{لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) }
جواب (لو) محذوف للتهويل والتعظيم ولتذهب النفس كل مذهب (1)، ولأن الكلمات لا تفي ببيان كيف تكون حالهم هناك.
و(حين) مفعول (يعلم) أي لو يعلمون ذلك الوقت، ولا يصح أن يكون ظرفًا، فإنه لا يصح أن يكون المعنى (لو يعلمون في ذلك الوقت) فإنهم في ذلك الوقت يكونون قد علموه وأذاقوه.
وقال: (لو يعلم) ولم يقل: (لو علم) لأن عدم العلم مستمر.
جاء في (روح المعاني): "وإيثار صيغة المضارع في الشرط وإن كان المعنى على المضي لإفادة استمرار عدم العلم (2)".
وذكر الاسم الموصول وهو (الذين كفروا) ولم يذكر ضميرهم كما كان في الآية السابقة وهو قوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ليبين علة استحقاق العذاب وهو الكفر وليدل على أن الذين استعجلوا هم الكفار.
جاء في (روح المعاني): "ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه بما في حيز الصلة على علة استعجالهم" (3).
وقوله: {وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} أي لا من آلهتهم التي كانوا يعظمونها ولا من غيرهم بل يتركون للعذاب.
وقدم الوجوه على النار في قوله: {لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ} وذلك لأنها أهم، فإنهم هم المعذبون والكلام عليهم والوجوه وجوههم، فإنه ليس المهم كف النار ولكن المهم أن يكون الكف عن وجوههم هم.
قدم الوجوه على الظهور؛ لأن الوجه أكرم والعذاب عليها أشد، قال تعالى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [الزمر: 24].
جاء في (الكشاف): "جواب (لو) محذوف، و(حين) مفعول به لـ (يعلم)، أي لو يعلمون الوقت الذي يستعلمون عنه بقولهم: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} وهو وقت صعب شديد تحيط بهم فيه النار من وراء وقدام فلا يقدرون على دفعها ومنعها من أنفسهم، ولا يجدون ناصرًا ينصرهم لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال، ولكن جهلهم به هو الذي هونه عندهم.
ويجوز أن يكون (يعلم) متروكًا بلا تعدية، بمعنى: لو كان معهم علم ولم يكونوا جاهلين لما كانوا مستعجلين. و(حين) منصوب بمضمر، أي حين لا يكفون عن وجوههم النار يعلمون أنهم كانوا على الباطل (4).
قد تقول: لقد قال في هذه الآية إنهم لا يكفون النار عن وجوههم ولا عن ظهورهم، فذكر الوجوه والظهور.
وقال في العنكبوت: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)}.
فذكر أنهم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم، فما اللمسة البيانية في ذكر ما ذكر في كل موضع؟
فنقول: إنه قال في الأنبياء: {وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ}
فقال: { وَإِذَا رَآَكَ الَّذِينَ كَفَرُوا}
والرؤية إنما تكون إذا استقبلوا المرئي بوجوههم فإن الرؤية إنما تكون بالعين، والعين إنما هي في الوجه.
وقوله: {أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آَلِهَتَكُمْ} إنما تكون عند استقبالهم له بأوجههم أو عند إدباره عنهم.
والإدبار إنما هو تولية الظهر فقال: {لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ}، وذلك يشمل الإقبال والإدبار.
في حين قال في العنكبوت: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)}
فقال: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}، والإحاطة عامة تشمل الأمام والخلف والجوانب.
ثم ذكر أن العذاب يغشاهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، أي يغطيهم، والغشاء: الغطاء، فلم يترك جهة من الجهات إلا شملها العذاب.
فالعذاب في العنكبوت دخل فيه ما ذكر في الأنبياء وزيادة. فإنه لما قال: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} دخل في ذلك والإمام والجوانب – كما ذكرنا – ثم ذكر أنه يغطي الفوق والأسفل فكانت الإحاطة بالعذاب شاملة، وهي أشمل وأعم مما ذكر في الأنبياء.
وهذا مناسب لاستعجالهم بالعذاب ووصفهم بالكفر على جهة الثبوت، فقد ذكر استعجالهم بالعذاب مرتين فقال: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ} ثم قال: {يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}
ولم يذكر في الأنبياء الاستعجال بالعذاب، وإنما قال: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ولم يذكر أنه وعد بالعذاب، وإنما قال: {سَأُرِيكُمْ آَيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ}
ثم ذكر وصفهم بالكفر على جهة الثبوت فقال: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} فذكر وصفهم بالكفر على جهة الثبوت فجاء بالصيغة الاسمية في قوله: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ}. في حين ذكر اتصافهم به في الأنبياء بالصيغة الفعلية فقال: {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا}، والفعل يدل على الحدوث كما هو معلوم، فكان العذاب في العنكبوت أعم من عدة جهات.
فقد ذكر الوجوه والظهور في الأنبياء.
في حين ذكر الإحاطة في العنكبوت، والإحاطة أعم من الوجوه والظهور، فإن الوجه جزء من الأمام، والظهر جزء من الخلف، في حين أن الإحاطة تشمل الأمام كله، والخلف كله، وتشمل الجانبين.
وذكر الفوق فقال: (من فوقهم) ولم يقل: (فوقهم) ليدل على أن العذاب يغشاهم أي يغطيهم من فوقهم من دون فاصل، وكذلك قوله: (من تحت أرجلهم).
ثم قال: {وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} والذوق يكون بالملامسة. فكان العذاب في العنكبوت أعم وأشد.
وكل مناسب لموضعه الذي ورد فيه.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 97 إلى ص 101.
(1) انظر التحرير والتنوير 17/70، البحر المحيط 6/313.
(2) روح المعاني 17/49.
(3) روح المعاني 17/49.
(4) الكشاف 2/329.
{بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)}
أي: بل تأتيهم النار أو الساعة فجأة فتحيرهم وتغلبهم فلا يستطيعون ردها. لقد قال: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} ولم يقل: (فلا يردونها) لئلا يفهم أنهم قد يكون باستطاعتهم ذلك ولكنهم لا يفعلون، وإنما قال: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} فنفى الاستطاعة.
{وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} أي لا يهملون فيستريحوا.
وجاء بالحال مصدرًا فقال: (بغتة) أي مباغتة لهم للمبالغة.
وجاء بالفاء فقال: (فتبهتهم) للدلالة على السبب والتعقيب من دون مهلة، ولم يقل: (وتبهتهم).
ثم قال: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} فجاء بالفاء الدالة على السبب والتعقيب.
وقال: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} ولم يقل: (فلا يردونها) لما ذكرت.
وقال: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا} ولم يقل: (فلا يستطيعون أن يردوها) أي في المستقبل؛ لأن (أن) تصرف المضارع إلى الاستقبال، وإنما جاء بالاسم للدلالة على أنهم لا يستطيعون ردها على كل حال وفي جميع الأزمنة.
ثم قال: {وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} فلا يمهلون، وهو مناسب للمجيء بالفاء الدالة على التعقيب من دون مهلة.
جاء في (الكشاف): "يقال للمغلوب في المحاجة: مبهوت، ومنه {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258] (1).
وجاء في (البحر المحيط): "{بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً} أي تفاجؤوهم....
والظاهر أن الضمير في (تأتيهم) عائد على النار، وقيل: على الساعة التي تصيرهم إلى العذاب، وقيل: على العقوبة" (2).
وجاء في (تفسير أبي السعود): "(فتبهتهم) أي تغلبهم أو تحيرهم....
{وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} أي يمهلون ليستريحوا طرفة عين، وفيه تذكير لإمهالهم في الدنيا" (3).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 101 إلى ص 102.
(1) الكشاف 2/329.
(2) البحر المحيط 6/314.
(3) تفسير أبي السعود 3/703.
{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41)}
قيل في الفرق بيم الاستهزاء والسخرية: "إن الإنسان يستهزأ به من غير أن يسبق منه فعل يسبق من المسخور منه" (1).
والملاحظ في التعبير القرآني أن الاستهزاء يستعمله فيما هو أعم من السخرية. فإن السخرية لم يستعملها القرآن إلا مع الأشخاص.
قال تعالى: {وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ} [هود: 38].
وقال: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة: 79].
وقال: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38].
وقال: {لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ} [الحجرات: 11].
وقال: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا} [البقرة: 212].
أما الاستهزاء فهو عام يكون من الأشخاص وغيرهم.
قال تعالى: {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا} [المائدة: 58].
وقال: {أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ} [التوبة: 65].
وقال: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ} [الروم: 10]
وقال: {إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ} [النساء: 140]
وقال: {وَاتَّخَذُوا آَيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا} [الكهف: 56].
وقال: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا} [الفرقان: 41].
لقد ذكر في آية الأنبياء هذه الاستهزاء والسخرية فقال: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} ثم قال: {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ}
والذي يبدو أن معنى الآية أن الكفار استهزأوا بهم وبما جاؤوا به وسخروا منهم ومن عملهم، فجمع بين الاستهزاء والسخرية فحاق بالذين سخروا من الرسل ما كانوا يستهزئون به ومما كانوا يذكرونهم به من الآيات والعذاب وما جاءت به رسلهم.
وهو عدة للرسول وإنذار للمستهزئين أن يصيبهم مثل ما أصاب الأولين. جاء في (تفسير أبي السعود): "تسلية لرسول الله عن استهزائهم به عليه السلام في ضمن الاستعجال وعدة ضمنية بأنه يصيبهم مثل ما أصاب المستهزئين بالرسل السالفة عليهم الصلاة والسلام" (2).
وجاء في (روح المعاني): "وقيل: إن المراد من الذي كانوا يستهزئون هو العذاب الذي كان الرسل يخوفونهم إياه" (3).
وقدم الجار والمجرور (بالذين سخروا) على فاعل (حاق) وهو {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} لأن المعنى يقتضي - ذاك، فلا يصح أن يقال: (لقد استهزئ برسل من قبلك فحاق ما كانوا به يستهزئون بالذين سخروا منهم) أو هو ضعيف، لأن الضمير في (كانوا) عند ذاك لا يعود على مذكور متقدم؛ لأنه لم يتقدم ذكر للمستهزئين، فإن الفعل مبني للمجهول، بخلاف قوله: {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}، فإن الضمير في (كانوا) يعود على المتقدم وهو (الذين سخروا منهم).
وجاء في (تفسير أبي السعود): "وتقديمه على فاعله الذي هو قوله تعالى: (ما كانوا به) للمسارعة إلى بيان لحوق الشر بهم" (4).
وبنى الفعل (استهزئ) للمجهول لأنه لا يتعلق غرض بذكر الفاعل، فإن العقوبة تتعلق بالاستهزاء أيا كان فاعله. إذ لو ذكر الفاعل لربما أفهم أن العقوبة إنما حصلت لأن الفاعل هم هؤلاء المذكورون، ولو كان غيرهم لم تكن العقوبة كذلك أو أنهم لم يعاقبوا.
جاء في (نظم الدرر): "ولما كان المخوف نفس الاستهزاء لا كونه من معين بني للمفعول قوله: {اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ} أي كثيرين" (5).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 102 إلى ص 105.
(1) الفروق اللغوية 268.
(2) تفسير أبي السعود 3/703.
(3) روح المعاني 7/102.
(4) تفسير أبي السعود 3/703 – 704.
(5) نظم الدرر 12/423.
{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) }
بعد أن ذكر استهزاءهم واستبعادهم لما وعدهم به رسوله أمر سبحانه رسوله أن يسألهم مقرعًا لهم: من الذي يحميهم ويحفظهم من بأس الله وعذابه الذي يستحقونه على وجه الدوام في الليل والنهار، فهم مستحقون لذلك لولا رحمته بهم. وقد ألمح باسمه (الرحمن) أنه حفظهم من ذلك برحمته وهو سينزله بهم إذا اقتضت حكمته ذلك.
وقدم الليل على النهار لأن الداهية به أعظم وأشد وقعا فإنهم عند ذاك غافلون ولأنهم غير متوقعين ولا منتظرين لشيء من ذلك بل تفاجؤوهم.
ونحو ذلك قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأعراف: ۹۷ – ۹۸] فقدم البيات وهو الليل على النهار.
ونحوه قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: ٥٠].
وقوله: {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ } [يونس: ٢٤].
وفي ذلك تخويف أعظم وأشد.
جاء في (البحر المحيط): "ثم أمره تعالى أن يسألهم من الذي يحفظكم في أوقاتكم من بأس الله، أي لا أحد يحفظكم منه. وهو استفهام تقريع وتوبيخ" (1).
وجاء في (تفسير أبي السعود): "أي من بأسه الذي تستحقون نزوله ليلاً أو نهارًا.
وتقديم الليل لما أن الدواهي أكثر فيه وقوعًا وأشد وقعًا.
وفي التعرض لعنوان الرحمانية إيذان بأن كالئهم ليس إلا رحمته العامة" (2).
وجاء في (نظم الدرر): "ولما كان لا منعم بكلاية ولا غيرها سواه سبحانه ذكرهم بذلك بصفة الرحمة فقال: (من الرحمن) الذي لا نعمة بحراسة ولا غيرها إلا منه حتى أمنتم مكره ولو بقطع إحسانه" (3).
{بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ}
فهم معرضون عن ذكر ربهم الذي أنعم عليهم وأحسن إليهم. وأضاف الضمير إليهم ليذكرهم بربوبيته لهم وإحسانه وتفضله عليهم.
وقال: (معرضون) بالاسم للدلالة على دوام الإعراض عن ذكره سبحانه.
جاء في (تفسير أبي السعود): "وإيراد اسم الرب المضاف إلى ضميرهم المنبئ عن كونهم تحت ملكوته وتدبيره وتربيته تعالى من الدلالة على كونهم في الغاية القاصية من الضلالة والغي ما لا يخفى" (4).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 105 إلى ص 106.
(1) البحر المحيط 6/314.
(2) تفسير أبي السعود 3/704.
(3) نظم الدرر 12/424.
(4) تفسير أبي السعود 3/705.
{أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)}
هذا التعبير يحتمل معنيين كلاهما مراد:
الأول: بل ألهم آلهة تمنعهم من أن ينالهم مكروه يقع عليهم من جهتنا؟
والآخر: ألهم آلهة غيرنا تمنعهم وتحفظهم؟
ثم استأنف فذكر أن هذه الآلهة لا تستطيع أن تنصر نفسها، وأنهم لا يصحبون منا بنصر ولا تأييد فكيف ينصرونهم، فهم أعجز من ذلك؛ فليس لهم القدرة في أنفسهم ونحن لا نعينهم فهم ليست لهم قيمة ولا مكانة.
جاء في (الكشاف): "ثم أضرب عن ذلك بما في (أم) من معنى (بل) وقال: {أَمْ لَهُمْ آَلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ } من العذاب تتجاوز منعنا وحفظنا.
ثم استأنف فبين أن ما ليس بقادر على نصر نفسه ومنعها ولا بمصحوب من الله بالنصر والتأييد كيف يمنع غيره وينصره؟" (1).
وجاء في (البحر المحيط): "قيل: والمعنى ألهم آلهة تجعلهم في منعة وعز من أن ينالهم مكروه من جهتنا...
[وقيل] أم لهم مانع من سوانا" (2).
وجاء في (روح المعاني): "وقوله تعالى: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} أي لا يستطيعون أن ينصروا أنفسهم ويدفعوا عنها ما ينزل بها ولا هم منا يصحبون بنصر أو بمن يدفع عنهم، من جهتنا. فهم في غاية العجز وغير معتنى بهم فكيف يتوهم فيهم ما يتوهم؟" (3).
وقال: {وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ}فقدم (هم) أي ليسوا هم يصحبون منا وإنما غيرهم هم الذين نعينهم ونكون معهم وننصرهم وهم المؤمنون بي وبرسولي كما قال سبحانه: {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 19] {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة: 36].
وقال سبحانه: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
وقدم (منا) على (يصحبون) أي لا يصحبون منا وإنما يصحبون من الذين يعبدونهم، فهم الذين ينصرونهم ويدفعون عنهم كما غيرنا وهم قال تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} [يس: ٧٤ - ٧٥].
وكما قال في قوم إبراهيم: {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آَلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 68].
فهؤلاء عاجزون لا أحد يمنعهم من الله.
فهم عاجزون والهتهم أعجز فما أضلهم وأخسرهم !!
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 107 إلى ص 108.
(1) الكشاف 2/329.
(2) البحر المحيط 6/314.
(3) روح المعاني 17/52.
{بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآَبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44)}
أي نحن حفظناهم ومتعناهم هم وآباءهم وليست آلهتهم ولا أحد غيرنا فلا يغتروا بذلك ويظنوا أنهم سيبقون على حالتهم من التمتيع والطمأنينة. أفلا يرون أنا نأتي على دار الكفر وننقصها شيئًا فشيئًا ونمكن منهم المسلمين فيفتحون ديارهم؟
جاء في (الكشاف): "ثم قال: بل ما هم فيه من الحفظ والكلاءة إنما هو منا، لا من مانع يمنعهم من إهلاكنا. وما كلأناهم وآباءهم الماضين إلا تمتيعا لهم بالحياة الدنيا وإمهالاً كما متعنا غيرهم من الكفار وأمهلناهم طال عليهم الأمد وامتدت بهم أيام الروح والطمأنينة فحسبوا أن لا يزالوا على ذلك لا يغلبون ولا ينزع عنهم ثوب أمنهم واستمتاعهم وذلك طمع فارغ...
{أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا} ننقص أرض الكفر ودار الحرب ونحذف أطرافها بتسليط المسلمين عليها وإظهارهم على أهلها وردها دار إسلام... وإن عساكرهم وسراياهم كانت تغزو أرض المشركين وتأتيها غالبة عليها ناقصة من أطرافها" (1).
وقال: {بَلْ مَتَّعْنَا} و{أَنَّا نَأْتِي} و{نَنْقُصُهَا} بإسناد ذلك إلى ضميره سبحانه ليدل على أن ذلك كله بإرادته وحوله وقوته وليس بما جرت عليه الأحوال، وإنما هو بتسليطنا جيوش المسلمين عليهم. وكان الأصل أن يقال: (يأتي جيوش المسلمين فيغلبونهم) ولكنه أسند الإتيان إليه سبحانه لأن ذلك بنصره وتأييده.
جاء في (روح المعاني): "وكان الأصل: يأتي جيوش المسلمين، لكنه أسند الإتيان إليه عز وجل تعظيمًا لهم [أي تعظيمًا لجيوش المسلمين] وإشارة إلى أنه بقدرته تعالى ورضاه. وفيه تعظيم للجهاد والمجاهدين" (2).
قد تقول: لقد قال في الرعد: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا} [الرعد: 41].
فقال: (أولم) بإدخال (لم) على الفعل.
ومن المعلوم أن (لم) تقلب زمن المضارع إلى المضي.
في حين قال في آية الأنبياء: {أَفَلَا يَرَوْنَ} بإدخال (لا) على الفعل المضارع.
و(لا) الداخلة على المضارع تصرفه إلى الاستقبال غالبًا وقد تكون للحال.
فكان السؤال عن الرؤية في الرعد في الماضي.
وأما في الأنبياء فالسؤال عن الرؤية في الحال والاستقبال، فلم ذاك؟
والجواب أنه قال بعد آية الرعد: {وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا}.
وهذا إخبار عن ماض، فذكر ما فعله ربنا بهم، فناسب إدخال (لم) التي تفيض المضي.
في حين قال في الأنبياء: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} وهذا إنذار وتخويف مما يقع لهم في المستقبل.
وقال: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)}.
وهذا تحذير لهم مما يقع في المستقبل، فناسب إدخال (لا) وذلك تذكير لهم في الحال والاستقبال. والله أعلم.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 108 إلى ص 110.
(1) الكشاف 2/329.
(2) روح المعاني 17/53.
{قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) }
شبه المخاطبين بالإنذار المدعوين إلى الإسلام بالصم. فهو بدل أن يقول: (وهؤلاء لا يسمعون الإنذار ولا يلتفتون إليه) قال: {وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ} فهم أشبه بالصم فلا ينفع معهم إنذار.
وذكر نفي السمع لأن الإنذار مما يسمع. جاء في (الكشاف): "فإن قلت: الصم لا يسمعون دعاء المبشر كما لا يسمعون دعاء المنذر فكيف قيل: {إِذَا مَا يُنْذَرُونَ}؟
قلت: اللام في (الصم) إشارة إلى هؤلاء المنذرين كائنة للعهد لا للجنس.
والأصل: ولا يسمعون إذا ما ينذرون. فوضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على تصامّهم وسدّهم أسماعهم إذا أنذروا. أي هم على هذه الصفة من الجراءة والجسارة على التصام من آيات الإنذار" (1).
وجاء في (البحر المحيط): "ولما كان الوحي من المسموعات كان ذكر الصمم مناسبًا.
والصم هم المنذرون، فـ (أل) فيه للعهد" (2).
وقال: {وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ}، ولم يقل: (ولا يسمع الكلام) لأن الدعاء يكون عادة برفع الصوت. فإن هؤلاء حتى لو رفع الصوت لا يسمعونه للدلالة على شدة تصامّهم.
جاء في (تفسير أبي السعود): "كما أن إيثار الدعاء الذي هو عبارة عن الصوت والنداء على الكلام لذلك فإن الإنذار عادة يكون بأصوات عالية مكررة مقارنة لهيئات دالة عليه" (3).
وقال: (إذا ما ينذرون) بالفعل المضارع، ولم يقل: (إذا ما أنذروا) أي ولو تكرر دعاؤهم وإنذارهم.
جاء بـ (ما) الزائدة المؤكدة للدلالة على أنهم لا يسمعون ولو بولغ في إنذارهم ورفع الصوت بذلك وتكرر.
ففي التعبير أكثر من دلالة على شدة تصامهم، منها:
أنه وصفهم بالصمم.
وأنه ذكر الدعاء وهو رفع الصوت.
وجاء بـ (إذا) الدالة على تحقق الإنذار ولم يأت بـ (إن).
وجاء بـ (ما) الزائدة المؤكدة.
وجاء بالفعل المضارع الدال على تكرر الإنذار.
قد تقول: لقد قال في النمل: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)}.
ونحوه قال في الروم ٥٢.
فختم الآيتين بقوله: {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ}، في حين ختم آية الأنبياء بقوله: {إِذَا مَا يُنْذَرُونَ}.
فلم الاختلاف بين الخاتمتين؟
فنقول: أما خاتمة آية الأنبياء فظاهرة المناسبة لأول الآية وهو قوله: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} فكلاهما في الإنذار. وأما آيتا النمل والروم فقد قال في أولهما: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}، والموت إدبار عن الحياة، فناسب ذكر الإدبار في قوله: {إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ} قوله: {إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى}.
فكلاهما مدبر، أحدهما مدبر عن الحياة، والآخر مدبر عن السماع فهم بمنزلة الأموات.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 111 إلى ص 113.
(1) الكشاف 2/329.
(2) البحر المحيط 6/315.
(3) تفسير أبي السعود 3/706.
{وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46)}
أي ولئن أصابهم أدنى شيء مما أنذروا به في قوله: {قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} لنادوا بالويل وأقروا بالظلم.
وفي التعبير عدة مبالغات، منها:
التعبير بالمس في قوله: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ}، والمس دون النفوذ، أي ولئن أصابهم أدنى شيء.
والتعبير بالنفح وما فيه من لفظ القلة والنزارة، فإن أصل النفح هبوب رائحة الشيء أو العطاء اليسير.
وبناء المرة في قوله: (نفحة) أي نفحة واحدة يسيرة من رائحة العذاب لنادوا بالويل وقالوا: (يا ويلنا).
وإقرارهم بالظلم واتصافهم به على جهة الثبوت.
وأكد ذلك بالقسم في قوله: (ولئن)، والجواب في: (ليقولن) وتوكيده بالنون الثقيلة، والتوكيد بـ (إن) في قوله: (إنا كنا)، والإقرار بالظلم على جهة الثبوت بالصيغة الاسمية. وأضاف العذاب إلى الرب مضافًا إلى كاف المخاطب لأنه هو الذي أنذرهم بالوحي من ربه.
جاء في (الكشاف) "{وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ}من هذا الذي ينذرون به أدنى شيء لأذعنوا وذلوا وأقروا بأنهم ظلموا أنفسهم حين تصاموا وأعرضوا.
وفي المس والنفحة ثلاث مبالغات، لأن النفح في معنى القلة والنزارة... نفحه بعطية: رضخه، ولبناء المرة" (1).
وجاء في (روح المعاني): "ذكر المس وهو دون النفوذ ويكفي في تحققه إيصال ما.
وما في النفح من معنى النزارة فإن أصله هبوب رائحة الشيء... نفحه بعطية: رضخه وأعطاه يسيراً.
وبناء المرة وهي لأقل ما ينطلق عليه الاسم.
وجعل السكاكي التنكير رابعتها لما يفيده من التحقير" (2).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 113 إلى ص 114.
(1) الكشاف 2/329 – 330، وانظر البحر المحيط 6/316.
(2) روح المعاني 17/54.
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)}
لما ذكر إقرار المنذرين بالظلم على وجه الثبوت في الآية السابقة بقولهم: {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} ذكر ربنا أنه عنده لا تظلم نفس شيئًا مهمًا قل، وأن أعمال العباد إنما توزن بميزان هو العدل بعينه فقال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} فوصف الموازين بالمصدر وهو القسط، أي هي العدل بعينه. ومن المعلوم أن الوصف بالمصدر يفيد المبالغة في الاتصاف بالشيء.
وجيء بالموازين على صيغة الجمع إما لكثرة من توزن أعمالهم أو لتعدد الموزونات وتنوعها (1).
وقوله: (ليوم القيامة) قيل: أي في يوم القيامة، أو عند يوم القيامة، ويحتمل أن يكون للتعليل، أي لأجل يوم القيامة (2).
وكل ذلك محتمل.
{فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا}
نكر النفس لتشمل جميع النفوس.
و(شيئًا) يحتمل أن يكون معناه شيئًا من الأشياء فيكون مفعولاً به، كما يحتمل أن يكون: شيئا من الظلم فيكون مفعولاً مطلقا لدلالته على المصدر.
وكلا المعنيين مراد.
فهي لا تظلم شيئا من الأشياء ولا شيئا من الظلم. وهو من التوسع في المعنى. ولو قال: (شيئا من الظلم) لتخصص المعنى بشيء واحد، ولكنه أطلق.
جاء في (الكشاف): "وصفت الموازين بالقسط، وهو العدل، مبالغة، كأنها في أنفسها قسط، أو على حذف المضاف، أي ذوات القسط.
واللام في: (ليوم القيامة) مثلها في قولك: (جئته لخمس خلون من الشهر)...
وقيل: لأهل يوم القيامة، أي لأجلهم" (3).
وجاء في (تفسير أبي السعود): "(فلا تظلم نفس) من النفوس (شيئًا) حقًا من حقوقها أو شيئًا من الظلم... والفاء لترتيب انتفاء الظلم على وضع الموازين" (4).
{وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا}
أي وإن كان الشيء أو العمل مقدار حبة من خردل أتينا به.
"ومثقال الشيء ميزانه في مثله. ومثقال ذرة أي وزن ذرة" (5)، ومثقال حبة أي وزن حبة.
وأنث ضمير المثقال في قوله: (أتينا بها) لأنه أضيف إلى مؤنث وهو الحبة كقولهم: (ذهبت بعض أصابعه) (6)، وقوله: (كما شرقت صدر القناة من الدم)، وقوله: (تواضعت سور المدينة) في قول الشاعر:
لمـا أتـى خبـر الـزبـيـر تـواضـعـت
سـور المـدينـة والجبـال الخشـع
والعدول من التذكير إلى التأنيث في قوله: {أَتَيْنَا بِهَا } على كثرته في اللغة في نحو هذا فيه معنى لطيف.
ذلك أنه قال: {فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} والشيء - كما ذكرنا - يحتمل أن يكون معناه العمل أو الظلم أو شيئًا من الأشياء. وهذا الشيء قد يكون حبة من خردل أو مقدار الحبة فأعاد الضمير بالتأنيث ليشمل المعنيين: المصدر وحبة الخردل ومقدار ذلك.
وهذا من لطيف الدلالة.
{وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}
"فيه توعد وهو إشارة إلى ضبط أعمالهم من الحساب، وهو العد والإحصاء...
والظاهر أن (حاسبين) تمييز... ويجوز أن يكون حالاً" (7).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 114 إلى ص 117.
(1) انظر التفسير الكبير للرازي، المجلد 8/149، نظم الدرر 12/428.
(2) انظر مغني اللبيب (اللام) 1/216، الكشاف 2/330، البحر المحيط 6/316.
(3) الكشاف 2/330 وانظر البحر المحيط 6/316.
(4) تفسير أبي السعود 3/707.
(5) لسان العرب (ثقل)، المصباح المنير (ثقل)، تاج العروس (ثقل).
(6) انظر الكشاف 2/330.
(7) البحر المحيط 6/317.
{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)}
{وَلَقَدْ آَتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48)}
لما ذكر الإنذار بالوحي قبل هذه الآية في قوله: {} والوحي هو القرآن ناسب ذكر ما آتى موسى وهارون وهو ما ذكره في الآية.
وقد بدأ بقصة موسى وهارون وذكر ما آتاهما من الفرقان والذكر مناسبة لما ذكره بعد الآية مما أنزله ربنا على رسوله من الذكر، ولم يذكر أنه أنزل على المذكورين من الأنبياء في السورة كتابًا أو ذكرًا، فناسب البدء بذكر موسى مناسبة للسياق الذي ورد فيه ذكرهما.
وجاء في (التحرير والتنوير) أنه: "ابتدئ بذكر موسى وأخيه مع قومهما لأن أخبار ذلك مسطورة في كتاب موجود عند أهله يعرفهم وأخيه العرب" (1).
إن التعبير في الآية يحتمل أكثر من دلالة:
فالفرقان يحتمل أن يكون التوراة، ويحتمل أن يكون الآيات الدالة على صدقه من المعجزات.
والضياء يحتمل أن يكون المقصود به التوراة أيضًا، فإنها ضياء. وهي ذكر للمتقين وموعظة. وقيل: هي شرف لهم لأن من معاني الذكر الشرف.
وهو قد يفرق بين الكتاب والفرقان بالعطف وذلك نحو قوله سبحانه: {وَإِذْ آَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة: 53].
وقد يجعل النور حالاً للكتاب، قال سبحانه: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} [الأنعام: 91].
وذكر ههنا أنها ضياء، ولم يذكر ذلك في موضع آخر، وإنما يذكر أنها نور كما في آية الأنعام السابقة، أو فيها نور كما في قوله: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: ٤٤].
ذلك "أن النور أعم من الضياء، والضياء حالة من حالات النور، وهو أخص منه...
وقد ذكر في آية الأنبياء أنه: {لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49)}، وهم أخص ممن ذكر في الآيتين الأخريين. فقد قال في آية المائدة: {يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} أي لليهود، والمتقون أخص من اليهود وهم جزء منهم.
وقال في آية الأنعام: {الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ} فجعله للناس. وهم أعم من المتقين المذكورين في آية الأنبياء. والمتقون جزء منهم.
فجعل النور الذي هو أعم من الضياء للذين هم أعم، وهم اليهود والناس. وجعل الضياء هو أخص للذين هم أخص، وهم المتقون الذين يخشون ربهم وهم من الساعة مشفقون.
فناسب العموم العموم، والخصوص الخصوص.
ومن ناحية أخرى أن الضياء إنما هو الساطع من النور أو هو التام منه (2). وإن المتقين إنما هم جماعة ساطعة من بين عموم المؤمنين أو الناس وحالهم أتم وأكمل.
فناسب بين سطوع المتقين وسطوع النور وهو الضياء.
فالمتقون من بين عموم المؤمنين كالضياء من النور" (3).
جاء في (الكشاف): "أي آتيناهما الفرقان وهو التوراة وآتينا به ضياء وذكرًا للمتقين.
والمعنى: أنه في ضياء وذكر. أو آتيناهما بما فيه من الشرائع والمواعظ ضياء وذكرًا... والذكر: الموعظة، أو ذكر ما يحتاجون إليه في دينهم ومصالحهم، أو الشرف" (4).
وجاء في (البحر المحيط): "وقالت فرقة: الفرقان ما رزقه الله من نصره وظهور حجته وغير ذلك مما فرق بين أمره وأمر فرعون.
والضياء: التوراة، والذكر: التذكرة والموعظة...
والعطف بالواو يؤذن بالتغاير" (5).
وجاء في (روح المعاني): "والمراد بالفرقان التوراة، وكذا بالضياء والذكر. والعطف كما قوله:
إلى الملـك القـرم وابـن الهـمـام
وليـث الكتيبـة فـي المزدحم
ونقل الطيبي أنه أدخل الواو على (ضياء) وإن كان صفة في المعنى دون اللفظ كما يدخل على الصفة التي هي صفة لفظاً...
وقال سيبويه إذا قلت: (مررت بزيد وصاحبك) جاز، وإذا قلت: (مررت بزيد فصاحبك) بالفاء لم يجز" (6).
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الرابع من ص 117 إلى ص 120.
(1) التحرير والتنوير 17/88.
(2) انظر تفسير الرازي 6/209.
(3) أسئلة بيانية في القرآن الكريم 1/200 – 201.
(4) الكشاف 2/330.
(5) البحر المحيط 6/317.
(6) روح المعاني 17/57.