سؤال : يقول ربنا في مواضع : { ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } فيصفه بالعظمة . وفي موضع يقول : { ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ } فيصفه بالكبر . وفي موضع آخر يقول : { وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ } فيصفه بأنه ظاهر واضح . فما الفرق ؟
الجواب : أعلي الأوصاف للفوز ما كان بالعظمة , ويليه الوصف بالكبر , ويليه الوصف بأنه مبين .
وإيضاح ذلك أنه يصف الفوز بأنه مبين في صرف العذاب , أو الادخال في رحمته , ولم يذكر إدخالهم الجنة , وذلك في موضعين من القرآن الكريم , قال تعالي : { قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [15] مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ } [ الانعام : 15 – 16 ] .
وقال : { فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ } [ الجاثية : 30 ] .
ولا شك أن إدخال الجنة أعلي من مجرد صرف العذاب أو ذكر الرحمة علي العموم , وإن كان المقصود بها الجنة .
واما وصف الفوز بأنه كبير فذلك في موطن واحد وهو قوله : { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ } [ البروج : 11 ] فذكر أن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار .
واما الوصف بأنه عظيم , فإنه يزيد علي ذلك في الجزاء إما بذكر الخلود , أو إدخال الجنة , مع ذكر المساكن الطيبة , ونحو ذلك .
قال تعالي : { قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ المائدة : 119 ] .
فقد زاد علي آية البروج أنهم خالدون أبدا , وأنه رضي الله عنهم ورضوا عنه . ولا شك أن هذا أعلي مما ذكر في آية البروج .
وقال : { وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ التوبة : 72 ] .
وقال : { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدتَّهُم وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [8] وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } [ غافر : 8 – 9 ] .
فقد ذكر إدخال الجنة مع الآباء والأزواج والذريات ووقاية السيئات . فوصفه بالعظمة .
فالوصف بالعظمة أعلاهن , ثم الوصف بالكبر , ثم بأنه مبين .
(أسئلة بيانية في القرآن الكريم
الجزء الثاني
ص : 123)
سؤال : يقول ربنا في آيات : { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ } بذكر الواو بعد همزة الاستفهام . ويقول في آيات أخري : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ } بذكر الفاء بعد الهمزة , فما الفرق بينهما ؟
الجواب : الواو تفيد مطلق الجمع .
اما الفاء فهي تفيد السبب , فإذا كان ما قبلها سببا يدعو لما بعدها , وكان ما بعدها مبنيا علي ما قبلها عطف بالفاء , وإلا عطف بالواو .
وإيضاح ذلك ما ورد في قوله سبحانه : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ } [ يوسف : 109 ] , فقد قال قبلها : { أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ [107] .... وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ... } [ يوسف : 107 – 109 ] فإن ذلك مدعاة إلي التأمل والتدبر والنظر .
فقد جاءت من قبلهم غاشية من عذاب الله , بل غواش كثيرة , أفأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذابه , أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم , ممن جاءتهم الغاشيات !!
ألا يكون ذلك سببا كافيا للاتعاظ ؟ فإنه لا يرد بأسه عن القوم المجرمين , أفلم يسيروا في الأرض فينظروا ؟! فالسياق يستدعي المجئ بالفاء .
ونحو ذلك قوله تعالي في سورة الحج : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } [ الحج : 46 ] فإنه جاء بالفاء ؛ لأنه مبني علي ما قبله , واستدلال به , فقد قال قبل هذه الآية : { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ [42] وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ [43] وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ [44] فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ [45]} [ الحج : 42 – 45 ] . ثم قال بعد ذلك : { أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا ... } [ الحج : 46 ] فما قبلها سبب يدعو للسير والنظر والاتعاظ .
في حين قال في سورة الروم : { أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } [ الروم : 9 ] .
فقد جاء بالواو ذلك أن قبلها : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ بِلِقَاء رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ } [ الروم : 8 ] , فالواو كما تري هنا لمطلق , وليس ما قبلها سببا لما بعدها كما مر فيما سبق .
ونحو ذلك قال تعالي في سورة غافر : { يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ [19] وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [20] أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ اللَّهِ مِن وَاقٍ [21]} [ غافر : 19 – 21 ] .
فجاء بالواو لمطلق الجمع , وليس ما قبل الآية سببا لما في الآية . فناسب كل تعبير موضعه الذي ورد فيه .
(أسئلة بيانية في القرآن الكريم
الجزء الثاني
ص : 124)
سؤال : قال الله سبحانه في سورة الصافات في قسم من الانبياء أنه ترك عليهم في الآخرين سلاما . فقد قال في نوح : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ [ 78] سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ [79] إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [80]} [ الصافات : 78 – 80 ] .
وكذلك قال في ابراهيم وموسي وهارون وإلياس , ولم يقل مثل ذلك في لوط ويونس . فماذا ؟
الجواب : أما يونس – عليه السلام – فإنه ذكر عنه عدم الأولي من فعله , فقد قال عنه : إنه أبق إلي الفلك المشحون , فالتقمه الحوت وهو مليم ؛ أي أتي بما يلام عليه . قال فيه : { فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاء وَهُوَ سَقِيمٌ } [ الصافات : 140 – 145 ] .
فلا يناسب أن يقول : ( وتركنا عليه في الآخرين . سلام علي يونس ) ؛ لأنه ذكر المؤاخذات عليه .
وأما لوط فإن قومه كانوا يفعلون فاحشة لم يسبقهم بها أحد من العاليمن ؛ وهي فاحشة يستحي من ذكرها , فلا تكاد تذكر ؛ لأن الناس يخجلون من ذكرها فلا يذكر لوط بذكرها .
ثم إن لوطا لم يؤمن به أحد من قومه غير أهل بيته , فلم ينج من قومه أحد فيذكروه بعد ذلك , وعلي ما نعلم أنه لم ينج معه إلا ابنتاه .
ثم إنه قد دخل كل من يونس ولوط في قوله : { وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ } [ الصافات : 181 ] . فدخلا في سلام الله مع إخوانهم المرسلين , والحمد لله رب العالمين .
(أسئلة بيانية في القرآن الكريم
الجزء الثاني
ص : 126)