قوله تعالى: (فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم) وكذلك في المائدة والنحل (4) . وفى الأنعام: فإن ربك غفور رحيم؟ .
جوابه: لما صدر آية الأنعام بقوله تعالى: قل لا أجد في ما أوحي إلي ناسب قوله:، قل، وإلى،: (فإن ربك) . وبقية الآيات المذكورات خطاب من الله تعالى للناس، فناسب: (فإن الله غفور رحيم أي: فإن الله المرخص لكم في ذلك. فإن قيل: فلم لم يقل: فإن ربكم؟ قلنا: لأن إيراده في خطاب النبي - صلى الله عليه وسلم – لا يوهم غيره، لاسيما والخطاب عام)
قوله تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [المائدة: 3].
الإكمال يكون بإزالة النقص العارض، والإمام يكون بإزالة بعض النقص في الأصل، وقد ورد في الآية إكمال الدين وإتمام النعمة؛ فالنقص في الدين كان عارضة، فزال بعد الإكمال، وأما نقصان النعمة فشيء لا بد منه، ولا يمكن أن تكمل نعمة، فإذا ملك الإنسان المال فقد يحرم الصحة، وقديما قيل: (ليس تكاد الدنيا تسقي صفوة إلا اعترض في صفائها أي باطن).
وقال ابن عبد ربه الأندلسي: ألا إنما الدنيا نضارة أية إذا اخضر منها جانب جف جان
وقال قيس بن الخطيم: ومن عادة الأيام أن خطوبها إذا سر منها جانب ساء جانب
ولذلك استعمل الإتمام مع النعمة في قوله تعالى: وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [المائدة: 6]. وقوله : وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [يوسف:6]. وقوله : كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ
[النحل: ۸۱]. وقوله : وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [الفتح:۲]
والشعراء لا تستعمل مع النعمة إلا الإتمام أيضا، قال عدي بن الرقاع العاملي صلی الإله على امرى ودعتة وأتم نعمته عليه وزادها
وقال جرير : اتق الله نعمته عليكم وزاد الله مملكتم تماما
وقال علي بن الجهم : أتم الله نعمته عليه فان تمامها نعم علينا
وقال أبو قابوس العبادي يمدح يحیی بن خالد البرمكي: رأيت يحيي أتم الله نعمته عليه ياتي الذي لم ياته أحد ينسى الذي كان من معروفه أبدا إلى الرجال ولا ينسي الذي يعد
وقال الأخطل : بني أمية نغماکم مجلة تمت فلامئة فيها ولا كدر
فالإكمال في اللغة إذا أعظم من الإتمام.
وقد وقف ابن القيم - رحمه الله تعالى - أمام هذه الآية العظيمة وقفة تأمل، فقال : «تأمل محسن اقتران التمام بالنعمة، وحسن اقتران الكمال بالدين، وإضافة الدين إليهم؛ إذ هم القائمون به المقيمون له، وأضاف النعمة إليه؛ إذ هو وليها ومسديها والمنعم بها عليهم، فهي نعمة حقا، وهم قابلوها.
وأتى في الكمال باللام المؤذنة بالاختصاص، وأنه شيء خصوا به دون الأم، وأتي في إتمام النعمة ب وعلى المؤذنة بالاستعلاء والشمول والإحاطة، وجاء به أتممت في مقابلة و أكملت ، و عليكم و في مقابلة ولكمه ، و نعمتی به في مقابلة في دينكم ، وأكد ذلك، وزاده تقريرا وكمالا وإتماما للنعمة بقوله : ورضيت لكم الإسلام دينا»
إن هذه السورة مرتبطة بخواتيم السورة التي قبلها وهي سورة (طه) من أكثر من وجه منها:
1- أنه قال في خواتيم سورة طه:
{وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى}
وقال في أول سورة الأنبياء:
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ}
وممل قيل في الأجل المسمى المذكور في آية طه أنه يوم القيامة (1) وهو موعد الحساب.
2- قال سبحانه في خواتيم سورة طه:
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)}
أي أتتك آياتنا فأعرضت عنها.
وقال سبحانه في أول سورة الأنبياء: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } فكلتا الآيتين في المعرضين عن آيات ربهم.
3- قال في أواخر سورة طه: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ}
وقال في أول سورة الأنبياء: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) }
وقال فبها أيضًا: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ (5) }
فأمره في طه أن يصبر على ما قالوه في الأنبياء.
4- وقال في أواخر طه:
{وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآَيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133)}
وقال في أول الأنبياء:
{فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)}
فكلتا الآيتين في طلب آية.
جاء في (البحر المحيط): "مناسبة هذه السورة لما قبلها أنه لما ذكر: {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا} [طه: 135] قال مشركو قريش: محمد يهددنا بالمعاد والجزاء على الأعمال، وليس يصح، وإن يصح ففيه بعد فأنزل الله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} (2).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 5 إلى ص 6.
(1) انظر روح المعاني 16/280.
(2) البحر المحيط 6/295 وانظر كتابنا (التناسب بين السورة في المفتتح والخواتيم) 116.
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) }
يحتمل أن يكون أصل التعبير (اقترب حساب الناس) ثم (اقترب الحساب للناس) بذكر اللام التي تفيد الاختصاص والاستحقاق.
ثم قدم الجار والمجرور للاهتمام والتهويل وهو المهم فقال: (اقترب للناس الحساب)، ثم أضيف (الحساب) إليهم ليكون مختصًا بهم، وفيه تهديد أكبر فقال: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}
ثم {اقْتَرَبَ} يفيد المبالغة في القرب، فإن (افتعل) أدل على المبالغة من (فُعَل)، والأصل (قرب).
وقيل: إن اللام متعلقة بـ (اقترب)، واللام بمعنى (إلى) أو معنى (من)، والمعنى (اقترب من الناس حسابهم) أو (اقترب إلى الناس حسابهم). وقد ذكر هذين الاحتمالين صاحب (الكشاف) فقال: "هذه اللام لا تخلو من أن تكون صلة لـ (اقترب)، أو تأكيدًا لإضافة الحساب إليهم، كقولك: (أزف للحي رحيلهم)، الأصل: أزف رحيل الحي، ثم أزف للحي الرحيل، ثم أزف للحي رحيلهم... ومنه قوله: (لا أبالك) لأن اللام مؤكدة لمعنى الإضافة... والمراد اقتراب الساعة، وإذا اقتربت الساعة فقد اقترب ما يكون فيها من الحساب والثواب والعقاب وغير ذلك. ونحوه: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} [الأنبياء: 97] (1).
ومنع قسم من النحاة أن يكون (للناس) متعلقًا بالحساب؛ لأن (الحساب) مصدر ولا يتقدم معموله عليه. جاء في (البحر المحيط): "و(للناس) متعلق بـ اقترب... وأما جعله اللام تأكيدًا لإضافة الحساب إليهم مع تقدم اللام ودخولها على الاسم الظاهر فلا نعلم أحدًا يقول ذلك، وأيضًا فيحتاج إلى ما يتعلق به، ولا يمكن تعليقها بـ (حسابهم) لأنه مصدر موصول ولا يتقدم معموله عليه" (2).
وذهب بعضهم إلى إجازة ذلك، جاء في (شرح الرضي على الكافية): "وأنا لا أرى منعًا من تقدم معموله عليه إذا كان ظرفاً أو شبهه نحو قولك: (اللهم ارزقني من عدوك البراءة وإليك الفرار)، قال تعالى: {وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ} [النور: ٢]، وقال: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} [الصافات: ۱۰۲]... ومثله في كلامهم كثير، وتقدير الفعل في مثله تكلف (3).
ونحوه قوله: {لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا} [الكهف: 108]، وقولهم: (اللهم اجعل لنا من أمرنا فرجًا ومخرجًا)، وجعل الظرف متعلقًا بمحذوف حالاً من المصدر تكلف (4).
إن تقديم الجار والمجرور (للناس) احتمل معنيين:
الأول: أنه بمعنى اقترب من الناس أو إليهم فيكون متعلقًا بالفعل (اقترب). وعليه الأكثرون.
والمعنى الآخر: أن يكون متعلقًا بالحساب، أي اقترب الحساب للناس، أي حساب الناس. كما أجازه جماعة من النحاة.
فأفاد التقديم المعنيين واحتملهما، بخلاف ما لو أخر الجار والمجرور فقال: (اقترب الحساب للناس).
ثـم إن تقـديـم (للنـاس) سـوغ ذكـر الضميـر فـي الحساب فقـال: (حسابهم)، ولو أخر الجار والمجرور فقال: (اقترب حساب الناس) أو: الحساب للناس لم يكن للضمير موضع.
فذكر في التعبير: الناس مع ضميرهم، وهذا يفيد ضربًا من التأكيد.
وفي إسناد الاقتراب إلى الحساب تهويل وتفخيم، فكأن الحساب يحث السير والسعي للوصول إليهم، فهو استعارة تمثيلية، فكأن الحساب شخص مغير معجل الإغارة للوصول إلى الناس.
جاء في (تفسير أبي السعود): "وفي إسناد الاقتراب المنبئ عن التوجه نحوهم إلى الحساب مع إمكان العكس بأن يعتبر التوجه والإعراض من جهتهم نحوه من تفخيم شأنه وتهويل أمره ما لا يخفى لما فيه من تصويره بصورة شيء مقبل عليهم لا يزال يطلبهم ويصيبهم لا محالة" (5).
وجاء في (التحرير والتنوير): "الاقتراب مبالغة في القرب...
وفي إسناد الاقتراب إلى الحساب استعارة تمثيلية، شبه حال إظلال الحساب لهم بحالة شخص يسعى ليقرب من ديار ناس.
ففيه تشبيه هيئة الحساب المعقولة بهيئة محسوسة وهي هيئة المغير والمعجل في الإغارة على القوم يلح في السير تكلفًا للقرب من ديارهم وهـم غافلون عن تطلب الحساب إياهم كما يكون قوم غازين معرضين عن اقتراب العدو منهم" (6).
{لِلنَّاسِ}
قيل: إن المقصود بالناس مشركو مكة، وقيل: المشركون مطلقًا وقيل: هو عام في منكري البعث (7)، وقيل: إن المراد بالناس العموم (8).
والذي يبدو أن المقصود بالناس كل من اتصف بالغفلة والإعراض. وإطلاق لفظ الناس على هؤلاء من باب المجاز المرسل والعلاقة الكلية، فقد ذكر الكل وأراد قسمًا منهم.
جاء في (الكشاف): "وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن المراد بالناس المشركون. وهذا من إطلاق اسم الجنس على بعضه للدليل القائم وهو ما يتلوه من صفات المشركين" (9).
{وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}
وصفهم بالغفلة والإعراض، وقيل: إن هذين الوصفين ظاهرهما التنافي، فإن الغافل غير المعرض، فإن المعرض عن الشيء إنما يكون إذا كان ذاكرًا له.
وقيل: إنهما وصفان باعتبار حالين مختلفين، فإنهم غافلون فإذا ذكرتهم أعرضوا. جاء في (الكشاف): "وصفهم بالغفلة مع الإعراض، على معنى أنهم غافلون عن حسابهم ساهون لا يتفكرون في عاقبتهم...
وإذا قرعت لهم العصا ونبهوا عن سنة الغفلة وفطنوا لذلك بما يتلى عليهم من الآيات والنذر أعرضوا وسدوا أسماعهم ونفروا" (10).
وجاء في (البحر المحيط): "وأخبر عنهم بخبرين ظاهرهما التنافي لأن الغفلة عن الشيء والإعراض عنه متنافيان، لكن يجمع بينهما باختلاف حالين. أخبر عنهم أولًا أنهم لا يتفكرون في عاقبة أمرهم بل هم غافلون عما يؤول إليه أمرهم.
ثم أخبر عنهم ثانيًا أنهم إذا نبهوا من سنة الغفلة وذكروا بما يؤول إليه أمر المحسن والمسيء أعرضوا عنه ولم يبالوا بذلك" (11).
وقال: (في غفلة) بذكر (في) الظرفية، ولم يقل: (غافلون)، للدلالة على أنهم ساقطون في الغفلة وأن الغفلة محيطة بهم من كل الجهات وهم مغمورون فيها. جاء في (التحرير والتنوير): "ودلت (في) على الظرفية المجازية التي هي شدة تمكن الوصف منهم، أي وهم غافلون أشد الغفلة حتى كأنهم منغمسون فيها أو مظروفون في محيطها" (12).
ولم يرد نحو هذا التعبير في القرآن الكريم إلا في اليوم الآخر.
قال تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ} [مريم: 39]
وقال: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء: ۹۷].
وقال: {لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: ۲۲].
وآية الأنبياء هذه.
وذلك أشد الغفلة.
وجاء بالإعراض بالصيغة الاسمية فقال: {مُعْرِضُونَ } للدلالة على الثبات والدوام.
والوصف بالإعراض الثابت الدائم مناسب لهذه الغفلة العظيمة الغامرة.
وفي الآية مبالغات عديدة منها:
أنه قال: {اقْتَرَبَ } ولم يقل: (قرب) وهو مبالغة في القرب.
وقال: (للناس) فأطلق الكل على الجزء وهم المشركون أو المتصفون بـ هذين الوصفين وهو مبالغة.
وقدم الجار والمجرور للاهتمام والتهويل، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى أنه أفاد التوسع في المعنى، فقد يحتمل أن يكون {لِلنَّاسِ} متعلقًا بـ {اقْتَرَبَ }، ويحتمل أن يكون متعلقًا بالحساب، فأفاد معنيين وهو توسع في المعنى.
وأضاف الحساب إلى الناس فقال: {حِسَابُهُمْ} تهويلاً وإنذارًا شديدًا، ولم يقل: (اقترب للناس الحساب).
وقال: {فِي غَفْلَةٍ} ولم يقل: (غافلون) للدلالة على تمكن الغفلة منهم وأنهم ساقطون فيها كالساقط في اللجة. وقال: {مُعْرِضُونَ} بالاسم للدلالة على الثبات والدوام.
وجمع بين الغفلة والإعراض. فهم في غفلة فإذا ذكروا أعرضوا.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 7 إلى ص 12.
(1) الكشاف ۲/۳۲۰.
(۲) البحر المحيط 6 / ٢٩٥ - ٢٩٦.
(۳) شرح الرضي على الكافية 3/406.
(٤) حاشية الخضري على شرح ابن عقيل ۲/۲۲.
(5) تفسير أبي السعود ٣/٦٨٢.
(6) التحرير والتنوير ۱۷/8 – 9.
(7) انظر الكشاف ۲/۳۲۰، البحر المحيط 295.
(8) فتح القدير 3/٣٨٤.
(9) الكشاف ۲/۳۲۰.
(10) الكشاف ۲/۳۲۰.
(11) البحر المحيط 6/٢٩٦.
(12) التحرير والتنوير ۱۷/۱۰.
إن سورتي الفلق والناس جمعتا الاستعادة من جميع الشرور الظاهرة والخفية، فإن سورة الفلق تضمنت الاستعاذة من شرور القوى المنظورة والخفية مما لا يملك الإنسان دفعه ولا حيلة فيه، فهي استعاذة من الشر الواقع عليه من غيره.
وأما سورة الناس فهي استعاذة من ظلم الإنسان لنفسه ولغيره، وهو الشر الذي توسوس به نفسه، فهو الشر الصادر من الداخل.
فالشر في سورة الفلق مما لا يدخل تحت التكليف ولا يطلب منه الكف عنه؛ لأنه ليس من كبسه وهو غير محاسب عليه.
وأما الشر في سورة الناس فهو مما يدخل تحت التكليف ومتعلق به النهي، وهو مما يحاسب عليه المرء.
جاء في (التفسير القيم): "الشر الذي يصب العبد لا يخلو من قسمين:
إما ذنوب وقعت منه يعاقب عليها، فيكون وقوع ذلك بفعله وقصده وسعيه، ويكون هذا الشر هو الذنوب وموجباتها، وهو أعظم الشرين وأدومهما وأشدهما اتصالًا بصاحبه.
وإما شر واقع به من غيره، وذلك الغير إما مكلف أو غير مكلف، والمكلف إما نظيره وهو الإنسان، أو ليس نظيره وهو الجني. وغير المكلف مثل الهوام وذوات الحمة و غيرها.
فتضمنت هاتان السورتان الاستعاذة من هذه الشرور كلها بأوجز لفظ وأجمعه، وأدله على المراد، وأعمه استعاذ منه فيهما" (1).
وجاء فيه أيضًا أن سروة الناس "مشتملة على الاستعاذة من الشر الذي هو سبب الذنوب والمعاصي كلها، وهو الشر الداخل في الإنسان، الذي هو منشأ العقوبات في الدنيا والآخرة.
فسورة الفلق تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو ظلم الغير له بالسحر والحسد، وهو شر من خارج.
وسورة الناس تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه، وهو شر داخل.
فالشر الأول لا يدخل تحت التكليف، ولا يطلب منه الكف عنه؛ لأنه ليس من كبسه.
والشر الثاني في سورة الناس يدخل تحت التكليف ويتعلق به النهي، فهذا شر المعايب، والأول شر المصائب. والشر كله يرجع إلى العيوب والمصائب ولا ثالث لهما" (2).
فسورة الفلق تضمنت الاستعاذة من شرور إذا وقعت على المسلم المحتسب دخلت في صحيفة حسناته؛ لأنها من المصائب الواقعة عليه، وهو يؤجر عليها حتى الشوكة يشاكها.
وسورة الناس تضمنت الاستعاذة مما يدخل في صحيفة سيئاته، فجمعت هاتان السورتان كمال الاستعاذة.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 27 إلى ص 28.
(1) التفسير القيم 543 – 544.
(2) التفسير القيم 599 – 600.
{هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1)}
تذكر السورة الإنسان قبل وجوده، وتذكره وهو نطفة أمشاج، وتذكره وهو إنسان مكلف، وبعد خروجه من الدنيا إلى النعيم والملك الكبير أو إلى الأغلال والسعير.
{هَلْ أَتَى}
اتفق المفسرون على أن (هل) بمعنى (قد) (1) على أن الاستفهام للتقرير، أي (أقد أتى على الإنسان حين من الدهر؟)، فإن معنى {هَلْ أَتَى}: (أقد أتى) بقد المسبوقة بهمزة الاستفهام، وليس معناها (قد أتى) من دون استفهما. والمراد بها التقرير، أي أن تستجوب المخاطب وتقرره بأمر قد علمه فتقول له: (هل أتى على الإنسان ذلك؟) فلابد أن يقول مقرًّا معترفًا بذلك: نعم قد أتى عليه. كما تقول لشخص قد أعطيته وأرضيته: هل أعطيتك وأرضيتك؟ فيقول لك: نعم.
وهو أبلغ من مجرد الإخبار بأن تقول له: قد أعطيتك وقد كفيتك؛ لأن هذا إخبار من المتكلم دون أن يًقرّ به المخاطب ويعترف به، بخلاف ما إذا سبقه الاستفهام التقريري.
فإذا أقرّ – ولابد – بأنه أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا، قيل له: ومن الذي خلقه وأوجده؟
جاء في (الكشاف): "هل بمعنى (قد) في الاستفهام خاصة، والأصل: أهل، بدليل قوله:
أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم
فالمعنى (أقد أتى) على التقرير والتقريب جميعًا، أي أتى على الإنسان قبل زمن قريب حين من الدهر لم يكن فيه شيئًا مذكورًا، أي كان شيئًا منسيًّا غير مذكور نطفة في الأصلاب" (2).
وجاء في (التفسير الكبير): "اتفقوا على أن (هل) ههنا وفي قوله: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} بمعنى قد، كما تقول: هل رأيت صنيع فلان؟ وقد علمت أنه قد رآه، وتقول: هل وعظتك وهل أعطيتك، ومقصودك أن تقرره بأنك قد أعطيته ووعظته" (3).
وجاء في (روح المعاني): {هَلْ أَتَى} "أصله على ما قيل (أهل) على أن الاستفهام للتقرير، أي الحمل على الإقرار بما دخلت عليه، والمقرر به من ينكر البعث، وقد علم أنهم يقولون: نعم قد مضى على الإنسان حين لم يكن كذلك. فيقال: فالذي أوجده بعد أن لم يكن كيف يمتنع عليه إحياؤه بعد موته، و(هل) بمعنى (قد) وهي للتقريب ... فلما سدت (هل) مسدّ الهمزة دلت على معناها ومعنى الهمزة معًا، ثم صارت حقيقة في ذلك، فهي للتقرير والتقريب" (4).
وجاء في (فتح القدير): "قيل: هي وإن كانت بمعنى (قد) ففيها معنى الاستفهام، والأصل: أهل أتى، فالمعنى؛ أقد أتى، والاستفهام للتقرير والتقريب" (5).
{عَلَى الْإِنْسَانِ}
اختلف في المقصود بالإنسان في هذه الآية أهو آدم عليه السلام فيكون المقصود بقوله: {لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} منذ خلقه الله من طين إلى أن نفخ فيه الروح، فإنه كان شيئًا ولم يكن مذكورًا، أم هو جنس الإنسان، أي بنو آدم، بدليل قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ}، فإن كل واحد من بني آدم لم يكن شيئًا أصلاً، ثم كان شيئًا غير مذكور وهو نطفة في الرحم، ثم كان إنسانًا مذكورًا فيما بعد، والآية تحتملهما، والراجح عندي أن الإنسان في هذه الآية آدم وفي الآية بعدها جنس الإنسان، فذكر الإنسان الأول ومن تلاه.
وجاء في (البحر المحيط): "والإنسان هنا جنس بني آدم، والحين الذي مرَّ عليه إما حين عدمه وإما حين كونه نطفة وانتقاله من رتبة إلى رتبة حتى حين إمكان خطابه، فإنه في تلك المدة لا ذكر له، وسمي إنسانًا باعتبار ما صار إليه.
وقيل: آدم عليه الصلاة والسلام، والحين الذي مر عليه هي المدة التي بقى فيها إلى أن نفخ فيه الروح" (6).
وجاء في (التفسير الكبير): "اختلفوا في الإنسان المذكور ههنا:
فقال جماعة من المفسرين: يريد آدم عليه السلام، ومن ذهب إلى هذا قال: إن الله تعالى ذكر خلق آدم في هذه الآية، ثم عقب بذكر ولده في قوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ}.
والقول الثاني: أن المراد بالإنسان بنو آدم، بدليل قوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} فالإنسان في الموضعين واحد ...
واعلم أن الغرض من هذا التنبيه على أن الإنسان محدث، ومتى كان كذلك فلابد من محدث قادر" (7).
{لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا}
تحتمل الآية أكثر من معنى، فإنها تحتمل أنه أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا أصلاً لا مذكورًا ولا غير مذكور، مثل قوله تعالى: {أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم: 67]، وقوله: {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9].
وتحتمل أن النفي موجه للقيد، أي كان شيئًا ولم يكن مذكورًا، فإن مثل هذه التعبيرات تحتمل نفي الأصل، كما تحتمل نفي القيد. ومثل ذلك قوله تعالى: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة: 273] والمعنى: لا يسألونهم أصلاً لا ملحفين ولا غير ملحفين. وتحتمل نفي القيد وحده ولا يتوجه إلى الأصل، وذلك كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} [الأنبياء: 16]، فإنه نفى اللعب ولم ينف خلق السماوات والأرض.
والآية هنا تحتمل المعنيين، فإنه أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئًا أصلاً، ثم أتى عليه حين قد كان فيه شيئًا ولم يكن مذكورًا.
وقد تقول: إذا كان المقصود هو المعنى الأول، فلم ذكر القيد، ولِمَ لَمْ يقل كما قال في موطن آخر: {وَلَمْ يَكُ شَيْئًا}؟
والجواب: أن ذكر كلمة (مذكور) له أكثر من سبب ويؤدي أكثر من فائدة، منها: أن ذكرها يدل على تطور الإنسان ووجوده في جميع المراحل:
فإنه لم يكن شيئًا، ثم كان شيئًا غير مذكور، ثم كان شيئًا مذكورًا، بخلاف ما إذا حذف كلمة (مذكور) فإنه يقفز المرحلة الوسطى.
ثم إن ذكرها مناسب للآية بعدها، وهو قوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} فإن الإنسان في الرحم حين كان نطفة أمشاجًا كان شيئًا ولم يكن مذكورًا، ومناسب لقوله في السورة: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا} فإن هذا يفيد أنه صار فيما بعد شيئًا مذكورًا.
وأما عدم ذكرها في آيتي مريم فهو المناسب أيضًا، يوضح ذلك السياق الذي وردت فيه الآيتان؛ أما الآية الأولى فهي إيضاح لنبي الله زكريا حين بشره الله بيحيى واستبعد ذلك زكريا بقوله: {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا} [مريم: 8] فتعجب كيف يكون له غلام وهذا حال وحال امرأته؟ فقال رب العزة: {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا} [مريم: 9].
فإذا كان رب العزة خلقه، ولم يك شيئًا أصلاً كان أهون عليه أن يخلق ولدًا من أبوين، ولا شك أن الخلق من العدم أصعب في ميزان العقل من الخلق من شيء وإن لم يكن مذكورًا، فإنه في حالة كونه شيئًا غير مذكور هو موجود على هيئة ما أو في حالة ما أو في طور ما لكنه غير مذكور، فالحالة الأولى – وهي خلقه من العدم – أبعد، وهو مع ذلك أوجده، ثم إنه لو قال: (وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئًا مذكورًا) لقال: رب لقد كنت شيئًا وإن لم أكن مذكورًا فخلقتني، وأما الغلام الذي وعدتني به فليس له وجود أصلاً، فالأمر مختلف.
وكذلك الآية الأخرى في السورة نفسها، وهو قوله: {وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا} [مريم: 66 – 67] فإن الإنسان يستبعد إخراجه حيًّا بعد الموت، فيقول له رب العزة: لقد خلقتك من قبل ولم تك شيئًا أصلاً، والإعادة أيسر من الابتداء، ثم إن المادة بعد موت الإنسان موجودة في حين ابتدأ الله خلقه ولم يك شيئًا أصلاً، فالخلق الأول أدل على القدرة، ولا يناسب في هذا المقام أن يقول: (ولم يك شيئًا مذكورًا) لأن ذلك يعني أنه كان شيئًا غير أنه لم يكن مذكورًا، والحالة الأولى أدلّ على القدرة.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه بعد الموت هو شيء لكنه غير مذكور، فلو قال: (ولم يك شيئًا مذكورًا) لأشبهت هذه الحالة حالته بعد الموت في أنه شيء غير مذكور.
في حين أراد أن يدلل على عظيم قدرته في الإنشاء والابتداء ليدل على سهولة الإعادة والإخراج، فكان كل تعبير في مكانه هو الأنسب.
ثم لننظر من ناحية أخرى نظم الآية { هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ ...} فإنه استعمل (أتى) بدل (جاء) ذلك أن بعض أهل اللغة فرق بين الإتيان والمجيء، فذكر أن (الإتيان) يفيد المجيء بسهولة (8). وقد استبان لي من النظر في التعبير القرآني أنه يستعمل المجيء لما فيه صعوبة ومشقة أو لما هو أصعب وأشق مما تستعمل له (أتى)، وقد بينت ذلك بصورة وافية في كتابي (لمسات بيانية في نصوص من التنزيل) في شرح قصة موسى في سورتي النمل والقصص.
فاستعمل (أتى) ههنا؛ لأن إتيان الدهر على الإنسان في هذه الحال ليس فيه مشقة ولا صعوبة عليه، فهو إما لم يكن شيئًا، أو كان شيئًا ولم يكن مذكورًا، وفي كلتا الحالتين ليس في إتيان الدهر عليه مشقة أو صعوبة، فاستعمل (أتى) دون (جاء).
ثم إنه قدم الجار والمجرور على الفاعل فقال: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} ذلك لأن الجار والمجرور أهم، فإن الإنسان هو مدار الحديث وليس الدهر، فإن الدهر يمر ولا يقف في حال، فالقول: إن الدهر يأتي ليس فيه فائدة كبيرة، بخلاف ذكر المأتى عليه وهو الإنسان.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 203 إلى ص 210.
(1) التفسير الكبير 30/235.
(2) الكشاف 3/295، وانظر البحر المحيط 8/393.
(3) التفسير الكبير 30/235، وانظر معاني القرآن 3/213.
(4) روح المعاني 29/150.
(5) فتح القدير 5/334.
(6) البحر المحيط 8/393.
(7) التفسير الكبير 30/235 – 236.
(8) مفردات الراغب 6، 102.
{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) }
لما ذكر أن الإنسان أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا، واستدعى ذلك النظر فيمن أوجده وخلقه قال: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} فنسب الخلق إلى نفسه سبحانه بضمير التعظيم وأكده بإن؛ لأن ذلك يستدعي التعظيم ويستدعي التوكيد.
وقد ذكر ضمير الخالق مرتين: مرة مع (إن) فقال: (إنّا)، ومرة مع الفعل خلق فقال: (خلقنا)، للدلالة على أنه هو الخالق وحده، وأنه ليس معه شريك. وقال: (نبتليه) بإسناد الابتلاء إليه ليعلم أن المبتلى هو الخالق. ثم أسند كل الأفعال إليه ليعلم أنه هو صاحبها لا غيره. ولم يبن فعلاً للمجهول، فإنه لو فعل ذلك لم يفد هذه الفائدة. ولأنه هو الخالق وهو الذي امتن عليه بالنعم فجعله سميعًا بصيرًا مميزًا استحق أن يعبد ويشكر.
و(الإنسان) هنا بنو آدم وليس آدم، بدليل قوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} فإن آدم لم يخلق من نطفة (1).
والذي يترجح عندي – والله أعلم – قول من ذهب إلى أن المقصود بالإنسان المذكور في الآية الأولى هو آدم عليه السلام، وفي الآية هذه بنوه (2)، فيكون قد ذكر خلق آدم وبنيه، وهو أدل على القدرة وأظهر؛ لأن فيه نوعي الخلق: الإيجاد والاستمرار.
ولذا – والله أعلم – كرر كلمة (الإنسان) ولم يذكر الضمير فقال: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ .... إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} ولم يقل: (إنا خلقناه). ولو قال: (إنا خلقناه) لتعين أن يكون المقصود بالإنسان في الموضعين هم ذرية آدم ولم يشمل آدم. فكرر كلمة (الإنسان) ليحتمل أن يراد بالأول آدم وبالتالي ذريته فيشملهما جميعًا.
ومعنى (الأمشاج): الأخلاط، يقال: مشج يمشج مشجًا إذا خلط، ومشجه ومزجه بمعنى، والمشيج: الخليط، والممشوج: المخلوط (3).
وكلمة (أمشاج) تستعمل مفردًا وجمعًا، شأن كلمة هجان ودلاص وبشر وفلك وغيرها، فيقال في المفرد: مَشَج بفتحتين، كبطل وأبطال، ويقال: مشيج، كشريف وأشراف، وجمعهما أمشاج، ويقال في المفرد أمشاج أيضًا، كقولهم: برمة أعشار، وبرد أكباش، وثوب أسمال، وعلى هذا يقال: نطفة مَشَج، ونطفة مشيج، ونطفة أمشاج (4).
واختار كلمة (أمشاج) على المشَج والمشيج لكثرة ما فيها من أخلاط وامتزاجات، وربما وصف الشيء بالجمع لإرادة التكثير، فيقال مثلاً:
"بلد سبسب وبلد سباسب، كأنهم جعلوا كل جزء منه سبسبًا ثم جمعوه على هذا" (5).
"وتقول: أرض قفر ودار قفر، وأرض قفار ودار قفار، تجمع على سعتها لتوهم المواضع كل موضع على حياله قفر" (6).
فهذا إشارة إلى كثرة ما في النطفة من أخلاط على صغرها، ولا تفيد كلمة (مشج) أو (مشيج) هذا المعنى، والله أعلم.
{نَبْتَلِيهِ}
نختبره ونمتحنه، واختار (نبتلي) على (نبلوه) لبيان شدة الاختبار وقوته، فإن في (ابتلى) من الشدة والمبالغة ما ليس في (بلا)، ومعلوم أن (افتعل) فيه من المبالغة وقوة الحدث ما ليس في (فعل) وذلك كاكتسب وكسب واصطبر وصبر. ولو عدت إلى الاستعمال القرآني في (ابتلى) لو جدت ذلك واضحًا، قال تعالى بعد وقعة أحد وما أصابهم فيها: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154]. وقال في وقعة الأحزاب: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10 – 11].
والله سبحانه يبلو ويبتلي. وقد تقول: ولم قال ههنا: (نبتليه)، وقال في سورة (الملك): {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2]؟
والجواب: أن كل تعبير مناسب لموطنه، فقد ذكرنا أن (الابتلاء) أشد من البلاء، ولذا ذكر معه مما يصح معه الابتلاء ما لم يذكره في سورة الملك؛
1- فقد قال في سورة الملك: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} والمغفرة تقتضي التخفيف، بخلاف ما في سورة الإنسان.
2- ذكر في سورة الإنسان ما يصح معه الابتلاء من سمع وبصر وأنه هداه السبيل، فلما أطال في ذكر ما زوده بما يصح معه الابتلاء أطال وبالغ في البلاء، ولما خفف ولم يذكر ذلك في سورة الملك خفف في الفعل.
3- لم يذكر شيئًا من ابتلاء الأعمال في سورة الملك عدا ذكر الكافرين وذكر الذين يخشون ربهم فقال: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، وقال في وصف المؤمنين: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} ولم يذكر شيئًا من أعمال هؤلاء وأولئك، في حين ذكر في سورة الإنسان من أعمال هؤلاء وهؤلاء ما لم يذكره في سورة الملك، فذكر أن المؤمنين يوفون بالنذر ويخافون يومًا كان شره مستطيرًا، وأنهم يطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا.
وطلب من نبيه أن يصبر لحكم ربه وأن لا يطيع آثمًا أو كفورًا، كما طلب منه أن يذكر ربه بكرة وأصيلاً، وأن يسجد له ويسبحه ليلًا طويلاً، وأفاض في ذكر نعيم المؤمنين ما لم يفض في سورة الملك.
وكذلك بالنسبة إلى الكافرين، فقد ذكر أنهم {يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا}. وقال في ختام السورة: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}، فاقتضى ذلك أن يذكر الابتلاء ويطيل في صيغة الفعل ويبالغ فيه، بخلاف سورة الملك.
وقوله: (نبتليه) يحتمل معنيين:
المعنى الأول: التعليل، أي خلقناه لنبتليه، وهو مثل قولك: جئت أتعلم منك، أي لأتعلم، وجئت أشتري دارًا، أي لأشتري، وهذه الجملة استئنافية تفيد التعليل.
والمعنى الثاني: أن يكون حالًا مقدرة عن الفاعل، بمعنى: خلقناه مبتلين له، أي مريدين ابتلاءه، ومعنى الحال المقدرة أن تكون الحال واقعة في المستقبل، كقوله تعالى: {} فهو لم يكن نبيًّا حين التبشير. وقد يكون حالاً من المفعول، أي خلقناه مبتلى.
ولم يذكر لام التعليل كما في سورة (الملك) التي قال: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} وذلك ليجمع معنيي التعليل والحالية.
وقد تقول: ولِمَ لَمْ يفعل ذلك في سورة الملك ليجمع بينهما؟
والجواب: أن التعبير لا يحتمل ذلك، فقد قال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} فإنه ذكر علة خلق الموت والحياة لا علة خلق الإنسان، فلا يحسن أن يقول: (الذي خلق الموت والحياة يبلوكم) فناسب كل تعبير موضعه.
وقد تأتي الحال مفيدة للتعليل، كقولك: (جئت طالبًا للعلم) أي لطلب العلم، و(عبدت الله طامعًا في جنته) أي طمعًا، و(فعلت ذلك مبتغيًا رضوان الله) أي ابتغاء رضوان الله.
وعلى هذا يمكن أن تكون جملة (نبتليه) استئنافية تفيد التعليل، أو حالية مفيدة للتعليل، أو حالًا مقدرة من الفاعل وهو الله، أي مستقبلة بمعنى مبتلين له، أو حالًا من المفعول وهو الإنسان (7) أي مبتلى.
جاء في (التفسير الكبير): "أما قوله (نبتليه) ففيه مسائل:
(المسألة الأولى) نبتليه معناه لنبتليه، وهو كقول الرجل: (جئتك أقضي حقك) أي لأقضي حقك، و(أتيتك أستمنحك) أي لا ستمنحك، كذا قوله: (نبتليه) أي لنبتليه. ونظيره قوله: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6].
(المسألة الثانية): نبتليه في موضع الحال، أي خلقناه مبتلين له، يعني مريدين ابتلاءه" (8).
وجاء في (البحر المحيط): {نَبْتَلِيهِ} نختبره بالتكليف في الدنيا ... وعلى أن المعنى: نختبره بالتكليف، فهي في حالة مقدرة، لأنه تعالى حين خلقه من نطفة لم يكن مبتليًا له بالتكليف في ذلك الوقت" (9).
وجاء في (الكشاف): {نَبْتَلِيهِ} في موضع الحال، أي خلقناه مبتلين له، بمعنى: مريدين ابتلاءه، كقولك: مررت برجل معه صقر صائدًا به غدًا، تريد: قاصدًا به الصيد غدًا" (10).
وقد ذكر الله ههنا ما يصح معه الابتلاء ومستلزماته ومتعلقاته، فقد ذكر السمع والبصر والعقل، قال تعالى: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} ومعنى {هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} أرشدناه وعلمناه، وهذا يقتضي العقل وذكر الاختيار، ويشير إلى ذلك قوله: {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}. وذكر مادة الاختبار وهو المنهج الرباني الذي أشار إليه بقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ}، وهذه الأمور لا يصح الابتلاء من دونها.
ثم ذكر موقف المكلفين من هذا الاختبار أو الابتلاء، فذكر أنهم قسمان: شاكر وكفور، وذكر عاقبة هذا الاختبار أو الابتلاء وهي الجنة أو السعير، فذكر كل ما يتعلق بالاختبار من أركان وأحوال، فذكر المبتلى أو المختبر وهو الله وذلك قوله: (نبتليه)، وذكر المبتلى وهو (الإنسان)، وذكر موضوع الاختبار وهو قوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} وموقف المبتلى منه وعاقبته.
جاء في (التفسير الكبير): "ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر فقال: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} والسمع والبصر كنايتان عن الفهم والتمييز، كما قال تعالى حاكيًا عن إبراهيم عليه السلام: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ} [مريم: 42]" (11).
{فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا}
قَدَّم السمع على البصر، وهو الشأن في آيات القرآن التي اجتمع فيها السمع والبصر غالبًا، ذلك أن السمع أهم في باب الابتلاء والتكليف من البصر، فإن فاقد البصر يمكن أن يعي ويفهم ويبلغ، بخلاف فاقد السمع فإن من العسير تبليغه وإفهامه.
وقدمهما على الهداية فقال بعد هذه الآية: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} لأن السمع والبصر طريقان يوصلان المعلومات إلى العقل، ومن دونهما يعسر على العقل فهم المعلومات واستيعابها.
جاء في (التفسير الكبير): "الآية دالة على أن إعطاء الحواس كالمقدم على إعطاء العقل، والأمر كذلك" (12).
وجاء في (البحر المحيط): "وامتن تعالى عليه بجعله بهاتين الصفتين وهما كناية عن التمييز والفهم، إذ آلتهما سبب ذلك ... ولمَّا جعله بهذه المثابة أخبره تعالى أنه هداه إلى السبيل، أي أرشده إلى الطريق، وعرفنا مآل طريق النجاة ومآل طريق الهلاك، إذ أرشدناه طريق الهدى" (13).
ولم يفصل بين هاتين الصفتين بالواو، فلم يقل: (وجعلناه سميعًا وبصيرًا) لئلا يظن أنه جعل الإنسان قسمين قسمًا يسمع وقسمًا يبصر.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 210 إلى ص 216.
(1) انظر الكشاف 3/295، البحر المحيط 8/293.
(2) انظر التفسير الكبير 30/235.
(3) انظر الكشاف 3/295، البحر المحيط 8/391، التفسير الكبير 30/236.
(4) انظر الكشاف 3/295.
(5) لسان العرب (سبسب) 1/243.
(6) لسان العرب (قفر) 6/422.
(7) انظر فتح القدير 5/235.
(8) التفسير الكبير 30/237.
(9) البحر المحيط 8/394.
(10) الكشاف 3/295.
(11) التفسير الكبير 30/237.
(12) التفسير الكبير 30/237.
(13) البحر المحيط 8/394.
{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) }
قال: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} كما قال: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} فأكد الهداية بإنَّ كما أكد الخلق، لأن الهداية أمر مهم، وهي الغاية من خلق الإنسان، فهي لا تقل عن الخلق أهمية، بل ربما فاقته لأنها العلة الأولى للخلق، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] ولذلك كما قال: {إِنَّا خَلَقْنَا}، فنسب الخلق إلى نفسه بصيغة التعظيم وأكده بإن قال: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ} فنسبه إلى نفسه بصيغة التعظيم وأكده بإن.
ثم إن الهداية وهي تبيان المنهج الصحيح والصراط المستقيم أمر صعب لا يستطيعهما أحد غير الله، وقد ضل الناس فيها ضلالاً بعيدًا وتفرقوا شيعًا وأحزابًا وجماعات، فأسند ذلك إليه، فهو الخالق وهو الهادي، فهو مولي جميع النعم.
فمعنى {هَدَيْنَاهُ}: "بيناه له ووضحناه وبصرناه به، كقوله جل وعلا: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: ۱۷]" (1).
وقال: {هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} فعدى الفعل بنفسه إلى السبيل ولم يعده بإلى؛ وذلك لأن التعدية بإلى تقال لمن لم يكن في السبيل، والتعدية المباشرة تقال لمن كان فيه ولمن لم يكن فيه (2). فجمع في ذلك نوعي الهداية؛ الإيصال إلى السبيل وتعريفه به، فاستحق ربنا الشكر من كل ناحية.
{إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}
جاء بـ (شاكر) على صيغة اسم الفاعل، و(كفور) على المبالغة؛ ذلك أن الإنسان يبالغ في الكفر دون الشكر.
ولم يقل: (وإما شكورًا وإما كفورًا) ذلك أن الشكور من العباد قليل، قال تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] ولو قال ذلك لأخرج الشاكرين. جاء في (البحر المحيط): "ولما كان الشكر قَلَّ من يتصف به قال: (شاكرًا)، ولما كان الكفر كثر من يتصف به ويكثر وقوعه من الإنسان، بخلاف الشكر، جاء (كفورًا) بصيغة المبالغة، ولما ذكر الفريقين أتبعهما الوعيد والوعد" (3).
وجاء في (تفسير البيضاوي): "ولعله لم يقل: (كافرًا) ليطابق قسيمه محافظة على الفواصل وإشعارًا بأن الإنسان لا يخلو من كفران غالبًا، وإنما المؤاخذ به التوغل فيه" (4).
ثم إنه لم يقل: (كافرًا) لأمر آخر، ذلك أن القرآن لم يستعمل كلمة (كافر) بمقابل (شاكر)، وإنما يستعملها بمقابل (مؤمن)، قال تعالى: {فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} [التغابن : ٢].
بخلاف كلمة (كفور) فإنه يستعملها لما يقابل المؤمن ولما يقابل الشكور، قال تعالى: {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} [الزخرف: 15]، وقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} [فاطر: 36].
فههنا استعملها بما يقابل المؤمن، ذلك أن الذي يجعل الله من عباده جزءًا هو كافر غير مؤمن. وكذلك آية فاطر، فإنه واضح أن المقصود بالمذكورين فيها هم كفار وليسوا مؤمنين.
وفي سورة الإنسان استعملها لما يقابل الشاكر فقال: {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}.
وقال: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 27].
فالكفور هنا مبالغة من كفران النعم وهو ما يقابل الشكور، يدلك على ذلك اللام في (لربه) أي لنعم ربه، ولو كان يقصد بالكفور ما يقابل المؤمن لقال: (وكان الشيطان بربه كفورًا) فإن الكفر الذي هو نقيض الإيمان يعدى بالباء، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} [النساء: 150]، وقال: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد: 30]، وقال: {وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ} [الروم: 13]، وقال: {وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف: 30].
وقد تقول: ولكننا لا نقول: (هو يكفر الله).
فأقول: إذا كان الكفر بمعنى كفران النعم فإنا نقول: (هو يكفر الله) بتعدية الفعل بنفسه، قال تعالى: {وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} [البقرة : 152]، فإن جاء منه اسم الفاعل أو المبالغة صح أن يقوى باللام كقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج : 16]، وقوله: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} [البقرة : 97]، ونحو قوله: {وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 27].
جاء في (روح المعاني) في هذه الآية: "أي مبالغًا في كفران نعمه تعالى ... وفي تخصيص هذا الوصف بالذكر من بين صفاته القبيحة،
إيذان بأن التبذير الذي هو عبارة عن صرف نعم الله تعالى إلى غير مصرفها من باب الكفران المقابل للشكر ...
ويُشْعِر كلام بعضهم بجواز حمل الكفر هنا على ما يقابل الإيمان، وليس بذاك" (5)
فاستعمل في آية الإنسان الكفور لما يقابل الشاكر ولم يستعمل الكافر. واختار الشكر ههنا على الإيمان فلم يقل: (إما مؤمنًا وإما كفورًا)، ذلك لأن نعمة الخلق والهداية تستدعي الشكر لا مجرد الإيمان، وهو نظير قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23].
كما ناسب ذلك قوله تعالى في السورة: {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}، وقوله: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا}.
وهناك أمر آخر حسن اختيار الشكر، وهو أنه قال: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} فاستعمل كلمة (السبيل)، وذلك أن السبيل هو الطريق المسلوك الواضح السهل. جاء في (لسان العرب): "السبيل: الطريق وما وضح منه ... وسبيل سابلة: مسلوكة ... وأسبلت الطريق: كثرت سابلتها" (6).
قال تعالى: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس: 20] ولم يقل كما قال في سورة البلد: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10] والنجد: هو الأرض المرتفعة التي يشق سلوكها. ولا شك أن الهداية إلى السبيل الواضحة الميسرة أدعى إلى الشكر، ولذا قال في سورة البلد: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ}، وقال هنا: {إِمَّا شَاكِرًا}.
وقد تقول: ولم قدّم الشاكر على الكفور، في حين قدّم عذاب الكافرين على ثواب المطيعين؟
والجواب: أنه أفاض في جزاء الشاكرين، في حين اختصر عقاب الكافرين وأوجز فيه فناسب التقديم.
جاء في (تفسير البيضاوي): "وتقديم وعيدهم وقد تأخر ذكرهم؛ لأن الإنذار أهم وأنفع، وتصدير الكلام به وختمه بذكر المؤمنين أحسن" (7).
كما أن هذا التقديم في أول السورة نظير التقديم في آخرها في قوله: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} فقد قدم من رحمته ومنهم الشاكرون، وذكر بعدهم الظالمين ومنهم الكفور.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 217 إلى ص 221.
(1) تفسير ابن كثير 4/453.
(2) انظر روح المعاني 1/91، وانظر في كتابنا (لمسات بيانية) سورة الفاتحة.
(3) البحر المحيط 8/394.
(4) تفسير البيضاوي 774، وانظر روح المعاني 29/153.
(5) روح المعاني 15/63.
(6) لسان العرب (سبل) 13/340 – 341.
(7) أنوار التنزيل 744، وانظر روح المعاني 29/153.
{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4)}
أكد الإعتاد بإن؛ ذلك لأنه عاقبة ما تقدمه من الهداية، والهداية مؤكدة، فالعاقبة مؤكدة أيضًا.
وقد تقول: ولم قال: (أعتدنا) ولم يقل: (أعددنا)؟ وما الفرق بين الإعتاد والإعداد؟
والجواب: أن (أعتد) قريب من (أعد) في المعنى، غير أن في (أعتد) قربًا وحضورًا، ولا يشترط في (أعد) الحضور. قال تعالى: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق: 23] أي حاضر عندي قريب، وقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] أي هيئوا، وليس معناه أحضروا، وقال: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46] أي هيأوا، ولم يقل (أعتدوا) لأنه لا يريد الإحضار. جاء في (لسان العرب): "وشيء عتيد: مُعَدّ حاضر، وعتد الشيءُ عتادة فهو عتيد حاضر" (1).
وجاء في (التفسير الكبير): "الإعتاد هو إعداد الشيء حتى يكون عتيدًا حاضرًا متى احتيج إليه كقوله تعالى: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ}" (2).
ويدلك على ذلك الاستعمال القرآني، قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء : 18] فقال: (أعتدنا) لما كان هؤلاء من الموتى وهم كفار أو حضر أحدهم الموت وقد قرب العذاب منهم وأحضر فاستعمل (أعتدنا).
في حين قال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].
فقال: (أعدّ) وذلك لأن هؤلاء لا يزالون يتقلبون في حياتهم الدنيا .
وقال: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفرقان : 37].
فإنه لما ذكر أنه أغرقهم وجعلهم آية قال: (أعتدنا) لأن عذابهم حاضر وهم ذائقوه.
أما الجواب عن الاستعمال في هذه الآية فإنه لما ذكر جزاء أهل الجنة بصيغة الوقوع لا بصيغة أنه سيقع، وأن ما عندهم مُعَدّ حاضر، ناسب أن يقول في أهل النار كذلك. فقد ذكر أن الأبرار يشربون من كأس، وذكر أنه وقاهم شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورًا، وجزاهم بما صبروا جنة وحريرًا، فقد ذكر شأنهم وأحوالهم بالأفعال الماضية، فناسب أن يقول في أهل النار: (أعتدنا) للحضور والقرب.
بخلاف ما ورد في آخر السورة، فإنه لما ذكر أنه تعالى يدخل من يشاء في رحمته على الاستقبال ناسب أن يقول: {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ} (أعتد).
وهناك ملاحظة أخرى، وهي أنه لم يرد في القرآن استعمال (أعدّ) مسندًا إلى الضمير (نا)، فإنه لم يقل: (أعددنا)، كما لم يرد (أعتد) مسندًا إلى الله تعالى إلا بضمير التعظيم، أي (أعتدنا).
فإنه ورد (أعتدنا) والضمير يعود على الله، ولم يرد (أعددنا)، فكان هذا هو المناسب لما ورد في الاستعمال القرآني على العموم.
ثم إنه قال: {أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ} جمع الكافر، ولم يقل: (أعتدنا للكفر) جمع الكفور، وكان المظنون أنه لما قال: {وَإِمَّا كَفُورًا} أن يجمعه فيقول: (إنا أعتدنا للكفر) فما سبب ذلك؟
والجواب: أنه ذكر (الكافرين) ليشمل من بالغ في الكفر ومن لم يبالغ فيه. ولو قال: (للكُفًر) لظن ظان أن ذلك يتناول المبالغ في الكفر دون من لم يبالغ، ولظن أن هذا خاص بالكفور دون الكافر، فلما ذكر عاقبة الكافر شمل ذلك الكفور من باب أولى، وأنه سيلقى من العذاب أكبر مما ذكر، فإنه كما بالغ في الكفر يبالغ له في العذاب، فإذا كان هذا عذاب الكافر فما بالك بعذاب الكفور، وماذا أعتد له يا ترى؟
وقد ذكر العذاب بقوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} فذكر السلاسل والأغلال والسعير، وذلك أنه لما أطلق له الحرية والاختيار في الدنيا فقال: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} وهداه السبيل ليسلك فيها فلم يسلكها قيده في الآخرة ولم يتركه لمشيئته واختياره كما كان في الدنيا.
لقد قيده بالسلاسل وهي تقيد حركة الأرجل، وبالأغلال وهي تقيد حركة الأيدي والأعناق، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [يس: 8]، وقال: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: ٦٤] فالأغلال توضع في الأيدي وفي الأعناق، وبذلك قيد حركته على كل حال، فلم يترك له فرصة أو حالًا للحركة والاختيار بمقابل حريته واختياره في الدنيا.
إن هذا ما اختاره هو والسبيل التي آثرها، والله لا يظلم الناس شيئًا ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 221 إلى ص 224.
(1) لسان العرب (عتد) 4/269.
(2) التفسير الكبير 30/240.
{إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6)}
يستعمل القرآن (الأبرار) لبني آدم، ويستعمل البررة للملائكة. ولم يستعمل الأبرار للملائكة ولا البررة ل لأناسي، قال تعالى: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 15 – 16] يعني الملائكة. إن (الأبرار) من جموع القلة فاستعملها للقلة النسبية، ذلك أن الأبرار قلة من بني آدم، وأما الملائكة فكلهم بررة فاستعمل لهم جمع الكثرة.
جاء في (معاني الأبنية): "وقد يؤتى بجمع القلة للدلالة على قلة نسبية لا حقيقية، بمعنى أنه إذا قيس المعدود بمقابله كان قليلًا، فيستعمل للأكثر جمع الكثرة، ولما هو دونه في الكثرة جمع القلة وإن كان كثيرًا في ذاته، فمن ذلك استعمال الأبرار والبررة.
فقد وردت (الأبرار) في ستة مواطن من كتاب الله وهي كلها في المؤمنين، وهم ولا شك يزيدون على العشرة، قال تعالى: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} [آل عمران: 193]، وقال: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} [الإنسان: 5]،
وقال: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13 – 14]، وقال: {إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [المطففين: 22 – 23]، وقال: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ} [ آل عمران: 198]، وقال: {كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين: 18].
ولم يرد لفظ (البررة) إلا في موطن واحد وهو في صفة الملائكة وهو قوله تعالى: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 15 – 16] ولعل ذلك يعود إلى أن الأبرار إذا قيسوا بالفجار كانوا قلة، فجيء بالفجار على جمع الكثرة، والأبرار على جمع القلة، وهذا المعنى يذكره القرآن في أكثر من موطن،
من ذلك قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، وقوله : {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}[يوسف: 103]، وقوله: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنعام: 116] فجيء بالجمع للدلالة على الكثرة؛ لأنهم كلهم كذلك، بخلاف البشر" (1).
{يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ}
الكأس: هي الزجاجة إذا كان فيها شراب، فإن كانت فارغة فلا تسمى كأسًا، وإنما هي زجاجة (2).
ذكر في الآية صنفين من المؤمنين:
الأبرار، وذكر أنهم يشربون من كأس ممتزجة بالكافور، وذكر صنفًا آخر أسماه (عباد الله) قيل: وهم المقربون، وذكر أنهم يشربون من العين خالصة غير ممتزجة. جاء في (تفسير ابن كثير): "أي هذا الذي مزج لهؤلاء الأبرار من الكافور هو عين يشرب بها المقربون من عباد الله صرفًا بلا مزج ويروون بها، ولهذا ضمن (يشرب) معنى (يروي) حتى عداه بالباء، ونصب عينًا على التمييز" (3).
ومن الملاحظ أنه قال في الأبرار: {يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ}، وقال في المقربين: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} فعدّى الفعل (يشرب) مع الأبرار بمن وعداه مع المقربين بالباء، وذلك ليفرق بين جزاء الأبرار وجزاء المقربين، وليخبرنا أن جزاء المقربين أعلى، وذلك من عدة نواح منها:
1- أنه ذكر أن الأبرار يشربون من الكأس، وأما المقربون فإنهم يشربون من العين، فهم ينزلون بالعين ويشربون منها، فهم يتلذذون بالشرب وبالمكان. جاء في (معاني النحو):
"وفيها معنى آخر، وهو أن الباء تفيد الإلصاق، فقولك: (يشربون بالعين) معناه أنهم يكونون بها، كما تقول: (أقمنا بالعين وأكلنا وشربنا بها) أي هم قريبون من العين يشربون منها. بخلاف قولك: (يشربون منها) فإنه ليس فيه نص على معنى القرب من العين، فقولك: (أكلت من تفاح بستانك) لا يدل دلالة قاطعة على أنك كنت بالبستان، بل ربما حُمل
إليك.
فقوله: {يَشْرَبُ بِهَا} يدل على أنهم نازلون بالعين يشربون منها، فهو يدل على القرب والشرب، فالتمتع حاصل بلذتي النظر والشراب، بخلاف الأولى.
جاء في (البرهان) أن "العين ههنا إشارة إلى المكان الذي ينبع منه الماء لا إلى الماء نفسه نحو (نزلت بعين) فصار كقوله: مكانًا يشرب به" (4).
2- إن الأبرار يشربون من كأس ممزوجة على قدر أعمالهم، أما المقربون فيشربون من العين خالصة صرفًا.
3- إن الفعل المتعدي بالباء ضمن معنى (يروي)، فمعنى {يَشْرَبُ بِهَا}: يروى بها.
جاء في (معاني القرآن) للفراء: "وكأن {يَشْرَبُ بِهَا}: يروى بها وينقع" (5).
4- وذكر أن المقربين يفجرونها تفجيرًا، أي إنهم يجرونها حيث شاؤوا من منازلهم، وذلك أن يثقبوها بقضبان معهم من ذهب فيتفجر بها الماء إلى حيث أرادوا، فهي تجري عند كل واحد منهم حيث أراد من منزله.
وذكر المصدر (تفجيرًا) ليدل على أن تفجيرها لا يمتنع عليهم (6)، وأنها تتفجر بالماء الغزير.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 224 إلى ص 227.
(1) معاني الأبنية في العربية 137 – 138.
(2) انظر فقه اللغة للثعالبي 50.
(3) تفسير ابن كثير 4/454.
(4) معاني النحو 3/28، وانظر البرهان 3/338 – 339.
(5) معاني القرآن 3/215، وانظر البحر المحيط 8/395.
(6) انظر الكشاف 3/296، البحر المحيط 8/395، روح المعاني 29/155.