{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [هود: 23]
لما ذكر ما يؤول إليه أهل الكفر الذين يصدون عن سبيل الله ذكر ما يؤول إليه أهل الإيمان الذين أخبتوا إلى ربهم.
ومعنى (أخبتوا إلى ربهم) "اطمأنوا إليه وانقطعوا إلى عبادته بالخشوع والتواضع، من الخبت وهي الأرض المطمئنة" (1).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 82 إلى ص 82.
(1) الكشاف 2/94، وانظر البحر المحيط 5/199.
{ مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ }[هود: 24]
شبه الفريق الكافر بالأعمى والأصم، ولم يذكر الأبكم لأن هذا الفريق يتكلم، فهم كذبوا على الله ويصدون عن سبيل الله وببغونها عوجًا وهذا إنما يكون في الكلام.
وشبه الفريق المؤمن بالبصير والسميع.
وبدأ بالفريق الكافر لأنه تقدم ذكرهم وذلك من قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} إلى قوله: {لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ} [هود: 18 - 22].
ثم ذكر بعده الفريق المؤمن وهو البصير والسميع وذلك قوله: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ......}
جاء في (البحر المحيط): "والفريقان هنا الكافر والمؤمن، ولما كان تقدم ذكر الكفار وأعقبه بذكر المؤمنين جاء التمثيل هنا مبتدأ بالكافر فقال: {كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ}" (1).
وقال: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} بحذف إحدى التاءين من الفعل ولم يقل (تتذكرون) كما في آيات أخرى؛ ذلك لأن هذا الأمر من الوضوح بحيث لا يحتاج إلى قدر طويل من التذكر والتأمل "فإنك إذا سألت أيفرد من عقلاء خلق الله: هل يستوي رجل أعمى أصم ورجل بصير سميع؟ أو هل يستوي الأعمى والبصير والأصم والسميع؟
كان جوابه: كلا لا يستويان.
فحذف من الفعل للدلالة على أن هذا لا يحتاج إلى طول تذكر وتأمل" (2).
فلما كان الأمر لا يحتاج إلى وقت طويل من التأمل والتفكير للإجابة اقتطع من الفعل. والله أعلم.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 82 إلى ص 83.
(1) البحر المحيط 5/213.
(2) بلاغة الكلمة في التعبير القرآني 20.
{فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} [هود: 27]
ذكر الملأ الذين كفروا أمورًا تدعوهم إلى الشك في دعواه وهي:
1- أنه بشر مثلهم فلماذا يؤثره الله بهذا الفضل دونهم؟
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنهم يرون أن الله لو أراد أن يرسل رسولًا لأرسل ملكًا من الملائكة، كما قالوا في موطن أخر: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً} [المؤمنون: 24].
2- أن الذين اتبعوه هم أراذل المجتمع في نظرهم، وأما هم فملأ القوم أي أشرافهم، فكيف يرى هؤلاء الأراذل ما لا يراه أشرف القوم من الحق؟
وحتى لو كان نوح على حق فإن هؤلاء لا ينبغي أن يكونوا معهم فيجالسوهم ويخالطوهم.
3- وعلاوة على ذلك فإن هؤلاء الذين اتبعوه وهم أراذل القوم اتبعوه بادي الرأي، أي أول الأمر من دون تفكير ولا روية، ولو فكروا وترووا لم يفعلوا.
4- أنا لا نرى لكم علينا من فضل لا في حصافة عقل ولا في مكانة اجتماعية فلماذا اختاركم الله دوننا في الرسالة أو التصديق؟
جاء في (تفسير الرازي): "والمعنى لا نرى لكم علينا من فضل لا في العقل ولا في رعاية المصالح العاجلة ولا في قوة الجدل. فإذا لم نشاهد فضلك علينا في شيء من هذه الأحوال الظاهرة فكيف نعترف بفضلك علينا في أشرف الدرجات وأعلى المقامات" (1).
5- وذكروا أنهم يظنونهم كاذبين. والخطاب للجميع لنوح وأتباعه، فنوح في ظنهم كاذب، وأتباعه في ظنهم كاذبون، فهم لم يؤمنوا به حقًا وإنما قد يكون إيمانهم لغرض من الأغراض أو أنهم أمنو به أول الأمر ولم يرجعوا عن ذلك.
لقد قال ههنا: {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} من غير توكيد للظن.
وقال في الأعراف: {وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [الأعراف: 66] فأكده بإن واللام.
وقال في الشعراء: {وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [الشعراء: 186] فأكده بـ (إن) المخففة وذلك بحسب المقام الذي يقتضي كل تعبير.
وإيضاح ذلك أن مقام التكذيب في الأعراف أشد من الموطنين الأخرين، فقد قالوا لنبيهم: {وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} [الأعراف: 66] ولم يرد نحو هذا في الموطنين الأخرين.
ثم إنه كان بينه وبين قومه مشادة عنيفة، فقد قالوا له: {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الأعراف: 70]
فرد عليهم قائلًا: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} [الأعراف: 71] فناسب ذلك قوة المواجهة في التكذيب.
وأما في الشعراء فالمواجهة أخف مما هي في الأعراف، فقد قالوا لشعيب في الشعراء: {قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} [الشعراء: 185 - 186].
ثم تحدوه قائلين: {فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 187].
وهو لم يواجههم بتلك الشدة التي واجههم بها في الأعراف، فإنه لم يزد على قوله:{قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 188].
فوازن بين قول هود في الأعراف:{قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ}وقول شعيب في الشعراء: {رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الشعراء: 188]
ووازن بين قولهم في الأعراف: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} وقولهم في الشعراء: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ}
يتضح لك الفرق بين المقامين، ويتضح لك الفرق بين التكذيبين. فجاء التكذيب في الشعراء بـ (إن) المخففة.
وأما في هود فالسياق و المقام مختلفان، فهما لم يكونا بذلك العنف والقوة.
فهم يزيدوا على ما ذكروا من دون مواجهة عنيفة.
حتى إن نوحًا في رده عليهم لم يكن عنيفًا وإنما قال لهم: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود: 28].
أي لبست عليكم البينة.
فكانت المواجهة أخف و كان التكذيب أخف.
فناسب كل تعبير مكانه.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 111 إلى ص 114.
(1) تفسير الرازي 6/336 – 337.
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود: 28]
بدأ بالرد العام عليهم قائلًا لهم: يا قوم اخبروني إن كنت على بينة من ربي وهو البرهان والحجة التي تثبت صدقي وصحة ما أقول فإنه أيدني بمعجزات تدل على ذلك.
وأتاني رحمة من عنده وهي النبوة خصني بها.
ثم إن هذه البينة أبهمت عليكم ولبست أنلزمكم الحجة مع إبهامها وأنتم كارهون لها لا تحبونها ولا تحبون أن تظهر؟
كيف نلزمكم الحجة وهناك مانعان من ذلك:
1- الإبهام والالتباس.
2- الكراهة لها، إذ لو كنتم تحبونها وتودون معرفتها لتوصلتم إلى ذلك بكل سبيل، ولكنكم تكرهونها فكيف نلزمكم إياها؟
جاء في ( الكشاف):" أرأيتم: أخبروني، {إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ} على برهان {مِنْ رَبِّي} وشاهد يشهد بصحة دعواي، {وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ} بإيتاء البينة على أن البيئة في نفسها هي الرحمة، ويجوز أن يريد بالبينة المعجزة وبالرحمة النبوة" (1).
{فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} : أبهمت وأخفيت (2).
والأن لننظر في تأليف هذه الآية:
1- قال (يا قوم) بنداء قومة وأضافهم إلى نفسه تألفًا لهم ومدعاة إلى أن يستمعوا له.
2- قال: (أرأيتم)، ومعنى (أرأيتم) أخبروني، "ومعنى هذا الفعل منقول من الرؤية إلى معنى الإخبار، فقولك مثلًا: (أرأيت إن أصبحت أميرًا ماذا أنت فاعل؟) معناه: أنظرت في هذا الأمر؟ فأنت تستخبره عما سألته عنه" (3).
فهو لا يطابق (أخبروني)، فلا تقول في: (أخبرني حين يسافر محمود ) مثلًا: (أرأيت حين يسافر محمود) ولكن هذا الفعل فيه معنى التعجيب. جاء في (شرح الرضي على الكافية): "ومعنى (أرأيت) أخبر، وهو منقول من (رأيت) بمعنى (أبصرت) أو (عرفت) كأنه قيل: أأبصرته وشاهدت حاله العجيبة، أو أعرفتها، وأخبرني عنها. فلا يستعمل إلا في الاستخبار عن حاله عجيبة"(4).
وفي الآية معنى التعجب ظاهر، إذا المعنى: أفكرتم ونظرتم إذا كانت البينة مبهمة عليكم وأنتم لها كارهون فكيف نلزمكموها؟ أيصح ذلك؟ أيكون مقبولًا عقلًا؟!
فاستعماله هنا أنسب من (أخبروني) الذي قد لا يكون فيه معنى التعجب.
3- قال: {إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} فذكر أن البينة من ربه، ولم يقل: (من ربكم) لأن البينة جاءته هو، ولو كانت البينة جاءتهم هم لقال: (من ربكم) ذلك أنه حيث كان الكلام على المتكلم نفسه يقول إن البينة من ربي فيضيف الرب إلى ياء المتكلم، وحيث قال: إن البينة جاءتكم يقول: إن البينة من ربكم، بإضافة الرب إلى ضمير المخاطبين.
قال تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ} [الأنعام: 57].
وقال: {أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} [هود: 28].
ونحو ذلك جاء في [هود: 63]، و[هود: 88].
بإضافة الرب إلى ضمير المتكلم.
في حين قال: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأنعام: 157].
قال: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 73].
ونحو ذلك قال في [الأعراف 85 و105].
بإضافة الرب إلى ضمير المخاطبين.
وكل تعبير مناسب في مكانه، فكل تأتيه البينة من ربه؛ لأن الرب هو المربي والمعلم والمرشد والموجه فناسب أن تكون البينة من رب تأتيه.
ومن الطريف أن نذكر أن جميع الأمم السالفة التي خوطبت بنحو هذا الخطاب قيل لها: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} وذلك في قوم صالح [الأعراف: 73] ومدين [الأعراف: 85].
وقال موسى لفرعون: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} [الأعراف: 105] إلا الذين أرسل إليهم سيدنا محمد فإنه قال فيهم: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} [الأنعام: 157]، بزيادة الهدى والرحمة على البينة.
أما الأقوام البائدة فلم يزد فيها على البينة ولم يذكر هدى ولا رحمة، ذلك أنهم عذبوا وهلكوا.
أما قوم سيدنا محمد فقد هدوا ورحموا.
وقال في الأقوام البائدة: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ} بتأنيث الفعل لأنها يراد بها المعجزات الدالة على صدق الرسول.
وأما في سيدنا محمد فقد قال: {جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} بتذكير الفعل لأن المراد بها القرآن، فقد قال تعالى في سياق هذه الآيات: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 155]. فذكر الفعل لأن المراد به مذكر وهو الكتاب.
4- قال: {وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ} فقدم الرحمة على الجار والمجرور {مِنْ عِنْدِهِ} وذلك لأن الكلام على الرحمة، فقد قال في تمام الآية: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} فالكلام على الرحمة.
في حين قال في السورة نفسها في موطن أخر: {وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} [هود: 63] فقدم الجار والمجرور المتصل بضمير الرب أي (منه) لأن الكلام على الله لا على الرحمة، ألا ترى إلى قوله: {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ}
فلما كان الكلام على الرحمة قدمها.
ولما كان الكلام على الله قدم ضميره عليها.
5- قال: {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ}، وهو يقول في مواطن أخرى: {رَحْمَةٍ مِنْهُ}
ذلك أنه يستعمل {} بذكر كلمة (عند) لما هو أخص فلا يستعمل ذلك إلا من المؤمنين.
وأما مع (من) فيستعملها عامة للمؤمن والكافر (5). قال تعالى: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [يس: 43 - 44].
وقال {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} [هود: 9].
وقال: {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [ص: 43].
أما مع (عند) فلم يستعملها إلا مع المؤمنين.
6- قال: {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} أي أبهمت وأخفيت، واستعمل (عميت) دون (أبهمت) أو (لبست) أو نحو ذلك، ذلك أنهم قالوا في الآية السابقة: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ} [هود: 27] بذكر فعل الرؤية، ونقيض الرؤية العمى، فلما كانت رؤيتهم لم تهدهم إلى الحق وإلى رؤية البينة ناسب أن يذكر أنها عميت عليهم، فاستعمل (عميت) أنسب بالمقام.
ولما ذكر الرؤية ثلاث مرات ناسب تضعيف التعمية.
وقرى أيضًا (فعميت) بالتخفيف والبناء للفاعل، أي التبست عليهم البينة.
والقراءتان معًا تفيدان أن البينة التبست عليهم وأبهمت فهي ملتبسة ومبهمة، فكان الالتباس مضاعفًا عليهم من كل وجه: من الشيء نفسه ومعمى من غيره فزاد ذلك التباسًا وتعمية.
وإيضاح ذلك أنك: (التبس عليه الأمر ولبسته عليه) فالأمر في نفسه ملتبس لا يهتدي إليه صاحبه، فإن زدت على ذلك أنك لبسته أيضًا فإنه يزيد التباسًا. وكما تقول: (عسر عليه فهم المسألة وعُسّر عليه فهمها أيضًا) فجمع ذلك عسرين: عسرها هي وتعسيرها عليه، وكذلك ههنا (عميت عليهم) و(عميت عليهم) فجمعت القراءتان هذين المعنيين.
وقال: {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} ولم يقل: (فعميتم عنها) تلطفًا في الكلام. فنسب ذلك إلى البيتة لا إليهم.
7- قال: {وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} فقدم الجار والمجرور (لها) على اسم الفاعل ولم يقل (وأنتم كارهون لها) وذلك لإفادة القصر والاختصاص، أي تخصون هذا الأمر بالكراهة.
أي أنلزمكم البينة وأنتم تخصونها بالكراهة فلا تكرهون شيئًا ككراهتكم لها.
ولو قال: (وأنتم كارهون لها) لأفاد ذلك انهم يكرهونها ولكن لا يخصونها بالكراهة. فلما قدم الجار والمجرور دل على قصر الكراهة عليها، وبين ذلك شدة كراهتهم لها كيف يلزمهم إياها؟
8- قال: {وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} بالاسم، ولم يقل: (وأنتم لها تكرهون) بالاسم، ولم يقل: (وأنتم لها تكرهون) للدلالة على ثبات هذه الكراهة ودوامها. ولو قال: (تكرهون) لكان ذلك دالًا على الحدوث.
فذكر كل شيء يحول بينهم وبين البينة.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 114 إلى ص 120.
(1) الكشاف 3/95.
(2) البحر المحيط 5/216.
(3) معاني النحو 2/18.
(4) شرح الرضي على الكافية 2/212.
(5) انظر كتابنا (على طريق التفسير البياني) 2/204 وما بعدها.
{وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [هود: 29 - 30]
قال نوح إنه ليس طالب مال ولا جاه فهو لا يسألهم مالًا ولا يبغي جاهًا، وإنما هو حامل دعوه فهو لا يطرد ما يسمونهم الأراذل فإنهم ملاقو ربهم.
وفي قوله هذا رد على ما قاله الملأ إنهم اتبعوه بادي الرأي من غير تفكير ولا روية. فقال لهم: أنا لا أعلم ذلك وإنما أحكم بظواهر الأمور والله يعلم دخائل النفوس وما في القلوب، وهم ملاقو ربهم، وهو أعلم بهم.
ثم لماذا يتبعني هؤلاء وليس عندي مال ولا جاه ولا سلطان؟
جاء في (الكشاف) في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} "فإن قلت: ما معنى {إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ}؟
قلت: معناه إنهم يلاقون الله فيعاقب من طردهم، أو يلاقونه فيجازيهم على ما في قلوبهم من إيمان صحيح ثابت، كما ظهر لي منهم وما أعرف غيره منهم، أو على خلاف ذلك مما تقرفونهم به من بناء إيمانهم على بادي الرأي من غير نظر وتفكر. وما علي أن أشق عن قلوبهم وأتعرف سر ذلك حتى أطردهم إن كان الأمر كما تزعمون.
ونحوه {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} الآية. أوهم مصدقون بلقاء ربهم موقنون به عالمون أنهم ملاقوه لا محالة.
(تجهلون) تتسافهون على المؤمنين وتدعونهم أراذل، من قوله: (ألا لا يجهلن أحد علينا) أو تجهلون لقاء ربكم، أو تجهلون أنهم خير منكم" (1).
وجاء في (تفسير الرازي) في قوله: {وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا .... }
"اعلم أن هذا هو الجواب عن الشبهة الثانية وهي قولهم: لا يتبعك إلا يتبعك إلا الأراذل من الناس؟ وتقرير هذا الجواب من وجوه:
الوجه الأول: أنه عليه الصلاة والسلام قال: أنا لا أطلب على تبليغ دعوة الرسالة مالًا حتى يتفاوت الحال بسب كون المستجيب فقيرًا أو غنيًا، وإنما أجري على هذه الطاعة الشاقة على رب العالمين. وإذا كان الأمر كذلك فسواء كانوا فقراء أو أغنياء لم يتفاوت الحال في ذلك.
الوجه الثاني: كأنه عليه الصلاة والسلام قال لهم: إنكم لما نظرتم إلى ظواهر الأمور وجدتموني فقيرًا وظننتم أني إنما اشتغلت بهذه الحرفة لأتوسل بها إلى أخذ أموالكم، وهذا الظن منكم خطأ فإني لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجرًا إن أجري إلا على رب العالمين فلا تحرموا أنفسكم من سعادة الدين بسبب هذا الظن الفاسد" (2).
والأن ننظر في هذا التعبير من الناحية البيانية:
1- فقد قال ههنا: {لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا ...} وفي جميع المواطن الأخرى وردت كلمة (أجر) بدل المال، وذلك كما في قوله: {يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [هود: 51]، وقوله: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الشعراء: 109]، وكما في آيات أخرى نحو ما جاء في الشعراء 127، 145، 164، 180 وغيرها.
قيل: وذلك أنها وقعت بعدها كلمة (خزائن) "ولفظ المال بالخزائن أليق" (3) فقد جاء بعدها على لسان نوح: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ} [هود: 31] فناسب ذكر المال.
2- نفي السؤال بـ (لا) فقال: {لَا أَسْأَلُكُمْ}، وحيث نفى هذا الفعل بـ (لا) جرد مفعوله من (من) الاستغراقية، وذلك نحو قوله: {لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} [الأنعام: 90] وكما في آيات عدة، منها في هود 51، يس 21، الشورى 32.
وحيث نفاه بـ (ما) أدخل (من) الاستغراقية على المفعول فيقول مثلًا: {وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} وذلك في آيات عدة، منها في الفرقان 57، الشعراء 109 و127 و145، ص 86 وغيرها، وذلك في جميع القرآن بلا استثناء.
ولعل من أسباب ذلك أن (لا) أكثر إطلاقًا من (ما) وأوسع استعمالًا، بل هي أوسع حرف نفي (4).
وهي إذا دخلت على الفعل المضارع فقد تنفي جميع الأزمنة.
فهي قد تنفي الحال أو الاستقبال أو الاستمرار وذلك نحو قوله تعالى: {مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ} [النمل: 20]، وقوله: {مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ} [الصافات: 92] وهي فيهما لنفي الحال.
وقوله: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} [البقرة: 48] وهي هنا لنفي الاستقبال.
وقوله: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69]، وقوله: {وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]، وقولك: (الأعمى لا يبصر) وهذا الاستمرار.
وأما (ما) إذا دخلت على الفعل المضارع فإنها لنفي الحال.
وإن النكرة المنفية قد تكون عامة وقد تكون للواحد. فقولك: (ما جاءني رجل) يحتمل أنه لم يأتك أحد من جنس الرجال، كما يحتمل أنه لم يأتك رجل واحد بل أكثر.
فإن دخلت عليها (من) كانت لاستغراق الجنس نصًا.
فمع (لا) جاء بما يحتمل الجنس والمفرد مناسبة لإطلاق (لا).
ومع (ما) جاء بما هو للجنس نصًا فناسب التنصيص على الحال التنصيص عل الجنس.
3- قال: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا} فأكد النفي بالباء الزائدة.
وجاء بـ (طارد) اسم الفاعل للدلالة على الدوام، أي إن هذه هي حاله الدائمة. ولم يقل: (ولا أطرد) أو (ولن أطرد) بالفعل فيدل على الحدوث وعلى زمن معين، وإنما هو لا يطردهم على سبيل الدوام والثبات.
4- وأضاف اسم الفاعل (طارد) إلى ما بعده وهو الاسم الموصول ولم ينون اسم الفاعل، فلم يقل: (وما أنا بطارد)، وذلك للدلالة على إطلاق الزمن، أي لم أفعله في الماضي ولا أفعله في الحال ولا في الاستقبال.
ولو نون لكان عدم الطرد في الحال أو في الاستقبال؛ لأن اسم الفاعل إذا عمل في المفعول كان للحال أو الاستقبال.
5- قال هنا: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا}.
وقال في الشعراء في القصة نفسها: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 114].
فجعل صلة الموصول في آية هود فعلًا (الذين أمنوا).
ووصفهم بالإيمان على جهة الثبوت في الشعراء (المؤمنين) وذلك لأن الكلام في هود كان في زمن أسبق مما هو في الشعراء، فقد قال الملأ في هؤلاء: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود: 27].
في حين كان الكلام في الشعراء على ما بعد ذلك، فقد لبث فيهم نوح وزمنًا يدعوهم بعد ذلك حتى هددوه بالرجم إن لم يكف، ولم يفعلوا مثل ذلك في سياق آيات هود، وإنما قالوا له: {قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود: 32] فدل ذلك على أن المشهد في الشعراء إنما كان بعد ما قضى مرحلة طويلة وبرموا به فهددوه بالرجم وإن نوحًا برم بهم فدعا ربه قائلًا: {قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 117-118]، فوصف جماعته ههنا بالإيمان الثابت لصبرهم وثباتهم والدلالة على أن إيمانهم عن يقين وليس إيمانًا بلا ترو ولا تمحيص، فكان كل وصف في مكانه أنسب.
6- قال: {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} فقال: (أراكم) كما قالوا له: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} فكأنه رد على ما قالوه فيه وما كانوا يرونه.
فقد قالوا له: {مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا} فقال لهم: {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ}
7- قال ههنا: {وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ} وكذلك قال في الأحقاف (23) فقال في الموطنين: (أراكم).
وقال في الأعراف: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [الأعراف: 138]، وقال في النمل: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 55] ولم يقل فيهما: أراكم.
ذلك أن الكلام في هود والأحقاف فيما يراه كلا الفريقين من الدعوة إلى التوحيد، فقد قال ذلك في قصة نوح بعدما دعاهم إلى عبادة الله قائلًا: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 26] وما واجهه قومه به.
وقال ذلك في قوم عاد بعد أن قال لهم نبيهم: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأحقاف: 21] وما واجهه قومه به.
فكان الكلام فيما يراه كل فريق في الأخر.
وأما في سياق آية الأعراف فليس الأمر كذلك، وإنما قال ذلك موسى لقومه بني إسرائيل بعدما أغرق آل فرعون أمام أعينهم وجاوز بهم البحر، قال تعالى: {وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آَلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأعراف: 138-139] فقد قال لهم موسى: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} مؤكدًا ذلك بـ (إن) ولم يقل: (أراكم) ذلك أن هؤلاء مؤمنين بما جاء به موسى، وقد أنجاهم الله وأغرق آل فرعون بمعجزة شاهدوها وعاشوها ومع ذلك طلبوا أن يجعل لهم نبيهم صنمًا يعبدونه كما يفعل عبدة الأصنام، أليس هذا من أعجب العجب ؟!
لماذا إذن أنجاهم الله وأغرق آل فرعون إذا كان منهم يعبد غير الله؟
فقال لهم موسى: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} ولم يقل: (أراكم)، فهذا ليس ما يراه إنما هو أمر محقق مؤكد.
وأما ما ورد في سياق آية النمل فهو في قوم لوط وما يأتونه من الفاحشة. قال تعالى: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 54 - 55].
وهذه فاحشة معلنة، ومن يأتيها واقع في المنكر لا محالة، فليست هي في سياق مناقشة أفكار، وإنما هو تقرير أمر واقع وليس رأيًا يراه نبيهم فيهم، فقال لهم مقررًا: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} فمن يفعل ذلك كان كذلك، وليس على رأي دون أخر.
وقال في قوم موسى: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} بالتأكيد بإن، وقال في قوم لوط: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} ولم يؤكده بإن فعل موسى مع قومه؛ وذلك لأن جهل بني إسرائيل أكبر، فهم مع إيمانهم لموسى وبدعوته طلبوا صنمًا ليعبدوه، فهذا من أكبر الجهل، وهو أكبر من فعل الفاحشة.
فالمؤمن بالله الموحد إذا عبد صنمًا كان فعله أكبر وأعظم ممن فعل الفاحشة، فهذه ردة بعد الإيمان وشرك بعد التوحيد.
والشرك أكبر الكبائر، وقد ذكر ربنا أن الله لا يغفر للمشرك ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا }[النساء: 48] فناسب تأكيد جهل قوم موسى بإن دون قوم لوط مع نسبتهما كليهما إلى الجهل والله أعلم.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 120 إلى ص 126.
(1) الكشاف 2/96.
(2) تفسير الرازي 6/336.
(3) البرهان للكرماني 234 – 235، وأنظر التعبير القرآني 210.
(4) انظر معاني النحو 4/240 وما بعدها.
{وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [هود: 30]
ذكر أمر يمنعان من طرد من أمن معه:
الأمر الأول: أنهم ملاقو ربهم وهو أعلم بحالهم.
والأمر الأخر: أنه ليس ذلك إلى ولا أستطيعه، فإن فعلت فإن الله سيعاقبني ولا ينجيني أحد منه. ومن ذا الذي ينصرني من الله إن طردتهم؟
وقال: {إِنْ طَرَدْتُهُمْ} ولم يقل: (إن) أطردهم أي لا أحد ينجيه من الله إن طردهم ولو مرة واحدة. فكيف إذا كرر طردهم؟!
وهذا يدل على أنه إن طردهم ولو مرة يوجب عليه العقاب.
وقال: {أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} ولم يقل: (أفلا تتذكرون) أي إن هذا الأمر لوضوحه وظهوره لا يحتاج إلى طول تذكر وإنما هو أمر ظاهر. فإنهم عباده وهم ملاقوه وهو أعلم بحالهم.
ثم إني إن فعلت ذلك عاقبني ربي ولا ينجيني أحد منه، فإنه هو الذي أرسلني وكلفني تبليغ دعوته لعباده. والكل عباده غنيهم وفقيرهم.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 127 إلى ص 127.
{وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ }[هود: 31]
ثم ذكر أنه ليس عنده مغريات تدعو إلى اتباعه بسببها، فهو لا يملك المال الكثير حتى يتبعه طلاب المال. والناس إنما يستهويهم المال أكثر ما يستهويهم كما قال تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} [الفجر: 20].
وهو لا يعلم الغيب، ولا يظن أحد أني لكوني رسول الله أعلم الغيب فأنا لا أعلم الغيب، ولذا لا أستطيع أن أصنف الناس فأعلم المؤمن من مدعي الإيمان وإنما علم ذلك إلى الله، ولا أستطيع أن أجيب عما يحصل في المستقبل، ولا من يريد أمرًا من أمور الغيب يجد جوابه عندي.
ولا أقول إني ملك وإنما أنا بشر كما تقولون.
فإذا كان الفضل تحسبونه في هذه الأشياء فما لي عليكم من فضل.
ثم إني لا أقول للذين تزدرونهم لن يؤتيهم الله خيرًا، وهذا توكيد لعدم علم الغيب. ثم أكد ذلك بقوله: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} فالله هو الذي يعلم بما في أنفسهم، وأما أنا فلا أعلم الغيب.
فهو لا يملك - كما هو واضح من كلامه - مغريات تدعو الفقير أو الغني إلى اتباعه بسببها، وإنما هي دعوه إلى عبادة الله، والله هو الذي يجزي عن ذلك وليس إليه شيء منه.
جاء في (الكشاف): "لا أقول: عندي خزائن الله، ولا أقول: أنا أعلم الغيب، ومعناه: لا أقول لكم عندي خزائن الله فأدعي فضلًا عليكم في الغنى حتى تجحدوا فضلي بقولكم {وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ}.
ولا أدعي علم الغيب حتى تنسوني إلى الكذب والافتراء او حتى أطلع على ما في نفوس أتباعي وضمائر قلوبهم.
{وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} حتى تقولوا لي: {وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا}، ولا أحكم على من استرذلتم من المؤمنين لفقرهم أن الله لن يؤتيهم خيرًا في الدنيا والأخرة لهوانهم عليه كما تقولون مساعدة لكم ونزولًا على هواكم" (1).
ومن الملاحظ في هذا التعبير:
1- إنه قال: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ} فجاء بالفعل المضارع (أقول) ونفاه بـ (لا)، ولم يقل: (ما أقول) أو (ما قلت) أو (لم أقل) للدلالة على الاستمرار في عدم القول. فهو لا يقوله في حال من الأحوال.
فهو لم ينفه بـ (ما) فلم يقل: (ما أقول) فيكون النفي للحال فقط.
كما هو لم يقل: (ما قلت) أو (لم أقل) فيكون النفي في الماضي، وقد يقوله في وقت آخر. وإنما نفاه بـ (لا) التي تستعمل لجميع الأزمنة.
2- وقال: {خَزَائِنُ اللَّهِ} بإضافة الخزائن إلى الله ولم يقل: (خزائن لله) فتكون الخزائن نكرة، وقد تكون الخزائن قليلة أو كثيرة، فلو كانت ثلاثًا صح ذلك. ولكنه قال: {خَزَائِنُ اللَّهِ} فشملت جميع خزائنه، وذلك أدعى إلى اتباعه لو كانت عنده.
3- قال هنا: {وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ}
وقال في الأنعام على لسان سيدنا محمد: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام: 50] فكرر (لكم) ذلك أن المقام في هود مقام التلطف بقومه، فقد قال قبلها: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي ... وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا ... وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ ... وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ}"فتأمل جليل ملاطفته عليه السلام لهم، وما يُفهم من كلامه من عظيم الإشفاق من حالهم، وإرادته ما به نجاتهم من العذاب، ومن أخذه بمرتكباتهم. فهذا كله استلطاف في الدعاء لا يناسب تكرار كلمة تفهم تعنيفًا أو توبيخًا، والتأكد والتكرار يفهم ذلك ويردان حيث يقصد" (2).
أما السياق في الأنعام فهو في مقام التبكيت والتعنيف، فقد قال: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} [الأنعام: 46 - 47].
وقد يكرر ضمير الخطاب في نحو هذا المقام "فتكرر فيها قوله: (لكم) تأكيدًا يفهم التعنيف ويناسب التوبيخ والتقريع" (3).
4- قال: {وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} فقال: (تزدري) بالفعل المضارع، ولم يقل (أزدرت) للدلالة على الاستمرار، قيل: أو لحكاية الحال (4).
5- قال: {وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} فحذف العائد، والأصل (تزدريهم)، فحذف العائد إكرامًا لهم لئلا ينال الازدراء ضميرهم صراحة.
ونحو ذلك يكون في كلامنا، فإذا أردنا أن نكرم أحدًا فلا نعدي إليه فعلًا فيه إهانة، فلا نقول مثلًا: (أنا ما شتمت فلانًا) أو (أنا لم أضربه) وإنما نحذف المفعول إكرامًا له.
فكما نذكر المفعول إكرامًا وذلك كقوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 18] قد يحذف المفعول إكرامًا أو لغير ذلك من الأغراض.
6- وقال: {لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} فأسند الازدراء إلى الأعين ولم يقل (للذين تزدرونهم) فيسند الازدراء إليهم. وذلك أنه أراد إكرامهم أيضًا، فكأنه قال: (أنتم ترون ظواهرهم ولم تخبروا حقيقتهم)، وهذا الازدراء إنما وقع من ظاهر الرؤية، والمرأى قد لا يدل على الحقيقة، فكم من رجل تزدريه عيناك وهو في الحقيقة رجل أي رجل.
ثم إن هذا التعبير مناسب لقوله: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا} فعلقوا ذلك بالرؤية، والرؤية إنما تكون بالعين، فناسب أن يقول: {تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ} فكأنه قال: إنما حكمتم بالظواهر ولم تدركوا الحقائق.
7- قال: {لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} فجاء بـ (لن) الدالة على الاستقبال، وهذا الاستقبال عام قد يكون في الدنيا وقد يكون في الأخرة وقد يكون فيهما.
فإن تكن تزدريهم الأعين الأن فلربما يتغير الحال في المستقبل، فقد يصبح الفقير غنيًا، وقد يكون ممن يملأ العين.
وقد يكون ذلك في الأخرة، وقد يكون فيهما، وكل ذلك استقبال، فجاء بحرف الاستقبال.
8- وقال: {لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} فجاء بضمير الغيبة ولم يقل: (لن يؤتيكم الله خيرًا) بضمير الخطاب. وكان الأصل أن يقول- كما هو ظاهر السياق - (ولا أقول للذين تزدري أعينكم لم يؤتيكم الله خيرًا). قيل: وقد عدل عن ذلك إلى قوله: {لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} لأن اللام ليست للتبليغ وإنما هي لبيان العلة أي لأجلهم.
جاء في (روح المعاني): "واللام للأجل لا للتبليغ وإلا لقيل فيما بعد: (يؤتيكم)" (5).
وقد يكون لغرض آخر لطيف وهو أن الإنسان قد يتكلم في الشخص في غيبته ما لا يستطيع أن يواجهه به تلطفًا أو حياء أو خوفًا أو لأي سبب.
فقد تقول: (إن فلانًا لا يصلح لهذا المنصب) ولكن لا تقول ذلك له مواجهة.
وسيدنا نوح قال: {وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا} أي لا أقول ذلك في غيبتهم مع أنه في مأمن من أن يسمعوا كلامه فيتأثروا إكرامًا لهم. ولا شك أنه لا يقول ذلك في حضرتهم وهم يسمعون كلامه من باب أولى.
فأنت ترى أنه حذف مفعول (تزدري) وهو العائد، وأسند الازدراء إلى الأعين ليدل على أن هذا حكم بالظاهر.
وقال: {لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ }بضمير الغيبة ليدل على أنه لا يقول فيهم ما يسيء إليهم في غيبتهم فكيف في حضورهم؟
وكل ذلك مما يدل على إكرام هؤلاء الذين تزدريهم الأعين.
ثم إنه جعل باب الاحتمال مفتوحًا في المستقبل الذي لا يعلمه إلا الله، فلربما أتاهم الله خيرًا يجعلكم تندمون على ما قلتم في حقهم.
وهذا من ناحية فيه تخفيف من غلواء القوم فيهم، ومدعاة إلى إكرامهم من ناحية أخرى.
9- قال: {اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} توكيدًا لما قاله: {وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ}
وقال ههنا: {بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} فجاء بالأنفس بجمع القلة.
وقال في سورة الإسراء: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} [الإسراء: 25] فجاء بالنفوس بجمع الكثرة؛ وذلك لأن آية هود في جماعة نوح من المؤمنين وهم قلة كما قال تعالى: {وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40].
وأما الخطاب في الإسراء فلعموم الخلق من المكلفين وهم كثير ولا شك. فجاء بالجمع الذي يناسب المقام في كل تعبير.
10- وقال في هود: {اللَّهُ أَعْلَمُ} بذكر لفظ الجلالة.
وقال في الإسراء: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ} بذكر الرب، ذلك لأن الكلام في هود في مقام العبادة، فقد قال لهم نوح: {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} فناسب ذكر لفظ الجلالة.
وأما في الإسراء فهو في مقام الإحسان إلى المربي وهما الوالدان، فقد قال تعالى في هذا السياق: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء: 23]
والولدان يربان أبناءهم، أي يربيانهم. والرب هو المربي، فناسب ذكر الرب.
11- ثم ختم بقوله: {إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} بتأكيد ذلك بإن واللام.
والطريف أن يتفق ما قاله أول رسول مذكور في القرآن لقومه وهو سيدنا نوح مع ما أمر به يتفق ما قاله خاتم الرسل لقومه، مما يدل على وحدة الرسالة ووحدة موقف المجتمع البشري منها منذ فجر التاريخ إلى حين نزول الرسالة الخاتمة.
فقد قال سيدنا نوح: {وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ}
وأمر سيدنا محمد أن يقول نحو هذا القول، قال تعالى: {قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ } [الأنعام: 50].
وقال نوح: {وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [هود: 29].
وقال ربنا لسيدنا محمد: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 52].
مما يدل على وحدة الطلب من هذين المجتمعين المتباعدين مع ما بينهما من تطاول القرون.
ووُصف من فعل ذلك بالظلم في الحالين فقال نوح: {إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}.
وقال ربنا لسيدنا محمد: {فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ}.
مما يدل على أن من فعل ذلك بمؤمن إرضاء لكافر كان من الظالمين.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 127 إلى ص 134.
(1) الكشاف 2/96.
(2) ملاك التأويل 1/328.
(3) ملاك التأويل 1/329.
(4) انظر روح المعاني 12/43.
(5) روح المعاني 12/43.
{قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [هود: 32]
بعد أن أسقط الشبه التي ذكروها فيه وفي أتباعه ولم يبق عندهم ما يحتجون به أرادوا أن يقطع الجدال معهم، إذ لا فائدة من الكلام والجدال وإن طال وكثر.
فقالوا له: إنك قد جادلتنا فأكثر جدالنا فاءتنا بما تعدنا به من العذاب الأليم إن كنت صادقًا في دعواك. وقالوا: {جَادَلْتَنَا} ولم يقولوا: (تجادلنا)، وقالوا: {فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} ولم يقولوا: (فكثر الجدال بيننا) وذلك ليدل على أنه هو الذي كان يتعرض لهم ليدعوهم ويكثر جدالهم، ولم يترك الأمور لتجري على ما هي عليه، بل كان يلاحقهم ليدعوهم إلى ربهم، وذلك شأن الدعاة الذين يحملون هم الدعوة. فلم يكف ولم يفتر ولم تثنه كثرة التكذيب أو السخرية عن دعوتهم فلعلهم يلينون أو يرعوون، ولكن الأبواب كانت موصده دونه، كما قال تعالى على لسانه في التقرير النهائي: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا} [نوح: 5 - 7].
وقالوا: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} بالفعل المضارع (تعدنا)، ولم يقولوا: (فاءتنا بما وعدتنا) ولم يقولوا: (فائت بما تعد) أو (فائت بما تعدنا) أو (فاءتنا بما تعد) للدلالة على عدم المبالاة بما ينذرهم وشدة تكذيبهم، فهم طلبوا أن يأتيهم هم بما وعدهم.
فكان لهم ما أرادوا، فقطع دابر القوم الذين ظلموا، والحمد لله رب العالمين.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 134 إلى ص 135.
{قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [هود: 33]
فقال لهم: إن الأمر ليس إليّ، وإن الأمر الذي أعدكم به لا يستطيع بشر أن يفعله أو يأتي به، إنما أمره إلى الله وهو الذي يأتيكم به إن شاء.
وجاء بـ (إنما) للدلالة على أن ذلك بيد الله حصرًا لا يقدر على ذلك غيره.
وقال: {يَأْتِيكُمْ بِهِ} ولم يقل: (يأتي به) فيجعله عامًا؛ ذلك لأنهم قالوا: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} فأردوا ذلك لأنفسهم، فقال لهم: {يَأْتِيكُمْ بِهِ} فيصيبكم أنتم.
وقال: {إِنْ شَاءَ} فجعل ذلك مرتبطًا بمشيئته. وهذا تأكيد لعدم علمه وعدم قدرته. فلم يقل: (إنه سيأتيكم) وإنما أعاد ذلك على مشيئة الله، ونسب الإتيان به إلى الله.
{وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} "بدفع العذاب أو الهرب منه" (1).
وقد أكد عدم إعجازهم بالباء الزائدة.
وجاء باسم بالفاعل {بِمُعْجِزِينَ} ولم يقل: (تعجزون) للدلالة على ذلك على جهة الدوام والثبوت. فهم لا يعجزونه أبدًا على كل حال. وقد مر بيان نحو ذلك في آية سابقة.
وقد أطلق نفي الإعجاز من كل متعلق لا في مكان دون مكان، ولا في زمان دون زمان، ولا غير ذلك من المتعلقات، بل إن ذلك على جهة الإطلاق والدوام.
وفي الآية أكثر من تهديد وتخويف:
1- فقد قال: {إِنَّمَا} للدلالة على القصر، وأن الذين توعدون به أمر عظيم لا يستطيع أن يفعله غير الله.
2- وقال: {يَأْتِيكُمْ} فعداه إلى ضميرهم للدلالة على أن ذلك إنما يأتيهم هم حصرًا، ولم يقل: (يأتي) على العموم فيصيبهم أو لا يصيبهم.
3- قال: {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ} فقدم الجار والمجرور المتصل بضمير العذاب على الفاعل وهو الله.
ولم يقل: (إنما يأتيكم الله به) وذلك لأكثر من سبب:
منها: الدلالة على عظم ما سيأتيهم فلذلك قدمه.
ومنها: أن الكلام في سياق الآيات فيما بعد على ما سيأتيهم والتفصيل فيه.
والسبب الآخر: أن ذلك ما يقتضيه المعنى، ذلك أن المعنى (ما يأتيكم به إلا به إلا الله)، فـ (إنما) أداة حصر وهو من باب قصر الفعل غلى الفاعل.
ولو قال (إنما يأتيكم الله به) لكان المعنى (ما يأتيكم الله إلا به) فيكون من باب قصر فعل الفاعل على شيء واحد، غير مراد ولا يصح، إذ سيكون المعنى: لا يأتيكم الله إلا بهذا الشيء، وهو لا يصح إذ لربما يأتيهم من أمور العذاب والآيات أمور أخرى لا يعلمها إلا الله.
4- أسند ذلك إلى لفظ الجلالة تصريحًا، وفيه من التهديد والتخويف ما فيه، فلم يسند إلى وصف دون وصف، بل إلى الاسم الجامع لكل الأوصاف.
5- وعلق ذلك بمشيئته فقال: {إِنْ شَاءَ} لأن ذلك عائد إليه حصرًا، ولو شاء الخلق كلهم أن يفعلوا ولم يشأ الله ذلك لما استطاعوا.
وهذا دال على عظم ما سيصيبهم من الموعود.
جاء في (روح المعاني): "{قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ} أي إن ذلك ليس إلى ولا مما هو داخل تحت قدرتي، وإنما هو لله عز وجل الذي كفرتم به وعصيتم أمره يأتيكم به عاجلاً أو أجلا إن تعلقت به مشيئته التابعة للحكمة.
وفيه كما قيل ما لا يخفى من تهويل الموعد، فكأنه قيل: الإتيان به خارج عن دائرة القوى البشرية وإنما يفعله الله تعالى.
وفي الإتيان بالاسم الجليل الجامع تأكيد لذلك التهويل" (2).
6- ثم قال: {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ }وذلك للدلالة على ضعفهم وعجزهم على جهة الإطلاق والثبات الدوام.
فهو دال على عظم ما يوعدون به، وعلى عجز من يقع عليهم. وفي ذلك تهديد وتحذير عظيمان للذين يفقهون.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 135 إلى ص 138.
(1) تفسير البيضاوي 295.
(2) روح المعاني 12/45.
{وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [هود: 34]
يعني: إذا نصحتكم وأنا أريد لكم النصح لا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد غير ذلك، فإن الإنسان قد ينصح شخصًا وهو- أي الشخص الناصح – لا يرغب في نصحه ولا يريد ذلك، ولكن قد ينصحه لسبب من الأسباب، فإنه في هذه الحال لا يبالغ في النصح ولا يهتم به، ولكنه إذا أراد النصح وهو حريص على ذلك فلا شك أنه سيبالغ في النصح بكل ما أوتي من مقدره.
فقال لهم نوح: إنه لا ينفعكم نصحي وإن أردت ذلك، أي مع إرادتي لنصحكم ورغبتي فيه وشدة اهتمامي به إن كان الله يريد أن يغويكم.
وهذا بيان لعظيم قدرة الله، فإنه إن نصحهم بهذه الحال وهذا الاهتمام وكان الله يريد أن يغويهم لم ينفع نصحه لهم. فمجرد إرادة الله الإغواء تمنع من النفع.
فهو لم يقل: (لا ينفعكم نصحي وإن بالغت في ذلك إن كان الله أغواكم) فيجعل فعله بقابل الإغواء، وإنما قال: (لا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يغويكم) فجعل عدم النفع بقابل إرادة الإغواء، فمجرد الإرادة تمنع من الانتفاع فكيف إذا فعل؟
جاء في (روح المعاني): "وإنما اقتصر في ذلك على مجرد إرادة الإغواء دون نفسه حيث لم يقل: (إن كان الله يغويكم) مبالغة في بيان غلبة جنابه جل جلاله، حيث دل ذلك على أن نصحه المقارن للاهتمام به لا يجديهم نفعًا عند مجرد إرادة الله تعالى إغواءهم فكيف عند تحققه وخلقه فيهم" (1).
قد تقول: لقد قال في الأعراف: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 62].
فذكر أنه ينصح لهم، ولم يقل كما قال ههنا: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ}.
فلم ذلك؟
فنقول: إن السياق في كل منهما مختلف.
فإن سياق في الأعراف كان بيان أول الدعوة، وقد ذكر مهمته لقومه وهي أنه رسول من رب العالمين يبلغهم رسالات ربه وينصح لهم.
وأما في هود فالسياق مختلف، فإنه قال ما قال بعدما تطاول الزمن وكثر الجدال بينه وبين الملأ من قومه، وبعدما أوصدوا الباب دونه وطلبوا منه أن يأتيهم بما يعدهم به. فقال لهم: {وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} فقد قال لهم ذلك بعد أن لم ينفعهم نصحه مع حرصه على ذلك وتطاول الزمن فناسب أن يقول لهم ذلك. ولا يناسب أن يقول هذا لهم في أول الدعوة وعند أول التبليغ.
فكان كل تعبير أنسب في مكانه.
لقد قال في المؤمنين الذين ازدروهم {إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ}
وقال للملأ الذين كفروا: {هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
فقوله: {إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} بمقابل {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
وقوله: {رَبِّهِمْ} بمقابل {رَبُّكُمْ}
والتعبيران إنما هما في الرجوع إلى الله ولقائه.
ومعنى قوله: {هُوَ رَبُّكُمْ} أي ليس لكم رب غيره.
وبذا يكون قد دعاهم إلى توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية.
فتوحيد الألوهية دعاهم إليه بقوله: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ}
فتوحيد الربوبية هو قوله: {هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }
فقوله: {هُوَ رَبُّكُمْ} يعني ليس لكم رب غيره.
وقوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} يعني أنكم ترجعون إليه حصرًا لا إلى غيره.
غير أن ثمة فرقًا بين اللقاءين، فإن المؤمنين ملاقوه وهم مطيعون له مستجيبون لأمره.
وأنتم ملاقوه وأنتم كافرون به عاصون لأمره.
لقد قال في المؤمنين: {إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ}.
ولم يقل في الكافرين كذلك، وإنما قال: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}
ولعل سبب هذا الاختلاف أو من أسبابه أن القرآن يستعمل التعبير {مُلَاقُو رَبِّهِمْ} ونحوه في المؤمنين ولم يستعمله في الكافرين، واستعمله في عموم الإنسان مرة واحدة.
قال تعالى فيمن أوتي كتابه بيمينه: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [الحاقة:20 - 21].
وقال في الصلاة: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 45 - 46].
وقال في جنود طالوت الصابرين: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }[البقرة: 249].
وقال ربنا مخاطبًا المؤمنين: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة:223].
وقال ربنا مخاطبًا الإنسان على العموم: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق: 6].
ولم يستعمل نحو هذا في الكافرين.
قد تقول: ولكنه قال في اليهود: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ} [الجمعة: 8].
فنقول: إنه لم يقل إنهم ملاقو الموت ولكن الموت هو الذي ملاقيهم. ونحن قلنا فيمن يلاقونه لا فيما يلاقيهم.
ومن جهة أخرى أنه لم يستعمل ذلك مع الله وإنما مع الموت، ونحن قلنا ذلك في لقاء الرب.
فاختلف التعبيران والسياقان.
وأما {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فهي عامة في المؤمن وغيره، وأكثر ما تستعمل للعموم.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 138 إلى ص 141.
(1) روح المعاني 12/47.