عرض وقفات أسرار بلاغية

  • ﴿مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ﴿٢﴾    [الأنبياء   آية:٢]
{مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)} ذكر من مظاهر إعراضهم أنه ما يأتيهم شيء من القرآن يذكرهم إلا استمعوه وهم في لعب ولهو غير ملتفتين إلى شيء من ذ ذلك. وقال: {مَا يَأْتِيهِمْ} فنفاه بـ (ما) للدلالة على شأنهم في الحال. ولم م يقل (لا يأتيهم) فينفيه بـ (لا) التي تدل على نفي المضارع في المستقبل غالبًا، وإنما ذكر حالتهم آنذاك، وذلك أن (ما) النافية إذا دخلت على المضارع أفاد الحال. وقال: {يَأْتِيهِمْ} للدلالة على تجدد الإتيان واستمراره، ولم يقل: (ما أتاهم) التي قد تفيد حالة من حالات الماضي. وقال: {مِنْ ذِكْرٍ} بـ (من) الاستغراقية التي تفيد التوكيد والاستغراق، فهم يعرضون ويلهون عن كل ذكر يأتيهم من ربهم وليس عن ذكر دون ذكر. قال: {مِنْ رَبِّهِمْ} وهذا أسوأ شيء، فإن الذكر إنما هو من ربهم الذي هو خالقهم ومربيهم ورازقهم ومتولي أمرهم. وهذا أسوأ إعراض. فإنه لو كان اللهو والإعراض عن الذكر من جهة أخرى لكان أقل سوءًا ونكرًا، فكيف وقد أتاهم الذكر من ربهم؟ ثم قال: {مُحْدَثٍ} أي جديد ينزل إليهم بعد ذكر سابق. فهم يعرضون عن كل ذكر ينزل على ما فيه من فنون الموعظة والتذكير. ثم قال: {إِلَّا اسْتَمَعُوهُ} ولم يقل: (سمعوه) مجرد السماع من دون ذلك معرفة بما فيه، وإنما استمعوا الموعظة وأدركوا مغزاها ومع استمعوها وهم يلعبون لاهين عابثين غير عابئين بها ولا ملتفتين إليها بل استمعوها لاهين ساخرين. جاء في (الكشاف): "قرر إعراضهم عن تنبيه المنبه وإيقاظ الموقظ بأن الله يجدد لهم الذكر وقتًا فوقتًا، ويحدث لهم الآية بعد الآية والسورة بعد السورة ليكرر على أسماعهم التنبيه والموعظة لعلهم يتعظون، فما يزيدهم استماع الآية والسور وما فيها من فنون المواعظ والبصائر التي هي أحق الحق وأجد الجد إلا لعبًا وتلهيًا واستسخارًا. والذكر: هو الطائفة النازلة من القرآن (1). وقال ههنا: {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2)} فقال: (من ربهم). وقال في الشعراء: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ} فقال: (من الرحمن) وذلك أنه ذكر في سياق آية الأنبياء صفات أشد سوءًا مما ذكره في الشعراء مما يبعدهم عن الرحمة. فقد ذكر في الشعراء أنهم معرضون عن الذكر، وقال: {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) } فذكر أنه ستأتيهم الأنباء ولم يقل سيأتيهم العذاب. في حين قال في سورة الأنبياء إنهم في غفلة وإنهم معرضون، وإنهم يستمعون الذكر وهم يلعبون، لاهية قلوبهم، وإنهم قالوا عن رسولهم ليس إلا بشرًا، وإن ما جاء به سحر، وإنه أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر، وإنهم أرادوا آية كما أرسل الأولون. فكانوا أبعد عن الرحمة. وقال أيضًا: {مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ } وقال: {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} وقال: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ} وقال: {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} وقال: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} كل هذا لا يناسب الرحمة لأنه في مقام الإهلاك. وأما في الشعراء فقد قال: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} فإن الله أرحم بك من ذلك. وقال: {فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} فذكر أنه تأتيهم الأنباء ولم يذكر العقوبة. ثم ذكر من مظاهر رحمته في الأرض فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} ثم كرر قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} ثماني مرات في السورة. ثم قال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} فذكر العزيز الرحيم تسع مرات. فناسب ذلك ذكر اسمه (الرحمن). فناسب ذكر (الرب) في آية الأنبياء، وذكر الرحمن في آية الشعراء. جاء في (ملاك التأويل) في سبب الاختلاف بين هاتين الآيتين: "أن اسمه سبحانه (الرحمن) يغلب وروده حيث يراد الإشارة إلى العفو والإحسان والرفق بالعباد والتلطيف والتأنيس... وأما اسمه الرب فيعم وروده في طرفي الترغيب والترهيب... ولما تقدم قبل آية الأنبياء من الأخبار ما طيه وعيد وترهيب مع تلطفه سبحانه بهم بتذكيرهم لم يكن ليناسب ذلك ورود اسمه الرحمن. ألا ترى أن قوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} أشد تخويفًا للمخاطبين... وأما آية الشعراء فمبنية على تأنيس النبي  وإعلامه أن توقف قومه عن الإيمان إنما هو بقدرته تعالى ولو شاء لأراهم آية تبهرهم كنتق الجبل فوق بني إسرائيل. وإلى هذه الإشارة بقوله تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] ثم رجع الكلام إلى تعنيف المكذبين. فلما كان بناء الآية على التأنيس والتلطف بنبينا  وإعلامه بأن تأخير العذاب عنهم إنما هو إبقاء منه تعالى ليستجيب من قدر له الإيمان منهم. فأشار إلى هذا وناسب اسمه الرحمن فقال تعالى: {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} فقد وضح ورود كل من الاسمين في موضعه على ما يجب ويناسب (2). وجاء (كشف المعاني) لابن جماعة أنه "لما تقدم هنا {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ }وذكر إعراضهم وغفلتهم وهو وعيد وتخويف فناسب ذكر الرب المالك ليوم القيامة المتولي ذلك الحساب. وفي الشعراء تقدم {إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آَيَةً} لكن لم يفعل ذلك لعموم رحمته للمؤمنين والكافرين لم يشأ ذلك، ويقوي ذلك تكرير قوله تعالى في السورة: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (3). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 13 إلى ص 16. (۱) الكشاف ۲/۳۲۰. (2) ملاك التأويل ٢/٦٩٢ - ٦٩٤. (3) كشف المعاني ٢٥٤.
  • ﴿لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ ﴿٣﴾    [الأنبياء   آية:٣]
{لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) } {لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} "اللاهية من (لها عنه) إذا ذهل وغفل" (1). أسند اللهو وهو الذهول والغفلة إلى القلوب؛ لأن القلوب هي آلة الفقه والعلم، وهي آلة التدبر والهدى، وربنا يسند ذلك إليها أو ينفيه عنها. قال تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ} [الأعراف: 179]. وقال: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} [الحج: 46]. وقال: {أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا} [محمد: 24]. فإذا غفلت غفل صاحبها، وإذا عقلت عقل صاحبها، فوصف قلوبهم بالغفلة الثابتة فقال: (لاهية) بالاسم. والوصف بالاسم هنا مناسب لوصفهم بالغفلة التي تغمرهم والإعراض الثابت في قوله: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ}. {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} قوله: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} فيه مبالغة في الإسرار والإخفاء، ذلك أن النجوى إنما تكون في السر، فإذا قلت: (تناجي فلان وفلان) فمعنى ذلك أنهما أخفيا حديثهما، فإذا قلت: (أسرّا النجوى) أفاد ذلك المبالغة في الإخفاء. فالأسرار يفيد الإخفاء عن غير الذي تسر إليه الحديث. والتناجي يفيد الإخفاء أيضًا. فإذا قلت: (أسرّ النجوى) فقد بالغت في الإخفاء. جاء في (الكشاف): "فإن قلت: النجوى وهي اسم من التناجي لا تكون إلا خفية فما معنى قوله: {وَأَسَرُّوا}؟ قلت: معناه: وبالغوا في إخفائها... أو جعلوها بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم ولا يعلم أنهم متناجون" (2). إن قوله: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} يحتمل أوجهًا إعرابية متعددة، منها أن {الَّذِينَ ظَلَمُوا} بدل من الواو في {أَسَرُّوا}، فقد أسند الإسرار إليهم على وجه العموم ثم بين الذين أسروا فقال: {الَّذِينَ ظَلَمُوا.} وهذا نظير ذكر الناس على العموم في قوله: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ }ثم بين المقصود بهؤلاء الناس فيما بعد. وهو تناظر لطيف. ويحتمل أن التعبير مبني على التقديم والتأخير، فقوله: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} جملة خبر مقدم، و {الَّذِينَ ظَلَمُوا } مبتدأ مؤخر، فيكون من باب تقديم الخبر لغرض الاهتمام. ويحتمل أن يكون {الَّذِينَ ظَلَمُوا } منصوبًا على الذم أو على إضمار (أعني). وكل هذه الأوجه على اختلاف التقديرات تفيد الاهتمام والعناية كل بحسب ما يدل عليه. وقيل: إنما هو على لغة (أكلوني البراغيث) أي على لغة من يجعل هذه الضمائر حروفًا تدل على الفاعل فيقولون: أقبلا الرجلان، وأقبلوا الرجال، وأقبلن النسوة. والأولى تخريجها على لغة سائر العرب وما في ذلك من دلائل معنوية. جاء في (الكشاف): "أبدل {الَّذِينَ ظَلَمُوا } من واو {وَأَسَرُّوا} إشعارًا بأنهم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسروا به، أو جاء على لغة من قال: (أكلوني البراغيث)، أو هو منصوب المحل على الذم، أو هو مبتدأ خبره {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} قدم عليه. والمعنى: وهؤلاء أسروا النجوى، فوضع المظهر موضع المضمر تسجيلاً على فعلهم بأنه ظلم" (3). {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أنكروا أن يرسل الله بشرًا مثلهم، فإنه لابد – فيما يرون- أن يكون الرسول من الله ملكًا وهذه شبهة كثير من المجتمعات البشرية، فقد ذكر ربنا عن مجموعة من المجتمعات البشرية أنهم قالوا لرسلهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آَبَاؤُنَا} [إبراهيم: 10]. وقال في قوم نوح إنهم قالوا في رسولهم: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ} [المؤمنون: 24]. وقال في قوم بعد قوم نوح في رسولهم: {مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} [المؤمنون: 33 - 34]. وكذلك من بعدهم. وأخبر ربنا أن هذه الشبهة منعت الناس من الإيمان فقال: {وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 94]. وكذلك هي شبهة كفار قريش، ولذا أمر ربنا رسوله في أكثر من موضع أن يقول لهم إنه بشر مثلهم فقال: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ} [الكهف: 110، فصلت: 6]. جاء في (الكشاف): "اعتقدوا أن رسول الله  لا يكون إلا ملكًا، وأن كل من ادعى الرسالة من البشر وجاء بالمعجزة هو ساحر ومعجزته سحر، فلذلك قالوا على سبيل الإنكار: أفتحضرون السحر وأنتم تشاهدون وتعاينون أنه سحر" (4). "والسحر عنوا ما ظهر على يديه من المعجزات" (5). وجملة {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} تحتمل أن تكون بدلاً من النجوى، أي أسروا هذا القول. وتحتمل أن تكون مفعولاً به لقول محذوف، أي وأسروا النجوى قائلين: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} جاء في (الكشاف): "هذا الكلام كله في محل النصب بدلاً من النجوى، أي وأسروا هذا الحديث. ويجوز أن يتعلق بـ (قالوا) مضمرًا" (6). وذكرت أوجه أخرى (7). قد تقول: لقد ههنا: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ} وقال في سورة (طه): {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا} [طه: 62 – 63]. فذكر القول إضافة إلى الإسرار فقال: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ....} ولم يذكر ذلك في آية الأنبياء فما الفرق؟ فنقول: إن ذكر القول مع ذكر النجوى أكد وأهم؛ لأنه ذكر القول مع ما فيه معنى القول. فإن النجوى معناها القول، ثم ذكر القول إضافة إلى ذلك، فكأنه قد كرر اللفظ فكان أكد. وذلك أن الموقف في (طه) أشد، فإن السياق فيها إنما هو في موسى وفرعون وما حصل بينهما من المناظرة والمشادة بعدما رأوا الآيات وكذبوها وزعموا أنها سحر، وأن موسى وأخاه ساحران. وتحدوه بأنهم سيأتونه بسحر مثله. ثم إن فرعون جمع كيده {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)} فالموقف في (طه) موقف تحد ومواعدة وامتحان ومغالبة، فكان الموقف أشد مما في الأنبياء الذي ليس فيه شيء من ذلك. فناسب ذكر القول إضافة إلى ما في معناه في آية (طه) دون آية الأنبياء. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 17 إلى ص 21. (1) الكشاف 2/320. (2) الكشاف 2/320 وانظر البحر المحيط 6/296 – 297. (3) الكشاف 2/ 320 – 321، وانظر البحر المحيط 6/296 – 297. (4) الكشاف 2/321. (5) البحر المحيط 6/297. (6) الكشاف 2/321، تفسير أبي السعود 3/684. (7) انظر روح المعاني 17/8.
  • ﴿قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴿٤﴾    [الأنبياء   آية:٤]
{قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4)} جاء في (الكشاف): « فإن قلت: هلا قيل: {يَعْلَمُ السِّرَّ} ولقوله: {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى}؟ قلت: القول عام يشمل السر والجهر فكان في العلم به العلم بالسر وزيادة، فكان أكد في بيان الاطلاع على نجواهم من أن يقول: يعلم السر. كما أن قوله {يَعْلَمُ السِّرَّ} أكد من أن يقول: (يعلم سرهم)، ثم بين ذلك بأنه السميع العليم لذاته فكيف تخفى عليه خافية؟" (۱). قد تقول: لقد قال سبحانه في سورة الفرقان: {قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفرقان: 6]. فقال في آية الأنبياء: {فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} بإفراد السماء. وقال في آية الفرقان: {فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } بالجمع فلم ذاك؟ والجواب: إن القول أعم من السر، فهو يشمل السر وزيادة كما ذكر صاحب الكشاف، فإن القول يكون سرًا وجهرًا، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8]. وإن السماء أعم من السماوات (2). فناسب العموم والخصوص الخصوص. وقد تقول: ولم قال في آية الأنبياء {يَعْلَمُ الْقَوْلَ}. وقال في آية الفرقان: {يَعْلَمُ السِّرَّ } والجواب أنه ذكر النجوى وما قالوه فيها في آية الأنبياء، والنجوى قول، فناسب ذلك أن يقول: {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ}. وليس في آية الفرقان مثل ذلك، وإنما هي في سياق آخر فذكر السر. فقد قال قبل آية الفرقان: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)}، فقالوا إنه أساطير الأولين اكتتبها، أي كتبت له وأمليت عليه، وهذا مما فعل في السر، فناسب ذكر السر. جاء في (الكشاف) أن أسلوب آية الأنبياء خلاف أسلوب آية الفرقان "من قبل أنه قدم ههنا أنهم أسروا النجوى، فكأنه أراد أن يقول: إن ربي يعلم ما أسروه، فوضع القول موضع ذلك للمبالغة. وثم قصد وصف ذاته بأن أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض، فهو كقوله: {عَلَّامُ الْغُيُوبِ} {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ}، (3). لقد ختم هذه الآية - أعني آية الأنبياء - بقوله: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} بذكر صفتي السمع والعلم، ذلك أنه ذكر ما يسمع وما يعلم. فإن التناجي قول، والقول مما يسمع، وذكر الإسرار وهو مما يعلم، فناسب ختم الآية بهذين الوصفين الجليلين. وعرفهما للحصر، فهو الكامل في هذين الوصفين دون غيره، فليس ثمة ذات أخرى تتصف بهما على نحو ما يتصف به سبحانه. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 21 إلى ص 23. (۱) الكشاف ۲/۳۲۱ وانظر البحر المحيط 6/۲۹۷، روح المعاني ١٢/٣٢٦. (۲) انظر كتابنا (التعبير القرآني) ٥٢ – ٥٣. (3) الكشاف 2/321.
  • ﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ ﴿٥﴾    [الأنبياء   آية:٥]
{بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) } "أضربوا عن قولهم هو سحر إلى أنه تخاليط أحلام، ثم إلى أنه كلام مفترى من عنده، ثم إلى أنه قول شاعر، وهكذا الباطل لجلج، والمبطل متحير رجاع غير ثابت على قول واحد" (1). "وهذه الأقوال الظاهر أنها صدرت من قائلين متفقين انتقلوا من قول إلى قول، أو مختلفين قال كل منهم مقالة" (2). وقوله: {فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} "جواب شرط محذوف، أي أن لم يكن كما قلنا فليأتنا بآية كما أرسل الأولون" (3). وهذه الأقوال جمعت القول في طبيعة الرسول وفيما جاء به وفي صفاته. ففي طبيعة الرسول ذكر أنهم قالوا إنه بشر مثلهم. وفيما جاء به قالوا إنه سحر وإنه أضغاث أحلام. وفي صفاته قالوا إنه افتراه وإنه شاعر. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 23 إلى ص 24. (1) الكشاف 2/321. (2) البحر المحيط 6/297. (3) فتح القدير 3/385.
  • ﴿مَا آمَنَتْ قَبْلَهُم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ ﴿٦﴾    [الأنبياء   آية:٦]
{مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) } لما طلبوا أن يأتيهم بآية كما أرسل الأولون قال سبحانه: إن القرى التي أوتيت الآيات لم يؤمنوا، فأهلكها ربنا، أفهؤلاء يؤمنون؟ أي إنهم لا يؤمنون. وفحوى ذلك أنه إن لم يؤمنوا فسيهلكهم كما أهلك الأولين. فأمسك الآيات ليستبقيهم فيؤمن منهم من يؤمن ويمكن لهم في الأرض ويستخلفهم إلى قيام الساعة. جاء في (الكشاف): "فيه أنهم أعتى من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات وعاهدوا أنهم يؤمنون عندها، فلما جاءتهم نكثوا وخالفوا فأهلكهم الله. فلو أعطيناهم ما يقترحون لكانوا أنكث وأنكث" (1). وجاء في (البحر المحيط): "ولكن حكم الله تعالى بإبقائهم ليؤمن من آمن ويخرج منهم مؤمنين" (2). وجاء في (التحرير والتنوير): "وإنما أمسك الله الآيات والخوارق عن مشركي مكة لأنه أراد استبقاءهم ليكون منهم مؤمنون وتكون ذرياتهم حملة هذا الدين في العالم. ولو أرسلت عليهم الآيات البينة لكانت سنة الله أن يعقبها عذاب الاستئصال للذين لا يؤمنون بها" (3). والمراد بإهلاك القرية إهلاك أهلها. جاء في (روح المعاني): {أَهْلَكْنَاهَا} صفة قرية. والمراد أهلكناها بإهلاك أهلها لعدم إيمانهم بعد مجيء ما اقترحوه من الآيات (4). لقد قال سبحانه: {مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ} ولم يقل: (من قبلهم) ذلك أن (من) تفيد ابتداء الغاية (5) أي من قبلهم القريبين فمن قبلهم. وأما {قَبْلَهُمْ }، فتفيد القبلية غير المقيدة فقد تكون قريبة أو بعيدة. ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ}. فجاء بـ (من) لأن ذلك يشمل جميع من قبله ابتداء من الأقرب فمن قبلهم، فكلهم ماتوا ولم يخلد أحد منهم. فقال: (قبلهم) ولم يقل: (من قبلهم) لأنه لم يحصل ذلك في الزمن القريب منهم، ذلك أن أقرب رسول منهم هو عيسى بن مريم، وبين الرسالتين أكثر من ستمائة عام، وهو زمن بعيد، ولا نعلم كم من الزمن ممن هو قبل عيسى حصل ذاك فلم يذكر (من). وقال: {مِنْ قَرْيَةٍ} بإدخال (من) الاستغراقية على القرية، فأفاد ذلك استغراق جميع القرى التي لم تؤمن. قد تقول: لقد قال ههنا: {أَهْلَكْنَاهَا} فجعل الإهلاك للقرية. في حين قال في موطن آخر: {أَهْلَكْنَاهُمْ} فجعل الإهلاك لأهلها، قال تعالى في سورة الكهف: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا} فما السبب؟ فنقول: لما قال: {لَمَّا ظَلَمُوا} فأسند الظلم إلى أهلها قال: {أَهْلَكْنَاهُمْ}، ألا ترى إلى قوله سبحانه: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [الحج: 45] لما نسب الظلم إليها فقال: {وَهِيَ ظَالِمَةٌ } قال: {أَهْلَكْنَاهَا}؟ ومن اللطائف في نحو هذا التعبير قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ} [محمد: 13] فقال: {أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ }ولم يقل: (أهلكناها)، ذلك أنه لما قال: {هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ } ويعني بالقرية التي أخرجته مكة قال: {أَهْلَكْنَاهُمْ} ولم يقل: (أهلكناها) تعظيمًا لها لئلا يظن أنه سينالها الإهلاك كما فعل بالقرى العاتية. فجعل الإهلاك لأهلها، وليس ببعيد على الله أن يهلك العتاة من أهل هذه القرية كما فعل بغيرهم ويأتي بمن هو خير منهم. ألا ترى أنه نسب الظلم إلى القرى في أكثر من موضع فقال: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} [الحج: 48]. وقال: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} [الأنبياء: 11] إلا مكة فإنه لم ينسب الظلم إليها، وإنما نسبه إلى أهلها تعظيمًا لها أن ينسب إليها الظلم وتكريمًا فقال: {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا} [النساء: 75]. وهو من لطيف مراعاة المقام. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 24 إلى ص 27. (1) الكشاف 2/321. (2) البحر المحيط 6/297. (3) التحرير والتنوير 17/17. (4) روح المعاني 17/12. (5) انظر كتابنا (معاني النحو) 2/243 وما بعدها.
  • ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴿٧﴾    [الأنبياء   آية:٧]
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7)} رد على قولهم: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} بهذه الآية، فذكر أن الرسل قبل سيدنا محمد كلهم بشر يوحى إليهم وليسوا ملائكة. وإن كنتم لا تعلمون ذلك فاسألوا أهل الذكر، أي أهل الكتاب حتى يعلموكم. جاء في (الكشاف): "أمرهم أن يستعلموا أهل الذكر وهم أهل الكتاب حتى يعلموهم أن رسل الله الموحى إليهم كانوا بشرا ولم يكونوا ملائكة كما اعتقدوا" (۱). وجاء في (البحر المحيط): "ولما تقدم من قولهم: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ}، وأن الرسول لا يكون إلا من عند الله من جنس البشر قال تعالى رادًا عليهم: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا}، أي بشرًا، ولم يكونوا ملائكة كما اعتقدوا. ثم أحالهم على أهل الذكر فإنهم وإن كانوا مشابهين للكفار ساعين في إخماد نور الله لا يقدرون على إنكار إرسال البشر. وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} من حيث إن قريشًا لم يكن لها كتاب سابق ولا أثارة من علم (۲). قد تقول: لقد قال في أكثر من موضع: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا} بذكر (من)، وفي آية الأنبياء هذه لم يذكر (من). فقد قال تعالى في سورة يوسف: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)} بذكر (من). وقال في النحل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} بذكر (من) أيضًا. فما الفرق؟ فنقول: إن السياق في كل موضع يوضح السبب: فقد ذكر كثير من النحاة أن (من) في نحو هذا التعبير تدل على ابتداء الغاية، وذهب قسم آخر إلى أنها تفيد التوكيد (3). ومقتضى ابتداء الغاية على ما ذكر بعضهم في نحو هذا التعبير أنه يفيد استغراق الزمن المتقدم ابتداء من ابتداء الغاية إلى ما قبله، وأن (من) تفيد توكيد ما دخلت عليه (4). ثم إن السياق في آيتي يوسف والنحل يختلف عنه في آية الأنبياء، فما كان في يوسف والنحل إنما هو في سياق العقائد. فقد قال في سياق آية يوسف: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آَيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)} فذكر كثرة الآيات التي يمرون عليها في السماوات والأرض وهم معرضون عنها. وهذه أعم وأكثر بكثير من كون (الرسل بشرًا)، فهذه مسألة واحدة وتلك آيات كثيرة. ثم ذكر معتقداتهم في الإيمان بالله مع شركهم به. ثم قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)}. فقد حذرهم أن يصيبهم مثل ما أصاب أهل القرى الذين يمرون عليهم من العقوبة ويستمر في الكلام في نحو هذا. كل هذا ليس متعلقًا بكون الرسل بشرًا أو ملائكة. فالأمر أكد وأعم وأشمل، فجاء بـ (من) التي قد تفيد التوكيد والعموم. وكذلك السياق في سورة النحل فإنه في العقائد والبينات والزبر وتحذير المعاندين بالعقوبات. فقد قال في سياق آية النحل: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)}. فذكر استغراق بعث الرسل للأمم كلها ودعوتهم إلى عبادة الله واجتناب الطاغوت، وليس الكلام على كون الرسل بشرًا أو ملائكة، إلى أن قال {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44}. وطلب منهم استعلام أهل الكتاب عن البينات والزبر، وإنه أنزل الذكر إليه ليبين للناس ما نزل إليهم. وليس له علاقة بكون الرسل بشرًا أو ملائكة. فهو أعم وأشمل من ذلك. وحذر الذين يمكرون السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يعذبهم. وهو نظير ما مر في سورة يوسف. فجاء بـ (من) الدالة على العموم والتوكيد والشمول. وأما آية الأنبياء فهي في أمر واحد وهو ما يتعلق بإثبات بشرية الرسل، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)}. فما في يوسف والنحل أعم وأشمل. ونظير آية الأنبياء هذه ما جاء في سورة الفرقان وذلك قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ (20)}. فلم يذكر (من) في الموضعين لتشابههما. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه ليست كل الأمم ينكرون بشرية الرسل، فإن أهل الكتاب لا ينكرون ذلك، ولذلك أحالهم على أهل الذكر للاستفسار، بخلاف الإيمان بما جاءت به الرسل، فإن عموم التكذيب إنما هو في ذلك. فما في آيتي يوسف والنحل أعم من هذه الناحية أيضًا. فإن المكذبين بما جاءت به الرسل أكثر من المكذبين بكون الرسل بشرًا. فما جاء بـ (من) أكثر. فناسب ذكر (من) من هذه الناحية أيضًا. ثم إن آية الأنبياء مناسبة لما قبلها وهو قوله: {مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا (6)}. فكلتا الآيتين من دون (من). فناسب ذلك من هذه الناحية أيضًا. ثم لننظر في الآيات من ناحية أخرى: فقد قال في آية يوسف: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى}. فذكر (أهل القرى) ذلك أنه قال في الآية: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} وهم يمرون على القرى في سيرهم في الأرض، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا} [الفرقان: 40] فناسب ذكر القوى. وقال في آية النحل: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} ذلك أنه قال بعد ذلك: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)} فالتناسب ظاهر. جاء في (درة التنزيل): قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف: 109]. وقال في سورة النحل: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} وقال في سورة الأنبياء: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) } للسائل أن يسأل فيقول: هل بين قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ} وقوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} فرق؟ ولأي معنى خص موضع بحذف (من) وموضع بإثباتها؟ الجواب: أن يقال: إن (من) لابتداء الغاية. و(قبلك) اسم للزمان الذي تقدم زمانك. فإذا قال: (وما أرسلنا من قبلك) فكأنه قال: وما أرسلنا من ابتداء الزمان الذي تقدم زمانك، فيخص الزمان الذي يقع عليه قبل تحديه. ويستوعب بذكر طرفيه ابتداءه وانتهاءه. وإذا قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} فمعناه: ما فعلنا في الزمان الذي تقدم زمانك... فأما قوله: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} فإنما لم يؤكد بـ (من) لأن المعتمد بالخبر إنما هو الحال التي للمرسلين، وهي أنهم يأكلون الطعام وليسوا من الملائكة الذين طلب الكفار أن يبعثوا إليهم وأخبر الله تعالى به عنهم في قوله: {وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا} (5). وجاء في (ملاك التأويل) في هذه الآيات التي ذكرها صاحب الدرة: "أن آية يوسف قد تقدمها قوله تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106)}، وقوله: {وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)} وقوة السياق في هذه الآية يدل على القسم ويعطيه، فناسب ذلك زيادة (من) المقتضية الاستغراق. وكذلك قوله في سورة النحل: {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ} [النحل: 41] يؤكد ذلك المعنى. فناسبه زيادة (من) لاستغراق ما تقدم من الزمان. أما قوله تعالى في سورة الأنبياء: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} فتقدم قبلها إنكار الكفار كون الرسل من البشر في قوله: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ }واقتراحهم الآيات في قولهم: {فَلْيَأْتِنَا بِآَيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5)}، فلما انطوى هذا الكلام على قضيتين من اقتراحهم الآيات وإنكارهم كون الرسل من البشر، وقد تبين لهم حال المقترحين في قوله تعالى: {مَا آَمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَ} فلما تقدم هذا أتبع ببيان الطرف الآخر وهو التعريف بأن من تقدم من الرسل إنما كانوا رجالاً من البشر مختصين بتخصيصه سبحانه ولم يكونوا ملائكة، فقيل لنبينا محمد : {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ}. فقيل هنا (قبلك) كما قيل في نظيرتها {}فلم تدخل هنا (من) كما لم تدخل في النظير الآخر لإحراز التناسب والتحام الجملة المنطوية على طرفي مقصدهم من الاقتراح وإنكار كون الرسل من البشر. (6). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 27 إلى ص 33. (1) الكشاف 2/322. (2) البحر المحيط 6/298 وأنظر روح المعاني 17/12. (3) انظر لسان العرب (من)، المغني 1/325 – 326، التصريح 1/342. (4) انظر ملاك التأويل 1/678، درة التنزيل 241. (5) درة التنزيل وغرة التأويل 240 – 242. (6) ملاك التأويل 2/540 – 541.
  • ﴿وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ﴿٨﴾    [الأنبياء   آية:٨]
{وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8)} أي لم نجعلهم أجسادًا لا تأكل الطعام، وإنما جعلناهم بشرًا يأكلون ويشربون ويموتون كسائر البشر. وهو رد على قولهم مستنكرين: {هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ} وقولهم في موضع آخر: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ} [الفرقان: 7]. جاء في (الكشاف): {لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} صفة لجسدًا، والمعنى: وما جعلنا الأنبياء عليهم السلام قبله ذوي جسد غير طاعمين. ووحد الجسد لإرادة الجنس، كأنه قال: ذوي ضرب من الأجساد. وهذا رد لقولهم: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ} [الفرقان: ۷۰] (1). ونفى الجملتين بـ (ما) دون (لم) ذلك أن (ما) كثيرًا ما تكون ردّا على كلام أو ما نزل هذه المنزلة، تقول: (لقد قال فلان كذا وكذا) فيقال لك: (ما قال ذلك). قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [المائدة: 116]. فكان جوابه: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ} [المائدة: ١١٧] (2). جاء في (الفروق اللغوية): "(ما) جواب عن الدعوى، تقول: قلت كذا، ويكون الجواب: ما قلت"(3). ومن ناحية أخرى أن (ما) أكد من (لم)، فإنها تقع جوابًا للقسم، بخلاف (لم)، قال تعالى: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: ٢٣]، وقال: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} [التوبة: 74]. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 33 إلى ص 34. (1) الكشاف 2/322، وانظر البحر المحيط 6/298 – 299، روح المعاني 17/13، (2) انظر معاني النحو 4/229. (3) الفروق اللغوية 334.
  • ﴿ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ ﴿٩﴾    [الأنبياء   آية:٩]
{ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)} هذه إشارة إلى أنه سبحانه سيصدق رسوله ما وعده من النصر والظفر وإهلاك أعدائه كما فعل مع الرسل قبله. جاء في (البحر المحيط): "ذكر تعالى سيرته مع أنبيائه فكذلك يصدق نبيه محمدا  وأصحابه ما وعدهم به من النصر وظهور الكلمة، فهذه عدة للمؤمنين ووعيد للكافرين (1). وجاء بأداة التراخي (ثم) إشارة "إلى أنهم طال بلاؤهم بهم وصبرهم عليهم، ثم أحل بهم سطوته وأراهم عظمته. ولذا قال مسببًا عن د ذلك: (فأنجيناهم) أي الرسول بعظمتنا" (2). والإتيان بصيغة المستقبل في قوله تعالى: {وَمَنْ نَشَاءُ} احتباك، والتقدير: فأنجيناهم ومن شئنا وننجي رسولنا نشاء منكم. وهو تأميل لهم أن يؤمنوا لأن من المكذبين يوم نزول هذه الآية من آمنوا فيما بعد إلى يوم فتح مكة. ومن وهذا من لطف الله بعباده في ترغيبهم في الإيمان. ولذلك لم يقل: (ونهلك المسرفين) بل عاد إلى صيغة المضي الذي هو حكاية لما حل بالأمم السالفة... والمسرفون: المفرطون في التكذيب بالإصرار والاستمرار عليه حتى حل بهم العذاب (3). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 34 إلى ص 35. (1) البحر المحيط 6/299. (2) نظم الدرر 12/392. (3) التحرير والتنوير 17/21.
  • ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿١٠﴾    [الأنبياء   آية:١٠]
{لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10)} الذكر: الشرف والصيت والثناء، والذكر: الكتاب الذي فيه تفصيل الدين ووضع الملل، والذكر: الموعظة، والتذكير: الوعظ (1). والمعنى: لقد أنزلنا إليكم كتابًا فيه شرفكم وصيتكم وفيه موعظتكم وهداكم. فجمع فيه الهدى والموعظة والصيت والشرف والثناء عليهم. أفلا تعقلون عظمة هذا الكتاب ونفعه لكم؟ وهل هناك عاقل يرفض ما فيه من خير كثير؟! وماذا يريد الإنسان أكثر من ذلك؟! وجاء بـ (لقد) الدالة على القسم ليؤكد هذا الأمر. جاء في (الكشاف): "(ذكركم) شرفكم وصيتكم، كما قال: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: ٤٤] أو موعظتكم، أو فيه مكارم الأخلاق التي كنتم تطلبون بها الثناء أو حسن الذكر، كحسن الجوار والوفاء بالعهد وصدق الحديث وأداء الأمانة والسخاء وما أشبه ذلك" (2). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 35 إلى ص 36. (1) انظر لسان العرب (ذكر)، تاج العروس (ذكر). (2) الكشاف 2/322 وانظر البحر المحيط 6/299، تفسير أبي السعود 3/689، روح المعاني 17/14 – 15.
  • ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ ﴿١١﴾    [الأنبياء   آية:١١]
{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (11)} القصم: أفظع الكسر وهو الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء ويفرقها بالكلية. والتعبير بالقصم يدل على غضب شديد. و(كم) خبرية وهي تدل على التكثير. ونسب الظلم إلى القرية والمقصود أهلها لإرادة الشمول والعموم. جاء في (الكشاف): {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ} وإرادة عن غضب شديد ومنادية على سخط عظيم لأن القصم أفظع الكسر، وهو الكسر الذي يبين تلاؤم الأجزاء، بخلاف الفصم. وأراد بالقرية أهلها، ولذلك وصفها بالظلم. وقال: {قَوْمًا آَخَرِينَ} لأن المعنى: أهلكنا قومًا وأنشأنا قومًا آخرين" (1). وجاء في (روح المعاني): " وفي لفظ القصم الذي هو عبارة عن الكسر بتفريق الأجزاء وإذهاب التئامها بالكلية، كما يشعر به الإتيان بالقاف الشديدة من الدلالة على قوة الغضب وشدة السخط ما لا يخفى" (2). قد تقول: لقد قال في موضع آخر من القرآن الكريم: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ} [الأنعام: 6]. فذكر القرية في الأنبياء، وذكر القرن في الأنعام. وذكر القصم في الأنبياء، وذكر الإهلاك في الأنعام. وقال في الأنبياء: {وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا} وقال في الأنعام: {وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ} فما دلالة ذلك في كل من الموطنين؟ فنقول: 1- القرن أهل زمن واحد، والجبل الواحد، وقيل: هو مائة سنة، وقيل: ثمانون، وقيل غير ذلك (3). أما القرية فمعروفة. والقرن إنما تكون فيه قرى كثيرة، فالقرن الواحد يشمل كثيرًا من القرى، فقد تكون عشرات القرى في زمن واحد. فالقرى أكثر عددًا من القرن. ثم إنه وصف القرن بأوصاف تخصصهم قد لا تكون في القرية، فقد قال فيه: {مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ}. وقد تكون القرية غير ممكنة في الأرض كما وصف. وذكر أنه أرسل السماء عليهم مدرارًا وجعل الأنهار تجري من تحتهم، وليست كل القرى كذلك. 2- قال في آية الأنبياء: {وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آَخَرِينَ} وقال في آية الأنعام: {وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ } فقال بعد إهلاك القرى إنه أنشأ قومًا آخرين، ذلك أن القرى تسكنها أقوام مناسب أن يقول بعد إهلاك القرى أنه أنشأ قومًا آخرين. وأما القرن فيليه قرن آخر فناسب ذكر القرن بعد إهلاك القرن قبله. 3- قال في آية الأنبياء: {وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا} وقال آية الأنعام: {وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ}. ذلك أنه بعد إهلاك القرى قد يتأخر الزمن لمجيء قوم بعدهم، فقد تبقى القرى خالية خاوية من دون أن يأتي بعد هلاكها قوم. أما القرن قيليه القرن الآخر بلا فاصل، فجاء بـ (من) التي تفيد الابتداء. 4- قوله: (قصمنا) في آية الأنبياء مناسب لقوله: {كَانَتْ ظَالِمَةً} ذلك أن الظلم يستدعي شدة العقوبة. وقوله: {أَهْلَكْنَا} مناسب لقوله: {بِذُنُوبِهِمْ} فإن الذنوب قد تكون كبيرة وقد تكون ذلك. فناسب ذكر القصم وهو أفظع الكسر والمنبئ عن السخط الشديد ذكر الظلم. وناسب ذكر الإهلاك الذي قد لا يبلغ مبلغ القصم قوله: {بِذُنُوبِهِمْ}. ثم إن القصم إهلاك خاص فناسب ذكر الظلم، وهو أخص من عموم الذنب. وإن الإهلاك عام فناسب ذكر الذنوب وهي عامة. فناسب كل تعبير موضعه. وقد تقول: لكنه سبحانه قد يذكر الظلم ولا يذكر القصم وإنما يذكر الإهلاك كما قال تعالى في سورة الحج: {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)}. فنقول: القصم كما ذكرنا ينبئ عن شدة العقوبة وشدة السخط، ولو نظرنا في سياق كل من الآيتين في الحج والأنبياء لا تضح الفرق. فإنه قال في آية الحج: {فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45)}. وقال في سياق آية الأنبياء: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)}. فذكر أنهم أترفوا وانهم نادوا بالويل وأقروا بالظلم {يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} وأنه سبحانه جعلهم حصيدًا خامدين. فالفرق ظاهر. فناسب كل تعبير موضعه. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 36 إلى ص 40. (1) الكشاف 2/322. (2) روح المعاني 17/15. (3) انظر لسان العرب (قرن)، تاج العروس (قرن)، المصباح المنير (قرن).
إظهار النتائج من 10731 إلى 10740 من إجمالي 12316 نتيجة.