*حينما تكلم ربنا تبارك وتعالى على سيدنا موسى قال (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) طه) ولما تكلم عن الرسول قال (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) الطور) فما الفروق الدلالية بين الآيتين؟
الصنع يكون في بداية الأمر، هو الكلام على موسى تكلم على ولادته ونشأته (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) طه) هذا في مرحلة طفولته (إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) طه) والرسول بعد الأربعين يحمل همّ الرسالة كيف يقال له تصنع على عيني؟ وإنما هو يحتاج إلى رعاية الآن للتبليغ. الدلالة العامة لقوله (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي) أي ينشئك بالصورة التي يريدها ابتداء ويهيأ المكان الذي يريده ولما قال عن النبي (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا) يعني يحفظك، كما قال (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا (14) القمر) السفينة قال تجري بأعيننا يعني برعايتنا وحفظنا. (وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ (67) المائدة) يعني يحفظك أنت تحت رعايتنا وحفظنا نراقب الأمر (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) طه) نحن نراك ونحفظك ونحميك ونرعاك يعني أنت تحت رعايتنا.
* ما الفرق بين إدبار وأدبار؟(د.فاضل السامرائى)
قال تعالى في سورة ق (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)) وقال في سورة الطور(وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)).
الأدبار جمع دُبّر بمعنى خلف كما يكون التسبيح دُبُر كل صلاة أي بعد انقضائها وجاء في قوله تعالى في سورة الأنفال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)). أما الإدبار فهو مصدر فعل أدبر مثل أقبل إقبال والنجوم ليس لها أدبار ولكنها تُدبر أي تغرُب عكس إقبال
****تناسب فواتح الطور مع خواتيمها****
أقسم بالطور وما إلى ذلك (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11)) وفي آخرها (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45)) هذا الذي ذكر عذاب ربك لواقع هذا ذكره في الأول فذرهم حتى يلاقوا يومهم فيه يصعقون اليوم الذي ذكره في الأول (يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47)) (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11)).
*****تناسب خواتيم الطور مع فواتح النجم *****
ختم سورة الطور بقوله سبحانه (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)) ما بعدها في سورة النجم قال (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)). إدبار النجوم والنجم إذا هوى أي إذا سقط وغرب، إدبار النجوم هو النجم إذا هوى. في خاتمة الطور (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) وأوائل سورة النجم في المعراج (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10))، (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) لأنه بداية للذهاب إلى موطن التسبيح والتحميد وهو السماء العُلا. (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) ستذهب إلى الملأ الأعلى وهو المملوء بالتسبيح والتحميد. هذا ارتباط ظاهر: إدبار النجوم – والنجم إذا هوى، (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) كأنه توجيه له للإستعداد للذهاب إلى السموات العُلا.
*تناسب خواتيم الطور مع فواتح النجم *
ختم سورة الطور بقوله سبحانه (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)) ما بعدها في سورة النجم قال (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1)). إدبار النجوم والنجم إذا هوى أي إذا سقط وغرب، إدبار النجوم هو النجم إذا هوى. في خاتمة الطور (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) وأوائل سورة النجم في المعراج (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10))، (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) لأنه بداية للذهاب إلى موطن التسبيح والتحميد وهو السماء العُلا. (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) ستذهب إلى الملأ الأعلى وهو المملوء بالتسبيح والتحميد. هذا ارتباط ظاهر: إدبار النجوم – والنجم إذا هوى، (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ) كأنه توجيه له للإستعداد للذهاب إلى السموات العُلا.
**هدف سورة النجم : مصادر العلم والمعرفة من الله تعالى**
ابتدأت السورة بالقسم بالنجم الذي هوى ويفسّر المفسرون هوى بمعنى سجد ليتناسب مع جلال الموقف في قصة المعراج ويتناسب مع خواتيم سورة الطور والله أعلم. وهذه السورة تعرض لنا أن العلوم والمعرفة بالله وبخالق الأكوان لها طريقان: طريق الظنون والأوهام وطريق الوحي الذي جاء به النبي وهو الكلام الصادق وما عندكم من غير طريق الوحي هو الظن والوهم.
وقد أسهبت الآيات في عرض أن الوحي صدق من الله تعالى: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) آية 3 و4، و(مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى) آية 11، و (مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى) آية 17 وكلها تؤكد على أن العلم والمعرفة هي من الله تعالى. فإياكم أن يكون في النفس شك أو ريب في صدق هذا الوحي الذي هو من علم الله تعالى وإياكم أن تكونوا كالأمم السابقة فيصيبكم ما أصابهم (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى) آية 23، و(وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) آية 28، و (ذَلِكَ مَبْلَغُهُم مِّنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى) آية 30 و (أَعِندَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى) آية 35.
وعلينا أن نقارن من أين نستقي العلم والمعرفة عن الله تعالى. فالنجم وهو يهوي أو يسقط هو ظاهرة مادية واضحة ومع وضوحها فكذلك الوحي الذي نزل على النيي صادق وواضح والنبي لا يضل ولا يهوي وهذا دليل وثوق الوحي والقرآن.
القسم : (والنجم إذا هوى(1)):
في بداية السورة وعلاقته بما قبله (سورة الطور): سبقت سورة النجم التسبيح في خواتيم سورة الطور (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ) فجاء ذكر النجوم والقسم هو بالنجم في هذه السورة. هوى: معناه غرَب ومعناه سقط فإذا كان المعنى الأول في خواتيم سورة الطور (ادبار النجوم) أي غروبها فهي إذن مرتبطة بالتسبيح ومرتبطة بادبار النجوم فأصبح هناك تناسق بين ادبار النجوم والنجم إذا هوى. ثم ناسب افتتاح السورة خاتمتها (فاسجدوا لله واعبدوا) أولاً لأن السجود هو أهم ركن من أركان الصلاة والصلاة فُرِضت في المعراج وهذه السورة بداية رحلة المعراج وختم السوء بما فُرِض في المعراج. ومن ناحية أخرى إذا كان هوى بمعنى سقط والسقوط هوي إلى الأرض فهي مناسبة للحركة لأن السجود هوي إلى الأرض وكأنما النجم هوى ليسجد لله تعالى والسجود أقرب ما يكون إلى الله تعالى لذا اختار سبحانه أقرب حالة إليه في أقرب معيّة وهي العروج بالرسول إلى سدرة المنتهى (أقرب ما يكون العبد لربه وهو ساجد) أقرب حالة من الله لأقرب رحلة إلى الله تعالى.
نفي شيئين الضلالة والغواية. وهناك فرق بين الضلالة والغواية فالضلالة قد تكون عن قصد أو عن غير قصد (فأضلّه الله على علم) (الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا) سورة الكهف، أما الغواية فهي عن قصد وهو الإمعان في الضلال. والضلال عام نقول ضلّت الدابة ولا نقول غوت الدابّة والغواية هي للمكلّف. والضلال نقيض الهدى والغواية نقيض الرشد (يُضلّ من يشاء ويهدي من يشاء) (وأضلّ فرعون قومه وما هدى) سورة طه، (وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا وإن يروا سبيل الغيّ يتخذوه سبيلا) (قد تبيّن الرشد من الغيّ) سورة البقرة.
(ما ضل صاحبكم وما غوى): نفى الله تعالى عن رسوله الأمرين الضلالة والغواية وقد ذكر كلمة(صاحبكم) ولم يقل اسمه وقد وردت صاحبكم في ثلاث مواضع في القرآن الكريم: إما لنفي الضلال وإما لنفي الجنون (ما بصاحبكم من جِنّة، وما صاحبكم بمجنون، ماضل صاحبكم ) وهذا لأن فيها معنى الصحبة فقد لبث الرسول فيهم عمراً طويلاً وخالطهم وعاشرهم وعرفوا صدقه وأمانته ولا يكذّبونه فهو صاحبهم فكيف يمكن لهم أن يتهموه بالضلال؟ وقد وردت كلمة صاحبكم دائماً لنفي الجنون والغواية وهذا فيه معنى الصحبة أيضاً
ولو لاحظنا القسم في بداية السورة هو دلالة على الهوي والسقوط، والضلال والغيّ هما سقوط في السلوك ودائماً يأتي في القرآن الضلال مع الحرف (في) (في ضلال مبين) وهذا دليل على السقوط أما عند ذكر الهداية فيأتي بالحرف (على) لأن الهدى تفيد الإستعلاء وهو متمكن من وقع قدمه وقادر أن يرى حتى الهمزة تفيد السقوط تأتي مع (في) الظرفية دلالة على السقوط (وإنا أوإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) والنجم إذا ضلّ مساره سقط.
تكرار ما في قوله تعالى (ما ضلّ صاحبكم وما غوى): وهذا حتى لا يُتصوّر أنه نفى الجمع بينهما فقط وإنما نفى الجمع بينهما والإفراد. ما ضلّ صاحبكم وما غوى تعني نفي الضلالة والغواية معاً أو كل منهما على حدة. أما القول ما ضلّ صاحبكم وغوى فهي تفيد النفي بالجمع بين الصفتين. وهذا من باب الإحتياط للمعنى نفاهما على سبيل الجمع والإفراد ومعناه أنه اهتدى ورشد فهو مهتد رشيد. إذن لماذا لم يقل (هدى ورشد) بدل ما ضلّ وما غوى؟ لو قال اهتدى قد يكون في وقت من الماضي او لفترة زمنية محددة قد تفيد أنه قد يكون قبل الهداية ضالاً اكنه مهتد رشيد لم يسبق له ضلالة (ما ضلّ صاحبكم وما غوى) تفيد أنه مهتد رشيد لم يسبق له ضلالة في أي وقت وزمن كان.
أولاً نفى الفعلين السابقين بالماضي (ما ضلّ وما غوى) وهنا نفي بالمضارع يفيد الإستمرار والحاضر فلو قال (ما نطق عن الهوى) لاحتمل المعنى أنه نفى عنه الهوى في الماضي فقط ولم ينفه عنه فيما يستقبل من نُطقه. فقد نفى تعالى عن رسوله الضلال والغواية في الماضي كله ونفى عنه الهوى في النطق في الحاضر والمستقبل فهو إذن منفيّ عنه الضلال والغواية في السلوك وفيما مضى وفي المستقبل.
ما دلالة الحرف عن في قوله (وما ينطق عن الهوى)؟ فالنطق عادة يكون بالباء (كتابنا ينطق بالحقّ) أما هنا فجاءت (عن) ومعناها ما ينطق صادراً عن هوى يعني إن الدافع للنطق ليس من هوى وهو بمنزلة تزكية للنفس القائلة لأن الإنسان قد ينطق بالحق لكن عن هوى (حق أريد به باطل) يعني الدافع هوى (ناطق عن هوى). وهكذا زكّى الله تعالى رسوله بتزكية الدافع للقول فالدافع له زكي صادق ونطقه صادق أيضاً وعليه جاءت الآية (وما ينطق عن الهوى).
(إن) هي أقوى ما في النفي وأقوى من ذلك أن تأتي (إن) و (إلاّ) معاً. مسألة الوحي هي المسألة الأساسية التي بين الإيمان والكفر فجاء سبحانه بأقوى حالات الإثبات لأن الوحي كان سبب المسألة الخلافية بين الكفّار والرسول . والإنسان قد ينطق غير صادق عن هوى لكن ليس بالضرورة أن يكون كلامه كله حقاً وصدقاً حتى ولو كان دافعه دافع إخلاص . فبعد أن زكّى سبحانه الدافع (ما ينطق عن الهوى) ثبّته أنه وحي (إن هو إلا وحي يوحى). واستخدام الضمير (هو) يعود على النطق معناه ما نُطقه إلا وحي يوحى.
(علّمه شديد القوى (5) ذو مِرّة فاستوى(6)):
الوحي بالعربية قد يكون إلهاماً مثل الوحي لأم موسى بإلقاءه في اليم، والوحي للنحل، ولشياطين الإنس والجنّ) فأراد سبحانه أن يقطع أي فكرة فقال (علّمه شديد القوى) بمعنى أنه ليس إلهاماً ولكنه وحي علّمه إياه شديد القوى (وعلّمك ما لم تعلم) نسب العلم إلى الله سبحانه أنه هو المُعلّم. وفي ذكر الوحي يجب ذكر المسؤول عن إيصال الوحي وهو جبريل عليه السلام ، فالله تعالى هو المُعلّم الأول عندما ذكر أن كلامه وحي كان من الداعي أن يذكر من علّمه وأوصل العلم إليه. وفعل علّمه تفيد المداومة والتكثير على خلاف أُعلّمه. كل الآيات السابقة مبنية على عدم ذكر اسم الفاعل (ما ضل صاحبكم، ما ينطق، علمه شديد القوى) وذكر وصفين (شديد القوى وذو مِرّة) والمِرّة قد تأتي بمعنى العقل والإحكام والحصانة والإستحكام وتأتي بمعنى القوة أيضاً فلماذا اختار سبحانه هذين الوصفين (شديد القوى وذو مِرّة)؟ هاتان الصفتان فيهما إشارة أن الخروج إلى أقطار السموات يحتاج إلى أمرين هما القوة والعلم والرسول في رحلته في أقطار السموات يحتاج إلى قوة شديدة وإلى إحكام وعقل وهنا إشارة إلى تمكّن جبريل من حفظ الرسول في رحلته فكان قوياً في حفظ الرسول ومحكماً في حفظ الوحي وكل حفظ يحتاج إلى قوة وعقل وإحكام. وهذه الرحلة (المعراج) في أقطار السموات والأرض أما في سورة الرحمن (إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسطان) لأن الخروج من أقطار السموات والأرض فيها تحدّي وتحتاج إلى سلطان القوة والعلم.
(ذو مرة فاستوى (6) وهو بالأفق الأعلى(7) ثم دنا فتدلّى(8)):
تحديد مكان الإستواء. أولا استوى تعني اعتل وأستقام وتهيّأ. ينزل جبريل إلى الرسول يتدلّى إليه ويصحبه بعد أن تهيّأ لذلك من الأفق الأعلى (وليس العالي) وهذا حتى يليق بمقام النبوة وهذا فيه ثناء على جبريل أنه استعدّ للأمر قبل أن يأتي ويقوم بمهمته وفيه تكريم للرسول لأن مقام الشخصية يستدعي زيادة التهيأة والإستعداد وحسنه واستعد لذلك من الأفق الأعلى (استعد جبريل للأمر قبل أن ينزل وفيه إشارة إلى عِظم المهمة وعِظم الزائر وهو الرسول ).
هذه الآية في سورة النجم ذكرت (الأفق الأعلى) وفي آية سورة التكوير ذكر (الأفق المبين) فما الفرق بينهما؟
في آية سورة النجم يُراد بالآيات والرحلة العروج إلى الأفق الأعلى وهو المكان الذي سيعرُج إليه الرسول . أما في آية سورة التكوير (ولقد رآه بالأفق المبين) فالأفق المبين تدل على الإبانة الواضحة وهي مناسبة لما تبعها في قوله تعالى (وما هو على الغيب بضنين) على أنه ليس بضنين ولا بخيل فالرسول مبين ليس بضنين والأفق مبين أيضاً.