{أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} [هود: 35]
قيل: إن هذه الآية من كلام قوم نوح، أي يقولون افترى الوحي على الله.
وقال أخرون: إن هذه الآية معترضة في قصة نوح والقائلون مشركو مكة، أي افترى محمد خبر نوح أو افترى القرآن (1).
ومنطوق الآية يصلح في كل رسول كذبه قومه ورموه بالافتراء على الله.
والرد يصلح على كل من قال هذا القول.
فقوم نوح وموه بالافتراء على الله، والرد يصلح ردًا عليهم.
وهناك أقوام أخرون رموا رسلهم بالافتراء على الله، والرد يصلح ردًا عليهم.
ومشركو قريش رموا سيدا محمدًا بالافتراء على الله. وذكر القرآن ذلك في أكثر من موضع ورد عليهم في كل موضع بما يناسب قولهم.
وهذا الكلام يصلح أن يكون في الكلام على سيدنا محمد، والرد يصلح أن يكون ردًا عليهم.
فالأمر لا يختلف أيًا كان القائل والجواب يصلح للجميع.
واختلف في معنى الآية:
فقد قيل إن معناها: إن افتريته فعلى إثم ذلك، وأنا بريء مما ترتكبون من الآثام "والكفر والتكذيب" (2). فكل منا محاسب عما يعمل كما قال تعالى: {أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس: 41]
وقيل إن معناها: إن افتريته فعلى عقوبة افترائي.
ولكن الحقيقة أني برئ مما تنسبونه إلى من الافتراء.
وادعاؤكم أني افتريته هو إجرام. فأنت إذا نسيت الافتراء إلى شخص وكان بريئًا من ذلك فأنت مجرم في حقه.
جاء في (الكشاف): "والمعنى: إن صح وثبت أني افتريته فعلى عقوبة إجرامي: أي افترائي، وكان حقي حينئذ أن تعرضوا عني وتتألبوا على.
{وَأَنَا بَرِيءٌ} يعني ولم يثبت ذلك وأنا برئ منه.
ومعنى {مِمَّا تُجْرِمُونَ} من إجرامكم في إسناد الافتراء إلى. فلا وجه لإعراضكم ومعاداتكم" (3).
والمعنيان صحيحان يصلحان لكل من قال ذلك.
وقال: {إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} ولم يقل: (وأنا برئ من إجرامكم) كما قال: {فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} ذلك لأنهم رموه بأمر واحد وهو الافتراء فقال: {فَعَلَيَّ إِجْرَامِي}
وأما هم فإجرامهم مستمر من الكفر والتكذيب وغيرهما من الآثام فقال: {وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ} أي مما أنتم مستمرون عليه من الإجرام.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 141 إلى ص 143.
(1) انظر روح المعاني 12/48، تفسير الرازي 6/343، البحر المحيط 5/220.
(2) البحر المحيط 5/220.
(3) الكشاف 2/97.
قصة نوح
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 25 - 26]
وردت قصة نوح في أكثر من موضع من القرآن الكريم، غير أنها ليست متطابقة في كل جزئياتها، وإنما يذكر في كل موضع ما يناسب المقام الذي وردت فيه، وما يراد أن يسلط عليه الضوء منها. بل قد تكون القصص مكملة إحداها للأخرى، يذكر قسم منها في موضع ويذكر ما يليه في موضع آخر.
وهي أطول ما ذكرت في هذه السورة، أعني سورة هود، فهي قد ذكرت في الأعراف ويونس وهـود والأنبياء والمـؤمنـون والشعـراء والعنكبوت والصافات والقمر وختمت في سورة نوح، وهناك إشارات موجزة في مواطن أخرى من القرآن الكريم غير أنها ليست مكررة.
ولتوضيح ذلك نقول:
1- لقد وردت القصة في سورة الأعراف موجزة، وهو أول موضع وردت فيه القصة، والطريف أنها بدأت بقوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} من دون أن تسبق بالواو، وأما في المواطن الأخرى فيقول فيها جميعًا: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا} بالواو فكأنها معطوفة على القصة الأولى مع أن هذه الواو فيها كلها ليست عاطفة على ما قبلها وإنما هي استئنافية .
فقد قال في هود: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} وليس قبلها ما تعطف عليه، وكذا قال في سورة المؤمنون، وكذا قال في العنكبوت.
أما في سورة نوح فقد بدأت السورة بقوله: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} فلا يصح ذكر الواو.
بل إنه قد يذكر الواو في غير هذا التعبير أيضًا، فقد قال في سورة يونس: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ}، وقال في الأنبياء: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ}، وقال في الصافات: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ}.
وهو لا يذكر الواو عندما تكون القصص الأخرى الواردة في السورة كلها لا تذكر فيها الواو وذلك في سورتي الشعراء والقمر.
فإن جميع القصص الواردة في الشعراء ابتداء من قصة نوح تبدأ بنحو قوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ}، فقد قال: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ}، وقال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ}، وقال: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ}، وقال: {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ}، وكلها على نمط واحد في السورة، تستأنف كل قصة على حدة.
وكذلك في سورة القمر، فقد قال: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ}: وقال: {كَذَّبَتْ عَادٌ}، وقال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ}، وقال: {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ}.
وهي على نمط واحد تبدأ بقصة نوح على هذا النمط وكلها من غير واو.
إن قصة نوح في الأعراف تبدأ بدعوة نوح لقومه إلى عبادة الله، دعوة الرسل جميعًا، فقد قال لهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59].
فأجابوه بقولهم: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} فرد عليهم أنه ليست به ضلالة وإنما هو رسول من رب العالمين.
فكذبوه فنجاه الله ومن معه وأغرق الذين كذبوا.
وهذا هو نص القصة:
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} [الأعراف: 59- 64].
ولم يذكر أن له أتباعًا معه وذلك أنه كان في ابتداء الدعوة.
٢- وأما القصة في يونس فكانت كأنها استكمال لما ورد منها في الأعراف.
فهو لم يذكر أنه دعاهم إلى عبادة الله ولم يذكر ماذا قال له قومه، وإنما كان كلامه على شخصه هو، وأنه إن كان كبر عليهم تذكيره بآيات الله فليفعلوا به ما يشاؤون ولا يمهلوه، وأنه لم يسألهم على دعوته لهم أجرًا، وإنما أجره على الله، فكذبوه فنجاه الله وأغرق الذين كذبوا. ولم يذكر له أتباعًا ولا أنهم عرضوا بأتباعه، إذ لا تزال الدعوة في مهدها.
وهذا هو نص القصة في يونس: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ}
فأنت ترى أنه اكتفى بالدعوة إلى عبادة الله في الأعراف، ولم يكررها في يونس واكتفى برد قومه عليه في الأعراف بأنهم يرون أنه في ضلالة، ولم يكرر ذلك في يونس.
وكلام نوح في يونس في الرد عليهم ليس تكرارًا لما قاله في الأعراف، بل ذكر جوانب أخرى استكمالاً لما ذكره في الأعراف، ثم إنه تحداهم وهو ما لم يفعله في الأعراف، فكانت القصة استكمالاً لما ورد في الأعراف.
3- وأما في هود فالقصة طويلة، فقد ذكر أنه لهم نذير مبين، وأنه دعاهم إلى عبادة الله، وذكر ردّ الملأ الذين كفروا عليه، وقد أفاضوا في ردهم عليه.
وظهر أن له أتباعًا وهو ما لم يذكره في الأعراف ولا في يونس، إذ قد كانت الدعوة في مهدها، وذكر رأي الملأ في هؤلاء الأتباع وأنهم كانوا يزدرونهم.
وكان هناك كلام طويل وجدال بينهما حتى قالوا له:
{قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا}
وذكر كيفية النجاة التي لم يفصل فيها فيما سبق في الأعراف ويونس، فذكر صنع الفلك واستهزاءهم به، وذكر حمل ما يحمل ومن يحمل فيها وجريان الفلك وغرق ابنه إلى أن انتهى الأمر وقضي واستوت السفينة وهبوطهم بسلام.
وهي أطول ما ذكر من القصة وأكثر تفصيلاً من كل المواطن الأخرى. فهي كانت استكمالاً وتوضيحًا لما ورد في القصتين السابقتين.
4- وأما في الأنبياء فالقصة ليست في سياق الدعوة والتبليغ، وإنما في سياق نجاة الأنبياء من أقوامهم واستجابة دعاء من دعا منهم.
فقد ذكر نجاة إبراهيم ونجاة لوط ونجاة نوح واستجابة دعائه، واستجابة دعاء أيوب واستجابة دعاء ذي النون وزكريا.
وهذا نص ما ورد فيها:
{وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ}
وهو متناسب مع سياق ما ورد في السورة من قصص الأنبياء.
5- وأما في سورة المؤمنون فقد ذكر القصة بعد ذكر الأنعام وفوائدها والحمل عليها وعلى الفلك، فذكر قصة نوح والنجاة الفلك مناسبة لذكر الحمل على الأنعام والفلك، فقد جاءت القصة بعد قوله:
{وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} [المؤمنون: 21 - 22].
وأما الجانب المذكور من قصة نوح فهو لا يطابق ما ورد من القصص فيما سبق، فإنه بلغهم بالدعوة فقال: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ} ولم يقل شيئًا آخر.
وإن قومه لم يواجهوا بكلام ولا قالوا له شيئًا، بل إنهم كانوا يذكرون رأيهم فيه في غيبته وفي مجالسهم.
ففي سورة هود ذكر ما كان يواجههم به ويواجهونه، وما كان يجادلهم به ويجادلونه، أما في المؤمنون فقد ذكر ما يحصل بعد ذلك، بعد الافتراق وفي مجالسهم، وهذا كأنه كان استكمالاً لما حصل في هود.
ثم ذكر أنه دعا ربه لينصره، وهي أول مرة يدعو فيها نوح بصورة صريحة، فقد قال: {رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُون}
وهذه هي القصة:
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ}
6- وأما في سورة الشعراء فقد قال تعالى في قوم نوح ما قاله الأقوام الأخرى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} وهو نحو ما قاله في الأقوام الأخر وفي رسلهم.
ثم ذكر مواقف الأمم من رسلهم فكانت كلها على نمط واحد.
وإضافة إلى هذا فإن قصة نوح كأنها استكمال لما قبلها وليست مماثلة لها.
فقد دعا نوح قومه فيما سبق إلى عبادة الله {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} أو {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ}.
وأما في هذه السورة فقد طلب منهم تقوى الله وطاعة رسوله ولم يأمرهم بالعبادة فقد قال لهم: { فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}. والتقوى إنما تكون بعد الأمر بالعبادة فهي استكمال للأوامر السابقة.
ولم يذكر أنهم كذبوه وإنما اعترضوا على أتباعه قائلين: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ}. وهددوه إن لم ينته بالرجم.
فدعا ربه قائلاً إن قومه كذبوه وطلب النجاة له ولمن آمن، فاستجاب له ربه فأنجاه ومن آمن معه وأغرق الآخرين.
وهذا هو نص ما جاء في الشعراء.
{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}
7- وأما في سورة العنكبوت فإنه لم يذكر دعوته لقومه ولم يذكر موقف قومه، وإنما ذكر مدة لبثه في قومه وأن قومه أخذهم الطوفان لظلمهم وأنجاه الله ومن معه.
وهذا ما ورد في القصة في هذه السورة.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ}
8- وأما في سورة الصافات فإنه ذكر أن نوحًا دعا ربه وأن ربه أجابه وأنه نجاه وأهله من الكرب العظيم وأنه جعل ذريته هم الباقين مما لم يذكر في المواطن الأخرى، فإنه ذكر فيها ما كان بعد نوح وبعد النجاة، وماذا ترك عليه في الآخرين، وذكر أنه أغرق الآخرين، ولم يذكر من هم الآخرون ولماذا أغرقهم.
وهذا ما ورد فيها:
{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآَخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآَخَرِينَ}
9- وأما في سورة القمر فإنه قال كما قال في بقية الأقوام:{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوح}، وكذلك قال في الأقوام الأخرى:
{كَذَّبَتْ عَادٌ} {كَذَّبَتْ ثَمُودُ} {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ}.
فالقصة على نمط ما ذكر في السورة من القصص.
وهي لم تذكر أنه دعا قومه إلى عبادة الله، وإنما ذكر تكذيب قومه وزجرهم له، ثم إنه دعا ربه أنه مغلوب، والمغلوب إنما يطلب النصر، فطلب النصر قائلًا: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} فأجابه ربه إلى ذلك.
وقد تقول: وما الفرق بين القصص في سورتي القمر والشعراء وهي كلها تجري على نسق واحد؟
فنقول: إن المشهد يختلف في السورتين.
ففي سورة الشعراء كان يذكر ماذا تقول الرسل لأقوامهم، وإلى ماذا كانوا يدعونهم، فكان كل رسول يقول لقومه: {أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}.
وأما في سورة القمر فلم يذكر دعوة الرسل لأقوامهم، وإنما ذكر فيها تكذيب أقوامهم لرسلهم وعاقبة التكذيب، وكان التعقيب على القصص كلها واحدًا، وهو قوله بعد كل قصة: {فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ}
فالقصص في سورة القمر تذكر جانبًا آخر وصورة أخرى من صور القصص القرآني، وإن قصة نوح على نمط القصص الأخرى في السورة، فهي لوحة متناسبة.
وإليك ما جاء في سورة القمر:
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ}
10- وأما في سورة نوح وهي آخر موطن تذكر فيها قصة نوح وآخر موطن يذكر فيها اسم نوح فإنها تختلف عن كل ما جاء في القصص القرآني من هذه القصة.
فإنها هنا أشبه بتقرير نهائي قدمه نوح إلى ربه في مسار دعوته، وموقف قومه منه.
فهو هنا لم يخاطب قومه بشيء ولم يخاطبوه بشيء وإنما ذكر ماذا قال لهم وكيف واجهوه، فقد قال ربنا: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فأمره ربه بإنذار قومه.
فقال نوح مستجيبًا لأمر ربه: {يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} فهو تنفيذ لأمر ربه {أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ}.
فقد قال له ربه: {أَنْذِرْ قَوْمَكَ}، فقال لهم نوح: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ }
ثم ذكر إلى ماذا دعاهم، وذلك قوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} ثم ذكر نوح لربه ماذا كان منه ومنهم.
فقال: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا .....}، إلى آخر ما قال.
{قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا ......} إلى آخر ما ذكر.
ثم ذيل التقرير بمقترح وهو خاتمة التقرير فيهم، وهو أن يهلكهم كلهم فلا يترك كافرًا على وجه الأرض فقال: {وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا} وقد علل هذا المقترح بقوله: {إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}
ثم ختم التقرير بطلب المغفرة له ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات فلعله أن يكون قد قصر في شيء من عمله.
وهو تقرير عجيب جمع فيه خلاصة ما حصل في رحلته الطويلة مع قومه وذيله بمقترحه.
فقد قال في الأعراف والمؤمنون: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}
وقال في هود: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ}.
وقال في الشعراء: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ }
وقال في التقرير النهائي في سورة نوح: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ}
فجمع ما جاء في الأعراف والمؤمنون وهود والشعراء.
فإنه قال في الأعراف والمؤمنون: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ}
وقال في سورة نوح: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ }
وقال في هود: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ}
وكذلك قال في سورة نوح.
وقال في الشعراء: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ }
ونحوه قال في سورة نوح.
فجمع فيها كل ما قاله نوح في كل ما ورد من القصص القرآني.
حتى إنه جمع في سورة نوح بين القول الصريح و(أن) المفسرة أو المصدرية فقال: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ }
وهو ما تفرق في الأعراف والمؤمنون وهود والشعراء.
فقد قال في الأعراف والمؤمنون: {فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ}
وقال في الشعراء: {إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ} بذكر القول.
وقال في هود: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ}
ولم يجمع بينهما في القصة في موطن آخر.
ثم ذكر موقف قومه، فذكر أنهم عصوه واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارًا، وأنهم مكروا مكرًا كبارًا.
ثم ذكر عاقبتهم في الدنيا والآخرة وهي أنهم أغرقوا، وهذا في الدنيا، وأنهم أدخلوا نارًا، وهذا في الآخرة، فهو تقرير جامع مع ذكر العقوبة الجامعة في الدنيا والآخرة.
وقد وافق ربنا على طلبه مبينا سبب الإجابة وهو قوله: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} فإنه حصل ذلك الخطيئات لا بسبب آخر.
ثم ختم التقرير بالدعاء بالمغفرة لأوسع مجموعة من المؤمنين وهو ما لم يذكر في غير هذا الموطن من القرآن فقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}.
ولم يذكر دعاء بمثل هذا التفصيل في طلب المغفرة وذلك مناسبة للتقرير الجامع.
ذكر الدعاء في القصة:
من الملاحظ في مسار قصة نوح أنه لم يدع بالنجاة في سورتي الأعراف ويونس؛ لأن الدعوة كانت في مهدها فلا يناسب طلب النجاة.
وكذلك في سورة هود فإنه لم يدع بالنجاة وإنما أخبره ربه في هذه السورة أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد آمن، وأمره بصنع الفلك، وقال له ربه: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} فعلم من ذلك أنهم ناجون لأنه قال له إنه سيغرق الذين ظلموا.
وأول دعاء صريح له كان في سورة المؤمنون وهو قوله: {رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ}، فطلب النصر. وهذا أول دعاء صريح.
قد تقول: لقد قال ربه في هذه السورة أيضًا: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}، كما قال في سورة هود، فلم دعا لنفسه ولم يكتف بما أخبره ربه فيعلم أنه ناج من غير دعاء؟
فنقول: إن الأمر مختلف في السورتين، فإنه في سورة المؤمنون قال له ذلك بعد الدعاء فكأنه استجابة لدعائه.
وأما في سورة هود فقد قاله ربه ابتداء فلا حاجة إلى طلب النجاة بعد إخباره، فاختلف الأمر.
وكل تعبير مناسب في مكانه، فإن سورة المؤمنون بعد هود في تسلسل السور، ومن المناسب أن يكون الطلب والدعاء بعد أن يمضي وقت طويل مع قومه وأن ينال من أذاهم الكثير فيلجأ إلى الدعاء فأخر الدعاء إلى الموقف المتأخر.
ولما اشتد عليه الأمر في سورة الشعراء وهددوه بالرجم ونالوا منه ومن المؤمنين قائلين له: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} و{لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ} دعا بالنجاة له ولمن معه من المؤمنين.
وقد تقول: ولم دعا لنفسه فقط بالنجاة في سورة المؤمنون ولم يذكر معه من آمن كما فعل في الشعراء؟
فنقول: إن قومه لم يذكروا من معه من المؤمنين في سورة المؤمنون فدعا لنفسه ولم يذكر من معه، فإنه لم يرد لهم ذكر.
ولما ذكروا من معه في الشعراء دعا لنفسه ولمن آمن معه قائلاً: {فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
ولم يذكر له دعاء صريح في سورة الصافات، فإنه لم يذكر له موقف مع قومه، وإنما ذكر ربنا أن نوحًا ناداه فاستجاب له.
وأما في سورة القمر فقد دعا لنفسه ولم يذكر من آمن، ذلك لأنه ذكر تكذيب قومه وزجرهم له ولم يرد ذكر لمن معه فقال: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ}. وكان الدعاء بطلب النصر وليس بطلب النجاة؛ لأنه ذكر أنه مغلوب، وذكر الانتصار هو الأنسب مع المغلوب.
وأما في سورة نوح والتي هي التقرير النهائي فنرى نوحًا يدعو على قومه بأن يهلكهم الله جميعًا قائلًا: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا}
وهذا هو الموطن الوحيد الذي دعا فيه على قومه بالهلاك ولم يدع لنفسه بالنجاة، في حين كان يدعو بالنجاة في القصص الأخرى.
ذلك أن هذا هو الموقف الأخير، فدعا ربه أن يكون هؤلاء الكفرة آخر عهدهم في الدنيا أن يستأصلهم جميعًا.
ولم يدع لنفسه بالنجاة، فإنه إذا أهلك الله الكافرين فقد نجا المؤمنون منهم ومن شرورهم فلا داعي لطلب النجاة، فإنه رأى أن المقام لا يناسب الدعاء بالنجاة بعد هلاكهم فإن هذا من باب تحصيل الحاصل. وإنما دعا بالمغفرة له ولوالديه وللمؤمنين والمؤمنات لأن هذا هو المناسب، فإن الدعاء بالمغفرة في خواتيم الأمور هو الأنسب، ألا ترى إلى قوله سبحانه: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} [آل عمران: ١٥٧] فجعل خاتمة الحياة لهؤلاء المغفرة، وأنه رسوله في آخر سورة نزلت عليه وهي سورة النصر بالاستغفار فقال: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا} [النصر: 1 - 3].
وكان رسول الله يدعو إذا أوى إلى فراشه قائلاً: (إن أمسكت نفسي فاغفر لها) فطلب المغفرة عند طي صفحة الحياة.
وقد يكون بعد ذلك كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ} [الحشر: 10].
وقد يكون يوم الحساب وقد دعا سيدنا إبراهيم قائلاً: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} [إبراهيم: 41].
وقد يطلب المؤمنون المغفرة في عرصات القيامة كما قال تعالى: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التحريم: 8].
ومن الملاحظ أنه لم يرد التصريح بذكر المؤمنين في دعاء نوح بالنجاة، أو في أمر الله له أن يحمل معه من آمن إلا حيث ورد ذكر المؤمنين وازدرائهم في القصة وذلك في مكانين:
الأول: في سورة هود حيث قال الملأ الذين كفروا: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} وقد جرى ذكرهم أيضًا في بقية القصة فقال له ربنا: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ}.
والآخر: في سورة الشعراء حيث قالوا له: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111] فدعا نوح لنفسه ولهم قائلاً: {وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 118].
فذكر وصف الإيمان لمن معه.
وحيث لم يرد لهم ذكر فإنه يذكر النجاة له ولمن معه على العموم من دون تقييد بذكر صفة الإيمان فإنه مفهوم من المقام.
ذكر الناجين:
تختلف المواطن في قصة نوح في ذكر الناجين:
فهو أحيانًا يذكر نجاته ومن معه ولا يذكر أهله مكتفيًا بذكر من معه.
وأحيانًا يذكر أهله ولا يذكر معهم غيرهم.
وأحيانًا يذر أهله ومن معه.
وأحيانًا يذكر نوحًا ولا يذكر أحدًا معه لا من أهله ولا من غيرهم.
وهذا يجري على وفق ضوابط دقيقة.
فحيث يذكر تبليغ قومه يذكر من معه وقد يذكر أهله معهم.
ففي سورة الأعراف قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ}
فقال في النجاة: {فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ}
وفي سورة يونس قال: {}
فقال في النجاة: {فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ}
وفي سورة هود قال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ ....}
فقال في النجاة: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ}
وفي سورة المؤمنون قال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ }
فقال في النجاة: {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ}
وقال في سورة الشعراء: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ}
فقال في النجاة: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ}
وقال في سورة العنكبوت: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ}
فقال في النجاة: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَة}
وحيث لم يذكر تبليغ قومه ذكر أهله فقط وذلك في سورة الأنبياء فإنه قال: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}
فذكر أهله ولم يذكر من معه، فإنه ذكر دعاءه ولم يذكر تبليغ قومه.
وفي سورة الصافات قال تعالى: {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ}
فذكر أهله ولم يذكر من معه، فقد ذكر دعاءه ولم يذكر قومه.
أما في سورة القمر فقد ذكر نجاته ولم يذكر معه، لا أهله ولا الذين معه، فإنه دعا ربه {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} فنصر المغلوب.
وذكر الأهل ومن معه في مكانين:
الأول: في سورة هود، وقد ذكر الأهل لما ورد في القصة من ذكر مناداة نوح لابنه ليركب معه، ومناداة نوح ربه قائلاً: { رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ}
فناسب ذكر أهله.
والموضع الآخر: في سورة المؤمنون وذلك مناسبة لجو السورة.
فمما بدأت به السورة قوله: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } [المؤمنون: 5 - 6]. والأزواج أهل، وأهل الرجل زوجه.
ثم ذكر خلق الإنسان وتطوره من سلالة من طين إلى نطفة في قرار مكين إلى أن أنشأه خلقًا آخر، وهذا إنما يكون في رحم الأزواج، والأزواج أهل، وإن ذلك إنما يكون بين الرجل وزوجه.
ثم إنه ذكر في السورة بعضًا من الرسل وذوي قرباهم، فقد ذكر موسى وأخاه هارون فقال: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآَيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} [المؤمنون: 45]
ثم ذكر ابن مريم وأمه فقال: {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آَيَةً وَآَوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} [المؤمنون: 50].
وذكر البنين، والبنون من الأهل فقال: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55 – 56] فناسب ذكر الأهل في النجاة.
خاتمة القصص:
إن خاتمة القصص ونهاياتها ليست متطابقة في جميع المواضع، بل إن كل موضع مناسب للسياق الذي وردت فيه، كما إن النهايات قد يكمل بعضها بعضًا.
فقد قال في الأعراف: {فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ} [الأعراف: 64].
وقال في يونس: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} [يونس: 73].
فقد وصف قوم نوح في الأعراف بأنهم كانوا قومًا عمين، وذلك أنهم قالوا له: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} فإنهم لما وصفوه بالضلال ناسب أن يصفهم بالعمى من جهتين:
الجهة الأولى: أنهم قالوا: {إِنَّا لَنَرَاكَ} وضد الرؤية العمى، فإن الذي لا يبصر أعمى، فناسب أن يصفهم بالعمى لأنهم في الحقيقة لا يرون.
وقال: (عمين) ولم يقل: (عُمْي) لأن العمي هو أعمى القلب والبصيرة، والأعمى أعمى البصر.
والرؤية في قولهم: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} رؤية قلبية فوصفهم بعمى القلب فقال: {عَمِينَ } مناسبة للرؤية القلبية.
والجهة الأخرى: أنهم وصفوه بالضلال ولم يتبين لهم الهدى وعموا عنه، فناسب وصفهم بالعمى.
وأما في يونس فقد أنذرهم وذكرهم ولم يردوا عليه بشيء فناسب أن يقول: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ}.
ثم ذكر أنه نجاه ومن معه وجعلهم خلائف؛ وذلك مناسبة لما تقدم في السورة من قوله: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس: 13 - 14].
فناسب قوله: {جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ} قوله: {ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ}.
وأما في هود فالمشهد طويل، والقصة مفصلة وقال في خاتمتها: {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
والهبوط إنما هو بعد الركوب والجري والاستواء على الجودي مما لم يذكره في الأعراف ويونس.
ثم إن المشاهد متسلسلة.
فقد قال في الأعراف: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ}.
وذكر في يونس أنه جعلهم خلائف وهي بعد النجاة في الفلك.
وقال في هود: {يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ} فطلب منه الهبوط وهي مرحلة بعد النجاة في الفلك.
ثم قال: {وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ}، وهي مرحلة تأتي بعد قوله في يونس: {جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ}.
فقد ذكر في يونس أنه جعل الناجين خلائف.
وذكر في هود من يكون بعدهم من الأقوام.
وأما في المؤمنون فقد قال: {وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ} [المؤمنون: 29]، وهذا إنما يكون بعد الهبوط، فطلب المنزل إنما يكون بعد الهبوط من السفينة.
فبعد الهبوط بسلام دعاه إلى أن يطلب المنزل المبارك.
وأما في الشعراء فالقصة متناسبة مع القصص في السورة.
فقد بيّن وحدة الرسالة وأن الأنبياء دعوا إلى أمر واحد، وكان موقف أممهم منهم واحدًا وكان التعقيب واحدًا.
فنوح قال لقومه: {أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء: ١٠٦ - 110].
وكذلك قال هود: [الشعراء: 124 - 127].
وكذلك قال صالح: [الشعراء: 142 - 145].
وكذلك قال لوط: [الشعراء: 161 - 164].
وكذا قال شعيب: [الشعراء: 177 - 180].
وكان التعقيب واحدًا وهو قوله: {أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}.
وذلك بعد هلاك قوم نوح ۱۲۱، ۱۲۲ وهلاك عاد 139، 140، وهلاك ثمود 158، 159، وهلاك قوم لوط 174، 175، وأصحاب الأيكة 190، ۱۹۱.
فهي متناسبة القصص الواردة في السورة في وحدة الرسالة، والخاتمة، والتعقيب.
ثم ذكر أن الفلك مشحون، أي ممتلئ، ولم يذكر ذلك في موضع،
وأما في سورة العنكبوت فقد قال: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ} [العنكبوت: 15] وهذا هو الموطن الوحيد الذي ذكر فيه لفظة السفينة في قصة نوح. وقد بينا في كتابنا (أسئلة بيانية) سبب اختيار السفينة على الفلك في هذا الموطن، وما الفرق في الاستعمال القرآني بين السفينة والفلك فلا نعيد القول فيه.
ثم بين أمر السفينة فقال فيها: {وَجَعَلْنَاهَا آَيَةً لِلْعَالَمِينَ} فذكر أنه جعلها آية للعالمين، ومما قيل في معنى ذلك أنه أبقاها بعد ذهاب نوح لتكون آية لمن بعده، فقد قيل إنها بقيت زمانًا طويلاً على الجودي يشاهدها المارة (1).
ولم يذكر ذلك في موطن آخر.
فذكر أمر الفلك في الشعراء عند النجاة ووصفه بأنه مشحون.
وذكره هنا بعد خلوه مما فيه وأنه جعله آية للعالمين.
وأما في سورة الصافات فقد قال: {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات: 76 - 77] فذكر نجاته وأهله ولم يذكر من معه.
وهذا من دقيق مراعاة المقام، فإن المقام لا يناسب ذكر من معه، وذلك أنه قال: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} أي جعل ذريته هم الباقين على قيد الحياة، وأما من نجا معه من المؤمنين فقد هلكوا وبادوا، وإن البشر بعدهم إنما هم من ذرية نوح فهو أبو البشر الثاني والأول هو آدم.
فلو قال: {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} ثم قال بعد ذلك: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} لدل ذلك على أنه أهلك من معه من المؤمنين، وأبقى أهل نوح وذريته، وهذا لا يناسب مع ذكر النجاة، إذ سيكون المعنى أنه أنجاهم من الماء ليهلكهم على اليابسة ويبقي ذرية نوح وحده.
فلما ذكر أنه أبقى ذريته وحدهم ناسب ذكر نجاة أهله وعدم ذكر الآخرين.
وأما في سورة القمر فقد ذكر أن نوحًا دعا ربه {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} فذكر نجاته ولم يذكر أحدًا معه، ذلك أنه دعا لنفسه فذكر نجاته فقط.
ثم ذكر السفينة التي حملته فقال هي: {ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} ولم يذكر ذلك في موطن آخر. وهذه هي المرة الوحيدة التي ذكرت فيها صفة السفينة وأنها تجري برعاية الله، ثم ذكر مآلها بعد ذلك فقال: {وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آَيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ}.
فذكر في سورة هود حال نوح وهو يصنع الفلك ومرور قومه عليه ساخرين.
وذكر هنا حال السفينة وشأنها. فكأن ما ذكره في سورة القمر استكمال لما ورد في السور قبلها.
وقد تقول: لقد دعا نوح في سورة القمر لنفسه فقال: {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} فذكر نجاته ولم يذكر أحدا معه.
وقد دعا في سورة المؤمنون لنفسه أيضًا فقال: {رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} فذكر نجاته ونجاة أهله وذكر من معه، فما الفرق؟
فنقول: لقد دلّ السياق في سورة المؤمنون على أن هناك مؤمنين.
فقد قال: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ}، فذكر قول الذين كفروا من قومه، ومعنى ذلك أن هناك من قومه من آمن.
وقال: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} ومعنى ذلك أنه من لم يكن من الذين ظلموا لا يغرق، فدل ذلك على أن هناك صنفًا غير المذكورين.
ثم أمره ربه إذا استوى هو ومن معه على الفلك أن يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} فذكر أن هناك من استوى معه على الفلك وليس هو وحده.
وطلب أن يكون الدعاء بصيغة الجمع {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ووصف القوم الذين نجاه منهم بأنهم ظالمون.
فالأمر مختلف عما في سورة القمر.
فإنه لم يذكر في سورة القمر أن معه من آمن، ولم يجعل قومه على قسمين:
قسم مؤمن وقسم ظالم ولو على سبيل التضمن أو الإشارة.
وإنما ذكر تكذيب قومه على جهة العموم فقال: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ}
وقال: {فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ}، وهذا قولهم على العموم وليس كما قال في المؤمنون: {فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ}
فهو وحده بإزاء قومه فناسب ذكره هو.
فكان كل تعبير مناسبًا لسياقه الذي ورد فيه.
وأما سورة نوح فقد ذكرنا ما فيها.
فتبين أن القصة ليست مكررة وأنه ذكر في كل مكان أمرًا لم يذكره في فتبين المواطن الأخرى.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 85 إلى ص 107.
(1) انظر روح المعاني 20/143، تفسير ابن كثير 3/407.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 25 – 26]
الواو في قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} ابتدائية.
وقوله: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} على إضمار القول (1) أي فقال: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ}.
وقوله: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ} يحتمل أن يكون معلقًا بـ (أرسلنا) أي أرسلناه بأن لا تعبدوا إلا الله كما في قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [المؤمنون: 32] أي أرسلناه بهذا الأمر.
كما يحتمل أن يكون معلقًا بقوله: (نذير) أي إني لكم نذير بأن لا تعبدوا إلا الله، كما في قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح: ٢ - 3] والمعنى أني أنذركم بهذا الأمر.
ويحتمل أيضًا أن تكون مفسرة للإرسال، أي لقد أرسلنا نوحًا والرسالة هي {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ}.
كما يحتمل أن تكون مفسرة للإنذار (2) أي قال لهم: إني لكم نذير مبين. وإنذاري لكم هو {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ .....} والمعنى أنه سبحانه أرسل نوحًا بعبادة الله وعدم عبادة غيره، وأن نوحًا بلغهم وأنذرهم بذلك.
فدلت الآية على ما قاله نوح وما أرسل به وما أنذرهم به.
قد تقول: لقد قال تعالى في سورة الأعراف: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 59].
فصرح بالقول وذلك قوله: {فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} وكذا قال في سورة المؤمنون ۲۳.
وقال ههنا: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ …. أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} فجاء بـ (أن) فما الفرق؟
ما الفرق بين قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} بالتصريح بالقول.
وقوله في سورة المؤمنون مثلاً: {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} بذكر (أن)؟
والجواب: أنه إذا صرح بالقول فقال: {فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ} فذلك ما قاله لقومه وبلغهم به.
وأما إذا ذكر (أن) فالمعنى مختلف.
فقوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ …. أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ}، أي أرسلنا بهذا الأمر، أي إن هذه هي الرسالة التي أرسلناه بها وليس هذا قوله.
وكذا قوله في سورة المؤمنون: {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، أي أرسلناه بهذا الأمر، أي هذه هي الرسالة التي أرسلناه بها، فـ (أن) مصدرية أو مفسرة.
فقوله في الأعراف: « أعبدوا الله ما لكر من إله غيره "هو قول نوح لقومه. وقوله في المؤمنون: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [المؤمنون: 32] هو الرسالة التي أرسلناه بها إليهم وليس قول نوح.
وكذا قوله في سورة هود كما أوضحنا.
قد تقول: لقد ذكرت أن قوله تعالى: {إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} في قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} على إضمار القول، فما الدليل على ذلك؟ ولم لم تعلقه بـ {أَرْسَلْنَا} كما في قوله: {أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ}؟
والجواب: أن الدليل على إضمار القول هو كسر همزة (إنّ)، ولو كان معلقًا بـ {أَرْسَلْنَا} لفتحت الهمزة كما هو معلوم.
وهناك قراءة متواترة بفتح الهمزة أيضًا، فيكون المعنى على التعليق بـ {أَرْسَلْنَا} ويكون المعنى على ذلك أنه أرسله بالإنذار وما بعده.
وقد أنزلت هاتان القراءتان المتواترتان لتدلا على أن نوحًا أرسل بذلك وأنه بلغهم بما أرسل به.
قد تقول: ولم حذف القول في قوله: {أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ.} ولم يصرح به فيقول: (فقال إني لكم نذير مبين)؟
والجواب: أنه لو ذكر القول لوجب كسر همزة (إن) كما هو معلوم، ولكان المعنى أن ذلك قوله، ولا يفيد معنى آخر.
فلما حذف القول صح أن تفتح همزة (إن) وأن تكسر فيكون لكل منهما معنى.
فالكسر يدل على القول،
والفتح يدل على التعليق بالإرسال، فجمع بين المعنيين، فدل ذلك على أن هذا ما أرسل به وهو ما بلغه.
وهو الأولى.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 107 إلى ص 110.
(1) انظر روح المعاني 12/35 – 36، البحر المحيط 5/214.
(2) انظر الكشاف 2/94، البحر المحيط 5/214، روح المعاني 12/36.
{إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ}
لقد وصف اليوم بأنه أليم، واليوم لا يكون أليمًا وإنما يقع فيه الألم. وهو تعبير مجازي يدل على اتساع الألم وشدته في ذلك اليوم ووقوعه فيه على سبيل الاستغراق بحيث يكون اليوم كله شاملًا للألم.
ولو قال: (إني أخاف عليكم عذابًا أليمًا) لاحتمل أن يكون ذلك في وقت من الأوقات دون سائر اليوم.
فلما قال: {إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} دل على أن الألم شامل لليوم كله وليس في وقت منه.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه إذا ذكر اليوم مع العذاب كما في الآية كان العذاب عامًا وليس خاصًّا بفرد. وإذا لم يذكر اليوم فقد يكون العذاب واقعًا على فرد واحد وذلك نحو قوله تعالى: {مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: 25].
ومن الملاحظ أنه لم يوصف اليوم بأنه عظيم أو كبير أو محيط إلا في سياق العذاب ولم يرد في الجزاء الحسن أو في الجنة. فلم يقل في يوم دخول الجنة يوم عظيم أو كبير.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 110 إلى ص 111.
{وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آَمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} [هود: 36]
بعد أن أغلقوا باب الجدل بينهما وتحدوه أن يأتي بما يعدهم إن كان صادقًا أوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومه إلا من قد أمن، فلا يدخل أحد في دينه بعد.
وقد تقول: لقد قال ههنا: {وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ} ببناء الفعل للمجهول: (أوحى).
وقال في سورة المؤمنين: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ} [المؤمنين: 27] بالبناء للمعلوم فلم ذاك؟
والجواب من أكثر من وجه:
من أن نوحًا دعا ربه في سورة المؤمنين لينصره {قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} [المؤمنين: 26] فاستجاب له ربه فقال: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ} فالذي طلب منه النصر استجاب له فقال: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ} ولم يقل: (فأوحي) بحذف فاعل الاستجابة.
والأمر الأخر: أنه حيث جاء فعل أمر متصل بالإيحاء لم يقل: (أوحي) بالبناء للمجهول، وإنما يذكر الفاعل فيقول: (أوحينا) أو (أوحيت) أو ( أوحى ربك) ونحوه.
قال تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} [الأعراف: 117].
وقال: {ثمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123].
وقال: {وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} [طه: 77].
وقال: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آَمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي} [المائدة: 111].
وقال: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} [النحل: 68].
ولما جاء أمر بعد الإيحاء في آية المؤمنون وهو قوله: {أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ} ناسب ذلك قوله: {وَأَوْحَيْنَا} من هذا الوجه أيضًا.
{لَنْ يُؤْمِنَ}
نفى فعل الإيمان بحرف الاستقبال (لن) للدلالة على أنه لا يؤمن له أحد في المستقبل، فإن الأمر انتهى ولا فائدة من دعوتهم.
{فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}
أي لا تحزن لما كانوا يفعلونه من استهزاء وتكذيب وإيذاء (1).
وقال ههنا: {بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} يذكر الفعل (يفعلون).
وقال في سورة يوسف: {إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} فقال: {يَعْمَلُونَ} فذكر العمل، ذلك أنه يستعمل الفعل (فعل) مع الإهلاك ولم يستعمل الفعل (عمل). قال تعالى: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} [الأعراف: 155].
وقال: {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 173].
ولم يرد في نحو هذا (عمل).
ثم إن ربنا يستعمل الفعل (فعل) في عقوبات الأقوام وإهلاكهم ولم يستعمل (عمل)
قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ} [الفجر: 6].
وقال: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ} [الفيل: 1].
وقال: {وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ} [إبراهيم: 45].
وقال: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآَخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} [المرسلات: 16 - 18].
ولم يقل في نحو هذا: (عمل).
فلما قضى ربنا إهلاك قوم نوح استعمل الفعل الذي يستعمله في الإهلاك فقال: {فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} أي إن فعلهم يقتضي إهلاكهم كما قال: {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا} فإن فعل هؤلاء يقتضي إهلاكهم.
وليس الأمر في قصة يوسف كذلك، فاستعمل فعلًا أخر يؤدي المعنى المقصود. والله أعلم.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 143 إلى ص 146.
(1) انظر روح المعاني 12/49.
{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [هود: 37].
بدأ بما فيه النجاة وهو صنع الفلك وقدمه على مصير الظالمين وهو الإغراق. وهذا هو الكثير في القرآن في قصة نوح وغيرها، يقدم نجاة المؤمنين على إهلاك الكافرين وذلك نحو قوله: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا} [الأعراف: 64] فقدم نجاة المؤمنين على إغراق الذين كذبوا.
ونحوه قوله تعالى: {فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا} [يونس: 73].
وقوله: { فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا … وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ } [هود: 66 - 67].
وقوله: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ} [هود: 94] وغيرها.
ومعنى (بأعيننا): برعايتنا وحفظنا، وجاءت بالجمع للدلالة على تكثير الحفظ وديمومته كما قيل.
جاء في (البحر المحيط): (بأعيننا) "بمرأى منا وكلاءة وحفظ ... وجمعت هنا لتكثير الكلاءة والحفظ وديمومتها" (1).
وجاء في (روح المعاني): "الأعين حقيقة في الجارحة وهي جارية مجرى التمثيل، كأن لله سبحانه أعينًا تكلؤه من تعدي الكفرة ومن الزيغ في الصنعة، والجمع للمبالغة ... وقيل: المراد من أعيننا ملائكتنا الذين جعلناهم عيونًا على مواضع حفظك ومعونتك" (2).
(ووحينا) أي تعليمنا لك تصنعها" (3).
ولما قدم ما فيه نجاتهم وهو الفلك قدم ما يدل على عناية وحفظه لهم، وما يدفع الشر عن الفلك، وحفظها مما يمنعه من العمل في إتمامها وذلك قوله: {بِأَعْيُنِنَا}
فقدم كل ما يتعلق بالنجاة والحفظ، من صنع الفلك وحفظ الله ورعايته.
ثم قال: (ووحينا) أي تعليمنا لك كيف تصنعها.
وهذا يقتضي مراقبة ما يعمل ثم توجيهه إلى أن يستكمل صنعها، وذلك يقتضي أيضًا تقديم قوله: {بِأَعْيُنِنَا} على قوله: {وَوَحْيِنَا}.
ثم إن تعليمه ووحيه إنما هو لغرض النجاة فقدم ما يتعلق بالحفظ والنجاة.
جاء في (تفسير الرازي): "إن إقدامه على عمل السفينة مشروط بأمرين:
أحدهما: أن لا يمنعه أعداؤه عن ذلك العمل.
والثاني: أن يكون عالمًا بأنه كيف ينبغي تأليف السفينة وتركيبها ودفع الشر عنه.
وقوله: {وَوَحْيِنَا} إشارة إلى أنه تعالى يوحي إليه كيف ينغي عمل السفينة" (4).
والأول متعلق بقوله: {بِأَعْيُنِنَا}.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 146 إلى ص 148.
(1) البحر المحيط 5/220.
(2) روح المعاني 12/49.
(3) انظر تفسير الرازي 6/345، روح المعاني 12/49.
(4) تفسير الرازي 6/344 – 345.
{وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}
أي لا تراجعني فيهم فتطلب إمهالهم وتأخير العذاب عنهم (1).
وقال: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} فذكر صفتهم، ولم يقل: (ولا تخاطبني فيهم) ذلك أنه ذكر الصفة التي تستدعي إهلاكهم وهي الظلم.
وهذه الصفة توجب عقوبتهم لا أن تستشفع فيهم.
فناسب ذكر صفتهم التي تستدعي عقوبتهم وعدم مراجعة ربه في إمهالهم.
جاء في (روح المعاني): "{وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي لا تراجعني فيهم ولا تدعني باستدفاع العذاب عنهم. وفيه من المبالغة ما ليس فيما لو قيل: ولا تدعني فيهم" (2).
{إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}
قال: {مُغْرَقُونَ} بالاسم، ولم يقل: (سأغرقهم) للدلالة على الثبوت، فكأنهم أغرقوا وانتهى الأمر.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 148 إلى ص 149.
(1) انظر فتح القدير 2/474، روح المعاني 12/50.
(2) روح المعاني 12/50.
{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} [هود: 38 - 39]
{وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} حكاية حال ماضية (1) لاستحضاره صورته وهو يصنع الفلك، فكأنك تشاهده وهو يعمل.
وقيل: تقديره: وأخذ يصنع الفلك، أو يطفق يصنع الفلك، أو أقبل يصنعها (2) ونحوها من أفعال الشروع.
وعدم التقدير أولى؛ لأن قولنا: (أخذ يعمل) أو (طفق يعمل) ونحوه يحيلنا على بداية العمل، أي بدأ يعمل.
وأما قوله: {وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ} فإنه يذكر الحال المستمرة للعمل وليست بداية العمل. وهو نظير قولك: (أخذ محمود يقرأ) وقولك: (محمود يقرأ) فالجملة الأولى تشير إلى بداية القراءة، وأما الثانية فهي تدل على أنه في داخل الحدث مستمر على فعله. ولذا تخريجه على حكاية الحال أولى؛ لأنه ينقل المخاطب إلى المشهد ونوح منهمك في العمل.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 149 إلى ص 149.
(1) الكشاف 2/97، وانظر فتح القدير 2/474.
(2) انظر روح المعاني 12/50، فتح القدير 2/474.
{وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ}
قال: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ} ولم يقل: (وكلما مر به ملأ) وذلك يدل على أنه ليس يصنع في طريق المارة، بل هو متنح عنهم في مكان أخفض من طريق المارة معه الألواح و معه أدواته. يدل على ذلك قوله: (عليه)، و(على) للاستعلاء.
ولم يقل: (به) التي تفيد الإلصاق كما قال: {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين: 30] أي في الطريق الذي هم فيه أو المكان الذي هم فيه.
وجواب (كلما) يحتمل أن يكون {سَخِرُوا مِنْهُ} فيكون المعنى: كما مر الملأ عليه سخروا. فالسخرية مستمرة عند كل مرور. وتكون جملة {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا} استئنافية.
كما يحتمل أن يكون جواب (كلما): {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا}، وجملة {سَخِرُوا مِنْهُ} صفة للملأ. فيكون المعنى: (كلما مر عليه ملأ ساخر قال إن تسخروا منا). فهو لا يترك ساخرًا إلا رد عليه، وكلما سخر أجابه نوح بقوله: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا ....}.
وعلى الاحتمال الأول يكون المعنى: (كلما مر عليه ملأ سخروا منه)، ولا يدل ذلك على أنه يجيبهم في كل مرة، بل قد يجيبهم أحيانًا وقد يتركهم أحيانًا، أو هو يجيبهم دائمًا. لكن لا يدل ذلك على أن الإجابة كانت في كل مرة حتمًا.
وأما على الاحتمال الثاني: فأنه يدل على أنه كلما مر عليه ملأ ساخر رد عليه ولا يترك سخرية من دون رد. ولكن لا يدل على أن كل ملأ يمر عليه يسخر منه، فقد يسخر منه ملأ وقد لا يسخر أخر.
ولو قال: (وكلما مر عليه ملأ من قومه يسخرون منه قال) لكان الجواب (قال) حتمًا، ولكان المعنى أنه لا يترك ملا يسخر إلا رد عليه.
جاء في (الكشاف): "فإن قلت: فما جواب كلما؟
قلت: أنت بين أمرين:
إما أن تجعل (سخروا) جوابًا، و(قال) استئنافًا على تقدير سؤال سائل.
أو تجعل (سخروا) بدلًا من (مر) أو صفة لملأ، و(قال) جوابًا" (1).
وجاء في (روح المعاني): "و(كل) منصوب على الظرفية، و(ما) مصدرية وقتية، أي كل وقت مرور، والعامل فيه جوابه وهو (سخروا)، وقوله سبحانه: {قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} استئناف بياني، كأن سائلًا سأل فقال: فما صنع نوح عليه السلام عند بلوغهم منه هذا المبلغ؟
فقيل: قال {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا} لهذا العمل ومباشرة أسباب الخلاص ومن العذاب {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} لما أنتم فيه من الإعراض عن استدفاعه بالإيمان والطاعة ...
هذا وجوز أن يكون عامل (كلما): (قال) وهو الجواب، وجملة (سخروا) صفة لملأ أو بدل من (مر) بدل اشتمال ... ويلزم على هذا التجويز استمرار هذا القول منه عليه السلام وهو ظاهر.
وعلى الإعراب الأول قيل: لا استمرار، وإنما أجابهم به في بعض المرات" (2).
وقال: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا} ولم يقل: (إن سخرتم منا) للدلالة على استمرار السخرية، فهم دائمون عليها. وهو مناسب لقوله: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ} بذكر (كلما) التي تفيد الاستمرار.
وقال: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا} ولم يقل: (إن تسخروا مني) مع أن قال: {سَخِرُوا مِنْهُ} إشارة إلى أنهم لم يكتفوا بالسخرية منه، بل يسخرون من المؤمنين أيضًا.
فهم يسخرون منه إذا رأوه يصنع الفلك، ويسخرون من المؤمنين إذا رأوهم، ولذلك كان جواب الشرط بالجمع أيضًا وهو قوله: {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} ولم يقل: (فإني أسخر منكم).
جاء في (روح المعاني) :"وجمع الضمير في (مِنَّا) إما لأن سخريتهم منه عليه السلام سخرية من المؤمنين أيضًا، أو لأنهم كانوا يسخرون منهم أيضًا إلا أنه أكتفى بذكر سخريتهم منه عليه السلام ولذلك تعرض الجميع للمجازاة في قوله: {نَسْخَرُ مِنْكُمْ}" (3).
وقال: {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} ولم يقل: (سنسخر منكم) أو (سوف نسخر منكم)، وذلك أن الفعل (نسخر) يحتمل الحال والاستقبال، وقوله: {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} يحتمل أنهم يسخرون من الكافرين في الحال لعدم معرفتهم بما سيحيق بهم وهو لا هون عابثون ساخرين من الأخرين، وهؤلاء يستحقون أن يسخر منهم في هذه الحال.
وأنهم يسخرون منهم في المستقبل أيضًا عندما يحل عليهم العذاب فيأخذهم الطوفان فيغرقهم أجمعين.
ويسخرون منهم في الأخرة وهم في السعير كما قال تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ} [المطففين: 34].
فقوله تعالى: {فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ} أفاد السخرية منهم في الحال وفي الاستقبال عند الغرق وعند حلول العذاب المقيم وهو عذاب الأخرة.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 150 إلى ص 153.
(1) الكشاف 2/98.
(2) روح المعاني 12/51.
(3) روح المعاني 12/51.
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ}
{فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ} يحتمل أن تكون (من) أسمًا موصولًا، أي فسوف تعلمون الذي يأتيه العذاب الذي يذله ويفضحه.
كما يحتمل أن تكون (من) اسم استفهام مبتدأ، وجملة (يأتيه) خبر، والجملة مفعول (يعلم) والفعل معلق سدت الجملة مسد مفعوليه (1).
وقوله: {عَذَابٌ يُخْزِيهِ} يعني عذاب الدنيا وهو الغرق.
ومعنى (يخزيه) يفضحه ويذله.
وقوله: {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} يعني عذاب الأخرة، كما قال تعالى: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا} [نوح: 25].
ومعنى (يحل عليه): يجب عليه ويلزمه لزومًا لا ينفك عنه، ومعنى (مقيم) : ثابت لا يتحول (2).
ووصف العذاب أنه يخزيهم مجانسة لأفعالهم التي كانوا يسترذلون بها المؤمنين ويسخرون منهم، فأتى بالعذاب الذي يخزيهم ويذلهم.
وقال أولًا: {مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ} ثم قال: {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ} فذكر الإتيان أولًا. والإتيان لا يستلزم الدوام، فقد يأتيهم ثم ينصرف عنهم. ولئلا يخطر في الذهن ذلك أتبعه بقوله: {وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أي يجب عليهم وجوبًا لا ينفك عنهم ولا يرحل أو يتحول، أعاذنا الله منه.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 153 إلى ص 153.
(1) انظر البحر المحيط 5/222.
(2) انظر الكشاف 2/98، روح المعاني 12/51.
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ وَمَا آَمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ} [هود: 40]
{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا}
قال: {حَتَّى إِذَا جَاءَ} ولم يقل (أتى) ذلك أن (جاء) يستعمله القرآن لما فيه مشقة وصعوبة، أو لما هو أصعب مما يستعمله له (أتى) (1)، ولما كان في هذا المجيء مشقة وهو العذاب استعمل (جاء).
ولذا حيث ورد (أمرنا) بمعنى العذاب والعقوبات استعمل له (جاء) وذلك نحو قوله: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ} [هود: 58].
وقوله: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ} [هود: 66].
وقوله: {فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا} [هود: 82].
وقوله: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ} [هود: 94].
وقد تقول: ولكنه قال: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ} [يونس: 24] فقال: {أَتَاهَا أَمْرُنَا}.
فتقول: إن ذلك ليس في عقوبات الأقوام وإنما هو في الكلام على الحياة الدنيا وزوالها ولا يتعلق ذلك بقوم من الأقوام.
وقد تكلمنا على الفرق بين (جاء وأتى) في كتابنا(لمسات بيانية) (2) فلا نعيد القول فيه.
{وَفَارَ التَّنُّورُ}
قيل: هو تنور الخبز وجعل فوران الماء منه علامة على بداية الطوفان.
وقيل: هو مجاز عن شدة الأمر، كما يقال: (حمي الوطيس)، ولا مانع أن يكون الأمران مرادين.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 154 إلى ص 155.
(1) انظر المفردات للراغب الأصبهاني (أتى) و(جاء).
(2) انظر كتابنا (لمسات بيانية) صفحة 113 وما بعدها.
{قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آَمَنَ}
قال: (قلنا) بإسناد القول إلى نفسه نجاة المؤمنين.
وقال في هلاك الكافرين: {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ببناء فعل القول للمجهول: (قيل).
وأظنك تحس الفرق بين رعايته للمؤمنين وتوجيهه سبحانه لنجاتهم في قوله: (قلنا)، وبين هلاك الكافرين وإبعادهم في قوله: {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44].
وقد بدأ بذكر حمل الحيوانات في قوله: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} لأنها قوام حياة الإنسان وسبب بقائه، وإلا فماذا يأكل وكيف يعيش؟
ثم ذكر حمل الأهل بعد ذلك فقال: (وأهلك) لأن الأقربين أولى بالمعروف كما قال تعالى: {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6].
ألا ترى كيف نادى نوح ابنه ليركب ولم يناد غيره من الكافرين فقال: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا} [هود: 42].
وكيف نادى نوح ربه فقال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} [هود: 45].
ثم ذكر بعد الأهل من أمن.
واستثنى من أهله (من سبق عليه القول) أي من حق عليه العذاب لعدم إيمانه.
وهو يستعمل نحو هذا التعبير في العذاب. ونحوه قوله: {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} [الأسراء: 16]، و{حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ} [القصص: 64].
وقد ذكرنا ذلك في تفسيرنا لسورة (يس) في قوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} [يس: 7] (1).
جاء في (روح المعاني) في قوله:{إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ}:
"وجيء بـ (على) لكون السابق ضارًا لهم. كما جيء باللام فيما هو نافع في قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ}، وقوله سبحانه: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى}" (2).
وأما التشابه والاختلاف بين هذه الآية وما جاء في سورة المؤمنون وهو قوله: {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} [المؤمنون: 27]، فقد ذكرناه في كتابنا (أسئلة بيانية) فلا نعيد القول فيه.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 155 إلى ص 156.
(1) انظر كتابنا (على طريق التفسير البياني) 2/25 وما بعدها.
(2) روح المعاني 12/55.
{وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [هود: 41]
وردت قراءتان متواترتان في (مجراها) وهما: بفتح الميم وضمها.
وهي بالفتح مصدر أو اسم مكان أو زمان من (جرى) الثلاثي، أي جريانها هي كما قال تعالى: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} [هود: 42].
وبالضم مصدر أو اسم مكان أو زمان من (أجرى) الرباعي. نقول: أجرى الله الفلك في البحر، وأجرتها الرياح. والمصدر الميمي(مُجرى) بضم الميم.
وأم (مُرساها) فهي بضم الميم في جميع القراءات المتواترة، وهي أيضًا مصدر واسم مكان واسم زمان من (أرسى) الرباعي، وليس من (رسا) الثلاثي.
يقال: (رست السفينة) إذا رست هي، والمصدر الميمي (مَرسى) بفتح الميم، وتقول: (أرسى الملاح السفينة) أو أرساها الله سبحانه، والمصدر الميمي (مُرسى) بضم الميم.
وقد جمعت هذه العبارة معاني عدة كلها مرادة، منها:
بسم الله جريانها هي وإرساؤها من الله سبحانه، وبسم الله إجراؤها وإرساؤها، فالله هو مجريها ومرسيها من الله. فيكون المعنى: إجراؤها وجريانها وإرساؤها كل ذلك حاصل وكائن بسم الله ربنا.
وبسم الله مكان جريها وإجرائها ومكان إرسائها، أي في مكان الذي تجري فيه وتُجرى فيه، وفي المكان الذي ترسى فيه.
وبسم الله في الزمان الذي تجري فيه وتُجرى فيه، وفي الزمان الذي تُرسَى فيه.
وعلى هذا يكون المعنى:
بسم الله جريانها وإجراؤها ومكان جريها ومكان إجرائها، وزمان جريها وزمان إجرائها.
وبسم الله إرساؤها ومكان إرسائها وزمان إرسائها.
ولو غيرت أية صيغة من الصيغ لم يجمع هذه المعاني.
وهذا يدل على أن جريانها ومكان الجريان وزمانه، وإجراءها ومكانه وزمانه مقدرات. وإرساءها ومكان ارسائها وزمانه كل ذلك مقدر.
فهي تجري وتُجرى في المسار الذي قدرة ربنا. وترسو في المكان الذي قدره ربنا لها.
هذا علاوة على ما في التأليف من معان.
فقوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} يحتمل أن يكون الكلام مبتدأ وخبرًا، فقوله: {بِسْمِ اللَّهِ} خبر مقدم، وقوله: {مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} مبتدأ مؤخر، فيكون المعنى على ما ذكرنا.
ويحتمل أن يكون المعنى: (اركبوا فيها بسم الله) أي مسمين الله حين جريها وحين إرسائها، أي ذاكرين الله في الجري والإرساء، و(مجراها ومرساها) مصدران أو ظرفان كما ذكرنا.
ويحتمل أن يكون تقدير مجراها ومرساها على الحال، فيكون المعنى: اركبوا فهي جارية ومجراه ومرساة بسم الله.
فجمع هذا التعبير معاني متعددة لا يجمعها غير هذا التعبير:
اركبوا فيها:
بسم الله جريها وإجراؤها وإرساؤها، أي يكون ذلك باسمه سبحانه.
بسم الله في مكان جريها وإجرائها وإرسائها.
بسم الله في زمان جريها وإجرائها وإرسائها.
اركبوا فيها مسمين الله في مكان جريها وإجرائها وإرسائها.
ومسمين الله في زمان جريها وإجرائها وإرسائها.
واركبوا فيها جارية ومجراه ومرساة بسم الله.
جاء في (الكشاف): "يجوز أن يكون كلامًا واحدًا وكلاميين.
فالكلام الواحد أن يتصل (بسم الله) بـ (اركبوا) حال من الواو، بمعنى: اركبوا فيها مسمين الله أو قائلين بسم الله وقت إجرائها ووقت إرسائها، إما لأن المجرى والمرسى للوقت، وإما لأنهما مصدران كالإجراء والإرساء حذف منهما الوقت المضاف، كقولهم: خفوق النجم ومقدم الحاج.
ويجوز أن يراد مكانا الإجراء والإرساء وانتصابهما بما في (بسم الله) من معنى الفعل أو بما فيه من إرادة القول.
والكلامان أن يكون {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} جملة من مبتدأ وخبر مقتضبة، أي بسم الله إجراؤها وإرساؤها ...
ويحتمل أن تكون غير مقتضبة بأن تكون في موضع الحال ... وانتصاب هذه الحال عن ضمير الفلك، كأنه قيل: اركبوا فيه مجراه ومرساة بسم الله" (1).
{إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ}
قال: {إِنَّ رَبِّي} بذكر الرب، والرب هو المربي والمعلم والموجه والمرشد والقيم. وهو أنسب اسم ههنا لأنه يوجههم ويرشدهم إلى سبيل نجاتهم. ألا ترى أن رئيس الملاحين في السفينة يسمى (ربان) وهو مأخوذ من لفظ (الرب) لأنه يوجه ويرشد إلى المسار الصحيح وإلى سبيل النجاة.
وقال: {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} فأكد ذلك بـ (إن) واللام، في حين قال على لسان سيدنا يوسف: {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [يوسف: 53]. فأكده بـ (إن) وحدها.
وقال على لسان يعقوب عليه السلام: {قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يوسف: 98] فأكده بـ (إن)، وجاء بضمير الفصل وتعريف الاسمين الجليلين: الغفور الرحيم.
وكل تعبير في مكانه هو المناسب.
فإن سيدنا يوسف لم يرتكب ذنبّا وإنما سجن ظلمًا بضع سنين، فهو معتدى عليه فلا يحتاج إلى توكيد المغفرة كتوكيدها فيمن لم يظلم ولو يقع عليه عدوان وهو طليق حر قد يقع في اللمم أو في الذنب.
هذا علاوة على أنه واحد وقوم نوح جمع، فزاد المغفرة لما زاد في العدد.
وأما ما قاله يعقوب فهو جواب عما اعترف به ابناؤه من الخطيئة من إلقاء يوسف في غيابة الجب وما حصل لأبيهم من جراء ذلك وطلبوا منه أن يستغفر لهم {قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف: 97].
فقال لهم أبوهم: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يوسف: 98].
فالله وحده هو الذي يغفر في نحو هذا، فإن في فعلهم ما يتعلق بحقوق الأخرين وذلك ليس إليه. فأكد ذلك بـ (إن) وبضمير الفصل وجاء بتعريف الاسمين: الغفور الرحيم للدلالة على القصر.
فكل تعبير مناسب في مكانه الذي ورد فيه.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 156 إلى ص 160.
(1) الكشاف 2/98.
{وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: 42 - 43].
بعد الأمر بالركوب انتقل إلى مشهد الفلك وهي تجري في الماء، فلم يقل: (فركبوا فيها ثم جرت السفينة) لأنه لا يتعلق غرض بذكر ذلك، فإن قوله: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ} يدل على أنهم ركبوا وقد جرت بهم.
وقوله: {تَجْرِي بِهِمْ} حكاية للحال الماضية، فكأنك تشاهدها وهي تجري بهم والأمواج تصعد بها وتنزل.
وقوله: {فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} يرسم المشهد الذي هي فيه.
{وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ}
أي رفع نوح صوته مناديًا ابنه مما يدل على أن ابنه في مكان بعيد لا يُسمعه إلا النداء.
والملاحظ ههنا أن نوحًا هو الذي نادى ابنه ليركب معه، وكان المظنون أن ينادي الابن أباه ليحمله فينجو مع الناجين، وكل الأمر يدل على أن الفلك هي سبيل النجاة الوحيد ولكن الابن رفض هذه الدعوة وأثر على رفقة هؤلاء الذين لا يرغب فيهم أن يلجأ وحيدًا إلى جبل ظانًا أنه يعصمه من الماء.
وكان نداء نوح هو: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ}
فقال: (يا بني) بنداء التحبيب وذلك بتصغير الابن وإضافته إلى ياء المتكلم، وهو نداء كله حنان، ولم يقل له: (يا فلان) أو نحو ذلك.
وقال: {ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} ولم يقل: (ولا تكن من الكافرين) فلم يدعه إلى الدخول في دينه في هذا الموقف وإنما نهاه أن يكون مع الكافرين فيغرق معهم.
وقد دعاه إلى النجاة أولًا ليعيش في مجتمع مؤمن غير الذي ألفه وغير الخلان الذين كان يحيا معهم فيميلون به إلى معتقداتهم وأسلوب حياتهم. والخليل يؤثر في خليله كما قال تعالى: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} [الفرقان: 28 - 29].
فنوح أراد أن يكون ابنه معهم اولًا فيعيش في مجتمع مؤمن مرقاة إلى أن يكون منهم فيما بعد.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 160 إلى ص 162.
{قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: 43].
رفض الابن دعوة أبيه للركوب في سفينة النجاة وأثر أن ينجو بنفسه وحيدًا على أن يكون مع أسرته ومع الجامعة المؤمنة.
ولم يكرر أبوه الدعوة له وإنما قال: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} فنفى العاصم من أمر الله على سبيل الاستغراق في مثل هذا اليوم.
وذكر اليوم مع أنه لا عاصم من أمر الله على الإطلاق لا في هذا اليوم ولا في غيره؛ لأن هذا اليوم ليس كسائر الأيام، فإنه لا ينفع فيه اتخاذ الأسباب. فأنت في سائر الأيام تتخذ الأسباب للنجاة وتفر من قدر الله إلى قدر الله، وللوصول إلى سائر الغايات.
فالمرض مثلًا من أمر الله، والدواء من أمر الله وهو خالقه. والدواء يرفع المرض وكلاهما من أمر الله. أما في هذا اليوم فلا ينفع شيء من ذلك ولا يعصم من أمر الله شيء إلا من رحم.
وقال: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} ولم يقل: (من الماء) للإشارة إلى أن هذا الماء ليس كسائر المياه التي تنجو منها بالالتجاء إلى جبل مرتفع أو نحو ذلك؛ لأن هذا أمر الله الذي أنزله على الذين ظلموا من عبادة ولا يعصم شيء منه.
جاء في (روح المعاني): "وزاد (اليوم) للتنبيه على أنه ليس كسائر الأيام التي تقع فيها الوقائع وتلم فيها الملمات المعتادة التي ربما يتخلص منها بالالتجاء إلى بعض الأسباب العادية.
وعبر عن (الماء) في محل إضماره بـ (أمر الله) أي عذابه الذي أشير إليه بقوله سبحانه: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} تفخيمًا لشأنه وتهويلًا لأمره وتنبيهًا لابنه على خطئه في تسميته ماء وتوهمه أنه كسائر المياه التي يتخلص منها بالهرب إلى بعض المهارب المعهودة، وتعليلًا للنفي المذكور، فإن أمر الله سبحانه لا يغالب وعذابه لا يرد" (1).
وقوله: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} يحتمل معاني:
منها: أنه لا عاصم اليوم من أمر الله إلا الراحم وهو الله و(من رحم) يعني به الله.
كما يحتمل أن يكون المعنى أنه لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحمه الله فإنه يعصمه. والمعنى: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا المرحوم. وذكروا أمورًا غير ذلك.
جاء في (الكشاف): "{إِلَّا مَنْ رَحِمَ} إلا الراحم وهو الله تعالى. أو لا عاصم اليوم من الطوفان إلا من رحم الله، أي إلا مكان من رحم الله من المؤمنين وكان لهم غفورًا رحيمًا في قوله: {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} ... يعني السفينة.
وقيل: ( لا عاصم) بمعنى لا ذا عصمة إلا من رحمه الله، كقوله: ماء دافق، وعيشة راضية.
وقيل: (إلا من رحم) استثناء منقطع، وكأنه قيل: ولكن من رحمة الله فهو المعصوم" (2).
وجاء في (حاشية ابن المنير على الكشاف): "قال أحمد: والاحتمالات الممكنة أربعة: لا عاصم إلا راحم، ولا معصوم إلا مرحوم، ولا عاصم إلا مرحوم، ولا معصوم إلا راحم.
فالأولان استثناء من الجنس، والأخران من غير الجنس.
وزاد الزمخشري خامسًا وهو: لا عاصم إلا مرحوم على أنه من الجنس بتأويل حذف المضاف، تقديره: لا مكان عاصم إلا مكان مرحوم" (3).
وقوله: {فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} أشار إلى غرقه وغرق الأخرين.
ولو قال: (فغرق) لأفاد غرقه ولم يفد غرق الأخرين.
ثم إن قولنا: (غرق) يدل على أنه فرق بنفسه، أما قوله: {فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} فيدل على أن جهة ما أغرقته وأغرقت الأخرين، وأن ذلك إنما حصل بفعل فاعل قصد إلى إغراقه وإغراق الأخرين. وفيه إشارة إلى العقوبة التي أوعدوا بها.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 162 إلى ص 164.
(1) روح المعاني 12/60.
(2) الكشاف 2/99.
(3) حاشية ابن المنير على الكشاف 2/99.
{ وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44].
ذُكر في هذه الآية الشيء الكثير وأُفردت فيها رسائل، ومما قيل فيها: "أجمع المعاندون على أن طوق البشر قاصر عن الإتيان بمثل هذه الآية" (1).
وقيل فيها أيضًا: إنه "قد أمر فيها ونهى وأخبر ونادى وسمى وأهلك وأبقى وأسعد وأشقى وقصَّ من الانباء ما لو شرح ما اندرج في هذه الجملة من بديع اللفظ والبلاغة والإيجاز والبيان لجفت الأقلام" (2).
ونحن نقول: إن كل تعبير بمقدار أقصر سورة معجز للبشر أجمعين، بل معجز للثقلين إلى أخر الدهر.
وعلى أية حال فنحن نذكر شيئًا كم الأمور البيانية في هذه الآية:
1- بدأ بفعل القول (قيل)، والقول يقال لمن يسمع ويعقل.
ثم نادى، والمنادى ينبغي أن يعلم أنه نودي لسماع شيء ما أو تبليغه بأمر، وذلك إذا لم يكن النداء مجازًا، وإنما نودي لأمر ينبغي أن يسمعه أو يفعله.
ثم أمر على سبيل الحقيقة والاستعلاء وليس على سبيل المجاز. والمأمور ينبغي أن يكون عالمًا بما أمر به وخاصة إذا كان الأمر طلب من المأمور أن يفعل ما أمر به.
وهذا كله يدل على أن الأرض والسماء سمعتا وعقلتا وأذنتا للقائل وامتثلتا لما أمرتا به.
وليس هذا نظير نداء أو أمر لما لا يعقل وإنما قيل تجوزًا، كقول الشاعر مخاطبًا الليل:
فقلت له تمطى بصلبه
وأردف أعجازًا وناء بكلكل
ألا أيها اليل الطويل ألا انجل
بصبح وما الإصباح منك بأمثل
وإنما القول والنداء والأمر في الآية كلهن على سبيل الحقيقة. وإن كل واحدة من السماء والأرض فعلت ما يخصها، فاستجابتا وفعلتا كما يفعل العاقل المقتدر على تنفيذ ما أمر به.
ومع أن النداء للأرض و السماء وهما ما هما من الكبر والعظمة لم يذكر القائل، وإنما بنى فعل القول للمجهول فقال: (وقيل).
وهذا يدل على عظمة القائل وسطوته وإن لم يفصح عن ذاته فامتثلتا لأمره.
جاء في (الكشاف): "نداء الأرض والسماء بما ينادى به الحيوان المميز على لفظ التخصيص والإقبال عليهما بالخطاب ...
ثم أمرهما بما يؤمر به أهل التمييز والعقل من قوله (ابلعي ماءك وأقلعي) من الدلالة على الاقتدار العظيم، وأن السماوات والأرض وهذه الأجرام العظام منقادة لتكوينه فيها ما يشاء غير ممتنعه عليه، كأنها عقلاء مميزون ... ويفزعون من التوقف دون الامتثال له والنزول على مشيئته على الفور من غير ريث" (3).
2- وقال: (يا أرض) فنادها بحرف النداء (يا) الذي هو للبعيد، ولم يرد في القرآن الكريم حرف نداء غيره.
إن هذا النداء يدل على عظمة المنادي، ذلك أنه ناداها باسم الجنس {يَا أَرْضُ ابْلَعِي}، وهو كما تقول لشخص- ولله المثل الأعلى - يا رجل افعل كذا، أو لا تفعل كذا.
وجردها من وصف أو إضافة أو غير ذلك مما يفيد التشريف أو التكريم لتستجيب. فلم يقل مثلًا: ( يا أرضي) فيضيفها إليه، أو يا أرض الخير و يا سماء الخير والبركة، ولا يا أيتها الأرض المباركة، ولا أي وصف يشعرها بالتكريم والتشريف.
كما إنه لم يقل: (يا أيتها الأرض). فيتوصل إلى ندائها بـ (أيّ) لعلها كانت غافلة فتسمع آخر النداء، إذ لا يمكن الغفلة عن أي حرف يصدر عن هذا المنادي.
إضافة إلى الإيجاز الذي اتسمت به الآية، فقوله (يا أرض) أوجز من (يا أيتها الأرض).
جاء في (روح المعاني): "اختير (يا) دون سائر أخواتها لكونها أكثر في الاستعمال وأنها دالة على بعد المنادى الذي يستدعيه مقام إظهار العظمة وإبداء شأن العزة والجبروت، وهو تبعيد المنادى المؤذن بالتهاون به.
ولم يقل: (يا أرض) بالكسر؛ لأن الإضافة إلى نفسه جلَّ شأنه تقتضي تشريفًا للأرض وتكريمًا لها فترك إمدادًا للتهاون.
ولم يقل: (يا أرض) بالكسر؛ لأن الإضافة إلى نفسه جلَّ شأنه تقتضي تشريفًا للأرض وتكريمًا لها فترك إمدادًا للتهاون.
ولم يقل: (يا أيتها الأرض) مع كثرته في نداء أسماء الأجناس قصدًا إلى الاختصار والاحتراز عن تكلف التنبيه المشعر بالغفلة التي لا تناسب ذلك المقام" (4).
3- وقال: (ابلعي) ولم يقل (ابتلعي) لأن ابتلع على وزن (افتعل) الذي يدل على التكلف والاجتهاد، وهو يحتاج إلى وقت أطول، وإنما قال: (ابلعي) الذي هو أقصر بناءً وزمانًا فتبلعه في أقصر وقت.
وهذا إضافة إلى الإيجاز: فإن (ابلعي) أوجز من (ابتلعي).
وجاء في (روح المعاني): "واختير لفظ (ابلعي) على (ابتلعي) لكونه أخضر وأوفر تجانسًا بـ (أقلعي)" (5).
4- وقال: {ابْلَعِي مَاءَكِ} فذكر مفعول البلع؛ لأن بلع الماء هو المقصود، ولم يحذف المفعول به فيقول: (يا أرض ابلعي) فيشمل البلع كل ما عليها من أشجار وحيوان وغيرها.
جاء في (روح المعاني): "وإنما لم يقل: (ابلعي) بدون المفعول لئلا يستلزم تركه ما ليس بمراد من تعميم الابتلاع للجبال والتلال والبحار وساكنات الماء بأسرهن نظرًا إلى مقام عظمة الأمر المهيب وكمال انقياد المأمور" (6).
5- وقال: (ماءك) بالإفراد "دون الجمع لما فيه من صورة الاستكثار المتأبي عنها مقام إظهار الكبرياء وهو الوجه في إفراد الأرض والسماء" (7).
"وعبر عنه بالماء بعدما عبر عنه فيما سلف بأمر الله تعالى؛ لأن المقام مقام النقص والتقليل لا مقام التفخيم والتهويل" (8).
6- وقال: (ماءك) بإضافة الماء إليها لأن الماء الذي ينزل من السماء إنما هو للأرض، ينزل إليها وينفذ في داخلها ويخرج منها على هيئة عيون وآبار يستفيد منه الناس. فهو ماؤها سواء ما تفجر منها وما نزل إليها من السماء.
ثم في الحقيقة أن ما ينزل من السماء من ماء إنما هو ماء الأرض؛ لأن السحب إنما تتكون من البخار الذي يتصاعد من مياه الأرض بحارها وأنهارها، فهو على كل حال ماء الأرض.
7- ثم نادى السماء فقال لها: (أقلعي) أي أمسكي وكفي، ولم يذكر عما ذا تمسك لأنه معلوم وهو المطر وليس شيئاً أخر، فلم يذكر متعلقاً.
جاء في (روح المعاني): "ولما علم أن المراد بلع الماء وحده علم أن المقصود بالإقلاع إمساك السماء عن إرسال الماء، فلم يذكر متعلق (أقلعي) اختصارًا واحترازًا عن الحشو المستغنى عنه" (9).
فذكر متعلق البلع في الأرض أنسب، وإطلاق الإمساك في السماء أنسب.
8- قدم أمر الأرض ببلع الماء لأنه أهم وذلك لترسو السفينة وهو مطلوب أهل السفينة، فإنها إن لم ترس السفينة فلن يخرج من فيها منها. وإن لم تبلع الأرض ماءها فلن ترسو السفينة فقدم الأهم.
ثم إن الماء بدأ منها، فإن ذلك بدأ من التنور الذي فار الماء منه.
جاء في (روح المعاني): "قدم أمر الأرض على أمر السماء لكونها الأصل نظرًا إلى كون ابتداء الطوفان منها حيث فار تنورها أولًا" (10).
9- قال: {وَغِيضَ الْمَاءُ} أي ذهب ونشف. ومعنى ذلك أن الأرض والسماء امتثلتا لأمر الأمر.
وهذا يدل على عظمة الأمر.
وكانت الاستجابة على الفور، فلم يقل: فبلعت الأرض ماءها وأمسكت السماء، فإن كل ذلك يدل عليه قوله: {وَغِيضَ الْمَاءُ}
وقد بنى الفعل للمجهول ولم يذكر الفاعل تعظيمًا للأمر والقائل والمنادي وللإيجاز.
جاء في (روح المعاني) أنه لم يقل :"(قيل يا أرض ابلعي) فبلعت (و يا سماء أقلعي) فأقلعت؛ لأن مقام الكبرياء وكمال الانقياد يغني عن ذكره الذي ربما أوهم إمكان المخالفة" (11).10- قال بعد قوله: {وَغِيضَ الْمَاءُ}: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} أي الأمر الذي أراده ربنا بقوله: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} وهو نجاة من نجا وإهلاك من هلك.
وبنى الفعل للمجهول تعظيمًا لمن قضى الأمر. وهو في كل ذلك أمر واحد وفاعل واحد.
11- ثم قال: {وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ} ولم يذكر الفاعل لأنه معلوم وهو السفينة.
ولم يبين الفعل للمجهول؛ وذلك لأن الجريان كان منسوبًا إلى السفينة وذلك قوله: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} فناسب أن يكون الاستواء منسوبًا إليها أيضًا.
لقد قال ذلك بعد قوله: {وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} فإن السفينة لا تستوي حتى يغيض الماء.
وكان استواؤها بعد أن قضي الأمر، أي بعد أن انتهت المهمة فنجا كل من كان راكبًا فيها وهلك كل من حكم عليه بالهلاك فلم يبق منهم أحد يؤذي مؤمنًا، وهو أنسب وقت لاستوائها.
إن قوله: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} يدل على النجاة والأمان فناسب الاستواء لينزل ركاب السفينة وهو أمنون.
جاء في (رو المعاني): "واختير (استوت) على (سُوِّيت) أي أقرّت مع كونه أنسب بأخواته المبنية للمفعول اعتبارًا لكون الفعل المقابل للاستقرار أعني الجريان منسوبًا إلى السفينة على صيغة المبني للفاعل في قوله: {} مع أن (استوت) أخص من (سويت)" (12).
12- قال: {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} فبنى الفعل للمجهول أخرًا عندما بعدوا وهلكوا كما بناه أولًا عند الأمر بنزول أمره لعذاب الظالمين.
لقد بنى الفعل للمجهول ولم يذكر فاعلًا معينًا وذلك ليشمل كل قائل من الملائكة وكل عبد صالح.
جاء في (البحر المحيط): "والظاهر أن قوله: {وَقِيلَ بُعْدًا} من قول الله تعالى كالأفعال السابقة. وقيل: من قول نوح والمؤمنين. ويحتمل أن يكون من قول الملائكة" (13).
وجاء في (الكشاف): "{وَقِيلَ بُعْدًا} ... إذا أرادوا البعد البعيد من حيث الهلاك والموت ونحو ذلك ...
ومجيء إخباره على الفعل المبني للمفعول للدلالة على الجلال والكبرياء" (14).
13- وقال: {لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} فوصفهم بالظلم لأنه وصفهم بالظلم أولًا فقال: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا}
جاء في (فتح التقدير): "ووصفهم بالظلم للإشعار بأنه علة الهلاك وللإيمان إلى قوله: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا}" (15).
14- وقال: {لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ولم يقل: (بعدًا لهم) فذكر الوصف الذي استحق به القوم العقوبة. وهو تحذير لكل ظالم.
15- وقال: {بُعْدًا} بالمصدر ولم يأت بالفعل للدلالة على الحدث المطلق غير المقيد بزمن أو بفاعل وللدلالة على الثبوت.
جاء في (روح المعاني): "واختير المصدر أعني (بعدًا) على (ليبعد القوم) طلبًا لتأكيد معنى الفعل بالمصدر مع الاختصار في العبارة ... مع فائدة أخرى هي الدلالة على استحقاق الهلاك بذكر اللام.
وإطلاق الظلم عن مقيداته في مقام المبالغة يفيد تناول كل نوع فيدخل فيه ظلمهم على أنفسهم لزيادة التنبيه على فظاعة سوء اختيارهم في التكذيب من حيث إن تكذيبهم للرسل ظلم على أنفسهم لأن ضرره يعود إليهم ...
وأما من حيث النظر إلى ترتيب الجمل:
فذلك أنه قدم النداء على الأمر ...
ثم قدم أمر الأرض على أمر السماء لكونها الأصل نظرًا إلى كون ابتداء الطوفان منها حيث فار تنورها أولًا ...
ثم جعل قوله سبحانه: {وَغِيضَ الْمَاءُ} تابعًا لأمر الأرض والسماء ...
ثم إنه تعالى أتبع غيض الماء ما هو المقصود الأصلي من القصة وهو قوله جلت عظمته: {وَقُضِيَ الْأَمْرُ} ثم أتبع ذكر المقصود حديث السفينة لتأخره عنه في الوجود" (16).
وجاء في (الإتقان): أن "جملة معطوف بعضها على بعض بواو النسق على الترتيب الذي تقتضيه البلاغة من الابتداء بالأهم الذي هو انحسار الماء عن الأرض المتوقف عليه غاية مطلوب أهل السفينة من الإطلاق من سجنها، ثم انقطاع مادة السماء المتوقف عليه تمام ذلك من دفع أذاه بعد الخروج ومنع اختلاف ما كان بالأرض، ثم الإخبار بذهاب الماء بعد انقطاع المادتين الذي هو متأخر عنه قطعًا، ثم بقضاء الأمر الذي هو هلاك من قدر هلاكه، ونجاه من سبق نجاته، وأخر عما قبله لأن علم ذلك لأهل السفينة بعد خروجهم منها وخروجهم موقوف على ما تقدم.
ثم أخبر باستواء السفينة واستقرارها المفيد ذهاب الخوف وحصول الأمن من الاضطراب، ثم ختم بالدعاء على الظالمين لإفادة أن الغرق وإن عم الأرض فلم يشمل إلا من استحق العذاب لظلمه" (17).
ثم إن الآية في غاية الإيجاز فلم يذكر إلا ما لا بد من ذكره. ومن مظاهر الإيجاز فيها:
1- أنه قال: (وقيل) فبنى الفعل للمجهول وحذف الفاعل وذلك للتعظيم كما أسلفنا.
2- وقال: (يا أرض) ولم يقل: (يا أيتها الأرض). وقوله: (يا أرض) أوجز كما هو معلوم.
3- وقال: (ابلعي) ولم يقل: (ابتلعي)، وابلعي أوجز.
4- وقال: (ماءك) ولم يقل: (مياهك).
5- وقال: (يا سماء) ولم يقل: ( يا أيتها السماء).
6- وقال: (أقلعي) ولم يذكر متعلقًا.
7- وقال: (وغيض الماء) فبنى الفعل للمجهول ولم يذكر الفاعل.
8- وقال: (وغيض) الثلاثي، ولم يقل: (غيّض) الرباعي.
جاء في (روح المعاني): "واختير (غيض) على (غيّض) المشدد لكونه أخضر" (18).
9- وقال: (وقضي الأمر) فبنى الفعل للمجهول ولم يذكر الفاعل.
10- وقال: (وقضي الأمر) فعبر عن كل ما حدث بـ (الأمر) وهو النجاة والغرق وما أراده ربنا.
11- وقال: (واستوت على الجودي) فلم يذكر الفاعل وإنما ستره.
12- وقال: (وقيل بعدًا) فبنى الفعل للمجهول ولم يذكر الفاعل.
13- وقال: (بعدًا) فذكر المصدر ولم يذكر الفعل الذي يقتضي زمنًا وفاعلًا.
وغير ذلك.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 164 إلى ص 174.
(1) الاتقان 3/218.
(2) الاتقان 3/217.
(3) الكشاف 2/99.
(4) روح المعاني 12/65.
(5) روح المعاني 12/65.
(6) روح المعاني 12/65 – 66.
(7) روح المعاني 12/65.
(8) روح المعاني 12/61.
(9) روح المعاني 12/66.
(10) ن. م.
(11) ن. م.
(12) روح المعاني 12/66.
(13) البحر المحيط 5/229.
(14) الكشاف 2/99.
(15) فتح القدير 2/477.
(16) روح المعاني 12/66 – 67.
(17) الإتقان 3/395.
(18) روح المعاني 12/66.