{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)}
بعد أن وصف الآنية والشراب وصف السقاة الذي يسقونهم، فذكر أن من رآهم حسبهم لؤلؤًا منثورًا، ووصفهم باللؤلؤ المنثور لأنهم منتشرون في كل مكان وليسوا في مكان واحد. جاء في (فتح القدير): "لما فرغ سبحانه من وصف شرابهم ووصف آنيتهم ووصفَ السُّقاة الذين يسقونهم ذلك الشراب ... {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا} ... قال أهل المعاني: إنما شبهوا بالمنثور لانتثارهم في الخدمة، ولو كانوا صفًّا لشبهوا بالمنظوم. قيل: إنما شبههم بالمنثور لأنهم سراع في الخدمة، بخلاف الحور العين، فإنه شبههن باللؤلؤ المكنون لأنهن لا يمتهنّ بالخدمة" (1).
ووصف الولدان بأنهم مخلدون لئلا يسبق إلى الوهم أنهم يشيبون أو يكبرون أو يتغير حسنهم وصفاؤهم أو يعجزون عن الخدمة.
وجاء بـ (إذا) الدالة على التحقق واليقين إخبارًا بأنه سيراهم حتمًا.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 250 إلى ص 250.
(1) فتح القدير 5/341.
{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20)}
والمعنى: أنه حيث وقعت رؤيتك رأيت نعيمًا وملكًا كبيرًا. وليس لرأيت الأول مفعول، وذلك لقصد العموم والشمول، فلم تحدد الرؤية بشيء أو مكان معين، بل أينما وقعت الرؤية منك رأيت نعيمًا وملكًا كبيرًا.
جاء في (الكشاف): "{رَأَيْتَ} ليس له مفعول ظاهر ولا مقدر ليشيع ويعم، كأنه قيل: وإذا أوجدت الرؤية ثم، ومعناه: أن بصر الرائي أينما وقع لم يتعلق إدراكه إلا بنعيم كثير وملك كبير. و(ثم) في موضع النصب على الظرف" (1).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 250 إلى ص 251.
(1) الكشاف 3/299، وانظر البحر المحيط 8/399.
{عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21)}
قيل: إن معنى (عاليهم): (فوقهم) (1). والحق أنه ليس بمعنى (فوقهم) لأن الفوقية لا تقتضي الملامسة والملابسة، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ} [ق: 6] فإن السماء ليست ملامسة لنا وهي فوقنا، وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: 19] والطير فوقنا وليست ملامسة لنا. في حين أن معنى (عاليهم) أنهم يلبسونها وهي ملامسة لهم. فقوله: (عاليهم) يقتضى الملامسة والملابسة، بخلاف (فوقهم).
ذكر أنهم يُحلّون أساور من فضة، وهي مقابل ما ذكر من الأغلال والسلاسل في أيدي أهل النار وأرجلهم.
وقد ذكر هنا أساور الفضة، وذكر في مكان آخر من القرآن أساور الذهب، قيل: ذلك للدلالة على أنهم يلبسون مرة أساور الذهب ومرة أساور الفضة، أو على أنهم يجمعون بينهما. جاء في (الكشاف): "فإن قلت: ذكر ههنا أن أساورهم من فضة، وفي موضع آخر أنها من ذهب.
قلت: هَبْ أنه قيل: وحلوا أساور من ذهب ومن فضة، وهذا صحيح لا إشكال فيه، على أنهم يسورون بالجنسين: إما على المعاقبة، وإما على الجمع، كما تُزَاوج نساء الدنيا بين أنواع الحلي وتجمع بينهما. وما أحسن بالمعصم أن يكون فيه سواران: سوار من ذهب وسوار من فضة" (2).
وقيل: بل إنه ذكر ذلك في سورة الإنسان أنها حلية الأبرار، وأساور الذهب هي حلية المقربين، جاء في (تفسير ابن كثير): "وهذه صفة الأبرار، وأما المقربون فكما قال تعالى: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [فاطر: 33]" (3).
ويبدو لي أن ذكر أساور الفضة ههنا وأساور الذهب في مكان آخر لسبب يقتضيه المقام، وإليك إيضاح ذلك مما ورد فيه ذلك من سورة فاطر مثلاً:
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ }[فاطر: 29 – 35].
يتضح من هذا النص ما يأتي:
1- أنه ذكر أنهم يتلون كتاب الله.
2- أقاموا الصلاة.
3- أنفقوا مما رزقهم الله سرًّا وعلانية.
في حين ذكر في سورة الإنسان أنهم يوفون بالنذر، وأنهم يطعمون الطعام مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا. ولا شك أن الأعمال في سورة فاطر أعلى، فإن الإنفاق في السر والعلن أعم وأشمل مما جاء في سورة الإنسان، وإقامة الصلاة وتلاوة كتاب الله أكبر من الإيفاء بالنذر، والنذر مكروه شرعًا، وهو لا يأتي بخير، فهو صدقة البخيل، غير أن الإيفاء به واجب.
4- وذكر أنهم يرجون تجارة لن تبور، والتجارة إنما ترجي للربح. وهؤلاء يرجون تجارة غير خاسرة. ولا شك أن الله سيحقق لهم رجاءهم ويربحهم في تجارتهم، فكان من ذلك ما ذكره من أساور الذهب وغيرها.
5- ذكر في فاطر أن الله سبحانه يوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله. في حين قال في سورة الإنسان: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً}، فذكر في فاطر الجزاء والزيادة من فضل الله، فناسب ذلك أن يذكر الأساور من الذهب والتحلية باللؤلؤ.
6- قال في سورة الإنسان: {وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا}، وقال في سورة فاطر: {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} فزاد المغفرة على الشكر.
7- قال في سورة فاطر: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} فقال: (أورثنا) و(اصطفينا) بإسناد الفعلين إلى ضمير المتكلم للتعظيم، وهذا يستعمله القرآن في موطن التكريم.
8- ذكر أنه اصطفاهم من عباده، وهذا تكريم آخر؛ فإن الاصطفاء يعني التفضيل.
9- ثم قسم هؤلاء المصطفين إلى ظالم لنفسه ومقتصد وسابق بالخيرات بإذن الله. فعدّ منهم السابقين، وهم أعلى الخلق من المكلفين، فاستحق في هذا الموطن أن يذكر الزيادة في التكريم. فإنه لو قال: (يحلون فيها من أساور من فضة) لم يفهم أن ذلك لغير السابقين، فكان ذكر أساور الذهب هو المناسب.
10- ذكر فضله الكبير في سورة فقال: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} فناسب ذلك ذكر أساور الذهب وزيادة وهي اللؤلؤ فقال: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا}.
11- وذكر أنهم حمدوا الله الذي أذهب عنهم الحزن، وذكروا جملة من النعم التي أنعم الله عليهم بها في الآخرة.
وقد ورد ذكر فضل الله عليهم عدة مرات فقال: {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ}، وقال: {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}، وقال: {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ}، وذكر المغفرة والشرك مرتين فقال: {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ}، وقال: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} فناسب كل ذلك أساور الذهب واللؤلؤ.
12- ثم انظر كيف أنه لما ذكر الطائعين وهم الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة قال: {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ}، ولما ذكر الظالم لنفسه والمقتصد وذكر أنه يدخلهم جنات عدن ويكرمهم قالوا: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} بزيادة اللام في (لغفور)؛ لأن هؤلاء لا يدخلونها لولا المغفرة، وأنهم يحتاجون إليها أكثر من الأولين.
وقد تقول: ولم قال في سورة الإنسان: (وحُلّوا) بالفعل الماضي، وقال في سورة فاطر: (يُحَلَّون) بالمضارع؟
والجواب: أنه لما أخبر في سورة الإنسان عنهم بالفعل الماضي فقال إنه وقاهم شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورًا وجزاهم بما صبروا، ناسب أن يقول: (وحُلّوا) بالفعل الماضي.
ولما ذكر في سورة فاطر أنهم يدخلون جنات عدن بالفعل المضارع، ناسب أن يقول: (يُحَلّون) بالفعل المضارع.
وقد تقول: ولم قال إذن في سورة الإنسان: (يطاف عليهم) و(يسقون) و(يطوف عليهم) بالفعل المضارع؟
قلنا: إن ذلك دلال على تجدد الطواف والسقي واستمرارهما، ولو أخبر بالفعل الماضي لم يفد ذلك.
{وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا}
(طهور) صيغة مبالغة بمعنى الطاهر، وتأتي أيضًا بمعنى المطهِّر، واختار هذه الصيغة للدلالة على أن هذا الشراب طاهر مطهّر، يل هو الغاية في الطهارة والتطهير. جاء في (البحر المحيط): "طهور صفة مبالغة في الطهارة، وهي من فعل لازم" (4).
وجاء في (الكشاف): "{شَرَابًا طَهُورًا } ليس برجس كخمر الدنيا ... أو لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة وتدوسه الأقدام الدنسة، ولم يجعل في الدنان والأباريق التي لم يعن بتنظيفها، أو لأنه لا يؤول إلى النجاسة لأنه يرشح عرقًا من أبدانهم له ريح كريح المسك" (5).
وجاء في (التفسير الكبير): "الطهور فيه قولان: الأول: المبالغة في كونه طاهرًا ... القول الثاني في الطهور: أنه المطهر، وعلى هذا التفسير أيضًا في الآية احتمالان:
أحدهما: ... هو عين ماء على باب الجنة تنبع من ساق شجرة، من شرب منها نزع الله ما كان في قلبه من غل وغش وحسد، وما كان في جوفه من قذر وأذى.
وثانيهما: ... يؤتون الطعام والشراب فإذا كان في آخر ذلك أتوا بالشراب الطهور فيشربون فتطهر بذلك بطونهم ويفيض عرق من جلودهم مثل ريح المسك. وعلى هذين الوجهين يكون الطهور مطهرًا؛ لأنه يطهر باطنهم عن الأخلاق الذميمة والأشياء المؤذية" (6).
والظاهر أن هذه الصفة تجمع كل هذه المعاني، فهو شراب طاهر مطهر بكل ما ذكر وما لم يذكر من المبالغة فيهما مما يقتضيه الحال.
وإسناد سقيه إلى الرب سبحانه يدل على فضل هذا الشراب، وأنه أعلى مما ذكره من النوعين السابقين، فقد قال في الأول: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} ولم يذكر ساقيًا لهم، وقال في الشراب الثاني: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا} ببناء الفعل للمجهول ولم يذكر الساقي. وفي هذا الشراب قال: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ} بإسناده إلى الرب سبحانه، فدل ذلك على فضل هذا الشراب.
جاء في (التفسير الكبير): "فإن قيل: قوله تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ} هو عين ما ذكره تعالى قبل ذلك من أنهم يشربون من عين الكافور والزنجبيل والسلسبيل أو هو نوع آخر؟
قلنا: بل هذا نوع آخر ويدل عليه وجوه: (أحدها) دفع التكرار. و(ثانيها) أنه تعالى أضاف هذا الشراب إلى نفسه، فقال: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ} وذلك يدل على فضل في هذا دون غيره" (7).
وجاء في (روح المعاني): "هو نوع آخر يفوق النوعين السابقين ... كما يرشد إليه إسناد سقيه إلى رب العالمين ووصفه بالطهورية" (8).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 251 إلى ص 257.
(1) البحر المحيط 8/399.
(2) الكشاف 3/299، وانظر البحر المحيط 8/400.
(3) تفسير ابن كثير 4/457.
(4) البحر المحيط 8/401.
(5) الكشاف 3/299.
(6) التفسير الكبير 30/254.
(7) التفسير الكبير 30/254، وانظر أنوار التنزيل 776.
(8) روح المعاني 29/164.
{إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)}
لما ذكر أن هؤلاء لا يريدون ممن أحسنوا إليهم جزاء ولا شكورًا جزاهم ربهم أحسن الجزاء وشكر لهم سعيهم، فقال: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} فكان جزاء بالفعل وشكرًا بالقول.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 257 إلى ص 257.
{إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا (23)}
أسند التنزيل إلى نفسه وأكد ضمير المنزل بإن وبالضمير نحن، فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا} ثم أكد التنزيل بالمصدر المؤكد فقال: (تنزيلًا) فأكد المنزّل والتنزيل. وقد ذكر في هذه الآية المنزِّل وهو الله، والمنزَّل عليه وهو ضمير المخاطب بقوله: (عليك)، والمنزَّل وهو القرآن.
وقد تقول: لقد أكد الخلق في أول السورة بإن وحدها فقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} فلم كان التأكيد هنا بإن وبالضمير وبالمصدر المؤكد؟
والجواب أن ذلك لأكثر من سبب:
منها: أن أمر الخلق لم يختلف فيه أحد إلا القلة، فإن الكفرة والمؤمنين يقرّون بأن الخالق هو الله، حتى أن مشركي قريش كانوا يقرون ذلك، قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [العنكبوت: 61] بخلاف تنزيل القرآن من الله فإنهم لا يقرون بذلك، والمنكرون له أكثر من المنكرين للخالق، فاحتاج التنزيل إلى تأكيد أكثر.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن التنزيل أهم من الخلق؛ لأن الغرض من الخلق هو العبادة والتكليف، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فعلّة الخلق هي العبادة، والعبادة إنما تكون بما يريده الله وما يأمر به عباده، وذلك يكون عن طريق ما ينزل من كتب، فكان التنزيل أهم؛ لأنه به تعرف العبادة التي يريدها ربنا، وتعرف الأوامر والنواهي التي يأمر بها وينهي عنها، فكان ذلك أدعى إلى التأكيد. جاء في (الكشاف): "تكرر الضمير بعد إيقاعه اسمًا لإن تأكيد على تأكيد لمعنى اختصاص الله بالتنزيل، ليتقرر في نفس رسول الله أنه إذا كان هو المنزل لم يكن تنزيله على أي وجه نزل إلا حكمة وصوابًا" (1).
وقد تقول: لقد قال الله سبحانه في موطن آخر: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وقال هنا: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا} فقال في سورة الإنسان: (عليك) ولم يقل ذلك في آية الحجر، فما السبب؟
والجواب: أنه ذكر (عليك) في سورة الإنسان لأن بعدها الكلام على الرسول وتوجيه الخطاب إليه بالأوامر والنواهي فقال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} فكان المناسب أن يذكر (عليك).
في حين لم يكن الأمر كذلك في سورة الحجر، بل الكلام على الذكر وحفظه، ولم يوجه للرسول أمر أو نهى، فقد قال: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ويمضي الكلام على القرآن {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ} فلم يقتض ذلك ذكر (عليك)، فكل تعبير مناسب في مكانه.
وقد تقول: ولم سماه في سورة الإنسان (القرآن)، وسماه في سورة الإنسان (القرآن)، وسماه في سورة الحجر (الذكر)؟
والجواب: أن اسم الكتاب المنزل على الرسول هو القرآن، ولم يجر له ذكر أو وصف في سورة الإنسان فسماه باسمه.
في حين ورد اسم القرآن في سورة الحجر في أول السورة: {تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ}، وقال في آخرها: {وَلَقَدْ آَتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآَنَ الْعَظِيمَ}.
ثم إن هذا هو المناسب للآية قبلها وهو قوله: {وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] فرد عليهم رب العزة بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} فأسماه كفار قريش ذكرًا، وردَّ عليهم الله بالتسمية نفسها، فكان كل تعبير مناسبًا لموطنه.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 257 إلى ص 259.
(1) الكشاف 3/300.
{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) }
قال بعد ذكر تنزيله القرآن: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} فأمره بالصبر، مما يدل على أن التنزيل العزيز يستدعي الصبر لما فيه من قول ثقيل وتكاليف وتبليغ، فحامل التنزيل ينبغي أن يصبر عليه.
والحكم قد يكون بمعنى الحكمة، فهو إذن يطلب منه الصبر لما تقتضيه حكمة الله سبحانه من الصبر حتى يأذن الله بالنصر.
وقد يكون الحكم بمعنى القضاء، ومنه قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ} [الرعد: 41]، وقوله: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ} [الأنعام: 57] فيكون المعنى: اصبر لما حكمه الله وقضاه.
والمعنى يحتملهما معًا، وهما مطلوبان، فإن الله أمر بالصبر على حكم الله وقضائه لحكمة وضعها وأرادها. فيكون المعنى: اصبر لحكمة ربك وحكمه وأمره.
جاء في (الكشاف): "فاصبر لحكم ربك الصادر عن الحكمة وتعليقه الأمور بالمصالح وتأخيره نصرتك على أعدائك من أهل مكة، ولا تطع منهم أحدًا قلة صبر منك على أذاهم، وضجرًا من تأخر الظفر" (1).
{وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا} ظانًا أن ذلك يوصلك إلى مقصودك أو يقربك منه. والآثم: هو الذي يرتكب الإثم ويفعله المقدم على المعاصي.
والكفور: هو المبالغ في الكفر، وهو نقيض الإيمان، أو هو الجاحد للنعمة من الكفران مقابل الشكر كما مَرَّ إيضاح ذلك.
فالآثم هو الذي يفعل الإثم، والإثم قد يكون من أفعال الجارحة أو من أعمال القلب، ككتم العلم وكتم الشهادة والحسد والاعتقاد الباطل ونحو ذلك، قال تعالى: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ} [الأنعام: 120].
والكفور قد يكون اعتقادًا باطلاً في القلب، أو جحدًا للنعمة باللسان، وكلاهما إثم، ولذا كان كل كفور آثمًا وليس كل آثم كفورًا، فرب مرتكب للإثم غير كافر ولا جاحد للنعمة.
جاء في (الكشاف): "معناه: ولا تطع منهم راكبًا لما هو إثم داعيًا لك إليه أو فاعلاً لما هو كفر داعيًا لك إليه ...
فإن قلت: معنى (أو) ولا تطع أحدهما، فلا جيء بالواو ليكون نهيًا عن طاعتهما جمعيًا؟ قلت: لو قيل: (ولا تطعهما) جاز أن يطيع أحدهما. وإذا قيل: لا تطع أحدهما علم أن الناهي عن طاعة أحدهما، عن طاعتهما جميعًا أنهى" (2).
وجاء في (التفسير الكبير): "ما الفرق بين الآثم والكفور؟
الجواب: الآثم: هو المقدم على المعاصي، أما ليس كل آثم كفورًا. وإنما قلنا: إن الآثم عام في المعاصي كلها لأنه تعالى قال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} فسمى الشرك إثمًا، وقال: {وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آَثِمٌ قَلْبُهُ}، وقال: {وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ}، وقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} فدلت هذه الآيات على أن هذا الإثم شامل لكل المعاصي ... إن الآثم عام والكفور خاص" (3).
وقال: (آثمًا) ولم يقل: (أثيمًا) لأنه أراد أن ينهى عن إطاعة مرتكب الإثم في كل أحواله، سواء بالغ في ارتكاب الآثام أم لم يبالغ. ولو قال: (ولا تطع منهم أثيمًا) لربكا أفهم أنه نهى عن إطاعة المبالغ في المعاصي دون من لم يبالغ، وهذا غير مراد.
وقد تقول: ولم قال إذن في سورة القلم: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} [القلم: 10 – 12] ولم يقل (آثم)؟
والجواب: أن كل تعبير وقع في مكانه المناسب من أكثر من وجه:
منها: أن في سورة القلم جاء بأوصاف المبالغة فقال: حلاّف، همّاز، مشّاء، منّاع، فناسب ذلك المبالغة في الإثم.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن الذي يفعل كل ذلك هو أثيم وليس آثمًا فقط.
ومن ناحية ثالثة أن المبالغة في كل وصف منها يكون صاحبها أثيمًا فكيف إذا بالغ فيها كلها؟ فالهماز أثيم، والعتلّ أثيم، والزنيم وهو المعروف بالشر الظلوم أثيم، فكيف إذا جمعها كلها؟ فناسب كل تعبير مكانه.
وقد تقول: ولم قال: {أَوْ كَفُورًا} فبالغ، ولم يقل: (أو كافرًا)؟
وجواب ذلك ذكرناه في قوله تعالى: {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} فإنه قال: {أَوْ كَفُورًا} ليشمل الكافر في قلبه وجاحد النعمة، وهو المقابل للشاكر. ولو قال: (أو كافرًا) لشمل واحدًا منهما. وهو المناسب أيضًا لما ورد في أول السورة {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 259 إلى ص 262.
(1) الكشاف 3/300.
(2) الكشاف 3/300.
(3) التفسير الكبير 30/258.
{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26)}
أمره بالذكر والتسبيح والصلاة بعد أمره بالصبر ونهيه عن إطاعة الآثم والكفور، وربنا يأمر بالإكثار من ذلك عند الوقع في الأزمات ومضايق الأمور والمواطن التي تحتاج إلى الصبر، وذلك نحو قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الحجر: 97 – 98]، وقوله عند اللقاء في الحرب: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأنفال: 45]، وقول يونس في بطن الحوت: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87] ونحو ذلك من المواطن، فإن مداومة التسبيح تفرج الكروب وتنجي من المضايق، وهي أزكى الأعمال وأرفعها عند المليك، ولذا طلب منه مداومة التسبيح في الليل والنهار.
جاء في (روح المعاني): "أراد سبحانه أن يرشده إلى متاركتهم عقب ذلك بالأمر باستغراق أوقاته بالعبادة ليلًا ونهارًا بالصلوات كلها من غير اختصاص وبالتسبيح بما يطيق على منوال قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ}" (1).
وقدم الجار والمجرور (من الليل) على قوله: (فاسجد) لما في التهجد من أجر عظيم، ولما في ذلك من المشقة والكلفة، فإن صلاة الليل ثقيلة. وهذا التقديم نظير قوله تعالى: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الذاريات: 17 – 18]، وقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79].
جاء في (تفسير البيضاوي): "وتقديم الظرف لما في صلاة الليل من مزيد الكلفة والخلوص" (2).
كما أن هذا التقديم يدل على علو منزلة السجود وفضله على غيره، ذلك أن تقديم الجار والمجرور سوّغ إدخال الفاء على الفعل (اسجد) وهذا الفاء على كل ما قيل فيها تفيد التأكيد، سواء قلنا: إنها جواب شرط مقدر، أي مهما كان فلا تدع السجود، أو قلنا: هي زائدة للتوكيد. ولو لم يتقدم الظرف لم تصح زيادة الفاء، فلا يصح القول: (وفاسجد له من الليل)، وبهذا يتضح أن هذا التقديم أفاد أكثر من فائدة.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 262 إلى ص 264.
(1) روح المعاني 29/166.
(2) أنوار التنزيل 774.
{إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27)}
وقال: {وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ} مع أن يوم القيامة أمامهم، قيل: لأنهم نبذوه وراء ظهورهم وتركوه خلفهم استخفافًا به، ولو أنهم أهمهم الأمر وعناهم شأنه لجعلوه نصب أعينهم لا يغفلون عنه. "فهم كمن ينبذ الشيء وراء ظهره تهاونُا به واستخفافًا بشأنه، وإن كانوا في الحقيقة مستقبلين له وهو أمامهم" (1).
وجاء في (التفسير الكبير): "لم قال: (وراءهم) ولم يقل: (قُدَّامهم)؟ الجواب من وجوه:
أحدها: لما لم يلتفتوا إليه وأعرضوا عنه فكأنهم جعلوه وراء ظهورهم.
وثانيها: المراد: ويذرون وراءهم مصالح يوم ثقيل، فأسقط المضاف.
وثالثهما: أن (وراء) يستعمل بمعنى (قُدَّام) كقوله: {مِنْ وَرَائِهِ جَهَنَّمُ}، {وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ}" (2).
وجاء في (الكشاف): {وَرَاءَهُمْ} قدامهم، أو خلف ظهورهم لا يعبؤون به. {يَوْمًا ثَقِيلًا} استعير الثقل لشدته وهوله من الشيء الثقيل الباهظة لحامله. ونحوه {ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}" (3).
وقد تقول: ولم قال في سورة القيامة: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ}، وقال ههنا: {إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} فذكر أن اليوم ثقيل؟
فنقول: أما قوله في سورة الإنسان: {وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} ولم يقل مثل ذلك في سورة القيامة، فالسبب أنه تكرر ذكر اليوم المشعر بالثقل في هذه السورة، فقد قال: {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا}، وقال: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} ولم يذكر مثل ذلك في سورة القيامة.
وقد يقول قائل: ولم كان الكلام موجهًا بأسلوب الخطاب في سورة القيامة فقال: {وَتَذَرُونَ الْآَخِرَةَ}، وبأسلوب الغيبة في سورة الإنسان فقال: {وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا}؟
والجواب: أن المقام لا يناسب الخطاب في سورة الإنسان؛ لأنه ذكر أن قسمًا منهم لم يذر الآخرة، بل أخبر عنهم أنهم يخافون يومًا كان شره مستطيرًا. وقال على لسان بعضهم: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} وذكر أنه وقاهم شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورًا، فهم إذن لم يذروا الآخرة فلا يناسب الخطاب بذلك.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 264 إلى ص 265.
(1) فتح القدير 5/343.
(2) التفسير الكبير 30/260.
(3) الكشاف 3/300.
{نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28)}
قال: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ} بعد قوله: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ تَنْزِيلًا} ليعلمنا أن الذي خلقهم وشد أسرهم هو الذي أنزل القرآن، فينبغي لهم أن يسمعوا لكلام خالقهم ويطيعوا تنزيل ربهم، وليعلمهم أن خالقهم أعلم بمصالحهم وما هو خير لهم. وقدم (نحن) على الفعل ليُعلم أنه وحده الخالق لا خالق غيره، فالتقديم هنا يفيد الحصر، فينبغي أن يعبدوه وحده وألا يشركوا به غيره ولا يتخذوا معه إلهًا.
ومعنى {وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} أحكمنا خلقهم ووصّلنا عظامهم بعضها ببعض ووثقنا مفاصلهم. جاء في (الكشاف): "الأسر: الربط والتوثيق ... والمعنى شددنا توصيل عظامهم بعضها ببعض وتوثيق مفاصلهم بالأعصاب، ومثله قولهم: جارية معصوبة الخلق ومجدولته" (1).
وأكد الضمير بان في أول السورة فقال: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ} ولم يؤكد ههنا، وذلك أنه ذكر في أول السورة خلق الإنسان بعد أن لم يكن شيئًا مذكورًا، وهذا أصعب من خلق الإنسان فيما بعد، فإن الإيجاد الأول أصعب من الخلق فيما بعد، فإنه ذكر في هذه الآية خلقهم هم، وذكر في أول السورة خلق الإنسان بعد أن لم يكن شيئًا مذكورًا.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن إخبارهم بأن الله خلقهم غير منازع فيه عندهم، فإنهم يعتقدون أن الله خلقهم، ولكنهم لا يعلمون أو ينازعون في أن الخلق لم يكن ثم كان، فإن قسمًا من الناس يرون أن سلسلة الوجود ليس لها بداية، بل هي متسلسلة منذ الأزل، فالمسألة هذه متنازع فيها.
وهناك أمر آخر حسن التوكيد في أول السورة، وهو أنه ذكر أن الخلق إنما هو للابتلاء، إذ ليس كل أحد يعلم أن الإنسان خلق ليبتليه ربه ويختبره، بل هذا الأمر منازع فيه، وهو مجهول عند أكثر الناس. ولذا حسن التوكيد في أول السورة دون هذا الموطن.
{وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا}
جاء بـ (إذا) ولم يقل: (وإن شئنا)، ذلك أن (إذا) تستعمل للدلالة على المتيقن والمقطوع بحدوثه، أو الكثير الحدوث. وهذا إشعار بأن الله سيبدل أمثال هؤلاء الكفرة في الخلقة ويأتي بمؤمنين يؤمنون بما نزَّل خالقهم مطيعون له.
فالمشيئة حاصلة بذاك وستتم وقد تمت.
جاء في (التفسير الكبير): "لما كان الله تعالى عالمًا بأنه سيجيئ وقت يبدل الله فيه أولئك الكفرة بأمثالهم في الخلقة وأضدادهم في الطاعة لا جرم حسن استعمال حرف (إذا)" (2).
والمجيء بـ (إذا) ههنا نظير قوله تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ} [عبس: 21 – 22]، وقوله: {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى: 29] فالمشيئة حاصلة ولابد، فإن الموتى سيبعثهم الله، فجاء بـ (إذا) للدلالة على تيقن الحصول.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 265 إلى ص 267.
(1) الكشاف 3/300.
(2) التفسير الكبير 30/261، وانظر أنوار التنزيل 776.
{إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29)}
هذه الآية نظير قوله تعالى في أول السورة: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} والتخيير ههنا كالتخيير ثم، فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا فيكون شاكرًا وإلا فهو كفور. وقوله: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} نظير قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} فهذه التذكرة هي الهداية.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 267 إلى ص 267.