو الله، ولذا ذكر بعد ذلك قسمًا من صفاته فقال: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، ثم قال بعدها: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}، ثم قال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} فذكر ما يحبه الله وما لا يحبه، فقدم ما هو أهم وأولى. وقدم {مَا فِي السَّمَاوَاتِ} على {وَمَا فِي الْأَرْضِ}؛ وذلك لأن أهل السماوات أسبق في التسبيح من أهل الأرض، فإنه لما أراد خلق آدم قالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30] فقدم ما هو أسبق. وهناك أمر آخر، وهو أنه قدم ما هو أدوم تسبيحًا، فما في السماوات أدوم تسبيحًا، قال تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20]. ولا تقل: إن (ما) لغير العاقل فلا تشمل الملائكة، فإن (ما) – كما هو معلوم – تكون لذوات غير العقلاء ولصفات العقلاء، كقوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7 – 8] فاتضح ما قلناه. {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} العزيز: هو الغالب الممتنع من أن يغلبه أحد، والحكيم قد يكون فعيلاً من الحكم، وقد يكون من الحكمة. والعزيز إذا حكم كان ذلك منتهى العزة، فقد يكون العزيز حاكمًا وقد يكون غير حاكم، وقد ذكر هنا أنه جمع العزة والحكم فكان ذلك غاية الكمال فيهما. وإذا كان (الحكيم) من الحكمة فذلك منتهى الكمال أيضًا، ذلك أنه يكمل عزته بالحكمة، فقد يكون العزيز متهورًا فيكون ذلك نقصًا فيه. والراجح أن كلا المعنيين مراد، فهو حكيم من الحكم، وحكيم من الحكمة، فهو العزيز الحاكم ذو الحكمة. وقال: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} بتعريف الوصفين ليدل على أنه لا عزيز في الحقيقة سواه، ولا حاكم ولا حكيم في الحقيقة سواه، فإن كل عز يناله غيره فمن عزته سبحانه، وكل حكم أو حكمة لغيره فذلك منه سبحانه، كما قال تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [آل عمران: 26]، وقال: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 269]. إن قوله: {سَبَّحَ لِلَّهِ} يعني أن ما في السماوات وما في الأرض نزهوه عن صفات النقص وأثبتوا له صفات الكمال. وقوله: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} يدل على الوحدانية وإبطال الشرك، إذ لا عزيز سواه ولا حاكم غيره، فهذه الآية تدل على توحيد الله سبحانه واتصافه بصفات الكمال وتنزيهه عن النقص، وتفيد إقرار ما في السماوات وما في الأرض له بذلك وخضوعهم له دون غيره خضوع قهر وعبادة. فإن الخضوع قد يكون خضوع قهر وغلبة لا خضوع عبادة وتقديس، أما خضوع ما في السماوات وما في الأرض فهو خضوع قهر وعبادة، فخضوع القهر يدل عليه قوله: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ويدل عليه وصفه نفسه بـ (القهار)، وخضوع العبادة والاستحقاق يدل عليه قوله: {سَبَّحَ لِلَّهِ} فدل ذلك على الكمال المطلق له سبحانه. جاء في (التفسير الكبير): "{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} أي شهد له بالربوبية والوحدانية وغيرهما من الصفات الحميدة جميع ما في السماوات والأرض، و(العزيز) من عز إذا غلب، وهو الذي يغلب على غيره أي شيء كان ذلك الغير ولا يمكن أن يغلب عليه غيره. و(الحكيم) من حكم على الشيء إذا قضى عليه، وهو الذي يحكم على غيره أي شيء كان ذلك الغير ولا يمكن أن يحكم عليه غيره، فقوله: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} يدل على الربوبية والوحدانية إذن" (4). لقد ارتبط هذان الاسمان الكريمان بما ورد في السورة على العموم، فقد شاع فيها جو العزة والحكم والحكمة. فقد ارتبط باسمه العزيز واسمه الحكيم من معنى الحكم قوله تعالى: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} ولا يفعل ذلك إلا العزيز الحكيم. وارتبط بهما أيضًا قوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} وقوله: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ}، وقوله: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ}، فإنه لا يستطيع أن يفعل ذلك إلا العزيز الحكيم. وارتبط باسمه (الحكيم) من الحكمة قوله تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} فإن نور الله إنما هو للهداية، والهداية من الحكمة، والذي يهدي إنما هو الحكيم. وارتبط به أيضًا قوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} والهدى من الحكمة، والحق إنما يدل عليه الحكيم. وارتبط به أيضًا قوله تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} والذي يدل على ذلك حكيم، وقوله: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} والذي يعلم إنما هو حكيم لأن من مقتضيات الحكمة العلم، والذي لا يعلم لا يكون حكيمًا، وذلك من لطيف الارتباط. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 274 إلى ص 281. (1) البحر المحيط 10/100. (2) التفسير الكبير 29/311. (3) انظر معاني النحو 1/79! وما بعدها. (4) التفسير الكبير 29/311.
  • ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴿٢﴾    [الصف   آية:٢]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3)} أخرج الكلام مخرجًا عامًا وإن كان السبب في هذا التقريع خاصًا، فإنه لم يقل: (لم تقولون كذا وكذا ولا تفعلونه) بل جعله عامًا فيما يقال ولا يفعل؛ وذلك لأنه لو ذكر الأمر الذي نزلت الحادثة بسببه لكان يظن أن الإنكار بسبب هذا الأمر دون غيره، فلو قالوا أمرًا آخر ولم يفعلوه كانوا بمنجاة من اللوم. ونحن لا يعنينا ذكر المسألة التي كانت سببًا في نزول الآية، فإنه لا يتغير الحكم على هذا الوصف الممقوت أيًّا كان السبب. والذي يدل عليه السياق وما يذكر في أسباب النزول أن الأمر يتعلق بالقتال وإن اختلف في تحديد هذا الأمر، فقد ذكر أن جماعة من المؤمنين قالوا: لو كنا نعلم أحب الأعمال إلى الله لبادرنا إليه، فلما كتب عليهم القتال كرهوا ذلك أو نكلوا عنه. وقيل: إن بعضهم كان يقول: قتلت، ولم يقتل. وطعنت، ولم يطعن، وفعلت كذا، ولم يفعل، فأنزل الله ذاك. وسواء كان الأمر فيما ذكر أم في غيره فإن ذلك وصف ممقوت، وكله يندرج فيمن يقول ما لا يفعل. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 282 إلى ص 282.
  • ﴿كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴿٣﴾    [الصف   آية:٣]
{كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} {كَبُرَ} بضم الباء، وفي التعبير احتمالات: منها: أن العرب يفرقون بين الكبر المعنوي والكبر في السن، فالكبر المادي تقوله بكسر الباء فيقال: (كبر الرجل)، والكبر المعنوي تقوله بالضم فيقال: (كبر الأمر)، والكبر ههنا غير مادي فقاله بالضم، فيكون التعبير خبريًّا. وفيه احتمال آخر: وهو أن الفعل محوّل إلى (فعل) بضم العين لقصد التعجب، أي ما أكبره مقتًا، فإن الفعل قد يحوّل إلى (فعُل) لقصد التعجب. وفيه احتمال ثالث: وهو أن الفعل محوّل إلى (فعُل) بقصد الذم، فإنه إذا أريد تحويل الفعل إلى المدح أو الذم، أي تحويله إلى باب نعم وبئس جيء به على (فعُل) بضم العين، بشروط معلومة في التعجب والمدح والذم. وهنا احتمل التعبير الذم والتعجب، إضافة إلى الأسلوب الخبري الأول. و(مقتًا) يحتمل أن يكون تمييزًا مفسرًا لفاعل مستتر، أي كبر المقت مفتًا، والمصدر المؤول يكون بدلًا وذلك لقصد الإيضاح بعد الإبهام، ثم فسر الأمر الممقوت بقوله: {أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}، وإضمار الفاعل وتفسيره بالتمييز يحول الكلام إلى إنشاء إضافة إلى التفخيم والتعظيم. ويحتمل أن يكون الفاعل هو المصدر المؤول، أي {أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} و(مقتًا) تمييز محول عن فاعل، والأصل (كبر مقت قولكم ما لا تفعلون) وقد حول الفاعل لقصد المبالغة (1). وبهذا يكون قد اجتمع في التعبير ما يجعله ممقوتًا أشد المقت، وذلك من نواح: 1- منها أنه يحتمل الخبر على أصل التعبير من دون تحويل إلى (فعُل) فيكون قد أخبر عن بغضه بفعل من أفعال السجايا الدالة على الثبوت. 2- ومنها أنه يحتمل التحويل إلى (فعُل) لقصد التعجب، فيكون القصد هو التعجب من بغض هذا الفعل إلى الله. 3- ومنها أنه يحتمل التحويل إلى (فعُل) لقصد الذم، فيكون القصد إنشاء الذم لهذا الوصف. 4- ومنها أنه استعمل كلمة (المقت) دون البغض، والمقت أشد البغض وأبلغه. 5- ومنها أنه يحتمل تحويل الفاعل إلى تمييز لقصد المبالغة. 6- ومنها أنه يحتمل إضمار الفاعل وتفسيره بالتمييز لقصد الإيضاح بعد الإبهام وتحويل الخبر إلى إنشاء. 7- ومنها وصفه بالكبر. 8- وزاد هذا الوصف بغضًا قوله: {عِنْدَ اللَّهِ} فإن المبغوض عند الله هو أسوأ ما يبغض. فجعل هذا التعبير ممقوتًا من كل وجه وعلى أبلغ صورة خبرًا وإنشاء وتعجبًا وذمًّا ومبالغة وإيضاحًا بعد الإبهام. ولو قال بدل ذلك مثلاً: (كبر المقت عند الله أن تقولوا) أو قال: (ما أكبر المقت عند الله) أو قال: (كبر عند الله مقت أن تقولوا ...) أو غير ذلك لفقد أكثر هذه المعاني. جاء في (الكشاف): "قصد في (كُبر) التعجب من غير لفظه كقوله: غلتْ نابٌ كليبٌ بَواؤُها ومنعى التعجب: تعظيم الأمر في قلوب السامعين، لأن التعجب لا يكون إلا من شيء خارج عن نظائره وأشكاله، وأسند إلى {أَنْ تَقُولُوا}، ونصب (مقتًا) على تفسيره، دلالة على أن قولهم ما لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه لفرط تمكن المقت منه، واختير لفظ المقت لأنه أشد البغض وأبلغه ... ولم يقتصر على أن جعل البغض كبيرًا حتى جعل أشده وأفحشه، و{أَنْ تَقُولُوا} أبلغ من ذلك، لأنه إذا ثبت كبر مقته عند الله فقد تم كبره وشدته وانزاحت عنه الشكوك" (2). وقال: {أَنْ تَقُولُوا} بالمصدر المؤول، ولم يقل: (قولكم) بالمصدر الصريح، ذلك أن (قولكم) يحتمل أن ذلك وقع مرة واحدة فيكون المقت الكبير لما حصل ولو مرة واحدة، وليس ذلك بمراد، فأراد أن يبين أن هذا المقت الكبير عند الله يكون إذا تكرر حصول ذلك، فجاء بالفعل الدال على التجدد والاستمرار. كما أنه لم يقل: (كبر مقتًا عند الله أن قلتم ما لم تفعلوا) للسبب نفسه، فإنه لم يرد أن يجعل هذا المقت الكبير عند الله لما وقع مرة واحدة، والله أعلم. وقد فظّع الله هذا الوصف وبالغ في ذمه، لأن هذا الأمر يدخل في دائرة الكذب، والمسلم لا يكذب. وقد تقول: ولِمَ لَمْ يقل: (إن الله يمقت الذين يقولون ما لا يفعلون) فيجعل المقت للفاعل، كما قال في الآية بعدها: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} فلماذا جعل المقت للفعل والحب للفاعل؟ والجواب: أن الله خاطب أصحاب الوصف الممقوت بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} فلو قال بعد ذلك: (إن الله يمقت الذين يقولون ما لا يفعلون) لأفضى ذلك إلى مقت الذين آمنوا الذين خوطبوا بذلك، والله لا يمقت الذين آمنوا بل يحبهم، ولكنه يمقت هذا الوصف، فنزههم عن أن يمقتهم ربهم، وكفى بذلك إكرامًا للمؤمن. في حين قال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} فجعل الحب للفاعلين بسبب فعلهم، فأحب الفعل والفاعلين، فأي كرامة للمؤمن دلت عليها الآيتان في المقت والحب؟! قد تقول: لقد قال: {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ} فَلِمَ لمْ يقل بمقابل ذلك: (إن الله يحب الذين يفعلون ما يقولون)؟ والجواب: إن الله يحب الأفعال التي أرادها ربنا وارتضاها لنا، ولا يحب كل فعل أيًّا كان ذلك الفعل، فإنه ليس الأمر على إطلاقه، فإنه لا يحب الذي يقول أنه سيفعل سوءًا ثم يفعله، بل عليه أن ينتهي عنه حتى لو أقسم على فعله، فالذي يقول إنه سيقطع رحمه أو يفعل منكرًا عليه ألا يفعل ذاك، بل يفعل نقيضه من فعل المعروف، ولذا لا يصح هذا القول على إطلاقه. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 282 إلى ص 286. (1) انظر معاني النحو 2/751 وما بعدها. (2) الكشاف 4/97.
  • ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ ﴿٤﴾    [الصف   آية:٤]
{إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)} ذكر أن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًّا ولم يذكر غيرهم ممن يحبهم الله، وذلك لأكثر من سبب: منها: أن نزول الآية التي قَرَّع الله فيها الذين يقولون ما لا يفعلون كان بسبب النكول عن القتال، أو بسبب أمر يتعلق بالقتال، فإنهم قالوا: لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لبادرنا إليه، فأعلمهم الله أنه يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًّا. ثم إن جو السورة شاع فيه استنهاض المؤمنين للجهاد وطلب نصرة الله، فناسب ذكر هذا الصنف، والله أعلم. ومعنى الآية: أن الله تعالى يحب الذين يثبتون في الجهاد ويلزمون مكانهم كثبوت البنيان المرصوص. وقيل: المراد أن يكونوا في اجتماع كلمتهم واستواء نياتهم وموالاة بعضهم بعضًا كالبنيان المرصوص. والحق أن المعنيين مرادان، فيراد ثباتهم في الحرب ولزوم مكانهم كما يراد اجتماع كلمتهم وموالاة بعضهم بعضًا. فالمراد أن يكونوا صفًّا ثابتًا في نياتهم وأجسامهم، فإن تفرقت نياتهم وتشتت قلوبهم لم يكونوا صفًّا وإن وقفوا في صف واحد. جاء في (الكشاف): "{كَأَنَّهُمْ} في تراصهم من غير فرجة ولا خلل (بنيان) رُصَّ بعضه إلى بعض ورصف. وقيل: يجوز أن يريد استواء نياتهم في الثبات حتى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص" (1). وجاء في (التفسير الكبير): "قال أبو إسحاق: أعلم الله تعالى أنه يحب من يثبت في الجهاد ويلزم مكانه كثبوت البناء المرصوص، وقال: ويجوز على أن يستوي شأنهم في حرب عدوهم حتى يكونوا في اجتماع الكلمة وموالاة بعضهم بعضًا كالبنيان المرصوص. وقيل: ضرب هذا المثل للثبات، يعني إذا اصطفوا ثبتوا كالبنيان المرصوص الثابت المستقر" (2). وقدم الجار والمجرور (في سبيله) على (صفًّا) وذلك لتقديم النية وأهميتها قبل أن يدخلوا في الصف. ثم إن توحيد النية سبب لتوحيد الصف، فإن لم يكن القتال في سبيل الله فلا خير فيه. وقال: {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ}، ولم يقل: (كأنهم بناء) ذلك أن القرآن فرق في الاستعمال بين البناء والبنيان، فاستعمل البناء للسماء، والبنيان لما بناه البشر، قال تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [البقرة: 22]، وقال: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} [غافر: 64]. في حين قال: {فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} [الكهف: 21]، وقال {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} [الصافات: 97]، وقال {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} [التوبة: 109]. ووصف البنيان بأنه مرصوص فقال: {كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} للدلالة على شدة تماسكه وقوته. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 286 إلى ص 288. (1) الكشاف 4/97 – دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع. (2) التفسير الكبير 29/313.
  • ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴿٥﴾    [الصف   آية:٥]
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5)} ذكر قصة موسى ليتأسى رسول الله ، وذلك أن قوم موسى آذوه مع علمهم أنه رسول الله إليهم. وفيها تحذير لمن يزيغ عن طريق الحق والهدى ولا يتبع رسول الله  أن يزيغ الله قلبه، كما فعل مع أصحاب موسى. قيل: ومناسبة ذكر هذه القصة لما قبلها أن أصحاب موسى انتدبوا لقتال الجبابرة فعصوا رسولهم ونكلوا، فشبه حالهم حال من تمنى القتال ثم لما كتب عليهم القتال تراجع. جاء في (تفسير أبي السعود): "{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي} كلام مستأنف مقرر لما قبله من شناعة ترك القتال ... أي واذكر لهؤلاء المعرضين عن القتال وقت قول موسى لبني إسرائيل حتى ندبهم إلى قتال الجبابرة بقوله: {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} فلم يمتثلوا بأمره وعصوه أشد عصيان" (1). وقيل : إنه لما كان في صف الجماعة المؤمنة من قال ما لا يفعل، وذلك يدخل في باب الكذب، كان ذلك نوع أذى لرسولهم في أن يرى من جماعته من يقول ما لا يفعل، فذكر الذين آذوا موسى ممن آمن به تأسية لرسوله وتقريعًا وتحذيرًا لأولئك. جاء في (البحر المحيط): "ولما كان في المؤمنين من يقول ما لا يفعل، وهو راجع إلى الكذب، فإن ذلك في معنى الأذية للرسول عليه الصلاة والسلام، إذ كان في أتباعه من عانى الكذب، فناسب ذكر قصة موسى وقوله لقومه: {لِمَ تُؤْذُونَنِي}" (٢). وقد أطلق الأذى ليشمل كل نوع من أنواعه. وقد ذكر موسى عليه السلام أمرين كل منهما يدعو إلى الدفاع عنه ونصرته وعدم إيذائه: الأمر الأول: كونهم قومه، فقد قال: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ}، وقوم الرجل في العادة يدفعون عنه وينصرونه ولا يؤذونه، وكان العرب في الجاهلية ينصرون أخاهم ومن كان من قومهم وإن كان ظالمًا، وعلى ذلك جرى مثلهم المشهور (انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا) والذي أعطى له رسول الله  مفهومًا جديدًا. والأمر الآخر: أنهم يعلمون أنه رسول الله، وهذا يستدعي طاعته والدفاع عنه ونصرته لا إيذاءه، لكن بني إسرائيل آذوه مع هذين المانعين من الأذى المستلزمين للنصرة. وقد قال لهم: (يا قوم) تألفًا لهم واستصراخًا لداعي القربى واستثارة للمودة ليلين قلوبهم فيطيعوه ويكفوا عن أذاه، كما يقول الرجل لأخيه: يا أخي، ولابنه: يا بني، ولابن عمه: يا ابن عم، تذكيرًا بالقربى واستثارة لداعي المودة. ومن الملاحظ في القرآن الكريم أن موسى في قسم من المواقف يناديهم بـ (يا قوم) ثم يذكر لهم الأمر الذي يريد أن يبلغهم إياه، وأحيانًا لا يناديهم بـ (يا قوم) بل يذكر لهم الأمر مباشرة بحسب ما يقتضيه هذا الموقف. فإذا كان الموقف يتطلب إثارة حميتهم وتليين قلوبهم، أو كان في مقام تذكيرهم بالنعم التي أنعم الله عليهم بها ناداهم بـ (يا قوم)، وإذا كان في موقف تقريع وذم وتذكيرهم بما يسوؤهم لم يقل لهم: (يا قوم). قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} [المائدة: ۲۰ – 21]. فذكرهم بنعمة النبوة والملك فيهم، وكل واحد يعتز بالانتساب إلى القوم الذين جعل فيهم أنبياء وجعلهم ملوكًا. ثم هو يستثير حميتهم ونخوتهم لدخول الأرض المقدسة التي كتب الله لهم، فقال: (يا قوم) في الموقفين. في حين قال: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ} [إبراهيم: 6]. فذكرهم بأيام ذلتهم حين كانوا يسامون سوء العذاب ويذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم فلم ينادهم بـ (يا قوم)، فإن الشخص لا يفخر ولا يعتز بالانتساب إلى القوم الأذلاء. وقد تقول: ولكن الله قال: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ}. فنقول: ولكنه أيضًا قال في الآية السابقة: {يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ}. ففرق كبير بين النعمتين، فتلك نعمة العزة والملك، وهذه نعمة النجاة من الذلة، فوضع النداء حيث كان أحق به. وقال: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة : 67]. فلم يقل لهم: (يا قوم)، ذلك أن هذا من مواقف الذم لهم والتشنيع عليهم وذكر سيئاتهم، فقد قتلوا نفسا فادّارؤوا فيها، فأراد الله أن يستخرج القاتل، فذكر ما هو معروف من أمر البقرة مما لا يشرف قومًا ذكره، فلم يقل لهم: (يا قوم) بل أمرهم بذبحها ليستخرج القاتل وقال بعد عودته من مناجاة ربه وقد عبدوا العجل من بعده واتخذوه إلهًا: {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ} [الأعراف: ١٥٠ – 152]. فلم يقل لهم: (يا قوم بئسما خلفتموني من بعدي)؛ وذلك لأن الموقف موقف غضب شديد وتأنيب وتوعد لهم بأنهم سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا، وتخصيص طلب المغفرة له ولأخيه، فلا يناسب أن يقول لهم: (يا قوم) وأن ينسبهم إليه. وقد تقول: ولكنه قال في هذا الموقف نفسه في موطن آخر: (يا قوم)، فقد قال في سورة البقرة: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [البقرة: ٥٤] فما الفرق؟ والحق أن السياق والمقام في كل منهما مختلف عن الآخر، فإن ما في الأعراف كان في وقت الحدث وفي شدة الغضب. أما آية البقرة فإنها تذكر ما وقع بعد الحدث بمدة وبعد هدوء الغضب ودعوتهم إلى التوبة بل إنها وقعت بعدما عفا الله عنهم، فقد قال الله في سياق البقرة نفسه: {وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 51 - 52] فذكر سبحانه أنه عفا عنهم. فالمقامان مختلفان، فالمقام الأول في أثناء المعصية، والثاني بعد العفو، فناسب كل تعبير موطنه. هذا إضافة إلى أن السياق في البقرة على العموم في تعداد النعم على بني اسرائيل، بخلاف ما في الأعراف، فإنه افتتح الكلام في البقرة على بني إسرائيل بقوله: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ} [البقرة: 40] وقال بعد ذلك قبل أن يذكر حادثة العجل: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة: 47] فموسى إذن يدعو بني إسرائيل الذين أنعم الله عليهم وعفا عنهم، فناسب أن يقول: (يا قوم)، بخلاف ما في الأعراف. وقد قال لهم في سورة الصف: {يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} فناداهم بيا قوم، استعطافًا لهم وتليينا لقلوبهم. ثم قال: {لِمَ تُؤْذُونَنِي} ولم يقل: (لم آذيتموني) للدلالة على استمرار الأذى له عليه السلام. وقال: {وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} فقال: (إليكم) ليدل على أن رسالته ليست عامة للبشر وإنما هي لبني إسرائيل خاصة، وهو شأن الرسل قبل سيدنا محمـد. {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} أي فلما مالوا عن الحق أمال الله قلوبهم عنه، فكان ذلك جزاء وفاقًا بسبب زيغهم، فإن الله لا يظلم أحدًا. {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} اختار وصفهم بالفسق لأنه هو المناسب، ذلك أن معنى (فسق): خرج عن الطريق الحق، وأصل المعنى من (فسقت الرطبة) إذا خرجت من قشرها، فهم خرجوا عن الطريق الحق ومالوا عنه، فكان وصفهم بالفسق أنسب؛ لأن الفسق خروج عن الطريق أيضًا. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 288 إلى ص 293 (1) تفسير أبي السعود لأبي السعود محمد العمادي ج 7/243. (2) البحر المحيط لأبي حيان ج 10/165.
  • ﴿وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ ﴿٦﴾    [الصف   آية:٦]
{وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)} نسب عيسى إلى أمه ليدل على أنه ليس ابن الله كما يقول النصارى. وقال: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} ولم يقل لهم: (يا قوم) كما قال موسى؛ لأنه ليس له نسب فيهم، فإن قوم الرجل من كان أبوه منهم، وليس لعيسى أب. ولم يرد مرة في القرآن الكريم أن ناداهم (يا قوم)، كما أن موسى لم يرد مرة أن ناداهم (يا بني إسرائيل) فإن بني إسرائيل قومه، ونسبة عيسى إلى أمه تمهيد لعدم مناداتهم بـ (يا قوم) فإنه لا أن ينسبه إلى أمه ثم يحسن إلى أمه ثم يقول لهم (يا قوم). جاء في (الكشاف): "وقيل إنما قال: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} ولم يقل: (يا قوم) كما قال موسى لأنه لا نسب له فيهم فيكونوا قومه" (1). وقال: {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ} فخص رسالته بهم، كما قال موسى قبله، ليدل على أن رسالته لبني إسرائيل خاصة. وقوله: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ} تصديق بنبوة موسى. وقوله: {وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} تبشير بالنبي الخاتم سيدنا محمـد، أسمائه (أحمد) أيضًا عليه السلام. وجاء بقوله: (مصدقًا) و(مبشرًا) منصوبين على الحال ولم يجئ بهما مرفوعين على تعدد الأخبار، وذلك ليدل على أن ذلك مما أرسل به، فإن (مصدقًا) و(مبشرًا) حالان، والعامل فيهما (رسول الله)، فدل ذلك على أن هذين من أمور الرسالة التي أرسل بها. ولو قالهما بالرفع لم يفد ذلك تنصيصًا، بل لأفاد أنه أخبر عن نفسه بذلك. وقال: {مِنْ بَعْدِي} ولم يقل: (بعدي) ليدل على أنه ليس بينهما نبي؛ وذلك لأن (من) تفيد ابتداء الغاية في البعدية، وأما (بعد) من دون (من) فتحتمل البعدية القريبة والبعيدة. {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} هذا يحتمل أن يكون المقصود به عيسى عليه السلام، أي لما جاءهم بالبينات الدالة على صدق رسالته وصدق بشارته وهي المعجزات المؤيد بها من نحو إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وغيرها من الآيات قالوا هذا سحر مبين. كما يحتمل أن يكون المقصود به محمدًا ، أي لما جاءهم بالبينات الدالة على صدقه  وأنه هو المقصود بالبشارة قالوا: هذا سحر مبين. فإن من أرسل إليهم عيسى قالوا لما جاءهم بالبينات: هذا سحر مبين، وكذلك قوم محمد  قالوا القول نفسه. قال تعالى في عيسى: {وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [المائدة : 110]. وقال في محمد: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [سبأ: 43]، وقال فيه أيضًا: {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آَيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [الصافات: 12 – 15]. جاء في (التفسير الكبير) في قوله: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} "قيل: هو عيسى، وقيل هو محمد" (2). وجاء في (البحر المحيط): "الظاهر أن الضمير المرفوع في (جاءهم) يعود على عيسى لأنه المحدث عنه، وقيل: يعود على أحمد" (3). لقد ذكر في الآيات التي مرت ثلاثة أقوام: الأول: هم من آمن من قوم محمد وهو قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا}، والثاني: هم قوم موسى، والآخرون: وهم المكذبون سواء كانوا ممن أرسل إليهم عيسى أم ممن أرسل إليهم محمد. ورتبهم بحسب الإيمان والطاعة، فالأولون هم أفضلهم وأطوعهم الله، ثم قوم موسى، ثم من كفر. هذا إضافة إلى أن هذا الترتيب يتناسب مع مفتتح السورة وهو قوله: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}، فإنه بعد أن ذكر المسبحين في السماوات والأرض بدأ بمن يسبحونه في الأرض طوعًا واختيارًا وهم المؤمنون بمحمد، وهم أكثر المذكورين تسبيحًا له، فهم يسحبون الله في صلواتهم وأدبار السجود وفي غير ذلك من الأوقات. ثم انتقل إلى قوم آخرين أقل تسبيحًا وأنأى عن الطاعة وهم قوم موسى، ثم الذين عصوا وافتروا على الله الكذب وقالوا: {هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ} فبدأ بأطوع الجماعات والعباد، ثم الذين يلونهم في الطاعة، ثم من هم أبعد الطاعة، والله أعلم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 293 إلى ص 296. (1) الكشاف 4/98. (2) التفسير الكبير 29/315. (3) البحر المحيط 10/166.
  • ﴿وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴿٧﴾    [الصف   آية:٧]
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7)} أي ليس ثمة أظلم ممن يفتري على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام دين الله الحق فيقول: إن محمدًا ليس هو المقصود بالبشارة، أو هو ساحر كذاب، مع علمه بأنه صادق وأن الذي جاء به هو الدين الحق فيظلمون بذلك أنفسهم وغيرهم، فهم يظلمون أنفسهم لأنهم يحرمونها الهدى ويوردونها موارد التهلكة ويدخلونها دار البوار، ويظلمون غيرهم لأنه يكونون سببًا لمنعهم من الدخول في دين الله فيحملون أوزارهم ومن أوزار أتباعهم، ويظلمون الرسول بنسبته إلى الكذب. جاء في (التحرير والتنوير) في قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}: "وإنما كانوا أظلم الناس لأنهم ظلموا الرسول  بنسبته إلى ما ليس فيه، إذ قالوا: هو ساحر، وظلموا أنفسهم إذ لم يتوخوا لها النجاة ... وظلموا الناس بحملهم على التكذيب وظلموهم بإخفاء الأخبار التي جاءت في التوراة والإنجيل" (1). وقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ ...} فأخرجه مخرج الاستفهام ولم يقل (ولا أظلم ممن افترى ...) أو نحو ذلك، وذلك ليشارك السامع بالإجابة وليقرر بنفسه أن لا أظلم ممن افترى على الله الكذب فيقول: لا أحد أظلم منه، فإنه بدل أن يخبر الله بذلك فيقول: (ولا أظلم ممن افترى على الله الكذب) يقرر السامع ذلك بنفسه. وقال: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} فجعل نفي الهداية ختامًا للآية؛ لأنه قال: {وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ} أي يدعى إلى الهدى، فناسب نفي الهدى عنه، كما قال في أصحاب موسى: {وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} لأنهم زاغوا عن طريق الحق، أي مالوا عنه فضلوا، فنفى الهدى عنهم ووصفهم بالفسق. وقد تقول: ههنا سؤالان: الأول: لِمَ لَمْ يؤكد نفي الهداية كما أكده في موطن آخر، فقد قال في سورة الأنعام: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: ١٤٤]، فأكد نفي الهداية بان فقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. والسؤال الآخر: أنه قال في خاتمة هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}. في حين ختمها في آيات متشابهة بغير هذه الخاتمة، فقد قال في سورة الأنعام: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: ٢١] فختمها بنفي الفلاح عنهم. وقال في مكان آخر: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: ۱۷] فسماهم مجرمين لا ظالمين. وفي موطن آخر سماهم كافرين فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت: 68]. وأحيانًا لا يعقب بشيء بل يكتفي بقوله: { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} كما ورد في الكهف – الآية 15، فما السبب في ذلك كله؟ والجواب : أن كل تعبير إنما يكون بحسب ما يقتضيه السياق والمقام، فإذا احتاج الكلام إلى مؤكد أكد، وإن لم يقتض التوكيد لم يؤكد؟ وإذا اقتضى أن يصفهم بصفة ما وصفهم بها على حسب السياق، وإليك إيضاح ذلك: قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 144]، فأكد نفي الهداية بـ (إن)؛ وذلك لأنه زاد على آية الصف قوله: {لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} فاقتضى ذلك تأكيد نفي الهداية لهؤلاء الذين يضلون الناس بغير علم. هذا إضافة إلى أنه عرف (الكذب) في آية الصف ونكره في آية الأنعام، فقال في الصف: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}، وقال في الأنعام : {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}، ومن المعلوم أن (الكذب) معرفة، و(كذبًا) نكرة، فإذا كان الافتراء في أمر معين عرفه، وإن كان الافتراء عامًا لم ينحصر في شيء معين نكّره (2). فلما كان الافتراء في آية الصف متعلقًا بصفة النبي محمد والتبشير به عرفه فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ}، ونكر الكذب في آية الأنعام، لأنهم يفترون على الله كذبًا في أمور متعددة ونواح مختلفة ولا ينحصر افتراؤهم في أمر معين، فاقتضى ذلك تأكيد نفي الهداية أيضًا من جهة أخرى. وهو يصفهم أحيانًا بعدم الفلاح بحسب ما يقتضيه السياق، وذلك نحو قوله تعالى: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 20 – 21]. فلما قال: {الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ} ناسب أن يقول: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} فنفى الفلاح عنهم لأنهم خسروا أثمن شيء وهو أنفسهم، فمن أين يأتيهم الفلاح؟ فإن الذي يخسر مالاً قد يأتيه الفلاح من جهة أخرى، أما الذي خسر نفسه فكيف يأتيه الفلاح وإلى أين يأتي الفلاح ولم تعد له نفس؟ فإنه خسرها، ولذلك أكد الكلام بإن وجاء بضمير الشأن للدلالة على عظم الخسارة وعدم الفلاح فقال: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ}. وقد يزيد في خسرانهم وعقوبتهم وعدم فلاحهم فيجعل عليهم لعنة الله، وذلك نحو قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [هود: 18 – 19]، فإن هؤلاء زادوا على غيرهم في أوصاف السوء، فقد ذكر أنهم: 1- افتروا على الله كذبًا. 2- وأنهم يصدون عن سبيل الله. 3- ويبغونها عوجًا. 4- وهم بالآخرة هم كافرون. فاستحقوا بذلك اللعنة ومضاعفة العذاب وكانوا هم الأخسرين، كما قال تعالى في الآية التي بعدها: {أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} [هود: 20 – 22]. وأما وصفهم بأنهم مجرمون أو كافرون أو غير ذلك، فذلك بحسب ما يقتضيه سياق الكلام. قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: 17] فوصفهم بأنهم مجرمون، وذلك لأنه ذكر في الآية قبلها: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} [يونس : 13]، فإنه لما ذكر أنه أهلكهم بظلمهم ووصفهم بالإجرام فقال: {كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ} ناسب وصف هؤلاء الذين هم أظلم من أولئك بالإجرام فقال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ}. وقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ} يعني لا أحد أظلم من هؤلاء المفترين، فاستحقوا الوصف بالإجرام كالأولين الذين أهلكهم رب العزة. وقال في آية أخرى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت : 68] فوصفهم بالكفر؛ وذلك لأنه تقدم قبل هذه الآية قوله: {أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} [العنكبوت: 67]، فإنه لما تقدم أنهم آمنوا بالباطل وكفروا بنعمة الله، وهو الدين الحق، ناسب أن يصفهم بالكفر فقال: {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ}. وأما عدم التعقيب بشيء فذلك أيضا ما يقتضيه المقام والسياق، قال تعالى: {هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} [الكهف: 15]. والقائل هنا هم الفتية أصحاب الكهف، وهؤلاء ليس بوسعهم أن يقرروا إن كان الله سيهدي قومهم أم لا، فإن علم ذلك إلى الله، ولذا لم يتعدوا الوصف بقولهم: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}. فناسب كل تعبير موطنه. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 296 إلى ص 301. (1) التحرير والتنوير 28/179. (2) انظر معاني النحو 1/137 وما بعدها.
  • ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ ﴿٨﴾    [الصف   آية:٨]
{يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) } هذا تهكم بهم، فمثل تكذيبهم، وإخفاءهم صفة محمد  وإنكارهم الحق الذي جاء به، وقولهم إنه سحر مبين، بمن ينفخ نور الشمس بفمه ليطفئها، وقال: {نُورَ اللَّهِ} ليدل على أن ما جاء به محمد إنما هو نوره سبحانه ليهدي به الخلق، وأن نور الله أنأى أن يطفأ، فهو أكثر تمكنًا وأشد إنارة من نور الشمس؛ لأن الشمس تغيب نورها، أما نور الله فلا يحجبه شيء ولا يطفئه أحد. واللام في (ليطفئوا) يحتمل أن تكون زائدة في المفعول للتوكيد، وأصله (يريدون أن يطفئوا نور الله). وتحتمل أن تكون للتعليل، أي إرادتهم لهذا الغرض، بمعنى أن كل همهم مصروف لهذا الغرض. جاء في (الكشاف): {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} أصله: يريدون أن يطفئوا، كما جاء في سورة براءة. وكأن هذه اللام زيدت مع فعل الإرادة تأكيدًا لما فيها من معنى الإرادة في قولك: جئتك لإكرامك ... وإطفاء نور الله بأفواههم تهكم بهم في إرادتهم إبطال الإسلام بقولهم في القرآن: (هذا سحر)، مثلت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس بفيه ليطفئه" (1) وقد تقول: لقد قال في سورة التوبة: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة: 32] ولم يقل: (يريدون ليطفئوا نور الله) فما الفرق؟ والجواب: أن اللام يؤتى بها مع مفعول فعل الإرادة للتوكيد، وقد اقتضى السياق في آية الصف التوكيد، ذلك أن السياق فيها إنما هو "في تكذيب النصارى للبشارات بمجيء محمد: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: 6 – 8]. ونور الله هو الإسلام، فتكذيب النصارى للبشارة الواردة في كتبهم القصد منه إطفاء نور الله، فجاء باللام الدالة على التوكيد. وأما في آية التوبة فالسياق مختلف، وقد ذكرت الآية في سياق آخر لا يحتاج إلى مثل هذا التوكيد، قال تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [التوبة: 30 – 31]. فالسياق في آيات الصف متجه إلى النبوة ومحاولة تكذيبها فجاء باللام، والسياق في آيات التوبة في النعي على معتقدات اليهود والنصارى في عزير والمسيح والأحبار والرهبان، فجاء باللام الزائدة في الآية الأولى لأن الكلام على نبوة محمد والإسلام، ولم يأت بها في الآية الثانية لأن السياق مختلف" (2). ثم ألا ترى من ناحية ثانية أنه في موطن الرد على اليهود والنصارى في شركهم بالله جاء باللام لأن الأمر يقتضي التوكيد فقال: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا}. فانظر كيف جاء باللام الزائدة للاختصاص في قوله: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} وقوله: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} لأن السياق يقتضي ذلك، وحذفها في الموطن الذي لا يقتضيه؟ ويدلك على ذلك أيضًا أنه قال: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} فجاء باسم الفاعل الدال على الثبوت (متم)، بمعنى أن الأمر ثبت واستقر. في حين قال في سورة التوبة: {وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ} فجاء بالفعل المضارع مسبوقًا بأن الناصبة {أَنْ يُتِمَّ} وهذا تنصيص على الاستقبال، فإن (أن) الناصبة للمضارع من حروف الاستقبال، فكان ما في الصف أكد، والله أعلم. وقال: (بأفواههم) ليدل على الصورة المضحكة لفعلهم، فإن الذي ينفخ بفمه في نور الشمس ليطفئها مثار للسخرية منه، فهم لم ينفخوا بآلة ذات دفع قوي مثلاً لعلهم يطفئون نور الله بل بأفواههم. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه ذكر تكذيبهم وافتراءهم على الله وقولهم عندما جاءهم بالبينات: {هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ}، وهذا كله من المحاربة بالأفواه، فقال: (بأفواههم) لذلك، والله أعلم. وقد أنجز الله ما وعد وأتم نوره وأرغم أنف الكافرين. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 301 إلى ص 304. (1) الكشاف 4/99. (2) معاني النحو 3/82 – 83.
إظهار النتائج من 10581 إلى 10590 من إجمالي 12316 نتيجة.