عرض وقفات أسرار بلاغية

  • ﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴿٩﴾    [الصف   آية:٩]
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) } أضاف الرسول إلى ضميره تعالى فقال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} ولم يقل: (هو الذي أرسل محمدًا) أو (هو الذي أرسل الرسول) وذلك لتكريمه وللدلالة على أنه حافظه ومعزه وناصره فإنه رسوله، والناس في العادة يحمون من يضافون إليهم وينصرونهم، فكيف بالله وقد أضافه إلى نفسه سبحانه؟ لقد ذكر أنه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، والمقصود بالهدى هي الدلائل التي تدل على صدقه  من البراهين والمعجزات والبشارات. فالهدي هو ما يدل على أنه رسول من مثل ما أخبر به عن الأمم السابقة وعما سيكون في المستقبل فكان كما أخبر، والبشارات التي بشر بها الأنبياء السابقون من ذكر اسمه وصفاته، وأن الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، وغيرها من الدلائل مما يدل على أنه رسول الله حقًا، وهو من الهدى الذي يهدي الناس إلى الحق. ودين الحق هو ما جاء به من الأحكام والشرائع. جاء في (فتح القدير): {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى}أي بما يهدي به الناس من البراهين والمعجزات والأحكام التي شرعها الله لعباده، و(دين الحق) وهو الإسلام" (1). وجاء في (التفسير الكبير): "واعلم أن كمال حال الأنبياء صلوات الله عليهم لا تحصل إلا بمجموع أمور: أولها: كثرة الدلائل والمعجزات، وهو المراد من قوله: {أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى}. وثانيها: كون دينه مشتملاً على أمور يظهر لكل أحد كونها موصوفة بالصواب والصلاح ومطابقة الحكمة وموافقة المنفعة في الدنيا والآخرة، وهو المراد من قوله: {وَدِينِ الْحَقِّ}" (2). وقد قدم الهدى على دين الحق لأنه مدعاة إلى قبول دين الحق. وقد أضاف (الدين) إلى (الحق) فقال: {وَدِينِ الْحَقِّ}، وهذه الإضافة جرت في القرآن الكريم على سبيل الاطراد، فقد أضاف الدين إلى الحق حيث اجتمعا في القرآن الكريم، ولم يصف الدين بالحق إلا إذا أضافه إلى كلمة أخرى كقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور: 25]. و(الدين) في آية النور هذه بمعنى الجزاء والحساب، وهو غير ما نحن فيه من معان. وإضافة الدين إلى الحق لها أكثر من دلالة: منها: أن الحق من أسماء الله تعالى. وقد سمى الله نفسه الحق، ووصف نفسه بالحق فقال: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} [الحج: 6]، وقال: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} [النور : ٢٥]، وقال: {هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ} [الكهف: ٤٤] فلما أضاف الدين إلى الحق كان كأنه قال: (دين الله)، ولما كان الله الحق كان دينه حقًّا، بل هو الدين الحق. ومنها: أن الحق نقيض الباطل، فإضافة الدين إلى الحق تعني أنه دين الحق والعدل وشريعته وليس دين الباطل، كما تقول: هذا طريق الحق، وذلك طريق الباطل. ومنها: أن ذلك يحتمل أن يكون من باب إضافة الموصوف إلى صفته، كقولهم: مسجد الجامع، وحب الحصيد، ودار الآخرة، وجانب الغربي، على تقدير مضاف، أو على غير تقدير، فيفيد أنه موصوف بصفة الحق على أية حال. فهو دين، وهو دين الحق، وهو الدين الحق، فيكون قد جمع بالإضافة أكثر من معنى. ولو وصف الدين بالحق فقال: (الدين الحق) لفات أكثر هذه المعاني. وقد تقول: ولم ختمت الآية السابقة بقوله: {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}، وختمت هذه الآية بقوله: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}؟ والجواب: أن خاتمة كل آية مناسبة لما ورد فيها، ذلك أن أصل معنى الكافر في اللغة من كفر إذا ستر وغطى، ومنه سمي الزارع كافرًا؛ لأنه يستر الحب ويغطيه، وسمي الليل كافرا لأنه يستر ما فيه. والكفر : الظلمة، فلما قال {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ}: كان معنى ذلك أنهم يريدون أن يبدلوا النور ظلامًا، فكان ذلك كفرًا بالمعنى اللغوي، فكان قوله: {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} ههنا أنسب. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن الكفر أعم من الشرك، فكل مشرك كافر وليس كل كافر مشركًا، وأن النور أعم من الرسول والدين، فجعل العام بمقابل العام، والخاص بمقابل الخاص، فلما ذكر النور ذكر في مقابله الكفر، ولما ذكر الرسول والدين ذكر في مقابله الشرك. جاء في (التفسير الكبير): "قال في الآية المتقدمة: {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}، وقال في المتأخرة: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ}، فما الحكمة فيه؟ فنقول: إنهم أنكروا الرسول وما أنزل إليه وهو الكتاب، وذلك من نعم الله، والكافرون كلهم في كفران النعم، فلهذا قال: {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} ولأن لفظ الكافر أعم لفظ المشرك، والمراد من الكافرين ههنا اليهود والنصارى والمشركون، وهنا ذكر النور وإطفاءه، واللائق به الكفر؛ لأنه الستر والتغطية ..... وفي الآية الثانية ذكر الرسول والإرسال ودين الحق، وذلك منزلة عظيمة للرسول عليه السلام، وهي اعتراض على الله تعالى ... والاعتراض قريب من الشرك ... ولما كان النور أعم من الدين والرسول لا جرم قابله بالكافرين الذين هم جميع مخالفي الإسلام، والإرسال والرسول والدين أخص من النور قابله بالمشركين الذين هم أخص من الكافرين" (3). وهناك لطيفة نذكرها في تناسب التعبير بين الآيتين وهي: 1- أنه قال في الآية السابقة: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ} [الصف: 8]، وقال في هذه الآية: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى}. فجعل النور بإزاء الهدى ذلك أن النور إنما هو للهدى، والخلق إنما يهتدون بالنور، كما قال تعالى: {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]، وقال: {قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15 – 16]. 2- أضاف النور إلى الله في الآية السابقة فقال: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ}، وأضاف الرسول إلى نفسه سبحانه في هذه الآية فقال: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ} 3- قال في الآية السابقة: {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ} وقال في هذه الآية: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}، وإتمام نوره يعني نصره وإظهاره على الدين كله، والله أعلم. قد تقول: لقد قال الله في سورة الفتح: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا} [الفتح: 28] ولم يقل: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} كما قال في سورتي الصف والتوبة، فلم ذاك؟ والجواب: أنه لم يذكر في سياق آية الفتح محادة المشركين ولا محاربتهم كما ذكر في سياق آيتي التوبة والصف، ولم يقل قبل هذه الآية: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} أو نحو ذلك كما قال في سورتي التوبة والصف، وإنما قال قبلها: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: ٢٧] فلم يقتض ذلك أن يقول: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} كما قال في السورتين. لقد ذكر قبل آية الفتح الوعد بدخول المسجد الحرام آمنين - كما ذكرنا -، وهذا تم بالاتفاق بينهم وبين المشركين في صلح الحديبية، فلم يقتض قول: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} من كل وجه، والله أعلم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 304 إلى ص 308. (1) فتح القدير 2/515. (2) التفسير الكبير 16/41. (3) التفسير الكبير 29/316 – 317.
  • ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿١٠﴾    [الصف   آية:١٠]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)} خاطب الذين آمنوا التشويق قائلًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} ووصف التجارة بأنها (تنجي من عذاب أليم)، وبدأ بالإنجاء من العذاب الأليم أهم، قبل ذكر إدخال الجنات، ذلك أن النجاة من العذاب الأليم أهم، فإن الإنسان إذا كان معذبًا فلن يهنأ بعيش وإن كان في النعيم، وقد يتمنى المرء الموت للاستراحة من العذاب، فبدأ بما هو أهم. وقد سمى الله النجاة من العذاب فوزًا، كما سمى دخول الجنة فوزًا، قال تعالى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ} [الأنعام: 15 - 16]، وهذا هو الفوز الأول لأصحاب هذه التجارة. وقد أسند الفعل (أدل) إلى نفسه سبحانه وذكر المفعول به فقال (أدلكم)، وإسناد الفعل إلى نفسه وذكر المفعول به يدلان على الاهتمام بأمر المؤمنين ومحبة الله لهم، فإن الذي يدل شخصًا على ما يفعله إنما هو محب له ويطلب له الخير، فهو لم يقل: (هل أدل) بالإطلاق، وإنما قال: (هل أدلكم) بتخصيص الدلالة لهم. ولم يقل: (هل تدلون) ببناء الفعل للمجهول فيكون الدال مجهولًا، ولكن أسند الدلالة إلى نفسه. ثم إنه لم يقل: (قل يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم) فيكون القائل والدال هو الرسول، وإنما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ} فكان القائل والدال للمؤمن هو الله سبحانه. ثم إن ذكر المفعول به لفعل الإنجاء (تنجيكم) له دلالته في إمحاض النصح وحب الله للمؤمنين، فإنه يريد أن ينجيهم من العذاب، فهو لم يقل: (هل أدلكم على تجارة تنجي من عذاب أليم) بل أراد نجاتهم هم. وقال: (تنجيكم) بتخفيف الجيم، ولم يقل (تنجيكم) بالتشديد، للدلالة على سرعة الإنجاء وعدم التلبث والمكث في العذاب (1). وقال: {مِنْ عَذَابٍ} بتنكير العذاب، ولم يقل: ( من العذاب) ليشمل كل عذاب ولئلا يخص عذابًا معينًا، ووصفه بأنه (أليم) والعذاب الأليم قد يكون نفسيًا وبدنيًا وظاهرًا وباطنًا، فشمل بذلك كل أنواع العذاب. ثم إنه أطلق العذاب ولم يقيده في الدنيا والآخرة، وذلك للدلالة على أن هذه التجارة تنجي من العذاب الأليم في الدنيا والآخرة، أما من لم ينتفع بها ولم يعمل بها فإنه سيطاله العذاب في الدنيا والآخرة، فإن من يترك الجهاد ستدوسه القوى الغاشمة وتسحقه، وقد تستبيحه حتى تخرجه من داره وماله. فعبر الآية عن كل ما يدل على تكريم المؤمنين وحب الله لهم: 1- فقد قال: {هَلْ أَدُلُّكُمْ} ولم يقل: (قل هل أدلكم) للدلالة على أن القائل هو الله، وأن الذي عرض ذلك هو الله وليس رسوله. 2- وقال: {هَلْ أَدُلُّكُمْ} بالاستفهام الدال على التشويق. 3- وقال: {أَدُلُّكُمْ} بإسناد الدلالة إلى نفسه. 4- وقال: {أَدُلُّكُمْ} فقيد الفعل بضمير المخاطبين ليفيد أن الدلالة مختصة بهم. 5- {تُنْجِيكُمْ} بالتخفيف، ولم يقل: (تنجيكم) بالتشديد. 6- {تُنْجِيكُمْ} فقد الإنجاء بضمير المخاطبين للدلالة على حب الخير للمؤمنين وإمحاض النصح لهم. 7- وقال: {مِنْ عَذَابٍ}فنكر العذاب ليشمل كل أنواعه. 8- وقال: {أَلِيمٍ} ليشمل كل مؤلم منه. 9- وأطلق العذاب ليشمل عذاب الدنيا والآخرة. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 309 إلى ص 311. (1) انظر بلاغة الكلمة في التعبير القرآني ص 75 وما بعدها.
  • ﴿تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ﴿١١﴾    [الصف   آية:١١]
{تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فسر التجارة بما ذكر من الإيمان والجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس فقال: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}، ولم يقل: (أن تؤمنوا بالله ورسوله) وذلك لأكثر من فائدة: منها: إن (أن) تفيد الاستقبال، فلو كان ذكرها لكان يعني أن طلب الإيمان إنما يكون في المستقبل، مع أن الإيمان ينبغي أن يكون في الحال. ومنها: أنه لو قال: (أن تؤمنوا بالله) لكان المصدر المؤول إما أن يكون بدلًا من التجارة، أو خبرًا عن مبتدأ محذوف، على تقدير (هي أن تؤمنوا)، وعلى التقديرين يكون عدم ذكر (أن) أولى، ذلك أنه إذا كان بدلًا يكون التقدير (هل أدلكم على أن تؤمنوا بالله ورسوله) على تقدير تكرار العامل أو إحلاله محل الأول، وإذا كان كذلك فلا يصح أن يقول: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ .....} إلخ؛ لأن الدلالة على الشيء لا تعني القيام به، فإنك إذا دللت امرأً على خير لم يفد أن صاحبك فهل ما دللته عليه، وأن الدلالة على هذه التجارة لا يعني غفران الذنوب وإدخال الجنة والنصر، وإنما العمل بهذه التجارة هو الذي يؤدي إلى ذلك، فقال: (تؤمنون) و (تجاهدون) أي تفعلون ذلك. وكذلك إذا كان التقدير خبرًا عن مبتدأ محذوف، أي: هي أن تؤمنوا، فذلك أيضًا لا يؤدي إلى مغفرة الذنوب وإدخال الجنة والنصر، وإنما ذلك هو تفسير لما دلهم عليه فقط، فقوله: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ......} أي تفعلون ذلك. ثم إن قوله: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ .......} من دون (أن) يفيد الطلب بمعنى آمنوا، وعدل عن الأمر الصريح إلى الخبر للدلالة على أنهم كأنهم امتثلوا لما أمرهم به فهم يفعلونه، ويدلك على أن هذا الفعل بمعنى الطلب قوله: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ .... }بجزم (يغفر)، فإنه لو لم يكن (تؤمنون) بمعنى الطلب لم ينجزم (يغفر). وقد تقول: ولكن قد تقدم الطلب وهو الاستفهام، أعني قوله: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ} فجاز إجابته بالجزم. فنقول: إن المعنى يأبى ذلك، فإن الدلالة على التجارة لا تستلزم المغفرة وإدخال الجنة، وإلا دخل كل الناس الجنة والنصر هو الطاعة. جاء في (الكشاف): "فإن قلت: لم جيء به على لفظ الخبر؟ قلت: للإيذان بوجوب الامتثال، وكأنه امتثل، فهو يخبر عن إيمان وجهاد موجودين" (1). لقد فسر التجارة بأمرين وهما : الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس، وهذا الأمران ينجيان من العذاب الأليم بأنواعه في الدنيا والآخرة. أما الأول: وهو الإيمان، فإنه يبعث على الطمأنينة والاستقرار والأمن النفسي والرضا بقضاء الله، وظاهر أن لفظ (الإيمان) له علاقة بالأمن، فالنفس المؤمنة إنما هي في أمن وسكينة. وهذا ينجي من العذاب النفسي وعذاب الباطن عمومًا. وأما الآخر: وهو الجهاد، فهو ينجي من العذاب الظاهر كما ذكرنا، فإن الشعوب التي لا تجاهد شعوب خانعة مستضعفة، فدل على أن هذه التجارة تنجي من العذاب الأليم في الدنيا والآخرة. {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} ذكر (في سبيل الله) لأنه الغرض من الجهاد، وكل جهاد في غير سبيله فهو باطل لا يفضي إلى جنة ولا ينجي من العذاب الأليم. وقدم {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} على الأموال والأنفس، لأنه أهم منهما ههنا. وقد تقول: ولكنه قدم الأموال والأنفس على قوله: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} في مواطن أخرى، فقد قال في (الأنفال) مثلًا: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 72]، وقال في سورة الحجرات: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات: 15] فلم ذاك؟ والجواب: أن ذلك بحسب ما يقتضيه السياق، فقد يقتضي السياق تقديم كلمة ففي موضع، ويقتضي تأخيرها في موضع آخر. فإذا كان السياق في حب المال وجمعه مثلًا قدم المال، وإذا كان السياق في القتال والجهاد قدم {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، أو لغير ذلك من مقتضيات التقديم والتأخير. ففي سورة الأنفال مثلًا قدم المال لأنه "تقدم ذكر المال والفداء والغنيمة من مثل قوله تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} [الأنفال: 67]، وهو المال الذي فدى الأسرى به أنفسهم، وقوله: {لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [الأنفال: 68] أي من الفداء، وقوله: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا} [الأنفال: 69] وغير ذلك فقدم المال ههنا، لأن المال كان مطلوبًا لهم حتى عاتبهم الله في ذلك فطلب أن يبدؤوا بالتضحية به" (2). وكذلك التقديم والتأخير في سورتي الصف والحجرات، فإن السياق في كل منهما يقتضي تقديم ما قدم، ذلك أن الكلام في الحجرات على المؤمنين وصفتهم، فقدم ما يتعلق بهم وهو أموالهم وأنفسهم، وأن الكلام في آية الصف على التجارة التي تنجي من عذاب أليم فقدم ما يتعلق بها وهو {فِي سَبِيلِ اللَّهِ}. هذا إضافة إلى أنه تقدم ذكر القتال في سبيله في أول السورة وهو قوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ} وأن جو السورة يشيع فيه ذكر القتال، فاقتضى ذلك تقديم {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} على الأموال، والله أعلم. {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي أن الأيمان بالله ورسوله والجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس خير من إيثار الراحة والقعود. صحيح أن القتال مكره إلى النفوس مبغض إليها كما قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 216] ولكن في هذا المكروه خيرًا كثيرًا، فإن الأمة المجاهدة القوية تحمي نفسها وحقها، بخلاف الأمة القاعدة الخانعة فإنها تستعبد لكل غاز. وقال: {ذَلِكُمْ} ولم يقل: (ذلك)؛ لأنه أراد أن الخير للأمة جميعها وليس لفرد أو فئة، وعلى سبيل الدوام وليس لوقت محدود. وقد تقول: ولكن الله خاطب المؤمنين في موضع آخر وأشار بـ(ذلك) لا بـ (ذلكم). فقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [المجادلة: 12] فما الفرق؟ والجواب: أن الفرق ظاهر. فإن المخاطبين بآية الجهاد هم عموم المؤمنين إلى يوم القيامة، بخلاف آية تقديم الصدقة عند مناجاة الرسول. هذا إضافة إلى أن آية الجهاد أعم حتى في زمن الرسول، فإن الجهاد يشمل الغني والفقير، فقد يجاهد الشخص بماله ونفسه، وقد يجاهد بماله فقط، وقد يجاهد بنفسه، على حسب استطاعته، كما قال تعالى: {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا} [التوبة: 41]، بخلاف آية الصدقة فإنها تخص الأغنياء الذين يناجون الرسول خاصة. هذا إضافة إلى إن آية تقديم الصدقة هذه نسخت بعد ذلك بمدة وجيزة وانتهى حكمها، فقد قال تعالى بعد هذه الآية: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المجادلة: 13] أما آية الجهاد فهي آية محكمة سار حكمها إلى يون الدين، فكان ما جاء فيها أهم وأعم وأشمل، والله أعلم. إن ذكر آية الجهاد هذه بعد قوله: {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ} يدل على أن إظهار الله لدينه إنما يكون بالجهاد لا بكونه هدى ودين الحق فحسب، فإن ذلك وحده لا يظهر عقيدة أو فكرة بل لا بد لها من حملة يجاهدون في سبيلها، وقد وعد الله بأنه سيظهر دينه على الدين كله، ومعنى ذلك أنه علم أن هذه الأمة ستجاهد في سبيله حتى يظهر الله دينه. وقد تقول: ولكن الله قال في سورة التوبة ذلك ولم يعق الآية بالجهاد فكيف يصح استدلالك هذا؟ فنقول: كيف يصح هذا القول وسورة التوبة مشحونة بذكر الجهاد والقتال من أولها إلى آخرها؟ فقد تقدم الآية ذكر غزوة حنين، وقال بعدها: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29]، وقال بعدها: {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} [التوبة: 36]، وقال بعدها: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ} [التوبة: 38] {إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا} [التوبة: 39] {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ} [التوبة: 40] {انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [التوبة: 41] ... إلى الآية 52. وذكر بعد ذلك ما يتعلق بالجهاد والقتال أيضًا إلى أواخر السورة فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123]. فالسورة من أولها إلى آخرها تكاد تكون في الجهاد، فاتضح ما قلناه، والله أعلم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 311 إلى ص 316. (1) الكشاف 4/100. (2) التعبير القرآني 82 – 83، وانظر البرهان للكرماني 203، درة التنزيل 189 – 190.
  • ﴿يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ﴿١٢﴾    [الصف   آية:١٢]
{يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)} قال: {يَغْفِرْ} بالجزم، وذلك يدل على أن قوله: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} طلب وليس إخبارًا. وقال: (ذنوبكم) ولم يقل: (من ذنوبكم) ليدل على أنه بذلك يغفر الذنوب كلها لا بعضها. ثم قال: {وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} وتلك عاقبة من يغفر ذنبه. {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} فوصف المساكن بأنها طيبة "وإنما خصت المساكن بالذكر هنا؛ لأن في الجهاد مفارقة مساكنهم، فوعدوا على تلك المفارقة الموقتة بمساكن أبدية" (1). واختيار ذكر {جَنَّاتِ عَدْنٍ} ههنا له دلالته أيضًا، فإن معنى (عدن) :الإقامة والبقاء، يقال: عدن بالمكان إذا أقام به، والإنسان يحب الحياة ويؤثر البقاء ويكره القتال؛ لأنه مظنة مفارقة الحياة وما فيها، فذكر له أن المجاهد للبقاء والإقامة الطيبة، فاختيار ذكر المساكن وجنات عدن ههنا اختيار ذكر المساكن وجنات عدن ههنا اختيار له دلالته. والقرآن يختار بدقة ما يقتضيه المقام والسياق، ونحو هذا الاختيار م ورد في قوله تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} [التوبة: 20 - 22]، فذكر أن لهم جنات فيها نعيم مقيم، واختيار النعيم المقيم له دلالته ههنا، وذلك أن هؤلاء لما هاجروا وتركوا مساكنهم جزاهم الإقامة في النعيم، فإن المهاجر لا بد أن يقيم ويستريح فجعل ذلك في النعيم المقيم. {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} وهذا هو الفوز الثاني، والفوز الأول هو النجاة من النار، وقال: {ذَلِكَ الْفَوْزُ} ولم يقل: (ذلك فوز) للدلالة على قصر الفوز عليه وأن كل ما عداه ليس بفوز، ووصفه بـ (العظيم) للدلالة على عظمة الفوز. قد تقول: لقد قال ههنا: {ذَلِكَ الْفَوْزُ}، وقال في سورة التوبة في آية شبيهة بها: {وذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} فأكد القصر بضمير الفصل وذلك في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآَنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} [التوبة: 111] فما الفرق؟ والجواب: أن النظر في النصين يوضح الفرق وسبب التعبير بكل منهما: 1- لقد قال في آية الصف: {تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ}، وقال في آية التوبة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فوصفهم بأنهم مؤمنون ولم يطلب منهم الإيمان ويندبهم إليه، وذكر بالصيغة الاسمية الدالة على الثبوت. 2- وقال في آية الصف: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ}، وقال في التوبة: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} فلم يبق لهم مال ولا نفس فقد اشتراها الله منهم، أما المذكورون في آية الصف فهم يجاهدون بها، فلا تزال أموالهم وأنفسهم لهم، فلم يذكر أنهم باعوها له. 3- ذكر في آية الصف أنهم يجاهدون في سبيل الله، وقال في آية التوبة: {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} والمقاتلة مظنة القتل، أما الجهاد فهو عام ومنه القتال، وقوله: (يقاتلون) مناسب لاشتراء الأنفس. 4- وذكر في التوبة أنهم يقتلون ويقتلون، ولم يذكر مثل ذلك في آية الصف. فكانت التضحية في التوبة أعلى مما في الصف، والفوز إنما يكون على قدر التضحية، فلما زادوا في التضحية زاد لهم في الفوز وأكده، والله أعلم. ثم إنه قدم في صفقة الشراء الأنفس على الأموال؛ وذلك لأن الأنفس أغلى وأهم من المال، فباعوا أنفسهم أولًا، وهي أثمن شيء، ثم أتبعوها المال، وما قيمة المال إذا فقد المرء نفسه؟ وماذا يعمل به؟ فاقتضى كل تعبير ما هو في موضعه. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 316 إلى ص 319. (1) التحرير والتنوير ج 28/195.
  • ﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿١٣﴾    [الصف   آية:١٣]
{وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} أي ونعمة أخرى محبوبة عندكم وهي النصر من الله والفتح القريب، ومعنى ذلك أن النصر لا يأتي من دون جهاد. وقوله: (تحبونها) له دلالته الخاصة في السورة، ذلك أنه قول في أول السورة: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ} فكأنه: افعلوا ما يحبه الله يعطكم ما تحبون، هو النصر والفتح القريب. وقوله: (تحبونها) دلالة أخرى، ذلك أنه لم يقل: (هل أدلكم على تجارة تحبونها) فإن في بعض تلك التجارة كرهًا وهو القتال، فكأنه قال: أطيعوا الله بما يحب وتكرهون يعطكم ما تحبون. ثم إنه قال: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ} ليدل على أن النصر إنما هو من الله وليس بجهادكم وعدتكم، كما قال تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126] ووعدهم إن فعلوا ذلك بأمرين محبوبين: النصر والفتح القريب، ثم قال: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} للدلالة على أن ذلك كائن وحاصل. لقد أمر الله رسوله أن يبشر المؤمنين بالنصر والفتح القريب. ولم يجعل البشارة داخلة في جواب الشرط أو الطلب، وإنما هي أمر بالتبليغ لما هو حاصل قطعًا، ومعلوم أن البشارة لا تكون إلا لما هو حاصل قطعًا، وقد حصل ما بشر به، فدل على صدقه  . ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 319 إلى ص 319.
  • ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ﴿١٤﴾    [الصف   آية:١٤]
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآَمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14) } قيل: معنى {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} من يضيف نصرته إلى نصرة الله إياي؟ وقيل معناه: من يكون معي في نصرة الله؟ وعلى هذا يكون معنى التفسير الأول: إن اللخ ينصرني، فمن يكون مع الله لينصرني؟ وعلى التفسير الثاني يكون المعنى: أنا أنصر الله، أي: أنصر دينه فمن يكون معي لننصر الله؟ وهذان المعنيان يتضمنها قوله تعالى: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} فالمؤمن ينصر الله والله ينصره، فقوله: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} يحتمل أن المسيح طلب من ينصره إضافة إلى نصرة الله، كما يحتمل أنه طلب من ينصر الله إضافة إلى نصرته له. وقولهم: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} يصح أن يكون الجواب عن المعنيين. جاء في (الكشاف): "معنى (من أنصاري) من الأنصار الذين يختصون بي ويكونون معي في نصرة الله، ولا يصح أن يكون معناه: من ينصرني مع الله؛ لأنه لا يطابق الجواب" (1). وجاء في (مجمع البيان): "{مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ}: من أنصاري مع الله ينصرني مع نصرة الله إياي؟ وقيل: {إِلَى اللَّهِ} أي فيما يقرب إلى الله، كما يقال: اللهم منك وإليك" (2)، فكل من الزمخشري والطبرسي ذكر جانبًا من جوانب النصرة، والله أعلم. إن من الملاحظ في هذه الآية: 1- أنه بعد أن شوقهم لذكر التجارة عن طريق الاستفهام لم يكتف بذاك. وإنما أمرهم أن يكونوا أنصار الله فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} ليعلموا أن ذلك من باب الأمر والتكليف، وليس من باب الاختيار والمندوب. 2- إن الذي قال للحواريين: (من أنصاري) هو عيسى، أما القائل للمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} فهو الله، وذلك يدل على عظم التبليغ للمؤمنين وأهميته. 3- لم يقل: (يا أيها الذين آمنوا قولوا نحن أنصار الله كما قال الحواريون) ولكنه قال: {كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} فإنه طلب الفعل ولم يطلب القول، وهذا مناسب لتأنيبه لمن قال ولم يفعل في أول السورة. 4- إن الحواريين لم يقولوا: (سنكون أنصار الله)وإنما قالوا: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} أن نحن أنصاره الآن، ولذا قال: (فأيدنا) وذلك أنهم قاموا بالنصرة فعلًا فاستحقوا التأييد، وجاء بالبقاء الدالة على التعقيب، ولم يقل: (ثم أيدنا) الدالة على التراخي. 5- قال: (فأيدنا) بإسناد الفعل إلى نفسه سبحانه ليدل على أن التأييد منه سبحانه، كما قال: {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} [محمد: 7] بإسناد النصر إليه، ولم يقل: (إن نصروا الله تنتصروا) فإن النصر لا يكون إلا منه سبحانه. وهذا التأييد يحتمل أمرين: التأييد بالحجة، فأصبحوا ظاهرين في حجتهم، والتأييد بالسيف والغلبة وذلك بعد رفع عيسى عليه السلام. جاء في (تفسير أبي السعود): "{فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ} أي قويناهم بالحجة أو بالسيف، وذلك بعد أن رفع عيسى عليه السلام، {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} أي غالبين" (3). إن هذا التعبير مرتبط بقوله في أول السورة: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} كما سبق أن ذكرنا. فإن قوله: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ} إذا كان بمعنى غلبة السيف والظروف مرتبط باسمه (العزيز)، ومرتبط باسمه (الحكيم) من الحكم. وإذا كان بمعنى غلبة الحجة فهو مرتبط باسمه (الحكيم) من الحكمة، فهو مرتبط باسميه العزيز الحكيم أيا كان نوع التأييد، فارتبط آخر السورة بأولها. 6- لقد طلب من المؤمنين عامة أن يكونوا كحواري عيسى في نصرة الله، والحواريون هم الخلص من أتباع السيد المسيح. فهو طلب من المؤمنين عامة على مر الأزمان أن يكونوا كالحواريين، فقد قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} ولم يقل: (يا أصحاب محمد) ومعنى هذا أنه يطلب من عموم المؤمنين أن يكونوا على درجة عظيمة من الرفعة والإخلاص والجهاد. 7- قال عيسى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} بإضافة الأنصار إلى نفسه فارتبطت النصرة به، وقال الله: {كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} ولم يقل: (كونوا أنصار محمد إلى الله) وذلك ليشمل الطلب عموم المؤمنين، ولئلا ترتبط النصرة بشخص الرسول(محمد). ثم إنه لما كان قول عيسى موجهًا إلى الحواريين – وهم خاصة أتباعه – قال: {مَنْ أَنْصَارِي} بالتخصيص، ولما كان الكلام وجهًا إلى المؤمنين عامة قال: {كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} على العموم. 8- إن قول عيسى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} إلماح إلى أن رسالته منقطعة، فإنه أضاف الأنصار إليه، وهذا يدل على أنه بعد توفيه ستنقطع نصرته. وأما قول الله للمؤمنين: {كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ} فيدل على أن الرسالة دائمة غير منقطعة؛ لأن الإضافة إلى الله لا إلى شخص معين. 9- قال عيسى: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} فقال الحواريون: {نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} ولم يقولوا: (نحن أنصارك إلى الله) وذلك للأعلام بأنهم يكونون أنصار الله بعده ولا تنقطع النصرة بعد ذهابه، فعزموا على نصرة الله سواء كان موجودًا أن لم يكن. وقد تقول: ولم لم يقل: (من أنصار الله) حتى يكون الجواب ملائمًا؟ والجواب: أنه لو قال: من أنصار الله؟ لادعى كل أحٍد أنه من أنصار الله، ولقال اليهود: نحن أنصار الله، ولكنه قال: (من أنصاري) لتكون نصرة الله عن طريق نصر النبي الجديد، فكان سؤاله أنسب وجوابهم أنسب. 10- إن قوله: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا} يدل على أنه سيؤيد المؤمنين من أتباع الرسول محمد، فقد ناداهم بـ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} فدخلوا في التأييد. 11- ثم إن بشارة المسلمين أعظم، فإنه قال في أتباع عيسى: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ } فخص ذلك بالتأييد على العدو، وقال في المسلمين: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [الفتح: 28] وإظهار دينه إنما يكون بظهور معتنقيه، وزاد لهم النصر والفتح القريب، فزاد على النصر الفتح. 12- من الملاحظ أن عيسى لم يعد أتباعه بشيء، وقد وعد الله المؤمنين بالنصر والفتح القريب. 13- ورد في الآية نسبة عيسى إلى أمه كما ورد في مكان آخر من السورة، كما ورد فيها طلب النصرة، وكلا هذين الأمرين يدل على أن عيسى بشر وليس ابنًا لله، تعالى عن أن يكون له ولد. وفي الختام نود أن نقول: إن السورة ابتدأت بالجهاد والقتال، واختتمت بالتأييد والظفر، فقد ابتدأت بقوله: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا} واختتمت بقوله: {فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ} مما يدل على أن عاقبة الجهاد تأييد الله ونصره، فارتبط أول السورة بآخرها أحسن ارتباط وأوثقه. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 320 إلى ص 324. (1) الكشاف 4/101. (2) مجمع البيان 9/418. (3) تفسير أبي السعود 7/246.
  • ﴿سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴿١﴾    [الحديد   آية:١]
{سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1)} وجه ارتباط مفتتح السورة هذه بخاتمة السورة فبلها ظاهر، ذلك أنه قال في خاتمة السورة التي قبلها وهي سورة الواقعة: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} وقال ههنا: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فكأنه تعليل لأمره بالتسبيح، فكأنه قال: لقد سبحه ما في السماوات والأرض فسبحه أنت أيضًا كما سبحه أولئك، فتشترك معهم في التسبيح وتوافقهم في تنزيهه سبحانه. جاء في (روح المعاني): "ووجه اتصالها بالواقعة أنها بدئت بذكر التسبيح وتلك ختمت بالأمر به، وكان أولها واقعًا موقع العلة للأمر به، فكأنه قال: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} لأنه سبح له ما في السماوات والأرض" (1). والتسبيح معناه التنزيه، وقد مر في سورة الصف تفسير نحو هذه الآية فلا نعيد القول فيها، غير أنه في هذه الآية لم يكرر (ما). فلم يقل: (وما في الأرض)، وقد ذكرنا في أكثر من موضع أنه حيث كرر (ما) في آيات التسبيح أعقب ذلك بالكلام على أهل الأرض، وإذا لم يكرر (ما) فإنه لا يذكر شيئًا يتعلق بأهل الأرض بعدها، وحيث إنه لم يذكر بعدها شيئًا بتعلق بأهل الأرض لم يكرر (ما). كما ذكرنا أن كل سورة تبدأ بالفعل الماضي، أي (سبح لله) يجري فيها ذكر للقتال، بخلاف ما يبدأ بالفعل المضارع، أي (يسبح لله)، وقد بدأت هذه السورة بالفعل الماضي، وقد جرى فيها ذكر للقتال وهو قوله: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا} [الآية: 10]. وقد ورد فعل التسبيح معدى بنفسه كما في قوله: {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 42] ومعدى باللام كما في هذه الآية، وقد ذكر أن اللام إما أن تكون لتقوية وصول الفعل إلى المفعول، وإما أن تكون لام التعليل (2)، وإن تعديته باللام تفيد الدلالة على الإخلاص (3)، ذلك أن التسبيح إنما هو لله. {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} عرف الاسمين الجليلين للدلالة على القصر فلا عزيز إلا هو، ولا حاكم ولا حكيم إلا هو، "فهذا يقتضي أنه لا إله إلا الواحد، لأن غيره ليس بعزيز ولا حكيم، وما لا يكون كذلك لا يكون إلهًا" (4). وقد مر تفسير نحو هذا بما فيه الكفاية في سورة الصف.
  • ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿٢﴾    [الحديد   آية:٢]
{لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2)} ذكر أولًا أنه سبح له ما في السماوات والأرض، ثم ذكر أنه له ملك السماوات والأرض، وهذا يقتضي أنه ملك ما فيهما أيضًا، إذ لا يكون الملك إلا على رعية، فلما ذكر أن له ملك السماوات والأرض علم أنه ملك من فيهما. وقد أفاد تقديم الجار والمجرور (له) وتعريف المبتدأ (ملك السماوات) القصر، فلا ملك لأحد سواه على الحقيقة. ومجيئ هذه الآية بعد آية التسبيح أنسب شيء، فإن الشخص قد يحمد في ذاته إن لم يكن مالكًا أو ملكًا، فإن ملك شيئًا أو ملك عليه فقد يظهر عليه ما لم يكن ظاهرًا، أو يتغير بتغير الحال فيذم ويعاب، أو قد يقصر في ملكه أو يسيء، ولذا كان مجيء هذه الآية أنسب شيء؛ لأنه ذكر أنه منزه في جميع الأحوال، فهو منزه في ذاته، ومنزه في عزته، ومنزه في حكمه وحكمته، ومنزه في ملكه، ومنزه في إحيائه وإماتته، ومنزه في قدرته، فدل ذلك على أنه لا يفعل إلا عن كمال حكمة وتمام تدبير، وأنه له الكمال المطلق في كل شيء، فاستحق التنزيه في ذاته وفي أفعاله وصفاته. جاء في (تفسير التحرير والتنوير) في قوله: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}: "ومضمون هذه الجملة يؤذن بتعليل تسبيح الله تعالى؛ لأن من له ملك العوالم العليا الدنيوي حقيق بأن يعرف الناس صفات كماله. وأفاد تعريف المسند إليه قصر المسند على المسند إليه، وهو قصر ادعائي لعدم الاعتداد بملك غيره في الأرض، إذ هو ملك ناقص، فإن الملوك مفتقرون إلى من يدفع عنهم العوادي بالأحلاف والجند، وإلى من يدبر نظام المملكة من وزراء وقواد، وإلى أخذ الجباية والجزية ونحو ذلك. أو هو قصر حقيقي إذا اعتبرت إضافة (ملك) إلى مجموع السماوات والأرض، فإنه لا ملك لمالك على الأرض كلها بل السماوات معها" (5). وقد تقول: لقد ذكر في مواطن أخرى من القرآن الكريم أن له ملك السماوات والأرض وما بينهما، كما في سورة المائدة 17، 18 والزخرف 85 ولم يذكر ذلك ههنا، فما السبب؟ فنقول: إن كل موطن ذكر فيه أن له ملك السماوات والأرض وما بينهما إنما جاء تعقيبًا على القول في الله ما لا يليق به سبحانه، كقول النصارى: إن المسيح ابن الله أو هو الله، أو قول اليهود: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} فجعلوا أنفسهم أبناء الله. فيعقب على ذلك بقوله: إن له ملك السماوات والأرض وما بينهما، فلم يتخذ ولدًا؟ إن الذي يتخذ ولدًا إنما جه حاجة إلى ذلك، أو يشعر أن به حاجة، فيتخذ الولد لسد الحاجة، أما الله فإن له ملك السماوات والأرض وما بينهما، فهو ملكهما ومالكهما فلم الولد؟ فيذكر سعة ملكه في نحو هذا الموطن لبيان أن قولهم باطل وأنه غير محتاج إلى الولد، أما ما لم يرد في سياق ذلك فلا يذكر (وما بينهما). ومن الطريف أن نذكر أيضًا أن كل موطن ذكر فيه (وما بينهما) إنما هو في سياق الكلام على ثلاث ملل، وهن: اليهود والنصارى والمسلمون، بخلاف ما لم يذكر ذلك، فاليهود والنصارى والمسلمون ثلاثة، والسماوات والأرض وما بينهما ثلاثة، فناسب بين الملل الثلاث ما ذكره من السماوات والأرض وما بينهما. ففي سورة المائدة مثلًا ذكر الكلام على بني إسرائيل، فقد قال: {وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 12]، وقال بعدها: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} [المائدة: 14]، ثم قال: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ} [المائدة: 15]. ومثل ذلك آية الزخرف، فقد ذكر موسى وفرعون ( من 46 إلى 56) ثم ذكر عيسى وتكلم فيه (من 57 إلى 64)، ثم ذكر عقيدة المسلمين: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ .....} [الزخرف: 81 وما بعدها]؛ فكان كل تعبير مناسبًا في مكانه. {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} إن المالك أو الملك قد لا يكون قادرًا على كل شيء فذكر أن الله على كل شيء قدير. والملاحظ أنه إذا عمم القدرة فقال: {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أو أطلقها لم يأت إلا بصيغة تفيد المبالغة، ولم يأت باسم الفاعل (قادرًا)، فإن المقدرة على كل شيء أو القدرة المطلقة غير المقيدة تقتضي المبالغة ولا يفيدها اسم الفاعل. أما إذا جاء باسم الفاعل (قادر) فإنه لا يطلقه ولا يعممه، بل يقيده بأمر فيقول مثلًا: {إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آَيَةً} [الأنعام: 37]، أو يقول: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ} [الأنعام: 65]. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 327 إلى ص 331. (1) روح المعاني 27/164. (2) انظر الكشاف (دار الفكر) 4/60، البحر المحيط (دار الفكر) 10/100، تفسير الرازي 29/207. (3) نظم الدرر 7/432. (4) تفسير الرازي 29/208. (5) التحرير والتنوير 27/358 (دار سحنون).
  • ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿٣﴾    [الحديد   آية:٣]
{هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)} {هُوَ الْأَوَّلُ} أي ليس لوجوده بداية وهو قبل كل شيء. (والآخر) أي ليس لوجوده نهاية وليس بعده شيء، وهذا مقتضي قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]. (والظاهر) أي الذي تجلى للعقول ونصب الدلائل الظاهرة على وجوده، وهو الغائب العالي على كل شيء وفوق كل شيء، فليس معه شيء وليس فوقه شيء، من الظهور وهو الغلبة، كما قال تعالى: {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} [الصف: 14]، فالظاهر معنيان كلاهما مراد: الظاهر بدلائله، الغالب على كل شيء. (والباطن) أي غير المدرك بالحواس المحتجب عن الأبصار، كما قال تعالى: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ} [الأنعام: 103]، وهو الذي يعلم بواطن كل شيء وخفاياه. فللباطن معنيان: المحتجب عن الأبصار، والذي يعلم باطن كل شيء، وكلاهما حق، وإن كان أحد المعنيين أظهر من الآخر. وتعريف الصفات بـ (أل) يفيد القصر، فلا يشاركه شيء في هذه الصفات، فليس معه أول ولا آخر، وليس معه ظاهر ولا باطن، فهو أول كل شيء وآخر كل شيء، يزول كل شيء ولا يزول وليس معه أحد في كونه ظاهرًا أو باطنًا. ولم يفيد هذه الصفات بشيء، ولا بإضافة ولا بوصف أو أي تقييد آخر، وذلك للدلالة على أنه الأول المطلق والآخر المطلق، والظاهر المطلق والباطن المطلق، لا بحسب شيء من الأشياء. لقد دلت هذه الآيات على إبطال الشرك، فليس معه شريك، كما دلت على أنه الغني المطلق فلا يحتاج إلى شيء لأنه كان قبل كل شيء، وأنه الخالق وأنه القادر، ودل قوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} على علمه المطلق فهو الإله الحق.جاء في (التفسير الكبير): "أنه الأول ليس قبله شيء، والآخر ليس بعده شيء ... وأنه ظاهر بحسب الدلائل، وأنه باطن الحواس محتجب عن الأبصار ... وذكروا في الظاهر والباطن أن الظاهر: هو الغالب العالي على كل شيء، ومنه قوله تعالى: {فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ} اي غالبين عالين ... وهذا معنى ما روي في الحديث( وأنت الظاهر فليس فوقك شيء). وأما الباطن فقال الزجاج: إنه العالم بما بطن، كما يقول القائل: فلان يبطن أمر فلان، أي يعلم أحواله الباطنة" (1).وجاء في (الكشاف): "{وَالظَّاهِرُ } بالأدلة الدالة عليه {وَالْبَاطِنُ} لكونه غير مدرك بالحواس ... وقيل (الظاهر) العالي على كل شيء الغالب له، من: ظهر عليه إذا علاه وغلبه، والباطن الذي بطن كل شيء أي علم باطنه، وليس بذاك" (2). وجاء في (البحر المحيط): "{هُوَ الْأَوَّلُ} الذي ليس لوجوده بداية مفتتحة ... وقيل: الأول الذي كان قبل كل شيء ... (الظاهر) العالي على كل شيء الغالب له، من: ظهر عليه، إذا علاه وغلبه، و(الباطن) الذي بطن كل شيء، أي علم باطنه" (3). وجاء في (التحرير والتنوير): في قوله: {هُوَ الْأَوَّلُ} أنه "لم يذكر لهذا الوصف هنا متعلق (بكسر اللام) ولا ما يدل على متعلق لأن المقصود أنه الأول بدون تقييد. ويرادف هذا الوصف في اصطلاح المتكلمين صفة (القدم). واعلم أن هذا الوصف يستلزم صفة الغنى المطلق، وهي عدم الاحتياج إلى المخصص، أي مخصص يخصه بالوجود بدلًا من العدم، لأن (الأول) هنا معناه: الموجود لذاته دون سبق عدم، وعدم الاحتياج إلى محل يقوم به قيام العرض بالجوهر، ويستلزم ذلك انفراده تعالى بصفة الوجود؛ لأنه لو كان غير الله واجبًا وجوده لما كان الله موصوفًا بالأولية ... فلذلك تثبت له الوحدانية ... فلما تقرر أن كونه (الأول) متعلق بوجود الموجودات اقتضى أن يكون وصفه بـ (الآخر) متعلقًا بانتقاض ذلك الوجود، أي هو الآخر بعد جميع موجودات السماء والأرض" (4). {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي المحيط علمه بكل شيء وأنه وسع كل شيء علمًا. وقال: (عليم) ولم يقل: (عالم) للدلالة على بالغ علمه وسعته. ومن دقيق الاستعمال القرآني وطريفة أنه خصص اسم الفاعل (عالم) بعلم الغيب مفردًا والشهادة مفردة فيقول: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أو {عَالِمُ الْغَيْبِ} ولم يذكر مرة لفظ (عالم) مع الجمع، فإذا جمع الغيب أتى بـ (علام) الدال على المبالغة والكثرة فيقول: {عَلَّامُ الْغُيُوبِ}، فخصص اسم الفاعل (عالم) بالمفرد، وقرن صيغة المبالغة (علام) بالجمع، فهو يقول: {عَالِمُ الْغَيْبِ} وذلك في ثلاثة عشر موضعًا (5)، وقال: {عَلَّامُ الْغُيُوبِ} في أربعة مواضع من القرآن الكريم (6). فناسب بين الصيغة ومتعلقها. بل إنه خصص لفظ (عالم) بعلم الغيب أو علم الغيب والشهادة، وخصص (علام) بجمع الغيب فلم يستعمله مع غيره. أما (عليم) فقد أطلق استعماله فلم يقيده بمعلوم معين، بل يذكره مع جميع المعلومات، فهو يقول مثلًا: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29، 231]، {وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} [يس: 79]، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 95، 246]، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 115]، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154]، أو يطلق الاسم الكريم فلا يخصصه بشيء وذلك نحو {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 127]، {إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 247، 268، آل عمران: 73]. ومن الملاحظ أيضًا أنه حيث ذكر اسمه (العليم) فإما أن يطلقه كما ذكرنا فلم يقيده بشيء نحو {وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} أو {السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، أو أن يجعله محيطًا بكل شيء نحو {بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أو {بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} . أو أن يستعمله مع الجمع أو فعل الجمع وذلك نحو قوله تعالى: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 95، 246]، {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 115]، {فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ} [آل عمران: 63] فاستعمله مع الجمع. ونحو {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154] فقد جمع الصدر. وقوله: {إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ} [يوسف: 50] فأضاف الكيد إلى ضمير الجمع. أو أن يقول: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 215]، ونحو {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 273]، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [البقرة: 283]. فقد جمع الفاعل فقال (تفعلوا) ولم يقل: (تفعل). ونحوه (تنفقوا) و(تعلمون). ولم يرد استعمال اسم الله (العليم) مع متعلق مفرد أو فعل فاعل مفرد، وهو تناسب لطيف بين المبالغة في الاسم الكريم وكثرة متعلقات الفاعلين. وبهذا يتبين أنه خصص اسمه: (العالم): بعلم الغيب المفرد، أو الغيب والشهادة المفردين. واسمه (العلام): بعلم الغيب مجموعًا فيقول: {عَلَّامُ الْغُيُوبِ}.أما اسمه (العليم): فإنه أطلق فيه العلم بالمعلومات عمومًا ولم يخصصه بنوع من المعلومات ميعن. أو أن يطلق الاسم فلا يفيده بشيء، أو يستعمله مع الجمع أو فعل الجماعة. وأما إذا ذكر اسمه بصيغة الجمع (عالمين) فإنه للتعظيم كما هو معلوم، وهذا من دقيق الاستعمال القرآني وخواصه، وهو من أوضح الأمور على القصد في التعبير القرآني. إن هذه الآية – أعني قوله: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآَخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} - مرتبطة بما بعدها ارتباطًا وثيقًا. فقوله: {هُوَ الْأَوَّلُ} مرتبط بقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} فالذي خلق السماوات والأرض هو الأول. وقوله: (الآخر) مرتبط بقوله: {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} وقوله: (الظاهر) مرتبط بقوله: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} فالذي له الملك هو الظاهر الغالب في أحد معنييه، وفي المعنى الآخر مرتبط بقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} فهي آيات دالة على وجوده سبحانه. وقوله: (الباطن) بمعنى المحتجب الذي لا يدرك، مرتبط بقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}، وبمعنى الذي بطن كل شيء، أي علمه مرتبط بقوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، وقوله: {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 331 إلى ص 336. (1) التفسير الكبير 29/210 – 215. (2) الكشاف 4/61 (دار الفكر). (3) البحر المحيط 10/100، (دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع). (4) التحرير والتنوير 27/360 – 361 (دار سحنون) (5) انظر على سبيل المثال: الأنعام 73، التوبة 94، 105، سبأ 3، الجن 26. (6) انظر المائدة 109، 116، التوبة 78، سبأ 48.
  • ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ﴿٤﴾    [الحديد   آية:٤]
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)} لقد دل قوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} على أنه هو المالك لهما، إضافة إلى دلالته على أنه الأول. ودل قوله: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أنه الملك الحاكم المسيطر، فهو مالك الملك، أي أن الملك هو ملك له، فهو المالك والملك. جاء في (المصباح المنير): "(ملكته) ملكًا من باب ضرب، والملك بكسر الميم: اسم منه، والفاعل: مالك، والجمع: ملاك، مثل كافر وكفار ... وملك على الناس أمرهم: إذا تولى السلطنة، فهو ملك بكسر اللام، وتخفف بالسكون، والجمع ملوك، مثل: فلس وفلوس، والاسم: الملك، بضم الميم" (1). ولما كان كل من الملك والمالك ينبغي أن لا يند عنه شيء في ملكه ذكر أنه {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فكان ذلك الكمال الأعلى في الملك والتملك، فهو لا يند عنه شيء في ملكوته، وإنما يعلم كل شيء عن المسكن والساكن في السماء والأرض. وليس ذلك فقط، وإنما هو يبصر أيضًا ما فيهما، وهذه مرتبة فوق العلم، فإن الفرد قد يعلم عن طريق الإخبار، أما الله سبحانه فهو يعلمه ويشاهده، بل له مرتبة فوق ذلك وهي المعية والمصاحبة، فهو مع عباده أينما كانوا، وهذه مرتبة فوق المشاهدة، وهي مرتبة القرب. بل له مرتبة فوق ذلك أيضًا، وهي أنه بصير بما نعمل ظاهرًا وباطنًا، فهو يعلم عمل كل عامل، ويعلم لم عمله؟ وهذه مرتبة فوق المعية؛ لأنك قد تصاحب إنسانًا وتراه يعمل عملًا ما ولكنك لا تعلم لم فعل ذلك، فذكر أنه تعالى بصير بما يعمل العاملون، وأنه عليم بذات الصدور. فذكر كل مراتب العلم وهي: 1- أنه يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها، وما ينزل من السماء وما يعرج فيها، فهو يعلم الداخل والخارج، والنازل والصاعد. 2- وأنه مصاحب لنا أينما كنا. 3- وأنه مبصر لأعمالنا. 4- وأنه يعلم لم فعلنا ذلك. فاستوفى كل مراتب العلم، فناسب ذلك ختام الآية السابقة وهو قوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 337 إلى ص 338. (1) المصباح المنير (ملك) 221. {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} قال: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ} ولم يقل: (ما يولج)، وقال: {وَمَا يَخْرُجُ} ولم يقل: (ما يخرج)، وقال: {وَمَا يَنْزِلُ} ولم يقل: (ما ينزل)، وقال: {وَمَا يَعْرُجُ} ولم يقل: (ما يعرج)، وهذا أدل على العلم؛ لأن الفرد في العادة يعلم ما يفعله هو ولكنه يجهل ما لم يفعله هو، أما ربنا فقد أخبر عن نفسه أنه يعلم ما يلج وما يخرج وما ينزل وما يعرج، وهذا أدل على العلم. وقد ما يلج في الأرض على ما يخرج منها، وقدم ما ينزل من السماء على ما يعرج فيها، فقد ما ينزل وما يلج وأخر ما يخرج وما يعرج، ذلك أن كثيرًا مما ينزل من السماء قد يلج في الأرض ثم يخرج بعد ذلك من الأرض ما يخرج بسببه أو بغيره من الأسباب كالنباتات والينابيع وغيرها، فالو لوج قد يكون سببًا للخروج. والذي يخرج من الأرض ومحيطها قد يعرج إلى السماء، فالذي ينزل من السماء قد يلج ف الأرض، والذي يخرج من الأرض ومحيطها قد يعرج إلى السماء، وذلك أن قوله: {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} يحتمل معنيين: الأول: أنه يخرج من داخلها كالنباتات والحشرات وغير ذلك، والآخر: أنه يخرج من دائرتها ومحيطها. وبدأ بالأرض وأخر السماء؛ لأن السياق في الكلام على أهل الأرض وهو قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وهي مسكنهم. وقد تقول: لقد قال في سبأ نحو هذا، غير أنه لم يذكر {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ}، كما أن خاتمة كل من الآيتين اختلفت عن الأخرى، فقد قال في سبأ: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سبأ: 2] فما السبب؟ والجواب: أن سياق كل من الآيتين يوضح ذلك. 1- فقد قال في سورة الحديد قبل هذه الآية: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3] فجاء في الآية التي قبلها بما يدل على علمه تعالى وإحاطته بكل شيء فقال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وجاء بعد ذلك قوله: {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} مما يؤكد هذا المعنى. ولم يرد في سياق آية سبأ نحو ذلك، فناسب المجيء بذكر العلم في آية الحديد دون آية سبأ. 2- قال في آية الحديد: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} وهذا مما يدل على المراقبة، ولذا جاء بعدها بما يدل على معرفته بعملنا فقال: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . وقال في خاتمة الآية في سورة سبأ: {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} فختمها بالرحمة والمغفرة، فكأنه أراد أن يرحمهم ويغفر لهم فرفع ذكر المراقبة، ولا شك أن عدم ذكر المراقبة أنسب مع ذكر الرحمة والمغفرة، وأن ذكره أنه بصير بعملنا أنسب مع ذكر المراقبة. 3- أنه ذكر الآخرة قبل الآية فقال: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ} وليست الآخرة وقت عمل أو مراقبة. كما أن الآية بعدها إنما هي في الساعة وهي قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} فلم يذكر المراقبة ولا أنه بصير بما نعمل في هذا السياق. وأما آية الحديد فهي في سياق بداية الخلق، قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} وهو زمان بداية الأعمال واستمرارها ومراقبتها، بخلاف سياق آية سبأ فإنه في طي صفحة الأعمال والمراقبة، فناسب كل تعبير موطنه. 4- إن جو سورة الحديد تردد فيه ذكر العلم والمراقبة بصور شتى، فقد قال: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الآية: 3]، وقال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الآية: 4]، وقال: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الآية: 4]، {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الآية: 6]، {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الآية: 10] {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الآية: 22]، {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} [الآية: 25]. وشاع في سورة سبأ ذكر الآخرة من مثل قوله: {وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ} [الآية: 1]، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ} [الآية: 3]، {أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} [الآية: 4] {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} [الآية: 5]، {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [الآية: 7]، {بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ} [الآية: 8] {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} [الآية: 21]، {وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [الآية: 23]، {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} [الآية: 26]، {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الآية: 29] {قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ} [الآية: 30]، {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ ....} [الآيات: 31 - 33]، {فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آَمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آَيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} [الآيتان: 37 - 38]، {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ....} [الآيات: 40 - 42]، {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} [الآيات: 51 - 54]؛ فناسب كل تعبير موطنه. {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} قدم {بِمَا تَعْمَلُونَ} على (بصير)؛ ذلك لأنه وردت بعد قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} فقدم ما يتعلق بهم وهو عملهم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 338 إلى ص 341.
إظهار النتائج من 10591 إلى 10600 من إجمالي 12316 نتيجة.