{إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56].
فقال لهم: إنه اعتمد على الله وركن إليه فهو يكفيه كل شيء، فهو ربه وربهم، يكفي ويحفظ من توكل عليه وركن إليه، فهو ربكم وأنتم لا تفوتونه، وهذه الأصنام لا تمنعكم منه ولا تقدر أن تكيدني بشيء.
{مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} ذليلة له خاضعة لا تفوته ولا تقدر أن تمتنع منه.
والناصية "مقدم الرأس، وتطلق على الشعر النابت عليها" (2).
والأخذ بالناصية دليل على القدرة والقهر، جاء في (البحر المحيط):
"ثم وصف قدرة الله تعالى وعظيم ملكه من كون كل دابة في قبضته وملكه وتحت قهره وسلطانه، فأنتم من جملة أولئك المقهورين.
وقوله: {آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا} تمثيل، إذ كان القادر المالك يقود المقدور عليه بناصيته، كما يقاد الأسير والفرس بناصيته، حتى صار الأخذ بالناصية عرفًا في القدرة على الحيوان. وكانت العرب تجز ناصية الأسير الممنون عليه علامة على أنه قد قدر عليه وقبض على ناصيته.
وقال ابن جريج: وخص الناصية لأن العرب إذا وصفت إنسانًا بالذلة والخضوع قالت: ما ناصية فلان إلا بيد فلان، أي إنه مطيع له يصرفه كيف يشاء" (3).
وقد جاء بـ (من) الاستغراقية ولم يقيد مكانًا أو زمانًا لذاك. فكل دابة من إنسان أو غيره أيًا كان وأينما كان مأخوذ بناصيته من ربه خاضع له مقهور لسلطانه ذليل لسطوته.
وهذا تعظيم لرب العزة وتهديد لهم عظيم.
{إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
ومع هذا الاقتدار العظيم فربي على صراط مستقيم لا يجور ولا يظلم، ينصر من توكل عليه واعتصم به. ويذل ويخزي من بغى واعتدى، فهو بالمرصاد لكل ظالم باغ.
وهو يهدي إلى الصراط المستقيم ويدل عليه.
ومن سار على الصراط المستقيم وصل إليه كما قال: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [المزمل: 19]، وقال: {وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ} [النحل: 9] فعلى الله بيان السبيل المستقيمة. والسبيل القاصدة توصل إليه.
فهذا التعبير يجمع عدة معان منها:
1- أنه لا يظلم ولا يجور.
2- وأنه يعاقب الظالم الجائر.
3- وأنه يدل على الصراط المستقيم.
4- وأن الصراط المستقيم يوصل إليه.
جاء في (الكشاف): "يريد أنه على طريق الحق والعدل في ملكه، لا يفوته ظالم ولا يضيع عنده معتصم به" (4).
وجاء في (روح المعاني): "وهو تمثيل واستعارة لأنه تعالى مطلع على أمور العباد مجازٍ لهم بالثواب والعقاب، كافٍ لمن اعتصم به كمن وقف على الجادة فحفظها ودفع ضرر السابلة بها، وهو كقوله سبحانه: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}" (5).
وجاء في (تفسير الرازي): "أي وإن كان قادرًا لا يظلمهم ولا يفعل بهم إلا ما هو الحق والعدل والصواب ...
(الثالث) أن يكون المراد: إن ربي يدل على الصراط المستقيم، أي يحث أو يحملكم بالدعاء إليه" (6).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 216 إلى ص 219.
(1) انظر البحر المحيط 5/232.
(2) روح المعاني 12/83، تفسير الرازي 6/365.
(3) البحر المحيط 5/234.
(4) الكشاف 2/103.
(5) روح المعاني 12/83.
(6) تفسير الرازي 6/365.
{فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [هود: 57]
فإن تتولوا فقد أبلغتكم رسالة ربي وأعذرت وأنتم تتحملون عاقبة توليكم.
وهددهم بإهلاكهم فقال: {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ} وقد سبق أن ذكرهم بأنه استخلفهم بعد قوم نوح بعد إغراقهم فقال لهم: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} [الأعراف: 69].
{إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ}
"أي رقيب محيط بالأشياء علمًا فلا يخفى عليه أعمالكم ولا يغفل عن مؤاخذتكم ...
ويجوز أن يكون الحفيظ بمعنى الحافظ بمعنى الحاكم المستولي، أي أنه سبحانه حافظ مستول على كل شيء. ومن شأنه ذلك كيف يضره شيء؟" (1).
لقد قال ههنا: {إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} بالتوكيد بـ (إن).
وقال في سورة سبأ: {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [سبأ: 21] من دون توكيد، ذلك أن المقام في سورة هود يستدعي التوكيد، وذلك أن عادًا قالوا لنبيهم إن بعض آلهتهم اعتراه بسوء، فتحداهم وتحدى آلهتهم بقوله: {فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 55 – 56].
ثم هددهم بالاستئصال بقوله: {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا} فناسب ذلك أن يقول: {إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} بالتوكيد.
وأما في سبأ فالمقام والسياق مختلفان، فقد قال: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآَخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} [سبأ: 20 – 21].
فليس المقام مقام تحدّ – كما ترى – وإنما هو إخبار عن أمة ماضية ليس لهم شأن مع رسول ولا نحو ذلك فلا يحتاج إلى توكيد.
وقد قدم الجار والمجرور {عَلَى كُلِّ شَيْءٍ} على عامله {حَفِيظٌ} للاختصاص، وذلك ليبين أنه لا يفوت حفظه شيء على الإطلاق. في حين قال في سورة الشورى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} [الشورى: 6] فأخر الجار والمجرور (عليهم) عن الخبر (حفيظ) وذلك لأنه لا داعي للتقديم، فإنه ليس المقام مقام اختصاص، فإن حفظه سبحانه لا يختص بهم، بل ربنا على كل شيء حفيظ وليس حفيظًا عليهم فقط.
فناسب كل تعبير موضعه.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 219 إلى ص 220.
(1) روح المعاني 12/85.
{وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58]
فقال ههنا: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ} فذكر الذين آمنوا معه.
وقال في الأعراف في القصة نفسها: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} [الأعراف: 72]
فقال: {وَالَّذِينَ مَعَهُ} ولم يذكر صفة الإيمان، ذلك أنه قال في الأعراف: {وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ} فذكر أنه أهلك الذين كذبوا وما كانوا مؤمنين. ومعنى ذلك أنه أنجى الذين آمنوا.
ولم يقل مثل ذلك في هود فناسب ذكر الذين آمنوا.
ومثل ذلك ما جاء في قصة نوح في الأعراف، فإنه قال: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا} [الأعراف: 64]
فإنه لما ذكر أنه أغرق الذين كذبوا دل على نجاة المصدقين بالآيات وهو المؤمنون.
ثم كرر التنجية فقال: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} وقد قيل إن تكرير التنجية للتوكيد (1).
وقيل: إنه أراد أن يذكر التنجية من الهلاك أولاً، ثم ذكر صفة العذاب الذي نجاهم منه. وذلك كما تقول: إن نجاهم من الهلاك وكانت النتيجة من عذاب غليظ.
وكما تقول: إنه نجاهم من الغرق، وقد نجاهم من نهر شديد الانصباب.
جاء في (الكشاف): "فإن قلت: ما معنى تكرير التنجية؟
قلت: ذكر أولاً أنه حين أهلك عدوهم نجاهم، ثم قال: {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} على معنى: وكانت تلك التنجية من عذاب غليظ. وذلك أن الله عز وجل بعث عليهم السموم فكانت تدخل في أنوفهم وتخرج من أدبارهم فتقطعهم عضوًا عضوًا.
وقيل: أراد بالثانية: التنجية من عذاب الآخرة. ولا عذاب أغلظ منه وأشد" (2).
ويقوي القول بأن المقصود بالتنجية الثانية إنما هي من عذاب الآخرة أن القرآن وصف عذاب الآخرة بأنه عذاب غليظ في عدة آيات، ولم يرد هذا الوصف لعذاب آخر.
قال تعالى: {وَمِنْ وَرَائِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} [إبراهيم: 17] وهو في الكلام على عذاب الآخرة.
وقال: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان: 24].
وقال: {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [فصلت: 50].
ووصف ملائكة النار بأنهم غلاظ شداد فقال: {عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6].
وذلك كله مما يقوي أن المقصود بالعذاب الغليظ إنما هو عذاب الآخرة.
ومن لطيف التناظر في التعبير أنه كما كرر النتيجة كرر اللعنة عليهم في الدنيا والآخرة فقال: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} [هود: 60].
وهو تناظر جميل، فذكر التنجية للمؤمنين مرتين وذكر اللعنة على الكافرين مرتين.
وهو مما يقوي أيضًا أن التنجية الأولى من الهلاك في الدنيا، وأن التنجية الثانية من عذاب الآخرة، وذلك أنه ذكر لعنتين: لعنة في الدنيا ولعنة في الآخرة. والله أعلم.
وقال ههنا: {نَجَّيْنَا هُودًا} بتضعيف عين الفعل، وقال في الأعراف في القصة نفسها: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [72].
وقد ذكرنا في كتابنا (بلاغة الكلمة في التعبير القرآني) الفرق بين استعمال هاتين المفردتين في القرآن الكريم كثيرًا ما يستعمل (نجى) للتلبث والتمهل، ويستعمل (أنجى) للإسراع في النجاة، فإن (أنجى) أسرع من (نجى) في التخليص من الشدة والكرب (3). وقد ذكرنا بناء كل من هذين الفعلين ودلالته الصرفية (4).
فاستعمل في الأعراف (أنجى) واستعمل في هود (نجى)، ذلك أن القصة في هود كانت كأنها استكمال لما ورد في الأعراف. ومعنى ذلك أن اللبث في هود أطول مما في الأعراف؛ لأن ذلك كان بعد الأعراف فشمل الزمانين فحسن ذلك استعمال (نجى) في هود.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن المذكور من القصة في هود يدل على مكث أطول في قدمه مما في الأعراف، فكان الجدال بينهما أطول والمحاورة أكثر. فناسب ذلك أيضًا استعمال (نجى) في هود و(أنجى) في الأعراف.
وقال: {بِرَحْمَةٍ مِنَّا} ليدل على أنه ما كانت النجاة في الدنيا ولا في الآخرة إلا برحمة منه سبحانه وليس ذلك بعملهم فقط، فإن العمل لا ينجي وحده لولا رحمة الله.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 221 إلى ص 224.
(1) انظر البحر المحيط 5/235.
(2) الكشاف 2/104.
(3) انظر بلاغة الكلمة في التعبير القرآني 74.
(4) المصدر السابق 65.
{وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 59 – 60].
{وَتِلْكَ عَادٌ}
"إشارة إلى قبورهم وآثارهم، كأن قال: سيحوا في الأرض فانظروا إليها واعتبروا" (1).
{جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ}
الجحود أن يقر المرء بقلبه ولا يقر لسانه، أو هو إنكار ما تعلم من الحق. قال تعالى في قوم فرعون: {وجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} [النمل: 14].
وقال في سيدنا محمد: {فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].
وعاد كذلك جحدوا بآيات ربهم مع علمهم أنها حق وهو ظلم وعناد.
{وَعَصَوْا رُسُلَهُ} لقد أطلق معصيتهم، فهم عصوا كل ما أمرتهم به رسلهم.
وهذه مرتبة أخرى بعد الجحود، فالجحود أمر قلبي وقولي، وهذا أمر سلوكي وعملي، وهي مخالفة الأوامر على العموم.
{وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ}
وهذا على النقيض من موقفهم من رسلهم، فهم عصوا الرسول واتبعوا الجبابرة.
وقال: (اتبعوا) ولم يقل: (تبعوا) وذلك للمبالغة في اتباع الجبابرة.
ولم يقل: (واتبعوا الجبارين) أو الجبابرة، وإنما أراد استغراق الاتباع لكل جبار، فلم يقتصر اتباعهم لقسم من الجبابرة.
وخص الجبابرة الذين اتبعوهم بالعناد فقال: {وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} زيادة في المعصية ومخالفة اوامر الله.
ووصف الجبار بأنه عنيد مناسب للجحد الذي يأبى صاحبه أن يقر بلسانه ما يقر به قلبه عنادًا واستكبارًا.
وهذه مرتبة أخرى بعد المعصية. فالمعصية ألا تطبق الأوامر، فقد تتركها أو تفعل غير ذلك، وأما عاد فلم يكتفوا بذلك بل اتبعوا أمر كل جبار عنيد.
فالاتباع نقيض المعصية، والجبابرة المعاندون هم أعداء رسل الله.
إن هذه الآية تبين مقدار عنادهم وعتوهم من أكثر من جهة:
1- فقد قال إنهم جحدوا بآيات ربهم مع علمهم أنها حق.
2- وقال: {بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ} وهو من أسوأ الجحود، إذ إنهم جحدوا بآيات ربهم الذي تفضل عليهم بالنعم وأحسن إليهم.
3- قال: {وَعَصَوْا رُسُلَهُ} أي عصوا رسل ربهم المتفضل عليهم، وهو عصوهم مع علمهم أنهم رسل الله.
4- وقال: {وَعَصَوْا رُسُلَهُ} ولم يقل: (وعصوا رسوله) ليدل على أنهم عصوا كل ما جاء عن رسل الله ولم يتبعوا أحدًا منهم. وهذا يدل على المبالغة في المعصية، أو "لأنهم إذا عصوا رسولهم فقد عصوا جميع رسل الله {لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 285]" (2) وعلى هذا يكون الجمع للدلالة على المبالغة في عصيانهم.
5- وقال: {وَاتَّبَعُوا} ولم يقل: (تبعوا) وذلك للمبالغة في اتباع الجبابرة وإطاعة أوامرهم.
6- وقال: {كُلِّ جَبَّارٍ} ولم يقتصروا على اتباع جبار واحد، بل ولا مجموعة من الجبابرة، بل اتبعوا كل جبار على سبيل العموم والاستغراق.
7- وقال: {عَنِيدٍ} ولم يقل: (معاند) فجاء بصيغة المبالغة ليدل على المبالغة في عناده. وذلك يدل على زيادة عتوهم وظلمهم.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 224 إلى ص 226.
(1) الكشاف 2/104.
(2) الكشاف 2/104.
{وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} [هود: 60]
اللعنة: هي الطرد من رحمة الله. أي إن اللعنة أرسلت عليهم فهي تطاردهم وتتبعهم حيثما يكونون في هذه الدنيا ويوم القيامة، فهي تلازمهم لا ترجى لهم رحمة لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وهذه مبالغة في الطرد من رحمة الله، فكما أنهم بالغوا في عنادهم ومعصيتهم وبالغوا في اتباع كل جبار عنيد بولغ لهم في هذا العقاب الأبدي الذي لا ينفك عنهم لا في الدنيا ولا في الآخرة.
جاء في (روح المعاني): "{وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} أي إبعادًا عن الرحمة وعن كل خير، أي جعلت اللعنة لازمة لهم. وعبر عن ذلك بالتبعية للمبالغة، فكأنها لا تفارقهم وإن ذهبوا كل مذهب بل تدور معهم حسبما داروا، أو لوقوعه في صحبة أتباعهم ...
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي وأتبعوا يوم القيامة لعنة أيضًا وهي عذاب النار المخلد.
حذف ذلك لدلالة الأول عليه وللإيذان بأن كلًّا من اللعنين نوع برأسه لم يجتمعا في قرن واحد بأن يقال (وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة ويوم القيامة لعنة). ونظير هذا قوله تعالى: {وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ}.
وعبر بيوم القيامة بدل الآخرة هنا للتهويل الذي يقتضيه المقام" (1).
لقد قال في هذه القصة: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ}
وقال في السورة نفسها في قصة فرعون: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} [99] فلم يذكر (الدنيا) بعد كلمة (هذه) وذلك لأمور منها:
1- أنه ذكر شيئًا من أمور الدنيا في قصة هود فقال: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ}، ثم ذكر أن الله يستخلف قومًا غيرهم، وذلك في الدنيا.
2- أنه ذكر يوم القيامة وعقوبتهم فيه في قصة فرعون ولم يذكر شيئًا عن عقوبتهم في الدنيا فقال: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ} [هود: 98] ثم قال: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ} [هود: 99].
فكان التأكيد على يوم القيامة وليس على الدنيا.
بخلاف قوم هود فإنه ذكر مجيء أمر الله عليهم في الدنيا وأنه نجى هودًا والذين آمنوا معه فقال: {وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58] فناسب ذكر الدنيا.
ألا ترى أنه لما ذكر عقوبة فرعون وجنوده في الدنيا في موطن آخر فقال: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [القصص: 40] ذكر الدنيا بعد كلمة (هذه) فقال: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} [القصص: 42].
فناسب ذكر الدنيا في قصة هود وإضمارها في قصة فرعون في هذه السورة، أعني سورة هود.
3- هذا إضافة إلى أن قصة هود أطول من قصة فرعون في السورة، فإن قصة هود من الآية الخمسين إلى الآية الستين (من 50 – 60).
وإن قصة فرعون من الآية السادسة والتسعين إلى الآية التاسعة والتسعين (من 96 – 99).
فناسب كل تعبير موضعه من أكثر من جهة.
فقد تقول: لقد قال ههنا: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ} ببناء الفعل (أتبعوا) للمجهول.
وقال في سورة القصص في قصة فرعون: {وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} [القصص: 42] ببناء الفعل للمعلوم وإسناده إلى ضمير الجماعة للتعظيم (أتبعناهم) فما السبب؟
فنقول: إن ذلك لأكثر من سبب منها:
1- أن كل آية مناسبة لبداية السورة التي وردت فيها.
فقد قال في بداية سورة هود: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} بالبناء للمجهول.
وقال في بداية سورة القصص: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ} بإسناد الفعل (تتلو) إلى ضمير المتكلم للتعظيم.
فناسب كل تعبير بداية السورة التي ورد فيها.
2- إن سياق القصة في سورة القصص إنما هو في الإسناد إلى ضمير التعظيم، فقد قال: فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم (40)، وجعلناهم أئمة (41)، وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة (42)، ولقد آتينا موسى الكتاب من بعد ما أهلكنا القرون الأولى بصائر للناس (43) فأسند الإهلاك إلى ضمير التعظيم.
وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر (44) ولكنا أنشأنا قرونًا (45)، وما كنت ثاويًا في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين (45)، وما كنت بجانب الطور إذ نادينا (46).
فناسب ذلك إسناد الفعل إلى ضمير المتكلمين (أتبعناهم).
وأما السياق في سورة هود فهو في الكلام على الغائب، فقد قال: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ} ولم يقل: جحدوا بآياتنا، ولا عصوا رسلنا.
وقال: {أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ} ولم يقل: (كفروا بنا) ولا (كفرونا).
فناسب ذلك قوله: {وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً} بالبناء للمجهول.
3- أن ضمائر التعظيم لله البارزة والمستترة في القصة في سورة القصص واحد وثلاثون ضميرًا (31).
وفي قصة هود أربعة ضمائر.
فناسب ذلك إسناد الفعل في القصص إلى ضمير التعظيم من هذه الجهة.
4- قصة موسى في القصص أطول من قصة هود في سورة هود. فإن قصة موسى أربع وأربعون آية، من الآية الثالثة إلى الآية السادسة والأربعون.
وأما قصة هود فهي إحدى عشرة آية، من الآية الخمسين إلى الآية الستين.
وإن (أتبعناهم) أطول من (أتبعوا). فإن (أتبعناهم) ثمانية أحرف، وإن (أتبعوا) خمسة أحرف.
فناسب التعبير الذي هو أطول القصة التي هي أطول، والذي هو أقل القصة التي هي أقصر.
فناسب كل تعبير موضعه من كل جهة.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 226 إلى ص 230.
(1) روح المعاني 12/87.
{أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ}
الفعل (كفر) يتعدى بحرف الجر وبنفسه.
فيقال: (كفر بالله) متعديًا بحرف الجر وهو الباء. والكفر هنا نقيض الإيمان.
ويقال: (كفر ربه) بتعديه إلى المفعول بنفسه وذلك يفيد معنيين:
المعنى الأول: كفران النعمة، وهو نقيض الشكر.
والآخر معناه الجحود وهو نقيض الإيمان.
فهم جحدوا ربهم وجحدوا نعمه. جاء في (روح المعاني) في قوله:
{أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ}: "أي بربهم أو كفروا نعمته ولم يشكروها بالإيمان أو جحدوه" (1).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 230 إلى ص 231.
(1) روح المعاني 12/87.
{أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ}
(قوم هود ) عطف بيان لعاد أو بدل منه، ذكر زيادة في التوضيح والتعيين، كما قال سبحانه {وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا} [الفرقان: 35] فذكر هرون زيادة في التنصيص مع أنه قد يستغني عن ذكره ويكتفي بذكر الأخوة كما قال سبحانه: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا} [يونس: 87] ولم يذكر هرون.
وقيل إن عادًا "عادان: الأولى القديمة التي هي قوم هود، والقصة فيهم، والأخرى هي إرم" (1).
وقيل أيضًا: إن عاد إرم هي عاد هذه، وهم قوم هود، وهي عاد الأولى (2).
وإنما ذكر (قوم هود) زيادة في المبالغة والتأكيد.
وكرر حرف التنبيه (ألا) مرتين زيادة في ذمهم والتنبيه على سوء مآلهم.
جاء في (البحر المحيط): "ثم كرر التنبيه بقوله: (ألا) في الدعاء عليهم تهويلًا لأمرهم وتفظيعًا له وبعثًا على الاعتبار بهم والحذر من مثل حالهم" (3).
ومن الطريف في هذه الآية أنه كرر اللعنة مرتين {فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ}، وذكر الدنيا مرتين: مرة باسم الإشارة (هذه)، ومرة بالاسم الصريح، وكرر عادًا مرتين، وكرر (ألا) مرتين، ودل على عاد مرتين: مرة باسمهم ومرة بذكر أنهم قود هود.
وهو من لطيف التعبير.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 231 إلى ص 232.
(1) الكشاف 2/104.
(2) انظر فتح القدير 5/422.
(3) البحر المحيط 5/236.
قصة صالح
وردت هذه القصة في الأعراف وهود والحجر والشعراء والنمل وفصلت والذاريات والقمر والفجر والشمس.
وهي كما ذكرنا في قصتي نوح وهود ليست مكررة، بل يذكر في كل موضع جانب لم يذكر في المواضع الأخرى، وقد يذكر على أمور أو على أمر بحسب ما يقتضيه السياق وما يراد أن يركز عليه.
1- فقد دعا صالح قومه ثمود في الأعراف إلى توحيد الله وعبادته فقال لهم: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف: 73].
وهذا ما ورد في السورة على لسان أكثر الأنبياء، فقد ورد ذلك على لسان نوح وهود وصالح وشعيب.
وذكر لهم آية تدل على صدقه وأنه رسول من عند الله وهي الناقة، وسماها ناقة الله لأنها لا تعود لأحد وإنما هي لله أوجدها ربنا إيجادًا، فقد أخرجها من صخرة ولم تلدها ناقة. وحذرهم من التعرض لها بسوء وإلا أخذهم عذاب أليم.
وذكرهم بنعم الله عليهم فإنه بوأهم في الأرض بعد عاد يتخذون من سهولها قصورًا وينحتون الجبال بيوتًا.
ولم يذكر ذلك في موضع آخر، وإنما يذكر جانبًا واحدًا من هذه النعم. فقد ذكر أنهم ينحتون من الجبال بيوتًا في سورتي الحجر والشعراء، ولم يذكر اتخاذ القصور من السهول.
وكان الجدال بين الملأ الذين استكبروا من قومه وبين المستضعفين من المؤمنين، ولم يواجهوا صالحًا بكلام أو جدال، فقد {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [ الأعراف: 75 - 76].
فعقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم ثم تحدوا صالحًا: {وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 77].
{فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [الأعراف: 78].
٢- وأما في سورة هود فإنه دعاهم أيضًا إلى عبادة الله وتوحيده، ونحو ذلك فعل نوح وهود وشعيب، ثم قال لهم إنه أنشأهم من الأرض وجعلهم عمارًا لها.
فأجابوه قائلين: {يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} فكان الجدال بينه وبين قومه.
وأما في الأعراف فقد كان الجدال بين المستكبرين من قومه وأتباع صالح.
ثم ذكر لهم الآية التي تدل على صدقه وهي الناقة، وحذرهم من أن يمسوها بسوء.
فعقروها فأخذتهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين.
3- وأما في سورة الحجر فإنها المرة الوحيدة التي ذكر عنهم أنهم أصحاب الحجر فذكر محل سكناهم وهو الحجر.
والحِجْر: هو موطن ثمود قوم صالح، وهو أرض بين الحجاز والشام (1).
ولم يذكر أنه دعاهم إلى عبادة الله، وإنما ذكر تكذيبهم المرسلين، فكأنها استكمال لما ورد في الأعراف وهود، فقد دعاهم في الموضعين السابقين إلى توحيد الله وعبادته والتصديق بنبوته وأنه جاءهم بالآية الدالة على صدقه. وقال ههنا عنهم: إنهم كذبوا المرسلين وأعرضوا عن الآيات.
فهي مرحلة بعد التبليغ، ولم يذكر الآيات ولا نوعها أو ما هي؟
كما لم يذكر اسم نبيهم ولا اسم القوم، فلم يذكر اسم ثمود ولا صالح، كما لم يذكر الناقة.
وذكر أنهم كذبوا المرسلين فأخذتهم الصيحة مصبحين.
وهذا ما جاء في شأنهم في سورة الحجر:
{وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآَتَيْنَاهُمْ آَيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الحجر: 80 - 84]
لقد ذكر هنا أنه أتاهم آياته بالجمع، ولم يقل: (آية) بالإفراد، وهذا هو الموطن الوحيد الذي ذكرت فيه الآيات مجموعة في هذه القصة.
وأما في المواضع الأخرى فإنه يذكرها (آية) بالمفرد (انظر الأعراف ۷۳، هود 64، الشعراء ١٥٤) أو يذكر الناقة. وذلك - والله أعلم - أنه قال{وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ} فذكر مرسلين ولم يذكر رسولاً واحدًا. والمرسلون لهم آيات لا آية، فناسب أن يقولها بالجمع.قد تقول: ولكنه قال في الشعراء أيضًا: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} لكنه ذكر آية وذكر الناقة.
فنقول: إن السياق مختلف، فإنه في سورة الحجر لم يذكر رسولاً معينًا، وإنما ذكر الرسل على العموم، في حين أن الكلام في الشعراء على صالح، فقد قال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ}، فكان المناسب أن يذكر آية صالح لأن الكلام عليه وحده.
قد تقول: لقد قال ههنا: {وَآَتَيْنَاهُمْ آَيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} [طه: 56] فقال: (كلها).
وكذا جاء في سورة القمر، فقد قال: {كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر: 42].
والكلام على فرعون في الموضعين؛ وذلك لأن آيات موسى كثيرة، وقد ذكر ربنا أنها تسع آيات (2).
بخلاف آيات صالح فإنها آيات متعلقة بالناقة من حيث إنها خرجت من صخرة، وإنها كانت تسقي القبيلة كلها باللبن، وغير ذلك (3).
فناسب ذكر (كلها) في آيات موسى.
4- وأما ما في سورة الشعراء فإنه ورد فيها ما ورد في عموم الرسل، فقد قال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}.
وهو ما قاله عموم الرسل لأقوامهم في هذه السورة كما ذكرنا في قصتي نوح وهود. فإنهم لم يأمروهم بتوحيد الله وعبادته، وإنما أمروهم بتقوى الله وإطاعة رسولهم. وهي مرحلة بعد التبليغ بتوحيد الله وعبادته.
فبعد توحيد الله وعبادته أمروهم بتقوى الله وطاعة رسوله.
وذلك ما قاله صالح لقومه أيضًا.
ثم ذكر لهم من النعم ما لم يذكره في المواضع الأخرى، فقد قال: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} [الشعراء: 146 - 149] فذكر لهم الأمن والفراهة في السكن ورفاهية العيش في الزروع والثمار والماء.
فقالوا له: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} أي من الذين سحروا كثيرًا حتى غلب على عقله.
وطلبوا منه آية تدل على صدقه، فقال لهم: إن آية صدقه هي الناقة، وإن لها يومًا تشرب فيه الماء، ولهم يوم يشربون فيه الماء.
وهذا أول موضع يذكر فيه أن الماء بين القوم والناقة لكل منهما يوم. وقد ذكر في الأعراف وهود الأكل وقال لهم: {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} [الأعراف: 73، هود: 64]
وذكر هنا الشرب.
وذكر الشرب أيضًا في سورة القمر وسورة الشمس ولم يذكر الأكل.
والخط التعبيري في القرآن أنه يقدم الأكل على الشرب حيث اجتمعا، سواء كان ذلك في الدنيا أم في الآخرة، وذلك نحو قوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ} [البقرة: 60]
وقوله في الجنة: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24]
وقد قدم الأكل في هذه القصة على الشرب مع أنهما لم يجتمعا.
وهذا من لطيف التعبير.
ثم حذرهم من أن يمسوها بسوء وإلا أخذهم عذاب يوم عظيم.
فعقروها فأصبحوا نادمين. ولم يذكر نوع العقوبة التي حلت بهم، وإنما ذكر العذاب على العموم فقال: {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} ولم يذكر صيحة أو رجفة أو غيرهما.
5- وأما في سورة النمل فقد ذكر أنه أرسل إلى ثمود صالحًا وأمرهم بعبادة الله فإذا هم فريقان متخاصمان.
ولم يذكر من هذان الفريقان وما شأنهما؟ ولكن المقام يدل على أنهما فريق مؤمن وفريق كافر.
ولم يطلبوا منه آية، وإنما ذكر تواطؤ تسعة رهط من قومه على قتله وأهله.
ولم يرد هذا في موضع آخر من القرآن الكريم. وهو أنسب موطن لذكر ذلك فإنه كان نهاية الاختصام.
ثم ذكر عاقبة هذا المكر أن الله دمرهم وقومهم أجمعين، ولم يذكر كيف دمرهم ولا نوع العقوبة التي حلت بهم.
6- وأما في فصلت فالقصة موجزة، فإنه لم يذكر إلا أنه هداهم فاستحبوا العمى على الهدى. ولم يذكر أنه دعاهم إلى شيء.
ثم ذكر أن الصاعقة أخذتهم. وهذا أول موضع يرد فيه ذكر الصاعقة في هذه القصة
وهذا ما ورد منها في هذه السورة:
{وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [فصلت: 17 - 18]
7- وفي الذاريات ذكر أنه قيل لثمود: تمتعوا حتى حين، فعتوا عن أمر ربهم. ولم يذكر من القائل ولا إلى أي شيء دعاهم، وذكر أنهم عتوا عن أمر ربهم فأخذتهم الصاعقة وهم ينظرون.
وهذا ما ورد منها:
{وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ} [الذاريات: 43 - 45]
٨- وأما في سورة القمر فإنه قال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ} [القمر: 23].
وهذا هو افتتاح عموم القصص في هذه السورة، فإنها تفتتح بتكذيب الأقوام لرسلهم ابتداء من قوم نوح فعاد فثمود فقوم لوط وفرعون كما ذكرنا.
ثم ذكر أنهم قالوا عن نبيهم الذي لم يذكر اسمه إنه كذاب أشر، ولم يرد مثل هذا الوصف له في موضع آخر من القرآن، فتوعدهم ربنا بقوله: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ} [القمر: 26].
ثم ذكر أنه أرسل الناقة فتنة لهم. وقال لهم إن الماء قسمة بينهم كل شرب يحضره أصحابه. فنادوا صاحبهم فعقر الناقة. ثم ذكر أنه أرسل عليهم صيحة واحدة فكانوا كالهشيم الذي يتبقى من صنع الحظيرة التي تصنع للدواب.
ولم يرد مثل هذا في موضع آخر من القرآن. قال تعالى:
{كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَؤُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ} [القمر: 23 - 31]
9- وأما في سورة الفجر فلم يذكر عن ثمود إلا أنهم جابوا الصخر بالواد، أي قطعوه ونحتوه.
كما أنه أول مرة ذكر الوادي الذي ينحتون فيه، ولم يذكر عقوبة لهم جمعهم مع عدة أقوام بقوله: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر: 13]
10- وأما في سورة الشمس فذكر أن ثمود كذبت بسبب طغيانها، وذكر أن أشقى القوم انبعث، والظاهر أنه انبعث لعقر الناقة، رسولهم حذرهم ف فقال لهم: {نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا} [الشمس: 13] أي اتركوها وأن ولا تتعرضوا لها. ولم يزد على ذلك فكذبوه فعقروها.
وذكر العذاب بصورة لم يذكرها في بقية المواضع فقال: {فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس: 14] أي أطبق عليهم العذاب مكررًا ذلك عليهم (4).
فأنت ترى أن القصة ليست مكررة، وإنما يذكر في كل موضع ما يناسب السياق الذي وردت فيه. وأنه يذكر في كل موضع منها جانبًا لم يذكر في المواضع الأخرى.
الدعوة:
إن أول ما دعا صالح قومه إلى عبادة الله وتوحيده فقال: {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، ثم ذكر لهم البينة التي جاءتهم وذكرهم بالنعم التي أنعم الله عليهم بها، وذلك في الأعراف 73.
وأما في هود فلم يكتف بذاك وإنما طلب منهم بعد عبادة الله وتوحيده وتذكيرهم بنعمته عليهم بالإيجاد وإعمار الأرض أن يستغفروا ربهم ثم يتوبوا إليه
{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} [هود: 61].
فهي مرحلة لاحقة بعد التبليغ الأول.
وأما في سورة الحجر فقد ذكر تكذيبهم، ولم يذكر مواجهة بينه وبين قومه، وإنما هو إخبار عن هؤلاء القوم.
وأما في الشعراء فإنه طلب منهم أمرًا آخر، فقد قال لهم: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} وهو ما طلبه الرسل من أقوامهم.
(انظـر الشعـراء 110 ، ١٢٦ ، ۱۳۱ ، 144 ، 163 ، ۱۷۹) ثم ذكرهم بالنعم، ولم يعد عليهم الأمر بعبادة الله وتوحيده.
وأما في النمل فقد قال: إنه أرسل صالحًا إلى ثمود بعبادة الله فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ} [النمل: 45].
فاختصم الفريقان في هذا الأمر، فدعاهم إلى الاستغفار وحضهم على ذلك لعل الله يرحمهم، فقال لهم: {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل: 46].
وأما في سورة فصلت فإنه لم يذكر دعوة ولا مواجهة، بل هو إخبار عن غائب.
ونحو ذلك في الذاريات، فإنه لم يرد فيها إلا تحذيرهم من عاقبة ما هم فيه، إذ قيل لهم: {تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ} [الذاريات : 43].
وفي سورة القمر ذكر تكذيبهم بالنذر ولم يذكر دعوة ولا مواجهة.
ولم يذكر في الفجر سوى أنهم جابوا الصخر بالواد.
وأما في سورة الشمس فقد ذكر تكذيبهم بسبب طغيانهم، ولم يذكر دعوة لهم ولا مواجهة، وإنما طلب أن يتركوا ناقة الله وسقياها.
تذكيرهم بالنعم:
وكذلك التذكير بالنعم لم يكن على نمط واحد:
1- ففي سورة الأعراف بعد أن ذكرهم بأنه جعلهم خلفاء من بعد عاد وفي هذا تحذير لهم أن يسلكوا سبيلهم ذكرهم بنعم الله بأن بوأهم في الأرض، أي مكنهم منها وهيأها لهم يتخذون من سهولها قصورًا وينحتون الجبال بيوتًا. ثم طلب منهم أن يذكروا نعم الله عليهم على العموم فقال لهم: {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الأعراف: 74].
٢- وأما في هود فقد ذكر أنه أنشأهم من الأرض وجعلهم عمارًا لها {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}.
وهذه النعم المذكورة في هود تختلف عما في الأعراف، فقد توسع ذكر النعم في الأعراف وأجملها في هود.
3- وأما في الحجر فقد ذكر أنهم: كانوا ينحتون من الجبال بيوتًا آمنين، فذكر الأمن زيادة على اتخاذ البيوت. وهذه هي المرة الأولى التي يذكر فيها الأمن.
ومن الملاحظ أنه قال هنا: {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ} بذكر (من)، في حين قال في الأعراف: {وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} فلم يذكر (من)، وذلك أنه توسع في ذكر النعم في الأعراف، وذكر ما لم يذكره في الحجر، فقال: إنه بوأهم في الأرض، أي مكن لهم فيها وهيأ لهم فيها مكانًا، وأنهم يتخذون من سهولها قصورًا وينحتون الجبال بيوتًا، فقال: إنهم يتخذون من سهولها قصورًا ولم يقل: (يتخذون في سهولها قصورًا) أي تجعلون من سهولها قصورًا، وهذا توسع في الإعمار. بخلاف ما لو قال: (تتخذون في سهولها قصورا) أي تجعلون في السهول قصورًا، وهذا يمكن أن يقال في بضعة قصور، بخلاف قولك: (اتخذت من السهول قصورًا) أي جعلت السهول قصورًا. ألا ترى فرقا بين قولك : (اتخذت في الأرض دارًا) و(اتخذت من الأرض دارًا) فالتعبير الأول قد يفيد أنك بنيت في الأرض دارًا ولا يفيد أنك جعلتها كلها دارًا ، بخلاف قولك: (اتخذت من الأرض دارًا) أي جعلتها داراً كلها.
ثم قال: {وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا} أي كأن الجبال كلها ينحتونها بيوتًا، وهذا توسع في العمران، وهو أوسع من قوله: {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آَمِنِينَ} بـ (من) التي قد تفيد التبعيض.
ولذا ذكرهم بآلاء الله عليهم الأعراف فقال {فَاذْكُرُوا آَلَاءَ اللَّهِ}.
فإنه توسع في ذكر عمارة الأرض في الأعراف ما لم يتوسع في الحجر، غير أنه زاد الأمن في الحجر.
4- وأما في الشعراء فقد ذكر نعمًا أخرى عددها عليهم، فقد ذكر الأمن وذكر الجنات وعيون الماء والزروع والتوسع والفراهة في السكن فقال: {أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آَمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} [الشعراء: 146 – 149].
فقد ذكر الأمن في المكان، والسعة في الطعام والشراب، والفراهة في السكن، وهو ما لم يذكر فيما سبق من النعم.
ولم يذكر في السور بعد ذلك نعمًا عددها عليهم سوى أنه قال في الفجر: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} أي قطعوه ونحتوه.
فأنت ترى أنه لم يكرر ذكر النعم أو يذكرها في موضع واحد.
البينة على صدقه:
ذكر الآية الدالة على صدقه وهي الناقة التي أخرجها الله من الصخرة "وكانوا هم الذين سألوا صالحًا أن يأتيهم بآية، واقترحوا عليه بأن تخرج لهم من صخرة صماء عينوها بأنفسهم ... فطلبوا منه أن يخرج لهم منها ناقلة عشراء تمخض، فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق لئن أجابهم الله إلى سؤالهم وأجابهم إلى طلبتهم ليؤمنن بها وليتبعنه. فلما أعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم قام صالح عليه السلام إلى صلاته ودعا الله عز وجل فتحركت تلك الصخرة ثم انصدعت عن ناقة جوفاء وبراء يتحرك جنينها بين جنبيها كما سألوا ... فأقامت الناقة وفصيلها بعدما وضعته بين أظهرهم مدة تشرب من بئرها يومًا وتدعه لهم يومًا. وكانوا يشربون لبنها يوم شربها، يحتلبونها فيملؤون ما شاءوا من أوعيتهم وأوانيهم" (5).
1- فقد ذكرها في الأعراف وسماها بينة وآية فقال: {قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً} [الأعراف: 73] وطلب منهم أن يتركوها تأكل في أرض الله ولا يمسوها بسوء وإلا أخذهم عذاب أليم.
ولم يسمها بينة في غير هذا الموضع.
وقد أخبرهم عن مجيء هذه الآية ابتداء ولم يذكر أنهم طلبوا منه أن يأتي بآية دالة على صدقه.
2- وأما في هود فقد سماها آية، ولم يذكر أنهم طلبوا منه أن يأتيهم بذاك، وإنما قال لهم: {هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً}. وطلب منهم أن يتركوها تأكل في أرض الله ولا يمسوها بسوء وإلا أخذهم عذاب قريب.
. 3- وأما في الحجر فقد ذكر عن أصحاب الحجر أنهم كذبوا المرسلين. وقال: {وَآَتَيْنَاهُمْ آَيَاتِنَا} [الحجر: 81] فذكر آيات ولم يقل آية. ولم يذكر هذه الآيات مع أنه ذكر في بقية السور أنها آية.
وليس في ذلك تعارض فإن الناقة آية وفيها آيات:
منها أنها خرجت من صخرة من غير أن تلدها أنثى، وأنها كانت تدر باللبن الذي يسقي القوم كلهم في يوم واحد، وأنها تشرب ماء البئر كله وهو يسقي القوم وإبلهم ومواشيهم.
4- وأما في سورة الشعراء فقد ذكر أنهم طلبوا منه أن يأتيهم بآية إن كان من الصادقين (١٥٤).
وهذا هو الموطن الوحيد الذي ذكر فيه أنهم طلبوا منه آية فقال لهم: {هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الشعراء: 155].
وطلب منهم أن لا يمسوها بسوء وإلا أخذهم عذاب يوم عظيم (156).
وهذا أول موضع ذكر فيه الشرب، وكان قد ذكر في مواضع سابقة الأكل.
كما أن هذا هو الموضع الوحيد الذي أضاف فيه العذاب إلى اليوم ووصفه بالعظم فقال: {وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الشعراء: 156].
ففي سورة الشعراء ذكر أمورا لم يذكرها في بقية السور، أو بدأ بذكرها قبل ما بعدها من السور.
منها: أنهم طلبوا منه آية. ولم يذكر ذلك في المواضع الأخرى. وأنه ذكر شرب الناقة، في حين أنه ذكر في السور السابقة الأكل.
وأنه أضاف العذاب إلى اليوم ووصفه بالعظم، في حين أنه كان يصف العـذاب فـي المـواضـع الأخـرى فيقول: {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [الأعراف: 73] أو {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 64].
5- ولم يذكر آية أو ناقة في سورة النمل ولا فصلت ولا الذاريات.
6- ذكر في سورة القمر إرسال الناقة فتنة لهم، ولم يذكر أن تلك آية، ولا أنهم طلبوا منه آية، وإنما كان ذلك من باب التوعد لهم فقال: {إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ} [القمر: 27].
وذكر الشرب ولم يذكر الأكل فقال: {وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ} [القمر: 28].
7- لم يذكر شيئًا من ذلك في سورة الفجر.
٨- في سورة الشمس ذكر أن رسول الله طلب منهم أن يتركوا ناقة الله وسقياها، أي شربها.
ولم يذكر أن تلك آية ولا أنهم طلبوا منه آية.
الموقف:
1- كان أشد المواقف المذكورة من الدعوة إنما هو ما ورد في الأعراف، فقد دار جدال بين المستكبرين من قومه والذين استضعفوا من المؤمنين، فقد {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الأعراف: 75 - 76].
ولم يرد حوار أو جدال بين صالح وقومه سوى أنهم تحدوا صالحًا بعدما عقروا الناقة قائلين له: {يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 77].
٢- وأما في هود فقد كان الحوار بين صالح وقومه، فقد قالوا له: {يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 62 - 64].
فعقروها فأمهلهم ثلاثة أيام يقع بعدها العذاب عليهم، توعدهم به . فوقع ما توعدهم به.
وهذا الموقف أخف مما في الأعراف، فقد قالوا في الأعراف: {إِنَّا بِالَّذِي آَمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ}.
وههنا قالوا: {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} فذكروا أنهم في شك.
3- لم يذكر مواجهة بينه وبين قومه في الحجر، إلا أنه أخبر عنهم ربنا أنهم كذبوا المرسلين ولم يذكر مرسلاً بعينه، وقال إنهم أعرضوا عن الآيات.
4- في الشعراء ذكر حوارًا بين صالح وقومه، وقد عدد عليهم النعم فقالوا له: {إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ} أي من الذين سحروا كثيرا حتى أثر على عقله.
وقالوا له أيضًا: {مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآَيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [الشعراء: 154].
ولم يرد مثل هذا الحوار في موطن آخر.
5- في النمل ذكر أنهم تطيروا به بعد نصح نبيهم لهم قائلاً: {قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النمل: 46].
فقالوا له: {اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ}.
فرد عليهم قائلاً: {طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ}.
ولم يزد الكلام بينهما على هذا.
ثم ذكر ما حاكوا له من مؤامرة لقتله وأهله.
وهذا إنما كان بعد مدة من التبليغ والأخذ والرد ذكرت في المواطن السابقة التي وردت فيها القصة.
ولا يناسب أن يكون هذا في أول الدعوة.
6-لم يذكر في سورة فصلت شيئا بين صالح وقومه، وإنما ذكر شيئا عـن حـالـهـم فقال: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17].
7- وكذلك في الذاريات فإنه قيل لهم: {تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ} [الذاريات: 43].
وذكر أنهم عتوا عن أمر ربهم.
٨- في القمر ذكر أن ثمود كذبوا بالنذر، ولم يذكر مواجهة بينهم وبين نبيهم، وإنما قال بعضهم لبعض: {أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 24].
واتهموه بأنه كذاب أشر {أُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ} [القمر: 25].
ولم يرد مثل هذه الأقوال في نبيهم في أي موضع آخر. غير أنه لم تذكر هذه الأقوال في مواجهته وإنما ذكرت في غيبته.
وذكر في هذه السورة أنهم نادوا صاحبهم ليعقر الناقة فتعاطى السيف فعقرها، فذكر أن العاقر واحد، غير أنهم لما نادوه ليفعل ذلك كانوا مشتركين في الجريمة فعوقبوا جميعًا.
هذا هو الموطن الوحيد الذي ذكر فيه أنهم نادوا صاحبهم ليعقرها، فقد أسند العقر إلى واحد، في حين أنه في المواطن الأخرى أسند العقر إلى الجميع قائلاً: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ} أو {فَعَقَرُوهَا}.
9- ولم يرد في سورة الفجر شيء عن موقفهم من رسولهم.
10- وأما في سورة الشمس فقد ذكر أنهم كذبوا بطغيانهم، وأنه انبعث أشقاها، وأن نبيهم طلب منهم أن يتركوا الناقة وسقياها، فكذبوه فعقروها.
الخاتمة
1- ذكر في سورة الأعراف أنهم أصابتهم الرجفة وهي الزلزلة الشديدة فأصبحوا في دارهم جاثمين.
٢- وقال في سورة هود إنهم أصابتهم الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين. وهي صيحة من السماء.
وجمع الديار في الصيحة وأفردها في الرجفة؛ لأن الصيحة يبلغ مداها أبعد من مدى الرجفة، ولذا حيث ذكر الصيحة فقال: (الديار). وحيث ذكر (الرجفة) أفرد الدار (6).
3- وذكر في الحجر أنهم أخذتهم الصيحة.
4- ولم يذكر في الشعراء لا رجفة ولا صيحة وإنما ذكر العذاب وهو مطلق فقال: {فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ} [الشعراء: 158].
5- وأما في النمل فلم يذكر شيئًا من ذلك وإنما ذكر التدمير على العموم فقال: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} [النمل: 51].
6- وقال في فصلت إنهم أخذتهم صاعقة العذاب الهون (17).
7- وقال في الذاريات إنهم أخذتهم الصاعقة من دون إضافة إلى العذاب أو إلى غيره (45).
8- وقال في القمر إنه أرسل عليهم صيحة واحدة فذكر أنها واحدة.
9- وأما في الفجر فقد جمعهم مع عدة أقوام فقال فيهم جميعًا: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} [الفجر: 13].
10- وأما في سورة الشمس فلم يذكر شيئًا من ذلك وإنما قال: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا} [الشمس: 14] أي أطبق عليهم العذاب مكررًا، وإنه لم ينج منهم أحد فكانوا في العذاب سواء.
فذكر الرجفة مرة واحدة وذلك في سورة الأعراف.
وذكر الصيحة ثلاث مرات: مرة في سورة هود، ومرة في الحجر، ومرة في القمر.
وذكر الصاعقة مرتين: مرة في فصلت، ومرة في الذاريات.
ولا تناقض في ذلك أو اختلاف، فإن الرجفة في الأرض والصيحة من السماء ومعها الصاعقة.
جاء في (روح المعاني): "الصيحة أي صيحة جبريل أو صيحة من السماء فيها كل صاعقة وصوت مفزع ... فأخذتهم الرجفة ... ولعلها وقعت عقيب الصيحة" (7).
وأشدهن الرجفة لأنها زلزلة وهي تباشرهم أجمعين وتباشر مساكنهم.
وذكرها لأنه ذكر استكبارهم ولأنهم عقروا الناقة وعتوا عن أمر ربهم وتحدوا نبيهم، قال تعالى: {فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف: 77].
وتليها الصيحة؛ لأن الصيحة قد لا يسمعها الأصم أو من وضع سدادًا
في أذنيه، بخلاف الرجفة التي تعم الجميع.
وذكر الصيحة ههنا لأن موقفهم أخف، ذلك أنه لم يذكر في هود غير في العقر.
ففي الأعراف ذكر العقر والعتو عن أمر ربهم والتحدي، وليس في هود أو غيرها نحو ذلك.
ولم يذكر في الحجر غير الإعراض عن الآيات.
أما في القمر فلم يذكر غير العقر.
ثم تليها الصاعقة؛ لأن الصاعقة قد تحل في مكان دون آخر وإن كانت عمتهم أجمعين. وذلك أنه لم يقل في فصلت إلا إنه هداهم فاستحبوا العمى على الهدى. ولم يذكر عقر الناقة.
وفي الذاريات قال: {فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ} [الذاريات: 44] ولم يذكر عقرًا أو غيره.
فذكر في كل موضع جانبًا من العقوبة يناسبه.
النجاة:
1- لم يذكر في الأعراف نجاة وإنما قال: {فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} وهو المناسب لذكر الرجفة التي تعم الجمع.
والسياق يدل على نجاة الذين آمنوا كما هو بين.
٢- ذكر في هود أنه نجى صالحًا والذين آمنوا معه.
3- لم يذكر نجاة في الحجر ولا في الشعراء.
4- ذكر في النمل وفصلت أنه نجى الذين آمنوا وكانوا يتقون.
ولم يذكر نجاة في غير ذلك من المواضع.
ومن الملاحظ أنه لم يذكر أن رسولهم دعا بطلب النجاة لا له ولا لمن آمن معه. كما أنه لم يدع على قومه.
ولم يرد لأهله ذكر ولا موقفهم من الدعوة، وذلك نظير ما مر في قصة هود.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 233 إلى ص 254.
(1) انظر البحر المحيط 5/463، الكشاف 2/194.
(2) انظر الأسراء 101، النمل 12.
(3) انظر تفسير الرازي 7/157.
(4) انظر البحر المحيط 8/482.
(5) تفسير ابن كثير 2/228.
(6) انظر التعبير القرآني 57، البرهان للكرماني 184، 239.
(7) روح المعاني 12/92.
{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}
{وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا}
أي أرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحًا، فالآية معطوفة على قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ}
{أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا}
أي جعلكم تعمرونها وتسكنون فيها، وقدم الإنشاء من الأرض على إعمارها لأنه أسبق، فإن الإنشاء قبل عمارتهم للأرض.
{فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ} هو نظير ما قاله من سبقه لمن سبقهم، فقد قال ذلك هود لقومه عاد (الآية 52).
وقالها خاتم الرسل لقومه كما سبق ذكر ذلك في الآية الثالثة من السورة.
وسبق أن ذكرنا ثم تقديم الاستغفار على التوبة وسبب ذلك فلا نعيد القول فيه.
{إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ}
أي قريب يسمع استغفاركم ويجيبكم فيتوب عليكم ويجيب دعاءكم.
وقدم (قريب) على (مجيب) لأن الإجابة تستدعي السماع، والقريب أدعى إلى السمع من البعيد. فقدم القريب لأنه يسمعك فيجيبك. ونحو هذا قوله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] فقدم القرب على الإجابة.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 254 إلى ص 255.
{قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} [هود: 62]
{قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا}
أي "كانت تلوح فيك مخايل الخير وأمارات الرشد، فكنا نرجوك لننتفع بك وتكون مشاورًا في الأمور ومسترشدًا في التدابير، فلما نطقت بهذا القول انقطع رجاؤنا عنك وعلمنا أن لا خير فيك.
وعن ابن عباس:
فاضلاً خيرًا نقدمك على جميعنا" (1).
وقدم الجار والمجرور (فينا) على (مرجوًّا) لأن الكلام يتعلق بهم فقدم ضميرهم في (فينا)، ألا ترى أنهم قالوا: {أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ} فإن الكلام يتعلق بهم فقدم ما يتعلق بهم.
وهذا نظير التقديم في قوله تعالى: {وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً} كما مر بيان ذلك في قوله: {وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ} [هود: 28].
{وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ}
"الشك هو أن يبقى الإنسان متوقفًا بين النفي والإثبات. والمريب هو الذي يظن به السوء. فقوله: {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ} يعني به أنه لم يترجح في اعتقادهم صحة قوله.
وقوله: {مُرِيبٍ} يعني أنه ترجح في اعتقادهم فساد قوله. وهذا مبالغة في تزييف كلامه" (2).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 255 إلى ص 256.
(1) الكشاف 2/105
(2) تفسير الرازي 6/368.
{قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} [هود: 63]
بعد أن قالوا لنبيهم إنهم في شك مما يدعوهم إليه ناقشهم نبيهم بأمرين: أمر عقلي منطقي، وأمر قائم على الحجة الملزمة.
فأما الأمر العقلي المنطقي فإنه قال لهم: أخبروني لو أن الله كان أرسلني حقًا ولست مدعيًا فمن يعصمني من الله وينجيني منه إن عصيته؟
جاء في (الكشاف): "قدروا أني على بينة من ربي وأني الحقيقة وانظروا إن تابعتكم وعصيت ربي فمن يمنعني من عذاب الله" (۱).
وذكرنا في موضع سابق من هذه السورة سبب تقديم الجار والمجرور (منه) على (رحمة)، في حين أخره عن الرحمة في قوله: {وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ} [هود: 28].
وقد ذكرنا في ذلك الموضع أنه لما كان الكلام على الرحمة قدمها وذلك قوله: {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ}.
ولما كان الكلام على الله في هذه الآية وذلك قوله: {فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ} قدم الضمير العائد على الله في الجار والمجرور وهو (منه) على الرحمة.
{فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ}
التخسير مصدر (خسر) بالتضعيف، وهو يفيد المبالغة والتكثير في الخسار، أي لا تزيدونني إلا مبالغة في الخسران.
لقد دل هذا التعبير على الزيادة في الخسران من أكثر من وجه:
منها قوله: {تَزِيدُونَنِي} أي تضيفون خسارة إلى خسراني.
ومنها: أنه جاء بالمصدر الدال على الكثرة وهو (تخسير).
ومنها: أنه جاء بالنفي مع (غير) ليدل على أنه لا يزيدونه شيئًا غير الزيادة في الخسران. ولو قال بدل هذه العبارة: (كنت خاسرًا) مثلاً لم يفد ذلك إلا أنه سيكون خاسرًا.
ومن الملاحظ أنه إذا استعمل القرآن الزيادة في الخسارة استعمل لفظ (الخسار) فقال: {وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82]، وقال: {وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا} [فاطر: 39]، وقال: {وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} [نوح: 21].
إلا في هذه الآية فإنه قال: {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} فجاء باللفظ الدال على المبالغة والكثرة، وذلك أنه إذا كان نبيًا حقًا وآتاه الله منه رحمة ثم عصاه كانت خسارته أعظم من سائر الكفار الذين لم تأتهم البينة ولم ينزل عليهم وحي، فناسب ذكر التخسير هنا مجرد الخسار، بخلاف سائر المواضع الأخرى، وليس عقاب من علم وعصى كمن جهل. وقد قيل فيما قيل:
وعــالـمٌ بعلمِـهِ لـمْ يعملَـنْ
مُعـذّبٌ مـن قبـل عُبَّـادِ الـوثـنْ
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 256 إلى ص 258.
(1) الكشاف 2/105.
{وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آَيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ} [هود: 64]
وهذا هو الأمر الثاني الذي ذكره لهم وهو الأمر القائم على الحجة الملزمة، وهي الآية الدالة على صدقه وهي الناقة التي أخرجها الله من الصخرة كما طلبوا، وقد كانوا تعهدوا لنبيهم أنه إن فعل ذلك آمنوا له وصدقوه.
وسماها ناقة الله لأنها لا تعود لأحد وإنما هي الله كما ذكرنا.
وقدم (لكم) على (آية) للاختصاص، وذلك أن هذه الآية خاصة بهم دون غيرهم أرسلت إليهم هم كما طلبوا. فالآية لهم هم، فهم الذين طلبوها، وهم الذين شاهدوها وتعاملوا معها.
وطلب منهم أن يتركوا ناقة الله تأكل في أرض الله لا في أرضهم ولا من زرعهم، فالناقة ناقة الله والأرض أرضه.
وهذا غاية الإنصاف والعدل، فلماذا يمسُّونها بسوء إلا إذا كانوا معتدين عليها ظالمين لها؟
{وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ}
"نهى عن المس الذي هو مقدمة الإصابة بالشر الشامل لأنواع الأذى مبالغة في الزجر فهو كقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ} ... أي لا بشيء مما يسوؤها أصلًا كالطرد والعقر وغير ذلك" (1).
ونكّر السوء ليشمل أي سوء مهما كان ضئيلًا.
{فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ}
وصف العذاب ههنا بأنه قريب، وقال في الأعراف: {فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فوصفه بأنه أليم، ذلك أنه قال لهم ههنا: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ} وهذا وعد قريب، فناسب ذكر القرب.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنه في الأعراف كان أول التبليغ لقومه، فهو أول موضع ترد فيه هذه القصة في القرآن الكريم فلا يناسب ذكر التعجيل بالعقوبة.
في حين كان الكلام في هود بعد ذلك وقد بلغهم ونصح لهم فناسب ذكر قرب العذاب في هود.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 258 إلى ص 259.
(1) روح المعاني 8/163.
{فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65]
أي فذبحوها، والعقر قطع عضو، ويستعمل في النحر أيضًا.
وقال: (فعقروها) ولم يقل: (فنحروها) لئلا يظن أنهم استحقوا العذاب بسبب نحرها وأنهم لو لم ينحروها لم يعذبهم، وإنما استحقوا العذاب بعقرها وإن لم يذبحوها، ذلك أنه حذرهم فقال لهم: {وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ} فيأخذهم العذاب. فأي مس بالسوء مهما كان فهو مدعاة إلى العقوبة.
وقال: (فعقروها) فأسند العقر إليهم كلهم وإن كان العاقر واحدًا كما أخبر ربنا بقوله: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ} [القمر: 29] وذلك لأنهم تمالؤا على ذلك بدلالة قوله: {فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ} فأسند العقر إليهم فاستحقوا العذاب أجمعون.
{ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ }
أي غير مكذوب فيه، أو (وعد غير كذب) لأن المكذوب قد يكون مصدرًا بمعنى الكذب.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 260 إلى ص 260.