عرض وقفات أسرار بلاغية

  • ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴿١٦﴾    [الحديد   آية:١٦]
  • ﴿اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴿١٧﴾    [الحديد   آية:١٧]
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)} {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} (يأني) مضارع (أنى)، ومعنى (أنى) حان ونضج، و{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا} معناه ألم يحن لهم ذلك؟ {أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} أسند الخشوع إلى القلوب، والخشوع أمر مشترك بين القلب والجوارح، فهو يسند إلى الأبصار وإلى الوجوه وإلى الأصوات فيقال: بصر خاشع ووجه خاشع وصوت خاشع، كما يسند إلى الشخص كله فيقال: رجل خاشع أي خاضع، كما قال تعالى: {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء : 90]، وقال: {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} [الشورى: 45]. والخشوع هو الخضوع والخشية والذل، فخشوع القلب خضوعه وخشيته ووجله وتذلله، فطلب من المؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق، وذكر الله عام، وما نزل من الحق هو القرآن، وكل منهما مدعاة إلى الخشوع والخشية. فذكر الله مدعاة إلى الخشوع والخشية كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2]، وقال: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 34 – 35]. والقرآن مدعاة إلى الخشية والوجل كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 107 - 109]، وقال: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآَنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21]، وقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 23]. والقرآن ذكر وقد سماه الله ذكرًا، فقد حكى عن الكفار قولهم: {أَؤُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} [ص: 8]، وقال: {وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} [طه: 99]، وقال: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا} [الطلاق: 10]، وقال: {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ} [الأنبياء: 50]. فإذا كان علماء أهل الكتاب يزيدهم القرآن خشوعًا، وإذا كان الجبل يتصدع منه خاشعًا لله فكيف لا يخشع قلب المؤمن له؟ لقد ذكر ثلاثة أمور كل منها يستدعي الخشية: 1-كون المخاطبين مؤمنين، وهذا يستدعي الخشية. 2- ذكر الله، وهو مدعاة إلى الخشية. 3- ما نزل من الحق أي القرآن، وهو مدعاة إلى الخشية. وهذه الآية نظير قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] (۱) فقد ذكر فيها ذكر الله وذكر آياته. وقد تقول: إذا كان المراد خشوع القلب فلم لم يقل مثلاً : (ألم يأن لقلوب المؤمنين أن تخشع لذكر الله) أو (ألم يأن أن تخشع قلوب المؤمنين لذكر الله) ونحو ذلك، وقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ}؟ والجواب: أن ذلك لجملة أسباب. منها: أنه حذرهم من أن يكونوا كالذين أوتوا الكتاب وليس كقلوب الذين أوتوا الكتاب فقال: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} فناسب أن يكون الكلام على المؤمنين بمقابل الذين أوتوا الكتاب. ومنها: أنه قال: {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} وهذا وصف للأشخاص لا للقلوب، فأراد أن يحذرهم من أن يكونوا كالذين أوتوا الكتاب في قسوة القلوب وفسق كثير منهم. فناسب قوله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا} أن يكون بمقابل (الذين أوتوا الكتاب). ومنها: أنه ذكر المؤمنين وقلوبهم، وذكر أهل الكتاب وقلوبهم، فناسب ذلك ألطف مناسبة. وقال: {أُوتُوا الْكِتَابَ} ولم يقل: (أتيناهم الكتاب) لأنه في مقام الذم لهم. ومن سمة التعبير القرآني أنه إذا ذم أهل الكتاب بنى الفعل للمجهول فقال: {أُوتُوا الْكِتَابَ} وإذا مدحهم أسند الفعل إلى نفسه تعالى فقال: {آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} (2). {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} بين أن طول الأمد يقسي القلوب فحذرنا من أن نكون كذلك، فإنه ينبغي أن نتعهد قلوبنا وألا ندع للقسوة سبيلاً إليها. وفي ذكر الله وما نزل من الحق غناء وكفاية لحياة القلوب وخشوعها. وأسند القسوة إلى القلوب وذلك بمقابل إسناد الخشوع إلى القلوب أيضًا. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه لم يسند القسوة في القرآن الكريم إلا للقلوب ولم يسندها إلى غيرها، قال تعالى: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74]، وقال: {وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنعام: 43]، وقال: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} [المائدة: 13]، وقال: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 22] وغيرها. وذلك أنه إذا قسا القلب قسا صاحبه وإذا خشع القلب خشعت الجوارح. وقد تقول: ولم قال: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ} فذكر {مِنْ قَبْلُ}، ولم يقل: (كالذين أوتوا الكتاب فطال عليهم الأمد) من دون أن يذكر (من قبل)؟ والجواب: أنه لو قال ذلك لم يدل على أن الأولين قست قلوبهم، بل لربما دل على أن المعنيين هم المعاصرون لزمن الرسول، فلما قال: {مِنْ قَبْلُ} دل على أن آباءهم الأولين طال عليهم الأمد فقست قلوبهم فما بالك بهؤلاء وقد تطاول عليهم الزمن؟ فذمهم وذم أسلافهم، بخلاف ما لو حذف {مِنْ قَبْلُ} ثم إنه حذرهم من أن يكونوا كأولئك الأولين فما بالك بالآخرين؟ فيكون التحذير عن التشبه بهؤلاء أشد وأشد. {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} ذكر أن كثيرًا منهم فاسقون خارجون عن طاعة الله. ومجيء هذا القول بعد قوله: {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} يدل على أن قسوة القلب من أسباب الفسوق ودواعيه، وبالمقابل يكون خشوع القلب من أسباب الطاعة ودواعيها. وقد تقول: لقد قال في أكثر من موطن: إن أكثرهم فاسقون بصيغة اسم التفضيل، وقال ههنا: {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} فما حقيقة الأمر؟ أإن كثيرًا منهم فاسقون أم إن أكثرهم فاسقون؟ وما السبب في هذا الاختلاف في التعبير؟ والجواب: أنه لا تناقض بين قوله: {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} وقوله: {وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ}. فقوله: {وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} يعني أن كثيرًا منهم فاسقون، وإنما التناقض يكون لو قال: (إن قليلاً منهم فاسقون) أو (إن أقلهم فاسقون). فقولك: (محمد أفضل الناس) لا يناقض قولك: (إنه فاضل)، وقولك: (هو أعلم الناس) لا يناقض قولك: (هو عالم)، ولكنه يناقض قولك: (هو أجهل الناس) أو (هو جاهل). أما لماذا عبر عن ذلك مرة بقوله: (كثير) ومرة بـ (أكثر) فهذا ما يقتضيه سياق كل تعبير. فإنه يعبر بـ (أكثر) إذا كان السياق في تعداد أسوأ صفاتهم والإطالة في ذكرها، بخلاف الوصف بـ (كثير) فإنه لا يبلغ ذلك المبلغ، وإليك إيضاح ذلك: لقد جاء الوصف بـ (أكثر) في موضعين وهما قوله: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 59]، وقوله: {وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110] وبالنظر في سياق كل من الآيتين يتضح ما ذكرته. فقد جاء في سورة المائدة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آَمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ .....} ويستمر في تعداد مساوئهم إلى الآية الخامسة والستين [57 – 65] فناسب قوله: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ}. وكذلك الأمر في آل عمران، فقد ذكر أهل الكتاب ومساوئهم وأعاد ذكرهم وذكرها أكثر من مرة. من ذلك ما ذكره من الآية الخامسة والستين إلى الآية الثامنة والسبعين، ومن الآية الثامنة والتسعين إلى الآية الواحدة بعد المائة، ومن الآية العاشرة بعد المائة إلى الآية الخامسة عشرة بعد المائة عدا المواطن الأخرى المنتشرة في السورة، فناسب أن يذكر ذلك بقوله: {وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} والله أعلم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 372 إلى ص 377. (1) انظر الكشاف 4/64. (2) انظر معاني النحو 2/92 وما بعدها. {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أمرنا بأن نعلم هذا الأمر، أي أن الله هو الذي يحيي الأرض بعد موتها وأنه ما كانت لتحيا لولا أن الله يحييها، فهي لا تحيا من الماء بنفسها ولا أن ذاتًا أخرى دونه أو معه قادرة على ذلك، فالله هو الذي يحيي الأرض بعد موتها. ووجه ارتباط الآية بما قبلها ظاهر من جهتين؛ ذلك أنها تمثيل لأثر الذكر والقرآن في القلوب، فإن يحييها كما يحيي الغيث الأرض (1). جاء في (روح المعاني): أن قوله: {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} "تمثيل ذكر استطرادًا لإحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة بإحياء الأرض الميتة بالغيث، للترغيب في الخشوع والتحذير من القساوة" (2). ومن جهة أخرى أن هذه الآية تدل على بعث الأموات وأن الله سيحييهم ويبعثهم كما يحيي الأرض. وقد مر قبل هذه الآية ذكر الآخرة وجملة من مشاهدها. وهي كما ترتبط بما قبلها من جهتين ترتبط بما بعدها من جهتين أيضًا. فإنه ذكر بعد هذه الآية أن المصدقين والمصدقات يضاعف لهم، وذلك شأن الأرض التي تحيا بالغيث فإنها تضاعف ما يزرع فيها. وقد ذكر الله ذلك في مكان أخر فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِئَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 261]. كما أنه ذكر الآخرة بعدها وطرفًا من أحوالها، فارتبطت الآية بما قبلها وما بعدها والله أعلم، جاء في (تفسير الرازي): "أن قوله هذا "تمثيل والمعنى أن القلوب التي ماتت بسبب القساوة فالمواظبة على الذكر سبب لعود حياة الخشوع إليها كما يحيي الله الأرض بالغيث، والثاني أن المراد من قوله: {يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} بعث الأموات، فذكر ذلك ترغيبًا في الخشوع والخضوع وزجرًا على القساوة" (3). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 377 إلى ص 378. (1) انظر الكشاف 4/64. (2) روح المعاني 27/181. (3) تفسير الرازي 29/231.
  • ﴿إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ ﴿١٨﴾    [الحديد   آية:١٨]
{إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)} {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} لقد قال: {الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ} بالإبدال، ولم يقل: (المتصدقين والمتصدقات) للدلالة على المبالغة في الصدقات. وقد بينا ذلك في كتابنا ( بلاغة الكلمة في التعبير القرآني) وذكرنا الفرق بين الإبدال وعدمه في نحو قوله: {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} (1) فلا نعيد القول فيه. وقد عطف المصدقات على المصدقين ولم يكتف بجماعة الذكور، ليدل على استقلال النساء في أموالهن ويرغمهن على شيء لا يردنه، وأنه ليس لأحد أن يمنعهن من التصدق لا أزواجهن ولا آباؤهن ولا غيرهم، وليبين أنه إذا كان لهن مال فلا تغني صدقة أزواجهن عنهن أو أحد من أقربائهن، وأنه يضاعف لهن الأجر كما يضاعف للرجال. ثم إنه ذكر المصدقين والمصدقات كما ذكر المؤمنين والمؤمنات والمنافقين والمنافقات في السورة كما سبق أن ذكرنا. وقد ذكر الذين أقرضوا الله قرضًا حسنًا بعد ذكر المصدقين والمصدقات، وعطفهم عليهم، إشارة إلى أن الصدقة غير القرض الحسن. وقد ذكر في القرض الحسن أقوال منها: أنه أحسن أنواع الصدقة، أو أن المراد بالتصدق التصدق الواجب "وبالإقراض التطوع، لأن تسميته بالقرض كالدلالة على ذلك" (2). والذي يظهر – والله أعلم – صحة القول الأخير لأوجه منها: 1- أن القرآن قد يذكر القرض الحسن بعد الزكاة وقد يأمر به بعد الأمر بالزكاة، قال تعالى: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [المائدة: 12]، وقال: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} [المزمل: 20]، والزكاة فرض، مما يشير إلى أن القرض الحسن إنما هو من باب التطوع بعد الفريضة. 2- تسميته قرضًا، والمقرض ليس ملزمًا بالإقراض وإنما هو مخير، بخلاف المزكي فإنه ملزم بإخراجها، وبخلاف المتصدق فإن من الصدقة ما يلزم.3- قال في أكثر من موطن: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة: 245، الحديد: 11] وهو كأنه من باب الترغيب في الإقراض والتخيير فيه وليس من قبيل الإلزام. أو أن القرض الحسن أعم من الصدقة، فهو في الصدقات وغير من وجوه الإنفاق في أبواب الخير، ولذا عطف المقرضين على المتصدقين. وقد عطف بالفعل على الاسم فقال: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} ليدل على أن الصدقة لازمة ثابتة، وأن التصدق وصفهم العام الثابت، فهي متكررة على جهة الثبوت، بخلاف الإقراض فإنه ليس ثابتًا ثبوت الصدقة، ولذا لم ترد صفة الإقراض بالصيغة الاسمية في القرآن الكريم، فلم يقل: (المقرضين) كما قال: (المتصدقين). وقد وصف القرض بأنه حسن، وقد مر ذكر المقصود بالحسن في آية سابقة. ومن الطريف أن نذكر أن الله لم يذكر القرض إلا وصفه بالحسن، فلم يرد مرة ذكر القرض دون وصفه بذاك، بخلاف الصدقة. وأنه حيث ذكر القرض فإنه ذكر أنه إقراض لله، ولم يطلقة مرة من دون تقييد، ولعله للتفريق بين الإقراض المالي في المعاملات وما يعطيه الفرد لوجه الله، بخلاف الصدقات فإنها لا تكون إلا في العبادات. ثم ذكر المضاعفة والأجر الكريم كما ذكرنا في آية سابقة، أعني قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 379 إلى ص 381. (1) بلاغة الكلمة في التعبير القرآني 45 وما بعدها. (2) تفسير الرازي 29/232.
  • ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ﴿١٩﴾    [الحديد   آية:١٩]
{وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)} أي ليس ثم صديق إلا هؤلاء، فمن لم يؤمن بالله ورسله فليس بصديق، غير الصديقين درجات وأجورهم متفاوتة، فالصديقية قد تكون وصفًا لنبي وغيره، فقد وصف الله قسمًا من رسله بالصديقية، فقد وصف بها سيدنا إبراهيم عليه السلام فقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم: 41]، ووصف بها إدريس عليه السلام فقال: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم: 56] ووصف بها غيرهم من المؤمنين، فقد وصف بها مريم فقال: {وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ} [المائدة: 75] وقد يعدهم صنفًا آخر بعد الأنبياء فيقول: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69]، وذكر الرسول   من لا يزال يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله صديقًا، فهي صفة مبالغة من الصدق أو التصديق، فالصديقون درجات كما أن الشهداء درجات وأن غيرهم من الصالحين درجات، فالذين آمنوا بالله ورسله هم الصديقون وليس ثمة صديق غيرهم وأجورهم بقدر أعمالهم. ثم إن رسول الله  سئل عن المؤمن يسرق ويزني؟ فأجاب: نعم، أي في حال من الأحوال ولا يخرجه ذلك عن دائرة الإيمان، وسئل عن المؤمن يكذب؟ فقال: لا. إذن فالمؤمن يصدق دائمًا فإن كذب خرج عن دائرة الإيمان، وعلى هذا فالمؤمن صديق ولا يكون إلا كذلك. {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} وهذا على أحد معنيين: إما أن يكون للشهداء أجر الصديقين ونورهم باعتبار أن الشهداء من الصديقين، لأنه ليس ثمة شهيد إلا ممن آمن بالله ورسله. وإما أن يكون للشهداء أجرهم ونورهم الخاص بهم، كما نقول: لكم أجركم ولهم أجرهم على اعتبار أن الشهداء صنف آخر، فللصديقية اعتباران: اعتبار عام وهو من آمن بالله ورسله، واعتبار خاص وذلك أنهم من صفوة المؤمنين بالله ورسله فلا يناقض أحدهما الآخر. وقوله: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} يمكن حمله على الاعتبارين: على اعتبار أنهم من الصديقين لأنهم آمنوا بالله وصدقوا المرسلين. وعلى اعتبار أنهم صنف خاص لهم وصفهم الخاص من بين عموم المؤمنين. جاء في (الكشاف): "{وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} يريد أن المؤمنين بالله ورسله هم عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء وهم الذين سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله. {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} أي مثل أجر الصديقين والشهداء ومثل نورهم. فإن قلت: كيف يسوي بينهم في الأجر ولا بد من التفاوت؟ قلت: المعنى أن الله يعطي المؤمنين أجرهم ويضاعفه لهم بفضله حتى يساوي أجرهم أضعافه أجر أولئك. ويجوز أن يكون {وَالشُّهَدَاءُ} مبتدأ و{لَهُمْ أَجْرُهُمْ} خبره" (1). وقد ذكر في الآية الشهداء بعد الصديقين، كما في موطن آخر من القرآن الكريم وهو قوله: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، فقد جعل الصديقين صنفًا بعد الأنبياء وذكر بعدهم الشهداء وذكر بعدهم عموم الصالحين. وقال: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} فذكر أمرين الأجر والنور، وقد تردد هذان الأمران في السورة في أكثر من موطن، فقد ذكر بعد قوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} قوله: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ}. وذكر بعد قوله: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} قوله: {وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ}. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ}. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 381 إلى ص 383. (1) الكشاف 4/65. {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} ذكر هؤلاء بمقابل ما مر في صدر الآية، فذكر الذين كفروا بمقابل الذين آمنوا بالله، وذكر الذين كذبوا بآياته سبحانه بمقابل الذين آمنوا برسله، فإن الإيمان بالآيات يكون عن طريق الإيمان بالرسل، فذكر أن هؤلاء أصحاب الجحيم، أي ملازموه لا يفارقونه. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 384 إلى ص 384.
  • ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴿٢٠﴾    [الحديد   آية:٢٠]
{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)} أجمل حقيقة ما يعيشه الناس في هذه الحياة بما ذكر في الآية. وقد رتب هذه الأشياء بحسب ترتيبها في حياة الناس مبتدئًا باللعب واللهو منتهيًا بالجد. فبدأ باللعب وهو ما يقع في دور الطفولة والصبا. هذا هو الأصل وإن كان يطلق اللعب أحيانًا على نقيض الجد كقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65]، وقوله: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الزخرف: 83]، وقوله: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} [الدخان: 9]، وقوله: {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} [الأنبياء: 55]. ثم ذكر اللهو وهو ما يكون في دور الفتوة والشباب. ثم إن اللهو أعم من اللعب، فاللهو يقع للصغير والكبير. ثم ذكر الزينة وهو مقصد من مقاصد الشباب والنساء في دور بداية اكتمال أنوثتهن. وذكر بعدها التفاخر وهو أكثر ما يكون من شأن الرجال فيفتخرون بمآثر أفعالهم وأحسابهم وأنسابهم ومآثر آبائهم وأجدادهم. ثم يأتي بعد ذلك دور التكاثر في الأموال والأولاد وهو التباري في جمعها، وهو المقصد الأهم في الحياة، إذ بالمال والأولاد تدوم الحياة وبهما ينشغل الناس وفيهما يجدون. أما ما قبلها من الأمور فهي ليست بتلك المنزلة والمكانة. وقد الأموال على الأولاد لأن التكاثر في الأموال أكثر، وختم بالأولاد لأنهم أجل ما ذكر ولهم يترك المال. جاء في (نظم الدرر): "لعب: أي تعب لا ثمرة له فهو باطل كلعب الصبيان، ولهو أي شيء يفرح الإنسان به فيلهيه ويشغله عما يعنيه ثم ينقضي كلهو الفتيان، ثم أتبع ذلك عظم ما يلهي في الدنيا فقال: (وزينة) أي شيء يبهج العين ويسر النفس كزينة النسوان، وأتبعها ثمرتها فقال: (وتفاخر) أي كتفاخر الأقران يفتخر بعضهم على بعض" (1). وجاء في (تفسير الرازي): "المقصود الأصلي من الآية تحقير حال الدنيا وتعظيم حال الآخرة... ثم إنه وصفها بأمور: (أولها) أنها لعب وهو فعل الصبيان الذي يتبعون أنفسهم جدًا، ثم إن تلك المتاعب تنقضي من غير فائدة. و(ثانيها) أنها لهو، وهو فعل الشبان... و(رابعها) تفاخر بينكم بالصفات الفانية الزائلة" (2). وجاء في (التحرير والتنوير): "وهي أيضًا أصول أطوار آحاد الناس في تطور كل واحد منهم. فإن اللعب طور سن الطفولة والصبا، واللهو طور الشباب، والزينة طور الفتوة، والتفاخر طور الكهولة، والتكاثر طور الشيخوخة... واللعب هو الغالب على أعمال الأطفال والصبيان فطور الطفولة طور اللعب، ويتفاوت غيرهم في الإتيان منه فيقل ويكثر بحسب تفاوت الناس في الأطوار الأولى من الإنسان وفي رجاحة العقول وضعفها. والإفراط فيه من غير أصحاب طوره يؤذن بخسة العقل، ولذلك قال قون إبراهيم له: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} ....واللهو اسم لفعل أو قول يقصد منه التذاذ النفس بخ وصرفها عن ألم حاصل من تعب الجسد أو الحزن أو الكمد، يقال: لها عن الشيء، أي تشاغل عنه... ويغلب اللهو على أحوال الشباب فطور الشباب طوره، ويكثر اللهو في أحوال الدنيا من تطلب اللذات والطرب. والزينة: تخسين الذات أو المكان بما جعل وقعه عند ناظره مسرًا له، وفي طباع الناس الرغبة في أن تكون مناظرهم حسنة في عين ناظريهم، وذلك في طباع النساء أشد... ويغلب التزيين على أحوال الحياة، فإن معظم المساكن والملابس يراد منه الزينة... والتفاخر: الكلام الذي يفخر به، والفخر: حديث المرء عن محامده والصفات المحمودة منها فيه بالحق أو الباطل، وصيغ منه زنة التفاعل لأن شأن الفخر أن يقع بين جانبين كما أنبأ به تقييده بظرف (بينكم)... والتكاثر: تفاعل من الكثرة، وصيغة التفاعل هنا للمبالغة في الفعل بحيث ينزل منزلة من يغالب غيره في كثرة شيء... ثم شاع إطلاق صيغة التكاثر فصارت تستعمل في الحرص على تحصيل الكثير من غير مراعاة مغالبة الغير ممن حصل عليه" (3). وقد اقتصر في مواضع أخرى من القرآن الكريم على اللعب واللهو ولم يذكر الزينة وما بعدها، قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 32]. وقال: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد: 36]. وقال: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]. فاقتصر كما ترى على اللعب واللهو؛ ذلك لأن ما ذكره في آية الحديد من زينة وتفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد قد يندرج تحت اللهو. فالزينة قد تلهي، والتفاخر قد يلهي، والتكاثر في الأموال والأولاد قد يلهي، فقد سمى الله المال والبنين زينة فقال: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون: 9]، وقال: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 1 - 2]. وتندرج كثير من أمور الحياة في معنى اللعب بمعناه الواسع، وهو ما كان نقيض الجد وما لا يقصد به من الأعمال قصدًا صحيحًا كما ورد في القرآن مما سماه لعبًا. ولما فصل في آية الحديد في حقيقة الحياة الدنيا فصل في وصفها وعاقبتها، ولما أجمل في الآيات الأخرى لم يذكر شيئًا آخر يتعلق بها وإنما ذكر الآخرة أو أمورًا أخرى لا تتعلق بوصف الحياة. وقدم اللعب على اللهو فيما مر من الآيات إلا في آية واحدة قدم فيها اللهو على اللعب وهو قوله: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] وذلك لأن السياق يقتضي هذا التقديم، ذلك أنه تقدم الآية قوله: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} والرزق مدعاة إلى الالتهاء به والمشغلة لجمعه لا إلى اللعب، ولذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} فالذي بسط له رزقه ملتٍه بجمعه والذي قدر عليه رزقه ملتٍه بالحصول عليه. ثم قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 63] ومع معرفتهم وإقرارهم بذاك التهوا بالدنيا عن الله وعبادته وعن الآخرة، فناسب تقديم اللهو. ولم يتقدم آية الأنعام ولا آية محمد ما يدعو إلى اللهو فكان تقديمه في آية العنكبوت أنسب. {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} شبه الحياة الدنيا بغيث أعجب الكفار نباته. والكفار هم الكافرون بالله الجاحدون لنعمه. وقال بعضهم: إن الكفار هم الزراع؛ لأن الزراع قد يسمى كافرًا؛ لأنه يكفر البذر الذي يبذره بتراب الأرض، أي يغطيه (4). ويترجح عندي المعنى الأول، فإن الكافرين هم الذين يغترون بالدنيا وهم أشد إعجابًا بها وبزينتها. ولا مانع من أن يكون المعنيان مقصودين، فإنه من التوسع في المعنى الذي يراعيه القرآن كثيرًا. وقد ذكر القرآن الزراع باسمهم في سورة الفتح حين وصف أصحاب محمد فقال: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29]. واخيار الزراع هنا أنسب، كما اختيار الكفار هناك أنسب، ذلك أن التشبيه في سورة الفتح وقع لصورة محمودة فناسب ذكر الزراع لا الكفار، بخلاف ما في سورة الحديد. ثم إنه قال في آية الفتح: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} فلا يناسب أن يقول: يعجب الكفار ليغيظ بهم الكفار. ثم إنه قال: (الزراع) في آية الفتح للدلالة على أنه زرع مقصود؛ لأن الزراع يزرع ما ينتفع وينتفع به الآخرون، بخلاف ما ذكر في آية الحديد فإنه قال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} وهو ما يخرج بسبب المطر من أنواع مختلفة، منها ما لا فائدة فيه للإنسان ومنها الأدغال والحشائش، فكان كل تعبير في مكانه أنسب. {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} ذكر مآل الزرع وناسب ذلك الزينة والأموال فذكر زوالهما وذهابهما وذلك شأن الدنيا. لقد قال: {فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} ولم يقل: (ثم يكون مصفرًا). كما قال: {ثُمَّ يَهِيجُ} و {ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} بإسناد الفعل إلى النبات. أي يراه الناظر مصفرًا وذلك للدلالة على زوال الزينة وذهابها، فإن الزينة تتعلق بالناظر كما قال تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} [الحجر: 16]، ومن ناحية أخرى ليدل على موطن العبرة والاتعاظ فإن ذلك يحصل بالرؤية. وقال: {ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} أي هذا مآله، ولم يقل: (ثم تراه حطامًا) فلم يعلق ذلك بالرؤية، وإنما أراد أن يبين أنه يكون كذلك، إذ ربما يكون الشيء غير ذي زينة للناظر ولكنه ثمين نافع وهو من كرائم الأموال، فقال: {ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} فيذهب المال ويزول فلا يبقى مال ولا تكاثر ولا تفاخر ولا زينة لأن الحطام ليس مالًا ولا يتفاخر أو يتكاثر به. بل سيذهب اللعب واللهو معه، فإن الذي لم يبق له إلا الحطام لا يلعب ولا يلهو، وكيف يلهو ويلعب وقد أصبح ما لدية حطامًا؟ وقد تقول: ولم لم يقل: (ثم يجعله حطامًا) كما قال في سورة الزمر؟ والجواب: إن السياق مختلف في الآيتين. ففي آية الزمر الأفعال مسندة إلى الله، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [الزمر: 21]، فالله هو الذي أنزل من السماء ماء، وهو الذي سلكه ينابيع في الأرض، وهو الذي أخرج به الزرع، فناسب أن يقول: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا} لأن الذي أخرجه هو الذي يجعله حطامًا. وليس كذلك التعبير في آية الحديد، فإنه قال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} فلم يسند حدثًا إلى نفسه سبحانه، فناسب كل تعبير موضعه. {وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} قدم العذاب على المغفرة لأنه ذكر قبله اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر مما ليس محمودًا على العموم. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن العذاب يسبق المغفرة والرضوان، فعذاب الموقف قبل الحساب وقبل القضاء وقبل الدخول في الجنة والنار. وورود النار لجميع الخلق قبل الدخول في الجنة كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] ومن الناس من يعذب أولًا ثم يدخل الجنة. ووصف العذاب بأنه شديد. وذكر أن المغفرة والرضوان من الله، ولم يذكر مثل ذلك في العذاب للدلالة علة سعة رحمته، وقدم المغفرة على الرضوان لأنها أسبق منه وهي قبله، جاء في (روح المعاني): "{وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} لأنه من نتائج الانهماك فيما فصل من أحوال الحياة الدنيا، و(مغفرة) عظيمة ( من الله ورضوان) عظيم لا يقادر قدره. وفي مقابلة العذاب الشديد بشيئين إشارة إلى غلبة الرحمة وأنه من باب ( لن يغلب عسر يسرين). وفي ترك وصف العذاب بكونه من الله تعالى مع وصف ما بعده بذلك إشارة إلى غلبتها أيضًا" (5). وقال: (مغفرة) ولم يقل: (غفران)؛ ذلك أن كلمة (غفران) لم ترد في القرآن الكريم إلا في موطن واحد لمعنى واحد وهو طلب المغفرة من الله وهو قوله: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]. وأما المغفرة من الله فتأتي في غير الطلب كالإخبار بها والدعوة إليها وغير ذلك. قال تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 221] وقال: {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة: 268]، وقال: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6]. وقد تكون المغفرة من غير الله، قال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة: 263]. وقال: (رضوان) ولم يقل: (مرضاة) لأن الرضوان معناه "الرضا الكثير، ولما كان أعظم الرضا رضا الله تعالى خص لفظ الرضوان في القرآن بما كان من الله تعالى" (6).قال تعالى: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 162]، وقال: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ} [التوبة: 21]، وقال: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ} [التوبة: 109]. وأما المرضاة فإنها تستعمل له ولغيره، قال تعالى: {تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1]، وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة: 207]. ثم إن (المرضاة) لم تستعمل إلا في ابتغاء الرضا، وأما الرضوان فهو عام يستعمل في ابتغاء الرضا وغيره، قال تعالى في المرضاة: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة: 265]، وقال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114]. وقال في الرضوان: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ} [التوبة: 21] وهذا في غير ابتغاء الرضا. وقال في ابتغاء الرضا: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد: 27]، وقال: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29] ومن هذا يتبين أن المغفرة: 1- تستعمل في المغفرة من الله وغيره، فهي عامة من حيث الغافر. 2- انها عامة في غير الطلب، فهي عامة من حيث الدلالة بخلاف (الغفران) فإنه خاص بمعنى واحد وهو طلب المغفرة، وخاص في الغافر وهو الله. وأن المرضاة: 1- خاصة في ابتغاء الرضا، فهي لم تستعمل في غيره. 2- وأنها عامة في المبتغى منه الرضا، فهو الله أو غيره. وأن الرضوان: 1- خاص في أنه من الله. 2- عام في ابتغاء الرضا وغيره، فهو عام من حيث الدلالة. فخصص المغفرة وقال: {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ} لتقابل الرضوان؛ لأن الرضوان مخصص في كونه من الله. وكلاهما مطلق من حيث الدلالة، فتناظرا من حيث كونهما خاصين بالله، عامين من حيث الدلالة. والله أعلم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 384 إلى ص 393. (1) نظم الدرر 7/452. (2) تفسير الرازي 29/233 – 234. (3) التحرير والتنوير 27/401 – 403. (4) انظر تفسير الرازي 29/235، الكشاف 4/65. (5) روح المعاني 27/185. (6) مفردات الراغب، مادة (رضي).
  • ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴿٢١﴾    [الحديد   آية:٢١]
{سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)} بعد أن ذكر الدنيا وعاقبتها دعا إلى ما هو خير وأبقى فقال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ }، وقدم المغفرة على الجنة لأنها تسبقها وهي سبب دخولها. وقال: {إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} فذكر أن المغفرة من ربنا، وقال في الآية التي قبلها: { وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ }فذكر أن المغفرة من الله. وسبب هذا الاختلاف – والله أعلم – أنه في هذه الآية أمر عباده بالمسابقة فقال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} فناسب أن يقول لهم إن المغفرة من ربكم فيضيف الربوبية إليهم. فهو ربهم ومتولي أمرهم وهو يرشدهم إلى ما هو خير لهم. أما الآية التي قبلها فهي وصف للحياة الدنيا وليست خطابًا لأحد، فذكر أنها كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرًا إلى آخر ما ذكر، فناسب أن يقول: {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ}. وقد تقول: لقد قال في سورة آل عمران: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133 - 134] وثمة اختلاف ظاهر بين الآيتين على ما بينهما من تشابه كبير نجمله بما يأتي: آية الحديد آية آل عمران سابقوا وسارعوا كعرض السماء والأرض عرضها السماوات والأرض (بذكر أداة التشبيه وإفراد السماء) (بحذف أداة التشبيه وبجمع السماء) أعدت للذين آمنوا بالله ورسله أعدت للمتقين الذين ينفقون ... ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء - - والله ذو الفضل العظيم - - فما سر هذا الاختلاف؟ ونقول: لقد بينا ذلك في كتابنا (التعبير القرآني) (1). فذكرنا أن كلمة (السماء) تستعمل في القرآن الكريم على أحد معنيين: إما أن تكون لواحدة السماوات كقوله تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} [الملك: 5]، وإما أن تكون لما عدا الأرض مما علا، كالجو والسحاب والمطر والسقف والسماوات عمومًا، وذلك كقوله تعالى: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 24] والسماء هنا بمعنى السحاب، وقوله: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ} [الروم: 48] أي يبسطه في الجو، وقوله: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ} [النحل: 79]، وقوله: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} [الأنعام: 125] أي يأخذ في العلو والارتفاع، وقوله: {يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا} [نوح: 11] وهي هنا بمعنى المطر، وقوله: {وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [النمل: 75]، وقوله: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84] وهي هنا عامة تشمل السماوات السبع وغيرها. فالسماء بالمعنى العام متسعة اتساعًا كبيرًا، وهي تشمل السماوات السبع وغيرهن مما علا وارتفع عن الأرض. فلما جاء بالسموات قال: {عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ} فحذف كاف التشبيه، ولما جاء بالسماء التي هي متسعة اتساعًا كبيرًا والسماوات جزء منها قال: {كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} فجاء بكاف التشبيه. "ثم ألا ترى كيف قال الله تعالى في كل الآيتين؟ ففي آية السماوات قال: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}، وفي آية السماء قال: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} وذلك لأن المتقين أخص من المؤمنين بالله ورسله، لأن المتقي لا يكون إلا يكون إلا مؤمنًا أما المؤمن بالله ورسله فقد لا يكون متقيًا، فالمؤمنون بالله ورسله أكثر من المتقين، فجاء للطبقة الواسعة وهم المؤمنون بالله ورسله بذكر صفتها الواسعة {كَعَرْضِ السَّمَاءِ}، وجاء مع الطبقة الخاصة الذين هم أقل ممن قبلهم وهم المتقون بفظ (السماوات) التي هي أقل سعة من السماء، فناسب بين السعة والعدد. ثم انظر كيف زاد في آية الحديد قوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}، وذلك لما زاد تفضله على الخلق فوسع دائرة الداخلين في الجنة، وجعلها في المؤمنين عامة ولم يقصرها على المتقين منهم، ذكر هذا الفضل العظيم في آية الحديد. ثم انظر كيف أنه لما ذكر الجنة بأوسع صفة لها وذكر كثرة الخلق الداخلين فيها وذكر فضله العظيم على عبادة قال: (سابقوا)، وفي الآية الأخرى قال: (سارعوا)، وذلك لأن كثرة الخلق المتوجهين إلى مكانٍ ما تستدعي المسابقة إلية لا مجرد المسارعة. فانظر كيف ذكر في آية الحديد (المسابقة) وهي تشمل المسارعة وزيادة، وذكر (السماء) وهي تشمل السماوات وزيادة، وذكر المؤمنين بالله ورسله وهم يشملون المتقين وزيادة، وزاد فيها ذكر الفضل غلى المغفرة والجنة، فجعل في كل موضع ما يناسبه من الألفاظ فجعلت حكمة الله" (2). هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن كل آية مناسبة للسياق الذي وردت فيه، فإنه تقدم آية الحديد المسابقة في أمور الدنيا من لعب وزينة وتفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد، فإن اللعب قد تكون فيه مسابقة، والزينة قد تكون فيها مسابقة، والتفاخر إنما هو مسابقة بين المتفاخرين، والتكاثر في الأموال إنما هو تبارٍ وتسابق في جمعها، فناسب أن يقول: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ} فنبههم على ما تجدر فيه المسابقة. ولم يتقدم آية آل عمران ما يدل على المسابقة، وإنما تقدمها النهي عن أكل الربا و الأمر باتقاء النار والأمر بطاعة الله والرسول، فناسب الأمر بالمسارعة وعدم التوان في ذلك. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 130 - 133]. ولما تقدم ذكر متعاطفات في آيات آل عمران من نحو قوله: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا .... وَاتَّقُوا اللَّهَ .... وَاتَّقُوا النَّارَ .... وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ ....} ناسب أن يعطف عليها فقال: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ}. ولما يتقدم آية الحديد ما يعطفها عليه قال: {سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} من دون ذكر لواو العطف. ولما تقدم آية آل عمران الأمر بالتقوى فقال: { وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ... وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} ناسب أن يقول في الجنة إنها {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِين} ولما تقدم آية الحديد ذكر المؤمنين بالله ورسله فقال: {وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ} ناسب أن يقول إنها: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} .وقال في آيات آل عمران: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ ....} وذلك أنه تقدم الآية النهي عن أكل الربا أضعافًا مضاعفة فدعا إلى الإنفاق في السراء والضراء، فناسب أن يذكر أن الجنة للمنفقين وهم الذين يخرجون من أموالهم ابتغاء مرضاة الله في الرخاء والشدة لا لمن يأكل أموال الناس بغير وجه حق. فالمؤمنون ينفقون في الشدة، وأولئك يأكلون مال من وقع في الشدة فاضطر إلى الاستدانة. وكذلك كل ما ذكر من صفات أخرى من نحو قوله: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} كل ذلك تقدمه ما يناسب ذكره. ولم يتقدم آية الحديد شيء من ذلك، ولولا خشية الإطالة والابتعاد عما نحن بصدده لبينت ذلك بالتفصيل. وختم آية الحديد بقوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} لما ذكر تفضله على عبادة فذكر أن الجنة أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ولم يذكر شيئًا آخر مع الإيمان حتى أنه لم يذكر العمل وذلك أعظم الفضل. جاء في (تفسير الرازي): "قوله: {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ} فيه أعظم رجاء وأقوى أمل إذ ذكر أن الجنة أعدت لمن آمن بالله ورسله ولم يذكر مع الإيمان شيئًا آخر... ومما يتأكد به ما ذكرناه قوله بعد هذه الآية: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}" (3). هذه علاوة على ما ورد في السورة من أفضال أخرى من مضاعفة الأجور وأنه يؤتي المؤمنين كفلين من رحمته ويجعل لهم نورًا يشمون به ويغفر لهم فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآَمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} [الآية: 28]. وختم السورة بفضله العظيم فقال: {لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} فناسب كل تعبير موضعه من كل وجه. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 393 إلى ص 399. (1) التعبير القرآني – طبعة دار ابن كثير ص 53 وما بعدها. (2) التعبير القرآني – طبعة دار ابن كثير ص 53 – 54. (3) تفسير الرازي 29/236.
  • ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴿٢٢﴾    [الحديد   آية:٢٢]
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) } ذكر أنه ما حلت من مصيبة في الأرض أو في نفس إلا وهي مكتوبة مقدرة قبل وقوعها. ومن الملاحظ أن القرآن لا يستعمل مع المصيبة إلا الفعل (أصاب) أو ما تصرف منع ولم يستعمل فعلًا آخر فلم يقل مثلًا: ما حلت من مصيبة أو ما وقعت أو نحو ذلك – والله أعلم – أن أصل (أصاب) من الإصابة ضد الخطأ، فأنت تقول: أصاب فلان الهدف، أي لم يخطئه، وأصاب فلان كلامه، أي لم يخطئ، فكأنه سبحانه يريد أن يبين لنا أن المصائب هي مقدرة وقد أصابت مكانها المقدر لها ولم تخطئه. والمصيبة في الأرض نحو الآفات والجدب والكوارث وغيرها، وفي الأنفس نحو الأدواء والأمراض والموت نحوها. وذكر المصيبة في الأرض والأنفس، وقدم الأرض على الأنفس لأنها موجودة قبل وجود الإنسان، وقد وقعت فيها المصائب قبل أن يخلق الإنسان. وقال: {مِنْ مُصِيبَةٍ} بـ (من) الاستغراقية للدلالة على أنه قدرها كلها على وجه الاستغراق فلا تند عن ذلك مصيبة مهما عظمت أو هانت. وقال: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ} فأطلق الفعل ولم يقيده بمفعول معين، فلم يقل مثلًا: (ما أصابكم من مصيبة) لأن الكلام مطلق وليس خاصًا بالمخاطبين. بخلاف ما جاء مثلًا في سورة الشورى في قوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 30] فقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ} فعدى الفعل إلى ضمير المخاطبين؛ وذلك لأن الكلام يتعلق بهم ولذلك قال: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} . ومثل ما جاء في سورة الحديد من الإطلاق قوله تعالى في سورة التغابن: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} [التغابن: 11] فإنه أطلق الفعل لأنه أراد الإطلاق والعموم ولم يقيده بمصاب معين. وقال: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} ولم يقل: (من قبل أن تقع) ليدل بذلك على عمله وقدرته وعلى أنه هو الذي أوجدها. ولو قال (من قبل أن تقع) لدل على علمه بها ولم يدل على أنه هو الذي أوجدها. وقد دل قوله: {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} على التوحيد أيضًا ونفي الشرك؛ لأن كل ما يحدث من مصيبة في الأرض أو في الأنفس إنما برأها هو وليس غيره، فدل ذلك على عدم الشريك، ولو قال: (من قبل أن تقع) لم يدل على ذلك صراحة. وقوله: {فِي كِتَابٍ} يدل على القضاء والقدر، وأن كل شيء مدون قبل وقوعه، وأن الأمور لا تجري اعتباطًا دون علم مسبق، مما يدل على بالغ حكمته سبحانه. وضمير النصب في (نبرأها) يحتمل أنه يعود على المصيبة أو على الأنفس أو على الأرض أو على جميع ذلك (نبرأها) يحتمل أنه يعود على المصيبة أو على الأنفس أو على الأرض أو على جميع ذلك (1). وهو الأولى، أي إن ما يقع من مصيبة في الأرض أو في الأنفس إنما هو مدون في كتاب قبل خلق الأرض، وقيل خلق الأنفس، وقبل وقوع المصيبة. وجمع ضمير الفاعل في الفعل (نبرأها) للتعظيم، ثم عقب على ذلك بالإفراد فقال: {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} ليدل على أنه واحد لا شريك له، وهو مما جرى عليه التعبير في القرآن كما أشرت أكثر من مرة، فإنه لم يأت بضمير التعظيم مرة إلا وسبقه أو أتبعه بالإفراد. {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} قدم الجار والمجرور {عَلَى اللَّهِ} على خبر إن {يَسِيرٌ} للدلالة على الحصر، أي أن ذلك على الله وحده يسير لا على غيره. أما غيره فلن يستطيع ذلك. ولو قال: (إن ذلك يسير على الله) لدل على أنه يسير على الله ليس في حصر اليسر عليه. فقولك: (هو هين علي) يعني أنه هين عليك ولا يعني أنه ليس هينًا على غيرك. بخلاف ما لو قلت: (هو علي هين) فإنه حصر الهون عليك لا على غيرك. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 399 إلى ص 401. (1) انظر فتح القدير 5/249.
  • ﴿لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴿٢٣﴾    [الحديد   آية:٢٣]
{لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)} يعني إذا كان كل ما فاتكم مقدرًا مدونًا قبل فوته فلم الأسى عليه؟ وإذا كان كل ما أصابكم من خير مقدرًا مدونًا قبل وصوله إليكم فلم الاختيال والفرح المبطر، ولم الفخر بما قدره الله لك وآتاك إياه؟ وإذا كانت الدنيا كلها بما فيها من متاع وزينة وأموال زائلة وأن ذلك كله سيكون حطامًا وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور، فلم الأسى على ما فات والفرح بما أوتيت وهو خارج من يدك لا محالة؟ وفي الإعلام بذلك توطين للنفس على قبول ما يحصل لها من ضر وعدم الاختيال والفخر على عباد الله بما آتاه الله من النعم، وإراحة لها من القلق والتسليم والرضا بقضاء الله وقدره. وفي ذلك الخير كل الخير للمؤمن. جاء في (الكشاف): "{لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ} يعني أنكم إذا علمتم أن كل شيء مقدر مكتوب عند الله قل أساكم على الفائت وفرحكم على الآتي؛ لأن من علم أن ما عنده مفقود لا محالة، لم يتفاقم جزعه عند فقده؛ لأن وطن نفسه على ذلك، وكذلك من علم أن بعض الخير واصل إليه، وإن وصوله لا يفوته بحال لم يعظم فرحه عند نيله {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} لأن من فرح بحظ من الدنيا وعظم نفسه، اختال وافتخر به وتكبر على الناس ... فإن قلت: فلا أحد يملك نفسه عند مضرة تنزل به ولا عند منفعة ينالها أن لا يحزن ولا يفرح. قلت: المراد الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله ورجاء ثواب الصابرين، والفرح المطغي الملهي عن الشكر، فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام، والسرور بنعمة الله والاعتداد بها مع الشكر فلا بأس بهما" (1). وقد الأسى على الفرح لما تقدم من ذكر للمصيبة. وقد تقول: لقد قال تعالى في آل عمران: {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 153]. وقال ههنا: {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ} فقال في آل عمران: {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا}، وقال ههنا: {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا} فما الفرق؟ فنقول: إن كلا الفعلين يفيد الحزن، إلا أن في كلمة (حزن) شدة ومشقة أكبر، فالحزن في النفس قريب من معنى الحزن في الأرض، كلاهما فيه شدة و مشقة. فـ(الحزن) بفتح الحاء وسكون الزاي هو ما يشق على النفس ويغلظ عيلها، ولما كان الحزن في النفس أشد على الشخص وأشق من الغلظ في الأرض، جعلت العرب الضمة وهي أثقل من الفتحة للثقيل، والفتحة لما هو أخف، فناسبت بين الحركة و الوصف. والحزن في آية آل عمران أشق وأشد مما في آية الحديد، ذلك أن السياق في آل عمران هو فيما حصل للمسلمين في معركة أحد من غم وحزن وهزيمة فقال: {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ}. فالحزن في أحد على أمرين: على ما فاتهم من الغنائم، وعلى ما أصابهم من الهزيمة والقتل والجراح فقال: {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ} أما في آية الحديد فالحزن على ما فانت في الخير فقط؛ لأنه قال بعدها: {وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ} أي بما آتاكم من الخير والنعم. فكان الحزن في آل عمران أشق وأشد، فاستعمل الحزن الشديد الثقيل لما هو أثقل، والذي هو أخف منه لما هو أخف، والله أعلم. جاء في (المفردات) للراغب: "الحزن والحزن خشونة في الأرض وخشونة في النفس لما يحصل فيه من الغم، ويضاده الفرح، ولاعتبار الخشونة بالغم قيل: خشنت بصدره إذا حزنته" (2). {وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ} أي ما آتاكم الله من الخير، فأسند إيتاء الخير إليه سبحانه، ولم يقل: (بما آتاكم) كما قال: {عَلَى مَا فَاتَكُمْ} فأسند الفوت إلى الشيء الفائت ولم يسنده إلى الله، فلم يقل مثلًا: (لكيلا تأسوا على ما فوته عليكم) أو ( على ما أفاته عليكم) بل قال: {عَلَى مَا فَاتَكُمْ} فأسند الخير إلى نفسه وفوته إلى غيره، وهو الخط التعبيري الواضح في القرآن الكريم، فإنه يسند الخير والنعم إلى نفسه سبحانه، بخلاف السوء (3). وهو نظير قوله تعالى: {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا} [الإسراء: 83] فإنه أسند النعمة إلى نفسه فقال: (أنعمنا)، بخلاف السوء فإنه أسنده إلى الشر فقال: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ} ولم يقل: (مسسناه بالشر). {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} أي متباهٍ بما عنده متكبر على الخلق كثير الفخر عليهم. وكلا الوصفين مختال وفخور يفيد المبالغة، أحدهما في السلوك وهو الاختيال، والآخر في القول وهو الفخر، فذم السيء من الصفات في القول والسلوك. وقد ذكرنا في تفسيرنا لسورة لقمان سبب توكيد ما جاء في لقمان بإن، أعني قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} وعدم توكيده ههنا، وذكر أمورًا أخرى فلا نعيد القول فيه. وذكر هذين الوصفين بعد قوله: {وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ} لأن النعم قد تؤدي إلى الاختيال والفخر، فالإنسان قد تبطره النعمة ويدعوه الفرح الزائد بها إلى الاختيال والفخر. وذكره ربه بأن الله هو الذي آتاه ذاك فلا ينبغي أن يختال ويفخر عليهم، فإن الله الذي آتاه الخير لا يحب ذاك. وفي هذا تهديد للمختالين الفخر، جاء في (تفسير الرازي): "{وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} فدل بهذا على أنه ذم الفرح الذي يختال فيه صاحبه ويبطر، وأما الفرح بنعمة الله والشكر عليها فغير مذموم" (4). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 401 إلى ص 405. (1) الكشاف 4/66. (2) مفردات الراغب (حزن) 123. (3) انظر معاني النحو 2/89 وما بعدها. (4) تفسير الرازي 29/240.
  • ﴿الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴿٢٤﴾    [الحديد   آية:٢٤]
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)} هذا وصف آخر للذين لا يحبهم الله، وهم الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله، لا يكتفون بذاك بل يأمرون الناس بالبخل، ولعل من دواعي ذلك أنهم لا يريدون أن يذكر غيرهم بخير فيتساوون في الوصف فلا يكون أحد أفضل من أحد، كما أخبر ربنا عن المنافقين بقوله: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [النساء: 89]. و{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} بدل على رأي الأكثرين لاختلاف التابع والمتبوع تعريفًا وتنكيرًا، ونعت عند من يجيز أن تنعت النكرة المخصصة بالمعرفة، نظير قولهم في قوله تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ } [الهمزة: 1 - 2]. ومن يتول عما أمر الله به فإن الله غني عنه. وقال: {هُوَ الْغَنِيُّ} ولم يقل: (غني) لأنه لا غنى على الحقيقة سواه، فعرف الوصف بأل وجاء بضمير الفصل للدلالة على الحصر. وقد تقول: لقد قال الله في مكان آخر: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} [لقمان: 12] فلم يعرف الغني فما السبب؟ فنقول: إن السياق في كل من الآيتين مختلف، فإنه لم يذكر في سياق آية لقمان ملكًا له ولم يذكر أنه آتى الناس شيئًا فلم يعرف الغني. أما في سياق هذه الآية فإنه ذكر أنه هو الذي آتانا فقال: {وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ} فإذا كان الإنسان يرى أنه استغنى أو يرى أنه غني فذاك مما آتاه الله، فالله إذن هو الغني وحده. وهذه الآية في التوكيد والقصر نظير قوله في سورة لقمان: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [الآية: 26] فإنه لكا ذكر ملكه وأن له ما في السماوات والأرض أكد غناه وقصره عليه فعرف الغني وجاء بضمير الفصل. ولم يكتف بوصف ذاته العلية بالغني بل قال: {هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} فهو المحمود في غناه والمحمود في صفاته كلها على جهة الثبوت. وهو تعريض بالأغنياء المذمومين الذين لا يحمدهم أحد ولم يأتوا في غناهم بما يحمدون عليه. جاء في (الكشاف): "{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} بدل من قوله: {كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} كأنه قال: (لا يحب الذين يبخلون) يريد الذين يفرحون الفرح المطغي إذا رزقوا مالًا وحظًا من الدنيا، فلحبهم له وعزته عندهم وعظمه في عيونهم يزوونه عن حقوق الله ويبخلون به ولا يكفيهم أنهم بخلوا حتى يحملوا الناس على البخل ويرغبونهم في الإمساك ويزينوه لهم، وذلك كله نتيجة فرحهم وبطرهم عند إصابته، {وَمَنْ يَتَوَلَّ} عن أوامر الله ونواهيه ولم ينته هما نهى عنه من الأسى على الفائت والفرح بالآتي فإن الله غني عنه" (1). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 405 إلى ص 406. (1) الكشاف 4/66.
  • ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴿٢٥﴾    [الحديد   آية:٢٥]
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) } {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} البينات: هي المعجزات الظاهرة والدلائل والحجج التي تدل على النبوة (1)، وذلك كعصا موسى وإبراء عيسى للأكمه والأبرص وإحياء الموتى ونحو ذلك من الآيات البينات التي تدل على صحة النبوة وصدق المرسلين. و(الميزان) هو كل ما يتميز به الحق من الباطل، والعدل من الظلم، والزائد من الناقص. ومنه الآلة المعروفة بين الناس. جاء في (تفسير الرازي): "{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ} ... إنها هي المعجزات الظاهرة والدلائل القاهرة ... والميزان هو الذي يتميز به العدل عن الظلم والزائد عن الناقص" (2).وجاء في (تفسير ابن كثير): "{وَالْمِيزَانَ} وهو العد ... [وقيل] وهو الحق الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة المخالفة للآراء السقيمة" (3). وجاء في (روح المعاني): "{بِالْبَيِّنَاتِ} أي الحجج والمعجزات ... و{وَالْمِيزَانَ} الآلة المعروفة بين الناس ... وإنزاله إنزال أسبابه" (4). وجاء في (التحرير والتنوير): "الميزان: مستعار للعدل بين الناس في إعطاء حقوقهم لأن مما يقتضيه الميزان وجود طرفين يراد معرفة تكافئهما ... وهذا الميزان تبينه كتب الرسل، فذكره بخصوصه للاهتمام بأمره لأنه وسيلة انتظام أمور البشر" (5). وقدم البينات على الكتب لأنها هي التي تشهد بصحته وتدعو إلى قبوله والإيمان به والأخذ بتعاليمه. وقدم الكتاب على الميزان لأن فيه بيان الأحكام المقتضية للعدل والإنصاف على العموم، ومنها إقامة الوزن بالقسط. ويشمل أحكام المعاملات وغيرها كالعقائد وبيان ما يصلح حياة الإنسان في الدنيا والآخرة فهو أهم وأثره أعم وأشمل. {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} علة لإنزال الميزان، كما يصح أن يكون علة لما تقدم من إنزال الكتاب و الميزان، وهو ما يترجح في ظني، فإن القسط يكون في الوزن وغيره من الأحكان، قال تعالى: {وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} [النساء: 127]، وقال: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 42]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 8] وهذا في غير الوزن. جاء في (البحر المحيط): "{لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} الظاهر أنه علة لإنزال الميزان فقط، ويجوز أن يكون علة لإنزال الكتاب والميزان معًا؛ لأن القسط هو العدل في جميع الأشياء من سائر التكاليف، فإنه لا جور في شيء منها، ولذلك جاء {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18]" (6). وقال: {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} ولم يقل: (ليقوم الناس بالعدل) مع أن من معاني القسد العدل، ذلك أن استعمال (القسط) أنسب ههنا من (العدل)، فإن (القسط) يأتي لمعنى "الحصة والنصيب، يقال: أخذ كل واحد من الشركاء قسطه، أي حصته. وكل مقدار فهو قسط في الماء وغيره ... والقسط بالكسر: العدل ... والإقساط: العدل في القسمة والحكم" (7). والعدل "ما قام في النفوس أنه مستقيم ... والعدل من الناس: المرضي قوله و حكمه ... [عن سعيد بن المسيب] : إن العدل على أربعة أنحاء: العدل في الحكم، قال الله تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ} (8) والعدل في القول، قال الله تعالى: {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} والعدل: الفدية... والعدل في الإشراك" (9). وفي الآية استعمال (القسط) أنسب وذلك لذكر الميزان، فإن الغرض من الوزن أن يأخذ الشخص حصته ونصيبه وهو من معاني القسط، ولذا لم يرد في القرآن الكريم مع الوزن إلا لفظ (القسط) ولم يستعمل معه العدل، قال تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} [الأنعام: 152]، وقال: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} [هود: 85]، وقال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}، وقال: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن: 9]. ومن أسماء الميزان (القسطاس)، وقال تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} [الإسراء: 35]، وقال: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ} [الشعراء: 182]. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه ذكر الفعل (يقوم) فقال: {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}. وقد ورد فعل القيام في القرآن مع لفظ (القسط) ولم يرد مع (العدل)، قال تعالى: {وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ} [النساء: 127]، وقال: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران: 18] وقال: {كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ} [النساء: 135]، وقال: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} [الرحمن: 9] فناسب ذكر القسط من أكثر جهة. {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} ورود هذا التعبير بعد قوله: {وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} إشارة إلى أن الحق به حاجة إلى القوة لتحميه وتحفظه، وأن الميزان وقيام الناس بالقسط إنما يكون بالبأس الشديد والقوة، قال عثمان رضي الله عنه: (إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن). جاء في (روح المعاني): "{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} قال الحسن: أي خلقناه ... {فِيهِ بَأْسٌ} ... وهذا إشارة إلى احتياج الكتاب والميزان إلى القائم بالسيف ليحصل القيام بالقسط، فإن الظلم من شيم النفوس" (10). وقال: {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} ولم يقل: فيه قوة، وذلك للدلالة على الردع بالقوة وبالحرب إذا اقتضى الأمر، ذلك أن معنى البأساء: الحرق والمشقة والضرب. و(البأس) معناه الشدة في الحرب، والبأس: العذاب (11). قال تعالى: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ} [الإسراء: 5] أي أشداء في الحرب. وقال: {قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16]، وقال: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء: 84]، وقال: {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} [البقرة: 177] أي حين القتال، وقال: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب: 18] أي الحرب، وقال: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآَيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} [الأنعام: 65] فأنت ترى أن البأس إنما يكون في الحرب او نحوها. أما القوة فهي عامة في الحرب وغيرها، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً} [الروم: 54]، وقال: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [مريم:12]، وفي قصة سليمان: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ} [النمل: 33] أي معهم القوة، وهم مع ذلك أشداء في الحرب، لأن الإنسان قد يملك القوة ولكن ليس ذا بأس في الحرب والقتال، كمن يملك سيفًا ورمحًا وليست عنده الشجاعة والثبات في الحرب. فقوله: {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} بعد قوله: {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} للدلالة على أن الحق إنما يحمى بالقوة. جاء في (تفسير الرازي) "والحاصل أن الكتاب إشارة إلى القوة النظرية، والميزان إلى القوة العملية، والحديد إلى دفع ما لا ينبغي، ولما كان أشرف الأقسام رعاية المصالح الروحانية ثم رعاية المصالح الجسمانية ثم الزجر عما لا ينبغي روعي هذا الترتيب في هذه الآية. وثانيها: المعاملة إما مع الخالق وطريقها الكتاب، أو مع الخلق وهم إما الأحباب والمعاملة معهم بالسوية وهي الميزان، او مع الأعداء والمعاملة معهم بالسيف والحديد. وثالثها: الأقوام ثلاثة: أما السابقون، وهم يعاملون الخلق بمقتضى الكتاب فينصفون ولا ينتصفون، ويحترزون عن مواقع الشبهات. وإما مقتصدون، وهم الذين ينصفون وينتصفون، فلا بد لهم من الميزان، وإما ظالمون، وهم الذين ينتصفون ولا ينصفون، ولا بد لهم من الحديد والزجر ... وسابعها: الكتاب إشارة إلى ما ذكر الله في كتابه من الأحكام المقتضية للعدل والإنصاف، والميزان إشارة إلى حمل الناس على تلك الأحكان المبينة على العدل والإنصاف، وهو شأن الملوك، والحديد إشارة إلى أنهم لو تمردوا لوجب أن يحملوا عليها بالسيف" (12).وذكروا في إنزال الحديد قولين: الأول: إنزاله من السماء. والقول الآخر: أن معنى الإنزال هو الإنشاء والتهيئة والخلق، كقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6] (13). ويذهب المحدثون إلى القول الأول، فهم يقولون: إن الحديد إنما أنزل من السماء. ولا مانع من أن يكون القولان صحيحين، فالله خلقه وأنزله، والله أعلم. {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ}" في مصالحهم ومعايشهم وصنائعهم" (14). ونكر المنافع للإطلاق. وذكر أن المنافع للناس ولم يذكر أن انزل الحديد للناس، فهو لم يقل: (وأنزلنا الحديد للناس فيه بأس شديد ومنافع لهم) لأن المعنى سيكون أنه أنزل الحديد للناس ليقتتلوا وليذيق بعضهم بأس بعض. وليس هذا هو المقصود، فذكر أن المنافع للناس دون البأس الشديد، وإنما البأس الشديد ليقوم الناس بالقسط ولنصرة الحق والعدل وإشاعته. {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} هذا تعليل لكل ما تقدم من إنزال الكتب والميزان وإنزال الحديد ليعلم الذين ينصرونه في كل ذلك من دعوة إلى الله وتبيين لأحكامه وطاعة له وجهاد في سبيله، فإن ذلك كله نصر لله ورسوله. وقوله: {بِالْغَيْبِ} للدلالة على إخلاصهم في نصرتهم لله ورسله، فهم ينصرونه سواء علم بهم عباد الله وأبصروهم أم لم يعلم بهم أحد غير خالقهم، فهم ينصرونه على كل حال. جاء في (البحر المحيط): "{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ} علة لإنزال الكتاب والميزان والحديد، {مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ} بالحجج والبراهين المنتزعة من الكتاب المنزل، وبإقامة العدل، وبما من آلة الحرب للجهاد في سبيل الله" (15). وجاء في (الكشاف): "{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ} باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين (بالغيب) غائبًا عنهم، قال ابن عباس رضي الله عنهما: ينصرونه ولا يبصرونه" (16). {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} ختم الآية بقوله: {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} ليبين أنه غير محتاج إلى من ينصره، فإن الله قوي عزيز ولكن ليتعلق بذلك الجزاء في الآخرة. وقد تقول: لقد قال هها: {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} فأكد قوته وعزته بإن، وقال في مكان آخر: {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج: 40] فأكدهما بإن واللام فما الفرق؟ فنقول: إن كل تعبير مناسب للسياق الذي ورد فيه، وإليك إيضاح ذلك: "قال تعالى في سورة الحج: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحج:39 - 40]. فأنت ترى أن الكلام هو في سياق الإذن للمؤمنين بالجهاد وقتال الأعداء بعدما أخرجوا من ديارهم وقوتلوا ظلمًا، وقد ذكر أن الله قادر على نصرهم وقد وعدهم بالنصر فقال مؤكدًا ذاك: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} ولا شك أن النصر محتاج إلى قوة فأكد قوته وعزته بإن واللام، وقد ناسب تأكيد النصر تأكيد القوة. وليس السياق كذلك في الحديد، قال تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} فأنت ترى أنها ليست في سياق الجهاد والقتال ولا في سياق نصر الله للمؤمنين، بل في سياق نصر المؤمنين لدعوة الله {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} فالأولى في نصره هو لجنوده المستضعفين فأكد قوته، والثانية في نصر المؤمنين لدعوته، فزاد في المقام الذي يقتضي زيادة التأكيد" (17). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 407 إلى ص 415. (1) انظر تفسير الرازي 29/241، روح المعاني 27/188. (2) تفسير الرازي 29/241 – 242. (3) تفسير ابن كثير 4/372. (4) روح المعاني 27/188. (5) التحرير والتنوير 27/416. (6) البحر المحيط 10/113. (7) لسان العرب (قسط) – دار صادر – 7/377 – 378. (8) كذا في اللسان، والصواب {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} (9) لسان العرب (عدل) 11/430 – 431. (10) روح المعاني 27/188. (11) انظر لسان العرب (بأس) 6/20. (12) تفسير الرازي 29/242. (13) انظر تفسير الرازي 29/243، روح المعاني 27/188، الكشاف 4/66. (14) الكشاف 4/66. (15) البحر المحيط 10/114. (16) الكشاف 4/66 – 67، وانظر تفسير الرازي 29/244. (17) التعبير القرآني 204.
  • ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴿٢٦﴾    [الحديد   آية:٢٦]
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26)} قدم النبوة على الكتاب كما قدم البينات على إنزال الكتاب في الآية السابقة فقال: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ}، والبينات هي الدلائل على النبوة والتي تقيم الحجج على الناس على إنزال الكتاب، وفي هذه الآية قدم النبوة على الكتاب وهو نظير التقديم في الآية السابقة. {فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} كان الأظهر أن يقال: ( فمنهم مهتد وكثير منهم ضالون) لأن الهدى يقابله الضلال كما هو مذكور في مواطن كثيرة من القرآن الكريم كقوله: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [المدثر: 31]، وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] غير أنه ذكر الفسق وهو الخروج عن الطريق المستقيم؛ وذلك لأن الضلال قد يكون عن غير قصد وبغير علم، كما قال الله تعالى: {الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 104] وقال: {وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 119]. أما الفسق فهو الخروج عن الطريق وذلك بعد العلم به، وهذا أبعد في الضلال. ثم وصف الفاسقين بالكثرة ولم يصف المهتدين بالكثرة فقال: {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} ،وهذا ذم آخر، جاء في (روح المعاني): "{وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} خارجون عن الطريق المستقيم، ولم يقل: (ومنهم ضال) مع أنه أظهر في المقابلة؛ لأن ما عليه النظم الكريم أبلغ في الذم؛ لأن الخروج عن الطريق المستقيم بعد الوصول بالتمكن منه ومعرفته أبلغ من الضلال عنه، ولإيذانه بغلبه أهل الضلال على غيرهم" (1).
إظهار النتائج من 10611 إلى 10620 من إجمالي 12316 نتيجة.