{ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا}
أي آثار نوح وإبراهيم ومن بعدهما من الذرية الذين جعل فيهم النبوة والكتاب.
{وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}
أي وأتبع الرسل بعيسى بن مريم، وذكر عيسى لأنه آخر الرسل قبل الرسول الخاتم، ولأنه ذكر الكتاب الذي أنزل إليه وذكر أتباعه وحالهم، واقتضى ذكره أيضًا لأنه تفرد عن بقية الرسل بأنه ليس من ذرية إبراهيم من جهة الأب وإنما من جهة الأم، والمعروف في ذرية الشخص من ينتسب إليه من جهة الأب، إلا أنه عده الله من ذريتهما في آية أخرى وهي قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنعام: 84 - 85].
والله سبحانه ينسبه إلى أمه ردًا على النصارى الذين يزعمون أنه أبن الله، جاء في (التحرير والتنوير): "وضمير الجمع في قوله: {عَلَى آَثَارِهِمْ} عائد إلى نوح وإبراهيم وذريتهما الذين كانت فيهم النبوة والكتاب، فأما الذين كانت فيهم النبوة فكثيرون، وأما الذين كان فيهم الكتاب فمثل بني إسرائيل.
و(على) للاستعلاء، وأصل (قفى على أثره) يدل على قرب ما بين الماشيين، أي حضر الماشي الثاني قبل أن يزول أثر الماشي الأول، وشاع ذلك حتى صار قولهم: (على أثره) بمعنى بعده بقليل أو متصلًا شأنه بشأن سابقه ... وفي إعادة فعل (قفينا) وعدم إعادة (على آثارهم) إشارة إلى بعد المدة بين آخر رسل بن إسرائيل وبين عيسى، فأن آخر رسل بني إسرائيل كان يونس بن متى أرسل إلى أهل نينوي أول القرن الثامن قبل المسيح" (2).
وقد تقول: لقد قال ههنا: {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}، وقال في المائدة: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة: 46] فقال في المائدة: {عَلَى آَثَارِهِمْ} ولم يقل مثل ذلك في الحديد، فما السبب؟
والجواب: أن الأمر مختلف، فإن آية الحديد في تقفية الرسل، وآية المائدة في تقفية الربانيين والأحبار، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة: 44]، ثم قال: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة: 46] فالربانيون والأحبار لم ينقطعوا فقفى على آثارهم بعيسى بن مريم، أي ليس بينهم وبينه مدة فاصلة، بخلاف ما بينه وبين الرسل فإن بينه وبينهم مدة ليست بالقليلة.
{وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً}
الرأفة أخص من الرحمة وأرق (3). جاء في (تاج العروس): "الرأفة: أشد الرحمة وأرقها ... والذي في المجل: أنها مطلق الرحمة وأخص ولا تكاد تقع في الكراهية، والرحمة قد تقع في الكراهية للمصلحة، وقال الفخر الرازي: الرأفة مبالغة في رحمة مخصوصة من دفع المكروه وإزالة الضر، وإنما ذكر الرحمة بعدها ليكون أعم وأشمل" (4).
فالرأفة تتعلق بدفع الأذى والضر فهي رحمة خاصة، والرحمة عامة في ذلك وغيره، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقال: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا} [الروم: 36]، وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]، وقال: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]، وقال: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} [الأنعام: 157]، وقال: {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ } [الأعراف: 49]، وقال: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود: 28]، وقال: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65] فذلك ونحوه لا تصح فيه الرأفة، فالرحمة أعم.
وحيث اجتمعت الرأفة والرحمة قدمت الرأفة على الرحمة.
{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ}
أي وابتدعوا رهبانية لم نكتبها عليهم، إلا أنهم ابتغوا بابتداعها رضوان الله، غير إنهم لم يرعوها حق الرعاية فهم لم يقوموا بها حق القيام.
جاء في (الكشاف) في قوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا}: "وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره (وابتدعوا رهبانية) (ابتدعوها) يعني وأحدثوها من عند أنفسهم ونذرها {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} لم نفرضها نحن عليهم.
{إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} استثناء منقطع، أي ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله. {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} كما يجب على الناذر رعاية نذره لأنه عهد مع الله لا يحل نكثه.
{فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا} يريد أهل الرحمة والرأفة الذين اتبعوا عيسى، {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} الذين لم يحافظوا على نذرهم.
ويجوز أن تكون الرهبانية معطوفة على ما قبلها، و{ابْتَدَعُوهَا} صفة لها في محل النصب، أي وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة من عندهم، بمعنى: وفقناهم للتراحم بينهم ولا بتداع الرهبانية واستحداثها، ما كتبناها عليهم إلا ليبتغوا بها رضوان الله ويستحقوا بها الثواب، على أنه كتبها عليهم وألزمها إياهم ليتخلصوا من الفتن ويبتغوا بذلك رضا الله وثوابه، فما رعوها جميعًا حق رعايتها ولكن بعضهم، فآتينا المؤمنين المراعين منهم الرهبانية أجرهم، وكثير منهم فاسقون وهم الذين لم يروعوها" (5).
والظاهر أن التفسير الأول ارجح من وجهين:
الوجه الأول: أنه قال: {ابْتَدَعُوهَا}، ومعنى {ابْتَدَعُوهَا} أنه لم يكتبها عليهم.
الوجه الثاني: أنه قال: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً}، والرهبانية أمر بدني سلوكي وليس قلبيًا فلا يصح عطفها على ما قبلها (6) والله أعلم.
وفي الإخبار عنهم بقوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} ذم من وجهين: الوجه الأول: أنهم ابتدعوا الرهبانية، والدين لا يؤخذ بالابتداع حتى لو كان ذلك لغرض رضوان الله، فإن رضوان الله يتوصل إليه بما شرع هو لا بابتداع البشر كائنًا من كان.
والوجه الثاني: أنهم لم يقوموا بما عاهدوا عليه أنفسهم حق القيام ولم يلتزموا بما شرعوه تقربًا لله – كما زعموا – فهم كالناذر الذي لم يوف بنذره. جاء في (تفسير ابن كثير): "{مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ }أي ما شرعناها لهم، وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم.
وقوله: {إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} فيه قولان:
أحدهما: أنهم قصدوا بذلك رضوان الله ...
والآخر: ما كتبنا عليهم ذلك إنما كتبنا عيلهم ابتغاء رضوان الله.
وقوله: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} أي فما قاموا بما التزموه حق القيام، وهذا لهم من وجهين:
أحدهما: في الابتداع في دين الله ما يأمر به الله.
والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عز وجل" (7).
{فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ}
دل قول ربنا هذا على أن مناط الأمر هو الإيمان وليس غير ذلك من رهبانية مبتدعة، فهو لم يقل: (فآتينا الذين رعوها حق رعايتها أجرهم) لئلا يظن أنه يرضى عن الابتداع لأي غرض كان حتى لو قصد بذلك رضوان الله، وإنما مناط الأمر ورأس النجاة هو الإيمان.
كما لم يقل كما قال في الآية السابقة: {فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} لئلا يظن أن الذين ابتدعوا الرهبانية أو قسمًا منهم يوصف بالهداية، ولئلا يحتج محتج بأن قسمًا من الابتداع فيه هداية، وإنما قسمهم على قسمين: من آمن منهم فلهم الرحمة، وقسم آخر فاسق، وذلك أن الفاسقين كثير.
قد تقول: لقد قال في موطن آخر: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [المائدة: 46].
وواضح أن بين الآينين تشابهًا واختلافًا، فمن ذلك:
1- أنه قال في آية الحديد: {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}
وقال في المائدة: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}
وقد ذكرنا سبب الاختلاف بين التعبيرين.
2- قال في المائدة: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ}
ولم يقل مثل ذلك في آية الحديد.
3- قال في المائدة: {وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ}
وقال في الحديد: {وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ} ولم يزد على ذلك.
4- ذكر في آية الحديد أتباع عيسى عليه السلام وحالهم.
وذكر في آية المائدة صفة الإنجيل فقال: {وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}
فما سبب الاختلاف؟
فنقول: لقد اقتضى كل تعبير السياق الذي ورد فيه:
1- فإنه قال في المائدة: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} لما تقدم ذكر التوراة قبل هذه الآية فقال: { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ... إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ... وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ..... } [المائدة:43 - 45].
ولم يجر في سياق آية الحديد ذكر لموسى ولا للتوراة، فناسب ذكر ذلك في المائدة دون الحديد.
2- وقال في المائدة: { وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ } لما ذكر قبله التوراة، وقال: { فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } فقد قال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} فناسب ذكر ذلك في الإنجيل أيضًا، ولم يجر ذكر للتوراة في الحديد كما أسلفنا.
3- ذكر الكتب السماوية في المائدة وضرورة الحكم بها. فقد ذكر التوراة والإنجيل ثم ذكر القرآن بعد ذلك فقال: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ....} [الآية: 48] وطلب من أهل كل كتاب أن يحكموا بما أنزل إليهم، فناسب أن يختم الآية بصفة الإنجيل فقال: {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}.
وجرى في الحديد ذكر حال الذرية والأتباع وهو السياق الذي وردت فيه آية الحديد، فقد قال قبل هذه الآية: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}، ثم ذكر أتباع عيسى وحالهم، ثم انتهى إلى خطاب المؤمنين بسيدنا محمد وما أعدّ لهم.
فناسب ختام كل آية سياق الذي وردت فيه، والحمد لله رب العالمين.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 415 إلى ص 423.
(1) روح المعاني 27/189.
(2) التحرير والتنوير 27/420 – 421.
(3) لسان العرب (رأف).
(4) تاج العروس (رأف)، وانظر التحرير والتنوير 27/421.
(5) الكشاف 4/67 – 68.
(6) انظر التحرير والتنوير 13/423.
(7) تفسير ابن كثير 4/373.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ}
خطاب للمؤمنين عامة من أهل الكتاب وللمؤمنين بمحمد . فالمؤمنون بموسى وعيسى من أهل الكتاب يطلب منهم أن يتقوا الله ويؤمنوا بمحمد، فإن أمارات صدقة ظاهرة وإن نعته موجود في كتبهم وهم يعرفونه كما يعرف أبناءهم، فلا يمنعهم الكبر وحظ الدنيا أو الحسد أو غير ذلك من الإيمان به.
والمؤمنون به من المسلمين عليهم أن يتقوا الله ويثبتوا على الإيمان برسوله، وهذا نظير قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ} [النساء: 136] أي اثبتوا على ذلك.
أي نصيبين، وذلك عام يشمل مؤمني أهل الكتاب والمسلمين. أما مؤمنو أهل الكتاب فقد ذكر ذلك لهم في قوله: {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [القصص: 52 - 54].
وأما المسلمون فقد ذكر ذلك ربنا فيهم في الآية التالية وهي قوله: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} فدل بذلك على أن ذلك من فضل الله عليهم.
بل ذهب قسم من المفسرين إلى أن هذه الآية إنما هي في المسلمين، يبين ذلك الحديث الذي أورده البخاري في صحيحه" مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر أجراء يعملون له. فعملت اليهود إلى نصف النهار، وعملت النصارى من الظهر إلى العصر على قيراط ثم عمل المسلمون من العصر إلى المغرب على قيراطين. قال فيه: واستكملوا أجر الفريقين كليهما" أي استكملوا مثل أجر الفريقين، أي أخذوا ضعف كل فريق" (1).
وجوز صاحب الكشاف أن يكون الخطاب لهما جميعًا وهو الذي نرجحه، جاء في (الكشاف): "{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا} يجوز أن يكون خطابًا للذين آمنوا من أهل الكتاب والذين آمنوا من غيرهم.
فإن كان خطابًا لمؤمني أهل الكتاب فالمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى آمنوا بمحمد {يُؤْتِكُمْ} الله {كِفْلَيْنِ} أي نصيبين {مِنْ رَحْمَتِهِ} لإيمانكم بمحمد وإيمانكم بمن قبله {وَيَجْعَلْ لَكُمْ} يوم القيامة {نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} وهو النور المذكور في قوله: {يَسْعَى نُورُهُمْ}، {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ما أسلفتم من الكفر والمعاصي، {لِئَلَّا يَعْلَمَ} ليعلم {أَهْلُ الْكِتَابِ} الذين لم يسموا، و(لا) مزيدة.
{أَلَّا يَقْدِرُونَ} (أن) مخففة من الثقيلة، أصله: أنه لا يقدرون ... {عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} أي لا ينالون شيئًا مما ذكر من فضله من الكفلين والنور والمغفرة؛ لأنهم لم يؤمنوا برسول الله فلم ينفعهم إيمانهم بمن قبله ولم يكسبهم فضلًا قط.
وإن كان خطابًا لغيرهم فالمعنى: اتقوا الله واثبتوا على إيمانكم برسول الله يؤتكم ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الكفلين في قوله: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ} ولا ينقصكم من مثل أجرهم لأنكم مثلهم في الإيمانين لا تفرقون بين أحد من رسله" (2).
وقال ههنا: {كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} ولم يقل: (كفلين من الأجر) أو (يؤتكم أجركم مرتين) كما قال في آية القصص التي ذكرناها، وكما قال في نساء النبي: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب: 31] فذكر في آية الحديد الرحمة وذكر هناك الأجر، ذلك لأن الأصل في معنى الأجر أن يكون الجزاء على العمل (3). وفي هذه الآية – أعني آية الحديد – لم يذكر عملًا، وإنما قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ} فكان ذكر الكفلين من الرحمة أنسب، بخلاف آية القصص فإنه ذكر عملًا، فقد قال: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}، وقال بعدها: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [القصص: 55].
وكذلك في آية الأحزاب فإنه ذكر الأجر بمقابل العمل: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ}.
فناسب ذكر الرحمة في آية الحديد كما ناسب ذكر الأجر في آيتي القصص والأحزاب والله أعلم.
{وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ}
ذكر صاحب الكشاف، أن ذلك يوم القيامة، الذي يظهر أن ذلك عام في الدنيا ويوم القيامة، كما قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 122]، وكما قال: {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الحديد: 9].
وقد تقول: ولم يقل ههنا: (ويجعل لكم نورًا تمشون به في الناس) كما قال في آية الأنعام؟
والجواب: أن السياق مختلف فيهما، فإن آية الحديد كما ذكرنا عامة في الدنيا ويوم القيامة، بل استظهر بعض المفسرين أن ذلك في يوم القيامة، ويوم القيامة لا يكون المشي بالنور في الناس بل هو نور خاص بكل مؤمن لا يتعدى غيره.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنه اكتنف آية الأنعام ذكر الناس ومعاملاتهم وافتراءاتهم وضلالهم وإضلالهم وما إلى ذلك. فهي في سياق الناس و أحوالهم فناسب ذكرهم في الآية.
بخلاف آية الحديد فإنها ليست في مثل هذا السياق وإنما تقدمها ذكر الرهبانية والرأفة والرحمة فأطلق المشي سواء كان في معاملات الناس وأحوالهم أن في الاعتقاد.
{وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
سبق ذكر المغفرة والرحمة في الآية في قوله: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} وقوله: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} فناسب قوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
قد تقول: ولم قدم المغفرة على الرحمة فقال: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} مع أنه سبق ذكر الرحمة ذكر المغفرة في الآية فقال: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ} ثم قال: {وَيَغْفِرْ لَكُمْ}؟
فنقول: حيث اجتمع الاسمان الكريمان الغفور الرحيم في القرآن الكريم قدم اسمه الغفور إلا في موطن واحد وهو قوله في سورة سبأ: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سبأ: 2].
ومما قيل في سبب ذلك أن آية سبأ لا تختص بالإنسان وإنما هي عامة، فقدم الرحمة لأنها عامة لا تختص بالإنسان، فإن الرحمة قد تكون بالحيوان أيضًا. أما المغفرة فهي خاصة بالإنسان فقدم الحريم على الغفور.
ومن الملاحظ أيضًا أنه في جميع المواطن التي ورد فيها الاسمان الكريمان تقدم قبلهما ذكر للإنسان في صورة الصورة، إلا آية سبأ فإنه لم يتقدمها ذكر للإنسان، قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآَخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} [سبأ:1 - 2].
فلم يذكر بعد الآية أصناف الناس فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ ...} فلما أخر ذكر الناس أخر ما يتعلق بهم وهو المغفرة، فقدم ما يتعلق بالمتقدم وأخر ما يتعلق بالمتأخر، والله أعلم.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 423 إلى ص 428.
(1) التحرير والتنوير 27/427 – 428، وينظر البحر المحيط 10/116، روح المعاني 27/193.
(2) الكشاف 4/68.
(3) انظر لسان العرب (أجر)، القاموس المحيط (أجر).
{لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)}
أي إن إيتاء الكلفين من الرحمة والمغفرة وجعل النور إنما يكون بالإيمان بالرسول الخاتم محمد ولا يكون بغير ذلك، وإن من لم يؤمن بمحمد فهو محروم ليس له شيء من ذلك ولا ينفعه إيمانه بمن قبله من الرسل حتى يؤمن بمحمد.
وقد أخبرهم بذلك ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يستطيعون على شيء من فضل الله فيمنعونه من غيرهم أو يظنون أن فضل الله منحصر فيهم، وإنما الفضل بيد الله سبحانه يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
وقال: {عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} ولم يقل: (على فضل الله) ليدل على أنهم لا يقدون على أن شيء مهما قل.
و(لا) في قوله: {لِئَلَّا يَعْلَمَ} مزيدة تفيد التوكيد، أي ليعلم أهل الكتاب ذلك علمًا مؤكدًا ولا تستبد بهم ظنونهم وأهواؤهم.
و(لا) تزاد بعد (أن) للتوكيد إذا كان اللبس مأمونًا والمعنى متضحًا، جاء في (تفسير الرازي): "إن أهل الكتاب وهو بنو إسرائيل كانوا يقولن: الوحي والرسالة فينا، والكتاب والشرع ليس إلا لنا، والله تعالى حصنا بهذه الفضيلة العظيمة من بين جميع العاملين.
إذا عرفت هذا فنقول: إنه تعالى لما أمر أهل الكتاب بالإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام وعدهم بالأجر العظيم ذلك الإيمان أتبعه بهذه الآية، والغرض منها أن يزيل عن قلوبهم اعتقادهم بأن النبوة مختصة بهم وغير حاصلة إلا في قومهم، فقال: إنما بالغنا في هذا البيان وأطنبنا في الوعد والوعيد ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على تخصيص فضل الله بقوم معينين، ولا يمكنهم حصر الرسالة والنبوة في قوم مخصوصين، وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ولا اعتراض عليه في ذلك أصلًا" (1).
وجاء في (روح المعاني): "أي ليعلم أهل الكتاب القائلون: [من آمن] بكتابكم منا فله أجران، ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم أنهم لا ينالون شيئًا من فضل الله من الأجرين وغيرهما ولا يتمكنون من نيله ما يم يؤمنوا بمحمد وحاصله الإعلام بأن إيمانهم بنبيهم لا ينفعهم شيئًا ما لم يؤمنوا بالنبي عليه الصلاة والسلام، فقولهم: (من لم يؤمن بكتابكم فله أجر) باطل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: لما نزلت {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا} [القصص: 54] فخر مؤمنو أهل الكتاب على أصحاب النبي فقالوا: لما أجران ولكم أجر، فاشتد ذلك على أصحابه عليه الصلاة والسلام فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ...} إلخ، فجعل لهم سبحانه أجرين مثل ما لمؤمني أهل الكتاب. وقال الثعلبي: ... فجعل لهم أجرين وزادهم النور، ثم قال سبحانه: {لِئَلَّا يَعْلَمَ ....} إلخ.
وحاصله على هذا ليعلموا أنهم ليسوا ملاك فضله عز وجل فيزووه عن المؤمنين ويستبدوا به دونهم" (2).
قد تقول: لقد قال في مكان آخر: {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 174] بالتنكير، وقال ههنا {وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} بالتعريف، فما السبب؟
فنقول: إن السياق مختلف في كل منهما، فقد قال في آل عمران: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} [آل عمران: 173 - 174] فهي في نجاة المؤمنين في معركة أحد وأنهم لم يمسسهم سوء بعدها.
أما سياق آية الحديد فهي في المغفرة والرحمة والنور فكان الفضل أعظم. فناسب كل تعبير السياق الذي ورد فيه.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 428 إلى ص 430.
(1) تفسير الرازي 29/193 – 194.
(2) روح المعاني 27/296 – 297.
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1]
1- تبدأ السورة التي قبلها، أعني سورة يونس بقوله: {الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ }فقد وصفت الآية الكتاب بأنه (حكيم)، وذكر في هذه السورة، أي سورة هود، من أحكمه فقال: إن آياته أحكمت {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}.
فالذي أحكمها هو الحكيم.
وقال في بداية السورة التي بعدها وهي سورة يوسف: {الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ}.
فإنه لما ذكر في سورة هود أن آياته أحكمت وفصلت دل ذلك على أنه مبين. فإنه لا يكون بعد الاحكام والتفصيل اِلا مبينًا. فأي كتاب أحكم وفصل كان مبينًا.
فتناسبت بدايات السور المتتابعة تناسبًا بديعًا.
2- قال في خاتمة السورة التي قبلها وهي سورة يونس: {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}. وما يوحي اِليه هو الكتاب الذي أحكمت آياته، فناسب قوله: {خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} وصف الكتاب باْنة أحكمت آياته. فخير الحاكمين هو الذي أحكم آياته.
وناسب قوله: {خَيْرُ الْحَاكِمِينَ} في أية يونس قوله في أيه هود: {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} فالحكيم قد يكون بمعنى الحاكم.وقد يكون من المحكمة، فالحكيم على هذا هو خير الحاكمين لأنه حكيم وحاكم. ولا شك أن الحاكم إذا كان ذا حكمة كان خير الحاكمين.فناسب مفتتح السورة خاتمة السورة التي قبلها.3- وناسب قوله تعالى في مفتتح السورة: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} قوله في خاتمة السورة: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}.
فإنه ناسب تبليغه لعباد الله في أول السورة بألا يعبدوا إلا الله أن يؤمر هو أيضًا بعبادة ربه بقوله: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} فكلاهما مأمور بالعبادة، المبلغ والمبلغ.
4- وناسبت الآية الأولي من السورة، أي قوله: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} قوله في خواتم السورة: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ}.
فإنه قص عليه ذلك في الكتاب الذي أحكمت آياته.ثم إنه فصل ما جاء فيه، وما جاء فيه هو الحق والموعظة والذكري. فهذا تفصيل لما جاء فيه.ثم إن الذي يختار من القصص ما يثبت به الفؤاد إنما هو حكيم خبير.
والذي يأتي بالحق والموعظة والذكرى إنما هو حكيم خبير.فناسب مفتتح السورة خاتمتها أبدع مناسبة.
ثم ننظر في تأليف التعبير:فقد ذكر أنه كتاب أحكمت آياته ثم فصلت، وذكر الذي أحكمه وفصله. فالذي أحكمه هو الحكيم الخبير، وهل هناك من يفصل أفضل منه؟ولم تجتمع هاتان الصفتان في الكتاب، أي الإحكام والتفصيل، في غير هذا الموضع، وإنما قد يوصف الكتاب بأنه حكيم كما في قوله تعالى: {} [يونس: 1] أو أنه مفصل كما في قوله تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 3] وقوله: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا} [الأنعام: 114].ثم ذكر أن هذا الإحكام والتفصيل إنما هما من لدن حكيم خبير. فجمع الله لنفسه وصفي الحكمة والخبرة، وكل من الوصفين من أوصاف الكمال.
ثم ما أجل هذين الوصفين ههنا! فالحكيم هو ذو الحكمة البالغة وهي إحسان القول والعمل ووضعهما الذي ينبغي أن يكونا فيه.
والخبير هو الذي يعلم بواطن الأمور وخبرها. فما أجل هذا الكتاب الذي أحكمه وفصله الحكيم الخبير!
وقد يكون لفظ الحكيم من معنى الحكم وهو القضاء، فيكون المعنى أنه أحكم آياته الحاكم الذي بيده الأمر فدل ذلك على علو مكانته. لأن أهمية الكتاب إنما تكون في أمرين:
في الجهة التي أصدرته، فكتاب الموظف الصغير غير كتاب المدير، وهذا الأخير غير كتاب الوالي، وهذا غير كتاب السلطان أو الخليفة. فكلما علت جهة من أصدره علا هو أيضًا على حسب تلك الجهة.
والأمر الأخر الذي يدل على أهمية الكتاب هو محتواه، فإذا كان من أصدره حكيمًا علت جهته أيضًا.
وهذا الكتاب إنما دل على علوه كل مقتضيات العلو والرفعة.
فإنه كتاب أحكمت آياته ثم فصلت، وهو من لدن حاكم وحكيم وخبير. ومحتواه طلب توحيد العبادة لخالق الكون. وقد أرسله هذا الخالق منه إلى من يبلغه عنه. فأية رفعة أعلى من هذه؟
ولما كان هذا شأن الكتاب ومن أنزله ذكر تعظيم هذا الكتاب وعلوه في السورة في أكثر من موضع، وتحدي المعاندين لأن يأتوا بسور من مثله في أكثر من موضع.
فقد قال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [هود: 13 - 14].
وقال: {فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ} [هود: 17].
وقال: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} [هود: 35].
وقال: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [هود : 49].
فذكر أن ما ذكره من قصة نوح إنما الغيب ما كان يعلمها هو ولا قومه من قبل هذا، أي إن هذا أول علمهم به. وهل أدل من ذلك على أن هذا الكتاب إنما هو علم الله وأنه أنزله إليه؟
وقال: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ} [هود: 100].
وقال: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120].
فهل هناك أجل من هذا الكتاب؟!
إن معنى {أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ } "نظمت نظمًا رصينًا لا يقع فيه نقض ولا خلل" (1).
"وإن ألفاظ هذه الآيات بلغت في الفصاحة والجزالة إلى حيث لا تقبل المعارضة" (2).
ومعنى (فصلت) أنه فصل فيها ما يحتاج إليه العباد (3).
وجاءت (ثم) لترتيب الإخبار لا لترتيب الوقوع في الزمان.
جاء في (الكشاف): "فإن قلت: ما معنى (ثم)؟
قلت: ليس معناها التراخي في الوقت ولكن في الحال كما تقول: هي محكمة أحسن الإحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل. وفلان كريم الأصل ثم كريم الفعل" (4).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 5 إلى ص 9.
(1) الكشاف 2/98، وانظر البحر المحيط 5/200.
(2) تفسير الرازي 18/313.
(3) الكشاف 2/89 وانظر تفسير الرازي 18/131.
(4) الكشاف 2/90 وانظر البحر المحيط 5/200.
{أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} [هود: 2]
يحتمل أن يكون المعنى على التعليل، أي لئلا تعبدوا إلا الله، ولام التعليل حذفت وهو من الحذف المقيس، ويحتمل أن تكون (أن) مفسرة و(لا) ناهية. والمعنى (لا تعبدوا إلا الله). وقيل: المعنى (أمركم أن لا تعبدوا إلا الله) (1).
وجميع هذه المعاني متحملة وهي مرادة، فإنه أحكم الآيات وفصلها لئلا يعبدوا إلا الله، وأنه نهاهم أن يعبدوا إلا الله، أمرهم بألا يعبدوا إلا الله.
وهذا من التوسع في المعنى، فإنه جمع كل هذه المعاني في تعبير واحد. ولو قال (لئلا تعبدوا) أو (أمركم بألا تعبدوا إلا الله) لدل على معنى واحد.
فإن كل المعاني المحتملة مرادة وأطلق التعبير ليشملها كلها والله أعلم.
وقال (إنني) بذكر نون الوقاية مع (إن) ولم يقل: (إني لكم منه نذير وبشير) بنون (إن) وحدها، وذلك أنه ذكر وصفين للكتاب هما الإحكام والتفصيل ففصل بذكر النونين، وذكر وصفين في المبلغ وهما الإنذار والبشارة، فقال: (نذير وبشير) فناسب ذلك أيضًا أن يذكر النونين: نون إن (2) ونون الوقاية.
ويدلك على ذلك أنه إذا أفرد الإنذار وقال: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} بنون (إن) وحدها في اكثر من موضع (3). فلما زاد البشارة على الإنذار ذكر نونًا أخرى.
وقدم الإنذار على البشارة ههنا ذلك أن جو السورة إنما هو في إنذارات الرسل لأقوامهم.
في حين قدم البشارة على الإنذار في سورة فصلت فقال: {حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ} [فصلت: 1 – 4] ذلك أنه ذكر أنه تنزيل من الرحمن الرحيم فناسب تقديم البشارة مع اسميه الرحمن الرحيم ولا يناسب تقديم الإنذار.
ولما قدم البشارة في سورة فصلت ذكر بشارة الملائكة للمؤمنين وذلك في قوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} [فصلت: 30 – 32].
ومن الملاحظ أنه لم يجمع رسول من الرسل على لسانه أنه بشير ونذير إلا سيدنا محمد فقد قال في الأعراف: {إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 188].
وقال ههنا في سورة هود: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ}
وقدم الجار والمجرور (لكم) على منه (منه) لأنهم هم المخاطبون وهم المنذرون وهم المأمورون بالعبادة والكلام عليهم لا على الله.
وقد تقول: ولم يقول أحيانًا (إني لم منه نذير مبين ) بذكر (منه) كما في الذاريات 50، 51، ويقول ف سياق أخر: (إني لكم نذير مبين) من دون ذكر (منه) كما في هود 25، نوح 2؟
فنقول: إذا تقدم ما يعود عليه الضمير ذكر (منه)، وإن لم يتقدم ما يعود عليه الضمير لم يذكر (منه).
وإيضاح ذلك أنه قال في هود: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [هود: 25]، فلا يصح أن يقول: (منه) لأنه لا يعود على شيء.
وكذلك قوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [نوح: 1 – 2] فلا يصح أن يقول (منه) لأنه لا يعود على شيء.
بخلاف قوله تعالى في الذاريات: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 50] فقد ذكر (منه) لأن الضمير يعود على لفظ الجلالة وهو (الله).
وكذلك قوله: {وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ} [الذاريات: 51] فقد عاد الضمير منه على (الله).
وكذلك أية هود هذه وهي قوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ }فقد قال (منه) والضمير يعود على (الله).
ولو لم يقل (منه) لم يدل على أن الله هو الذي أمره بالإنذار والتبشير.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 9 إلى ص 12.
(1) انظر الكشاف 2/90، البحر المحيط 5/200.
(2) هما ف الحقيقة نونان لا نون واحدة.
(3) انظر سورة هود: 25، الحجر: 89، الذاريات: 50، 51، نوح: 2.
{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} [هود: 3]
قدم الاستغفار على التوبة لأن الاستغفار إنما يكون من الذنوب التي فعلها العبد، وأما التوبة فتالية له، ومن شروطها عدم العودة على ما أسلف من المعصية.
جاء في (البحر المحيط): "أمر بالاستغفار طلب المغفرة وهي الستر، والمعنى أنه لا يبقى لها تبعة.
والتوبة الانسلاخ من المعاصي والندم على ما سلف منه والعزم على عدم العودة إليها" (1).
وجاء في التفسير (تفسير الرازي): "في فائدة هذا الترتيب أن المراد: استغفروا من سالف الذنوب، ثم توبو إليه في المستأنف ...
(الوجه الرابع): الاستغفار طلب من الله لإزالة ما لا ينبغي.
والتوبة سعي من الإنسان في إزالة ما لا ينبغي، فقدم الاستغفار ليدل على أن المرء يجب أن لا يطلب الشيء إلا من مولاه فإنه هو الذي يقدر على تحصيله.
ثم بعد الاستغفار ذكر التوبة عمل يأتي به الانسان ويتوسل به إلى دفع المكروه. والاستعانة بفضل الله مقدمة على الاستعانة بسعي النفس" (2).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 12 إلى ص 13.
(1) البحر المحيط 5/201.
(2) تفسير الرازي 18/315.
{يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}
المتاع الحسن هو الأمن النفسي واطمئنان القلب إلى ما قدر الله والرضا به والقناعة بما قسم الله له ورجاؤه في ثوابه وإفاضة النعم على المجتمع المؤمن والتكافل فيما بينهم ومعاونة أحدهم الأخر وسلامة النفس وسلامة المجتمع، وهذا كله من المتاع الحسن، بخلاف الكافر فإنه في قلق نفسي والخوف من زوال النعم والجزع عند المصيبة.
وهذا كله من المتاع الحسن وليس كل المتاع الحسن.
جاء في (البحر المحيط): "المتاع الحسن: الرضا بالميسور والصبر علي المقدور، أو حسن العمل وقطع الأمل، أو النعمة الكافية مع الصحة والعافية ... أو لزوم القناعة وتوفيق الطاعة ...
وقال [يعني ابن عطية]: ووصف المتاع بالحسن إنما هو لطيب عيش المؤمن برجائه في الله عز وجل وفي ثوابه وفي فرحه بالتقرب إليه بمرفوضاته والسرور بمواعيده.
والكافر ليس في شيء من هذا" (1).
وسمي منافع الدنيا بالمتاع "لأجل التنبيه على حقارتها وقلتها.
ونبه على كونها منقضية بقوله تعالى: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} فصارت هذه الآية دالة على كونها حقيرة خسيسة منقضية" (2).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 13 إلى ص 14.
(1) تفسير الرازي 18/315.
(2) البحر المحيط 5/201.
{وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ}
"الضمير في (فضله) يحتمل أن يعود على الله تعالى، أي يعطي في الأخرة كل من كان له فضل في علم الخير وزيادة ما تفضل الذي عمله في الدنيا لا يبخس منه شيء" (1).
فهذا التعبير يحتمل معنيين:
الأول: إن الضمير في (فضله) يعود على صاحب الفضل، فالله يؤتيه فضله لا يبخس منه شيئًا بل يزيده.
والأخر: أن يعود الضمير على الله، أي إن الله يؤتي فضله من كان ذا فضل.
والمعنيان صحيحان وهما مرادان وهو من التوسع في المعنى.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 14 إلى ص 15.
(1) تفسير الرازي 18/316.
(2) البحر المحيط 5/201.
{وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}
(تولوا) أي تتولوا حذف إحدى التاءين تخفيفًا. ومن الملاحظ في التعبير القرآني أنه حيث ذكر التاءين في هذا الفعل كان الموقف أشد، وإذا كان أخف خفف بحذف إحدى التاءين.
فقد ذكرها ههنا أنه إن تولوا خاف عليهم عذاب يوم عظيم، ولم يقل إنه يعذبهم وإنما خاف عليهم العذاب، والخوف عليهم لا يقتضي وقوع المخوف.
في حين قال: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفتح: 16].
فقد ذكر أنهم إن تولوا يعذبهم عذابًا أليمًا ولم يقل إنه يخاف عليهم العذاب.
ثم إنه وصف العذاب بأنه أليم، وههنا وصف اليوم ولم يصف العذاب وقال على لسان هود لقومه: {وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ} [هود: 52] بتاءين. وقال على لسانه أيضًا: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ} [هود: 57] بتاء واحدة.
وسياق الآية الأولي أشد، ذلك أنهم قالوا له بعد أن قال لهم ذلك: {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 53 - 54].
في حين لم يقولوا شيئًا بعد قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ}
وقال: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 32].
فقد ذكر أنهم تولوا عن طاعة الله والرسول فإن الله لا يحب الكافرين ولم يذكر عذابهم أو عقابهم.
وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} [الأنفال: 20].
والخطاب للمؤمنين، ولم يطلق التولي بل خصه بالتولي عن الرسول.
ولما كان المخاطبون مؤمنين فإنه نهاهم عن شيء من التولي من باب التحذير وقال: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} [النور: 54].
فلم يذكر عاقبة التولي إلا أن عليه ما حمل وعليكم ما حملتم وإن تطيعوه تهتدوا.
في حين قال: {وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} [محمد: 38].
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 15 إلى ص 16.
{أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ}
اليوم الكبير هو يوم القيامة.
ولم يرد في القرًان (إنني أخاف) بنون الوقاية مع (إن).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 16 إلى ص 16.
{إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [هود: 4].
قدم الخبر الجار والمجرور (إلى الله) على المبتدأ (مرجعكم) للدلالة على القصر والاختصاص، فإن المرجع إليه حصرًا لا إلى غيره (1).
وقال: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ} ولم يقل: (إلى الله مرجعكم جميعًا) كما قال في آيات أخرى (2)، ذلك أنه حيث ذكر الجميع ذكر جهات متعددة مختلفة ومعتقدات متباينة، بخلاف أية هود هذه فإنه ذكر جهة واحدة.
قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [المائدة: 48].
فقال: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} ذلك أن السياق الذي جرى فيه ذكر هذه الآية في ذكر معتقدات وأحوال اليهود والنصارى وغيرهم من الكفار، وذلك من الآية في ذكر الحادية والأربعين.
ثم يستمر الكلام على الملل المختلفة فناسب ذكر الجميع.
ونحو ذلك ما جاء في الآية الخامسة بعد المائة من سورة المائدة فإنها في سياق ذكر أكثر من جهة. فإن السياق في ذكر الكافرين والمؤمنين.
فقد جاء قبل هذه الآية قوله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُون} [المائدة: 103 – 104].
ثم التفت إلى الذين آمنو فخاطبهم بقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [المائدة: 105].
أي إلى الله مرجعكم جميعًا من الكافرين والمؤمنين، فناسب ذكر الجميع.
وكذلك سياق أية يونس فإنه في ذكر أكثر من جهة. فهو في سياق جهتي الكافرين والمؤمنين.
فقد قال: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ} [يونس: 2].
فجعلهم قسمين:
القسم الأول: وهم المؤمنين الذين بشرهم ربهم.
والقسم الآخر: هم الكافرون الذين قالو إن هذا لساحر مبين.
ثم قال بعد ذلك: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس: 4].
فذكر المؤمنين والكافرين.
أما آية هود هذه فإن المخاطبين فيها صنف واحد.
قال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [هود: 1 – 4].
فالمخاطبون إما أن يستغفروا ربهم فيمتعهم أو يتولوا فيعذبهم، ولم يجعلهم قسمين: قسمًا مؤمنًا وآخر كافرًا. فهم إما أن يؤمنوا أو يتولوا.
في حين أن كل الذين قال فيهم: {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} كانوا أكثر من صنف وأكثر من جهة.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 16 إلى ص 19.
(1) انظر تفسير الرازي 18/317.
(2) انظر المائدة: 48، 105، يونس: 4.
{أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [هود: 5]
قيل: إن بعض المنافقين "كان إذا مر بالرسول ثنى صدره وظهره وطأطأ رأسه وغطى وجهه كيلا يرى الرسول ...
وقيل: فعلوا ذلك ليبعد عليهم صوت الرسول ولا يدخل أسماعهم القرآن" (1).
ومعنى (ثنى رأسه) طواه.
"وقيل: إن هذه الآيات نزلت في الكفار الذين كانوا إذا لقيهم رسول الله تطامنوا وثنوا صدروهم كالمتستر، وردوا اِليه ظهورهم، وغشوا وجوهم بثيابهم تباعدًا منهم وكراهية للقائه، وهم يظنون أن ذلك يخفي عليه أو عن الله تعالى، فنزلت الآية" (2).
وذكر أنه حين يستغشون ثيابهم يعلم ما يسرون وما يعلنون، ليدل على أنه يراهم ويراقبهم ويعلم فعلهم ونواياهم.
فأفاد التعبير الرؤية والمراقبة والعلم وليس مجرد العلم من دون رؤية ومراقبة.
وأفاد أنه حين يفعلون هذا الفعل يعلم ذلك ويعلم لمَ فعلوه؟
ولئلا يظن أن عمله محصور فيما يفعل من ظواهر الأمور، وأن عمله مقيد في ذلك الحين: {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}، ليدل على إطلاق علمه من غير تقييد. فدل بذلك على أنه يعلم الإعلان والإسرار على كل حال عند الفعل وقبله وبعده.
فأفاد التعبير:
1- الرؤية والمراقبة.
2- ذكر أنه حين يستغشون ثيابهم يعلم أي في وقت الفعل لا بعده بعد التأمل والتفكير أو الاستفسار أو مجيء الخبر أو ظهور ما يدل على ذلك فيما بعد.
وقوله {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} فيه احتمالان:
الأول: أن تكون (ما) مصدرية، أي يعلم أسرارهم وإعلانهم.
والأخر: أن تكون اسمًا موصولًا. والمعنى أنه يعلم الذي يسرونه والذي يعلنونه من الأمور.
والمعنيان مرادان، فإنه يعلم الإسرار والذي يسرونه، ويعلم الإعلان يعلنونه.
وهذا من التوسع في المعنى، ولو ذكر العائد فقال: (ما يسرونه وما يعلنونه)
لدل على شيء واحد وهو الاسم الموصول. فكان ما ذكره أولى لأنه عَمَّ المعنيين.
لقد قال هنا: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}، وقال في النمل: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل: 25] فذكر الإخفاء دون الإسرار، ذلك أن الإسرار قد يكون في النفس كما قال تعالى: {فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ} [يوسف: 77].
وقد تسره إلى غيرك، قال تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: 3]، وقال: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ} [الممتحنة: 1]،
وقال: {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} [طه: 62].
وغالبًا ما يكون في الفعل والقول. جاء في (المفردات في غريب القرآن): "الإسرار خلاف الإعلان. قال تعالى: {سِرًّا وَعَلَانِيَةً} ... ويستعمل في الأعيان والمعاني ...
وأسرت إلى فلان حديثًا: أقضيت إليه في خفية. قال تعالى: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} [التحريم: 3] ...
فإن الإسرار إلى الغير يقتضي إظهار ذلك لمن يفضي إليه بالسر وإن كان يقتضي إخفاءه عن غيره. فأذن قولهم: (أسرت إلى فلان) يقتضي من وجه الإظهار ومن وجه الإخفاء" (3).
وفي (لسان العرب): "أسر إليه حديثًا أي أفضى" (4).
أما الإخفاء فكأنه أخفى من السر. قال تعالى: {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى}[طه: 7].
وقد يكون في الأشياء التي تسترها عن الناظر من الحاجات والبضائع، تقول: (أخفيت البضاعة تحت الأرض أو في صندوق) أي سترتها.
جاء في (المفردات في غريب القرآن) : "خفي الشيء خفية إذا استتر ... وأخفيته: أوليته خفاء وذلك إذا سترته. ويقابل به الإبداء والإعلان" (5).
أما قوله تعالى في النمل: {وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النمل: 25] دون (ما تسرون وما تعلنون) فالسياق يوضح ذلك. قال تعالى: {أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} ذلك أنه ذكر أنه يخرج الخبء. أي ما هو خافٍ أو مخفى.
والخبء "يقال لكل مدخر مستور" (6). و"خبأ الشيء يخبؤه: ستره ... الخبء كل ما غاب" (7).
فلما ذكر المخبوء ناسب ذكر الإخفاء لأن المخبأ مخفي.
وقال تعالى: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ} [الممتحنة: 1].
فقال: {وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ} بعد قوله: {تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ} ولم يقل: (وأنا أعلم بما أسررتم وما أعلنتم) ذلك لأنه أفاد أنه يعلم الدافع الذي أخفوه في أنفسهم من هذا الإسرار. فإنك قد تسر شيئًا لشخص وأنت تبتغي غرضًا من ذلك تخفيه نفسك، فربنا يعلم ذلك الأمر وماذا أخفيت. ولو قال: (وأنا أعلم بما أسررتم) لكان ذلك ينصرف إلى إسرارهم بالمودة دون الغرض الذي يخفيه أصحابه.
وقال سيدنا إبراهيم: {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ} [إبراهيم: 38].
دون (ما نسر وما نعلن) ذلك لأنه قال بعدها: {وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}
وقال في موطن أخر: {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} [القصص: 69]. دون (ما يسرون) أو (ما يخفون) وذلك لسبب أخر. فإن (الكِنّ) هو ما تحتفظ فيه من الأشياء التي تريد صونها. والكِنّ "ما يحفظ فيه الشيء، يقال: كننت الشيء كَنًّا جعلته في كِنَ وخُصّ. وكننت بما يُستر ببيت أو ثوب وغير ذلك من الأجسام...
وأكننت بما يستر في النفس... وجمع الكِنَ أكنان.
والكنان: الغطاء الذي يكن فيه الشيء" (8).
وفي (لسان العرب): "الكِنّ والكِنّة والكِنان: وقاء كل شيء وستره... كننت الشيء أي جعلته في كن... والأكنة: الأغطية" (9).
قال تعالى: {كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} [الطور: 24]، وقال: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا} [النحل: 81] أي وقاء وسترًا تحتمون بها وتحفظون أنفسكم.
وقال: {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} [فصلت: 5]. أي في صناديق مقفله فلا يصل إليها شيء من دعوته.
{إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ}
وذات الصدور "الأسرار المستكينة فيها أو القلوب التي في الصدور" (10).
وقال (عليم) دون (يعلم) للدلالة على ثبوت العلم ودوامه.
جاء في (روح المعاني): "وكان التعبير بالجملة الاسمية للإشارة إلى أنه سبحانه لم يزل عالمًا بذلك. وفيه دليل على أنه تعالى يعلم الأشياء قبل وجودها الخارجي" (11).
وقال: (عليم) دون (عالم) أو (علام)، لأن كلمة (عالم) خُصت في الاستعمال القرآني بعلم (الغيب) مفردًا، أو (علم الغيب بشهادة)، ولم تستعمل في غير ذلك، وذلك نحو قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا} [الجن، 26]، وقوله {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} [الأنعام: 73].
وأما (علّام) فقد خص استعمالها متعقلة بـ (الغيوب) جمع الغيب نحو {إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} [المائدة: 109، 116] وذلك أنه لما كان هذا الوصف للمبالغة والتكثير جاء بالجمع معه مناسبة للتكثير.
وأما (عليم) فقد استعملها غير مختصة بمعلوم، معين، فقد يستعملها مطلقة من كل متعلق نحو {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [البقرة: 32]، أو يجعلها متعلقة بكل شيء فلا تترك شيئًا إلا شملته نحو {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 29]، أو يعلقها بما ارتبط بالمجموع وذلك نحو {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} [البقرة: 95]، أو يعلقها بما ارتبط بالمجموع وذلك نحو {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} [البقرة: 215] فإنه جمع الفاعلين فقال: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ}، وقوله: {وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154] فذكر الصدور وليس صدرًا واحدًا (12).
فاتضح ما قلناه.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 19 إلى ص 25.
(1) البحر المحيط 5/202.
(2) البحر المحيط 5/203.
(3) المفردات في غريب القرآن (سرر).
(4) لسان العرب (سرر).
(5) المفردات في غريب القرآن (خفي).
(6) المفردات (خبء).
(7) لسان العرب (خبأ).
(8) مفردات الراغب (كنّ).
(9) لسان العرب (كنن).
(10) روح المعاني 11/211.
(11) روح المعاني 11/211.
(12) انظر كتابنا (من أسرار البيان القرآني)
{وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6]
"الدابة اسم لكل حيوان ذي روح ذكرًا كان أو أنثى، عاقلًا أو غيره" (1) ويحتاج إلى رزق (2).
والمعنى: أن كل دابة في الأرض ضمن الله لها رزقها وهو يعلم مستقرها، وهو الموضع إلى استقرت فيه قبل مجيئها إلى هذه الدنيا سواء كانت في صلب أم رحم أم بيضة. وما تستقر فيه حيث تأوي إليه من الأرض. ويعلم مستودعها وهو الموضع الذي تموت فيه وتدفن (3).
وقد تقول: ولم قال: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} فخص الدابة التي في الأرض ولم يذكر ما في السماء مع أنه ذكر دواب السماء في أية أخرى.
قال تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} [الشورى: 29]؟
فنقول إن السياق قبل الآية وبعدها على من في الأرض وعلى سكان الأرض، بل إن السورة عمومًا في الكلام على أهل الأرض والأمم التي عاشت فيها.
فناسب ذكر دواب الأرض.
ثم إنه سبق أن قال في أية قبل هذه الآية: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [هود: 4] فذكر قدرته على كل شيء، فدخل في ذلك دواب السماء وغيرها.
وإضافة إلى ذلك فإنه قال بعد هذه الآية: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [هود: 7] فذكر أنه هو خلقهما فدخل في ذلك دوابهما.
وقال ف أخر السورة: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ} [هود: 123] فذكر أن له غيب السموات والأرض حصرًا لا لغيره، وأنه إليه يرجع الأمر كله حصرًا لا إلى غيره. فلا أمر من الامور خارج عنه وعن إرادته، فدخل في ذلك دواب الأرض والسماء وإن أمر ذلك راجع إليه. فتضمن ذلك دخول دواب السماء في أمره كدخول دواب الأرض، وغير أنه لما كان السياق في سكان الأرض ناسب ذكر ما يسكن في الأرض من الدواب.
ومن الطريف أن نذكر أيضًا أنه ذكر الأرض في السورة أكثر مما ذكر السماء والسماوات.
فقد ذكر الأرض في السورة إحدى عشرة مرة، وذكر السماء والسماوات ست مرات، مما يدل على أن الجو العام إنما هو في الأرض أكثر مما في السماء والله أعلم.
إن هذه الآية متصلة بقوله تعالى في أية سابقة: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ذلك لأن الذي يضمن لكل دابة رزقها ويوصله إليها إنما هو على كل شيء قدير.
ومتصلة بقوله تعالى في الآية السابقة لها: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فإنه ذكر جانبًا من علمه هناك، وذكر جانبًا آخر هنا. فإن الذي يعلم مكان كل دابة في الأرض ويوصل إليها رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها إنما هو الذي يعلم الإسرار والإعلان وهو العليم بذات الصدور.
ثم ذكر علمه بكل دابة في الأرض ومكانها ومستقرها فاستغرق علمه بكل الأحياء.
ثم ذكر علمه الذي لا يحد، فإنه علم كل ذلك قبل وجود هذه الأشياء وسطر ذلك في كتاب مبين في اللوح المحفوظ.
أما تأليف الآية فإنه جاء فيها بـ (من) الاستغراقية التي تستغرق كل ما يدب على الأرض.
ثم قال: {إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} فقدم الخبر (على الله) على المبتدأ (رزقها) وذلك للحصر للدلالة على أن رزقها عليه حصرًا لا على غيره. ولو قال: (إلا رزقها على الله) لم يفد أن رزقها عليه حصرًا.
فهناك قصران:
الأول: (إلا) في الاستثناء المفرغ.
والأخر: تقديم الخبر.
وقد تقول: لو قال: (كل دابة على الله رزقها) لأفاد العموم أيضًا لأن كلمة (كل) تفيد العموم.
فنقول: إن هذا التعبير الذي ذكرته لا يفيد قصر المبتدأ على جملة الخبر وإنما هو إخبار من غير قصر، وإنما القصر في جملة الخبر (على الله رزقها) وليس في (كل) مع جملة الخبر.
أما التعبير القرآني فإنه أفاد أنه حصر كل دابة على رزق الله وحصر الرزق على الله. وإيضاح ذلك أنك تقول:
(كل رجل كتابًا قرأ)
وتقول: (ما من رجل إلا قرأ كتابًا)
وتقول: (ما من رجل إلا كتابًا قرأ)
فالجملة الأولى خصصت فيها القراءة بالكتاب وأنه لم يقرأ غير الكتاب.
والجملة الثانية خصصت فيها الرجل بقراءة بالكتاب، ولم تخص القراءة بالكتاب دون غيره. فقد يكون قرأ أيضًا غير كتاب. فقد ذكرت أن كل رجل قرأ كتابًا ولم يبق رجل لم يقرأ كتابًا. فأخبرت عنهم جميعًا أنهم قرأوا كتبًا ولم تستثن أحدًا من قراءة الكتاب، وغير أنه قد يكون فيهم من قرأ غير كتاب أيضًا، فقد يكون قرأ مجلة أو غير ذلك مما يقرأ.
فإن قلت: (ما من رجل إلا كتابًا قرأ) كنت خصصت الرجل بالقراءة، وخصصت القراءة بالكتاب.
فالآية تفيد حصر الدابة على رزق الله، وحصر الرزق على الله.
ثم قال: (كل) أي كل ذلك عن كل دابة مدون في كتاب قبل خلقها.
وهذا الكتاب يبين كل شيء عنها.
فتضمنت الآية قدرة الله وعلمه على أتم حال.
1- فقد جاء بـ (من) الاستغراقية الدالة على الشمول.
2- وقال: (دابة) وهو يشمل كل ما يدب من الاحياء وهو أعم شيء في الأحياء.
3- وقال: {عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} فقصر الرزق على الله دون غيره.
4- وقال: {إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} فقصر الدابة على رزق الله.
5- وقال: {عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} ولم يقل (الله يرزقها) مثلًا للدلالة على أنه ضمن لكل دابة رزقها وتكفل بذلك فهو يوصله إليها.
6- وقال: {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا}، والجملة معطوفة على الجملة {عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا}، والتقدير: (وما من دابة إلا يعلم الله مستقرها ومستودعها) فلا تند عن علمه دابة.
7- قال: ( مستقرها) وهو يشمل كل موضع تستقر فيه أو استقرت فيه وكل أنواع الاستقرار سواء كان ذلك قبل مجيئها على هذه الحياة أو في حال وجودها في هذه الحياة أو بعد ذلك حيث كانت أو حيث تكون، وأين كانت قبل مجيئها سواء كانت في رحم أم بيضة أم صلب. وبعد مجيئها حيث تستقر وتأوي وحيث تكون بعد هلاكها.
ويعلم استقرارها أيضًا، فكلمة (مستقر) تدل على اسم المكان والمصدر واسم الزمان. فهو يعلم الاستقرار وموضع الاستقرار وزمان ذلك ومتى يكون.
8- وقال: (ومستودعها) بعد الموت وحيث تتفرق أجزاؤها.
فعلم كل أحوالها من السكون والحركة في الحياة وقبل الحياة وبعد الموت.
وقد تقول: إنه ذكر المستقر والمستودع، والمستقر هو موضع الاستقرار، والمستودع حيث تهلك وحيث مدفنها، ولكنه لم يذكر هنا أنه يعلم مكان تحركها.
فنقول: لما قال: {إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} دل ذلك على أنه يوصله إليها حيث كانت، متحركة أو ساكنة، فشمل علمه كل شيء من أحوالها.
9- وقال (كل) وهي أدل لفظة على العموم، أي كل دابة وكل أحوالها وكل شيء عنها وما ضمن لها من رزق إنما هو مدون في كتاب.
10- (في كتاب) أي مدون ومسطور قبل الخلق، وذلك يدل على عظيم علمه وقدرته، فإنه علم كل شيء قبل وجوده، وإن كل شيء يكون على ما دون. وذلك يدل على عظيم العلم والقدرة.
11- وقال: (مبين) أي مبين كل شيء عنها بالتفصيل.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 25 إلى ص 30.
(1) روح المعاني 12/2.
(2) البحر المحيط 5/204.
(3) انظر الكشاف 2/91، البحر المحيط 5/204.
{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} [هود: 7]
بعد أن ذكر قدرته وعلمه بالبشر وعموم الأحياء ذكر قدرته وعلمه بعموم الخلق فقال: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} أي هو لا غيره.
فهو الذي خلقهن حصرًا فلمَ يعبد سكانهما غيره؟
فارتبط ذلك بقوله: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} [هود: 2].
وقال: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} فدل على أنه الملك والمالك والحاكم لأن صاحب العرش هو الملك.
ودل على أن ملكه وحكمه قديمان، فإنه الملك قبل أن يخلق السماوات والأرض فإنه كان عرشه على الماء. فهو رب العرش العظيم ورب ما كان عليه العرش.
وقال: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} أي ليختبركم، ومعنى ذلك أنه خلق السماوات والأرض لحكمه وليس عبثًا، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} [الدخان: 38 – 39] فدل على أنه حكيم.
ثم ذكر عاقبة هذا الابتلاء وأنه لم يتركهم سدى، بل سيبعثهم بعد الموت ليجزيهم
على ما قدموا فقال: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}
فدل على أن لهذا الاختبار جزاء بعد الموت.
1- فارتبط قوله سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [هود: 4].
2- وارتبط ذلك قوله: {حَكِيمٍ خَبِيرٍ} فإن الذي خلق السماوات والأرض بهذا النظام المحكم الدقيق إنما هو حكيم خبير.
3- وارتبط قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} بقوله: {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} بمعنى الحكم. فصاحب العرش إنما هو الحاكم.
4- ودل قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} بأن حكمه وملكه قديمان وليسا حادثين، فإن ذلك قبل خلق السماوات والأرض.
5- ودل قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} أنه إنما فعل ذلك لحكمه، فارتبط ذلك قوله: {مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} بمعنى والخبرة.
والذي يعلم أحسن الأعمال إنما هو الخبير.
فارتبط قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} باسمه الحكيم من الحكم.
وارتبط قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} باسمه الحكيم من الحكمة، وارتبط باسمه الحكيم من الحكم والقضاء؛ لأن الذي يحكم في الأعمال حسنها وأحسنها إنما هو الحاكم ذو الحكمة.
6- وارتبط قوله: { وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ} بقوله {إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
7- وارتبط قوله: {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} بقوله تعالى بعد هذه الآية: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ} [هود: 8] ذلك أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان بمقدوره أن يقول لها: (كن) فتكون، ولكن إنما فعل ذلك لحكمة، فقد خلق السنن الكونية وجعلها تعمل بقدرته وتقديره. وقد يكون إنما فعل ذلك ليعلّم عباده الصبر، فإنه أمر بالصبر بعد بعض الآيات التي ذكرت ذلك، فقد قال في سورة (ق): {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ} [ق: 38]، ثم قال بعد ذلك: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39].
فإذا ذكر أيامًا معدودات لخلق السماوات والأرض وهي ستة أيام وذلك لحكمة أرادها فإنه قد يؤخر العذاب إلى أمة معدودة تفتضيها حكمته.
فدلت هذه الآية على أنه حي عالم قدير حكيم خبير.
واقتضى ذلك ألا يعبد غيره. وكيف يعبد غيره وهو الخالق القادر الرزاق العالم المحيي المميت الباعث؟
ثم قال بعد ذلك: {وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ}.
أي أنك تزين هذا الأمر بحديثك وتعدهم بالبعث بعد الموت ليطيعوك فتسحرهم بقولك وتؤثر فيهم تأثير السحر مع أن كلامك باطل بطلان السحر، وقد قال أحدهم عن القرآن: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر: 24].
جاء في (الكشاف) في قوله: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} "باتين القول ببطلانه ... ومعنى قولهم: {إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ} أن السحر أمر باطل، وأن بطلانه كبطلان السحر، تشبيهًا له به. أو أشاروا بهذا إلى القرآن، لأن القرآن هو الناطق بالبعث، فإذا جعلوه سحرًا فقد اندرج تحته إنكار ما فيه من البعث وغيره" (1).
وجاء في (التفسير الرازي): "قال القفال: معناه أن هذا القول خديعة منكم وضعتموها لمنع الناس عن لذات الدنيا وإحرازًا لهم على الانقياد لكم والدخول تحت طاعتكم ...
الثالث: إن القرآن هو الحاكم بحصول البعث وطعنوا في القرآن بكونه سحرًا لأن الطعن في الأصل يفيد الطعن في الفرع" (2).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 30 إلى ص 33.
(1) الكشاف 2/91.
(2) تفسير الرازي 6/320.