(ثم دنا فتدلّى (8) فكان قاب قوسين أو أدنى(9)):
ثم دنا فتدلّى فيها تكريم للرسول لأن الدنو غير التدلي فالدنو هو القرب من أسفل إلى أعلى أو من أعلى إلى أسفل وغيره أما التدلّي فلا يكون إلا من أعلى لأسفل. ومعنى أن جبريل تدلّى للرسول فهذا في غاية التكريم له. العرب تقول في القرُب أشياء كثيرة كناية عن القرب فلماذا اختار سبحانه قاب قوسين أو أدنى؟ اختيار قاب قوسين تدل على القرب والقوس هي في حد ذاتها لا بد أن تكون قوية شديدة والوتر لا بد أن يكون قوياً شديداً والرامي ينبغي أن يكون قوياً مُسدداً فالقوس يحتاج إلى إحكام في التسديد والإنطلاق وهذه كلها عناصر الرحلة وقد سبق قوله تعالى (شديد القوى * ذو مِرّة فاستوى) والقوس شديد ويستعمله قوي شديد والرحلة وهي الإنطلاق لذا جاء استعمال قاب قوسين أو أدنى.
(فأوحى إلى عبده ما أوحى(10)):
نفس الكلام الذي ورد في أسرى بعبده ينطبق على ورود كلمة عبده هنا في هذه الآية. تستخدم كلمة (عبد) على مجموع الجسد والروح وهنا إثبات على أن الإسراء والمعراج كان بالروح والجسد وإلآّ فأين المعجزة! ولو كان بالروح فقط لما كذّبه الكفار فهم عرفوا وتأكدوا أن الرحلة تمّت بالروح والجسد معاً.
الإنسان لما يقول عن نفسه أنا عبد الله هذا تواضع والله تعالى لما يقولها عن عبد يكون تكريماً (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً (1) الاسراء) (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) النجم) (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) ص) هذا من الله تكريم ولذلك لاحظ يقولون لما قال (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) لما ذكر كلمة عبد عرج به إلى السموات العلى وإلى سدرة المنتهى ولما ذكر موسى بإسمه قال (وَخَرَّ موسَى صَعِقًا (143) الأعراف) إذن وكأن مقام العبودية عند الله سبحانه وتعالى مقام عظيم.
(ما كذب الفؤاد ما رأى (11) أفتمارونه على ما يرى(12)):
ما اللمسة البيانية في اختيار كلمة (المراء) ؟ ورد قبل هذه الآية قوله تعالى (ما كذب الفؤاد ما رأى) اختيار لفظ الفؤاد هو من التفؤد والتوقّد (يقال فأد اللحم بمعنى شواه) اختار الفؤاد لأن فؤاده متوقّد ليرى كل ما حوله. أما في قوله (ما كذب الفؤاد ما رأى) وهو القلب المتوقّد الحار لم يقل لبصره أنه واهم فيما يرى، فؤاده صدّق بصره يعني ما رأيته ببصرك لم يشكك به الفؤاد على توقّده فقد صدق الفؤاد البصر وما يراه البصر هو حق صادق.
المرية: فيها شك. لم يقل سبحانه أفتجادلونه إنما قال أفتمارونه لأن المِرية تختلف عن الجدال، فالكفار كانوا يشككون في الرواية وليس في الأفكار كما في قوله (إن الذين يمارونك في الساعة) (يمارون في الساعة) أي يجادلون في الساعة لأن لا أحد رآها، أما الرؤية فهي ليست موضوع نقاش في هذه السورة (أفتمارونه على ما يرى) أي لا يُمارى على رؤيته والملاحظ هنا استخدام حرف (على) أما في الآية السابقة استخدم الحرف (في).
(ولقد رآه نزلة أخرى (13) عند سدرة المنتهى(14) عندها جنّة المأوى(15)):
استخدم كلمة نزلة وليس كلمة (مرّة) لأن النزلة من النزول فقال ولقد رآه نزلة أخرى أي عند نزوله رأى جبريل وهذا دليل على أنه صعد إلى مكان أعلى من الذي وصل إليه جبريل وفي رحلة عودته رأى جبريل عند نزوله وهذا مصداق الحديث أن جبريل قال للرسول تقدم وقال لو تقدمتُ لاحترقت.
اختيار سدرة المنتهى: المنتهى هي آخر شيء وآخر نقطة ومكانها عند جنّة المأوى.
زاغ من الزيغان وهو الذهاب يميناً وشمالاً أما الطغيان فهو مجاوزة الحدّ والقدر والتطلع إلى ما ليس له. بمعنى أنه في رحلته ما مال بصره ولا جاوز قدره بل وقف في المكان الذي خُصص له وفي هذا مدح للرسول فقد وقف بصره في المكان المحدد له مع أن المكان يستدعي أخذ البصر والإلتفات. وقد سبق أن نفى الله تعالى عن رسوله الضلال والغواية في الأرض وكذلك نفى عنه أن يكون زاغ بصره أو طغى في السموات فهو لم يتجاوز لا في الأرض ولا في السماء فسبحان الله تعالى وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(لقد رأى من آيات ربه الكبرى(18)):
(مِن) يقال لها التبعضيّة. لم يرى كل شيء لكن الرحلة كان لها منهجاً معيناً وجاء بالكبرى فيه تكريم آخر للرسول أنه رأى بعض الآيات الكبرى. والسورة كلها فيها تكريم للرسول وهذه الآية مبنية على الإبهام وهذا الإبهام للتعظيم. وأُورد ما فسّره الشيخ الشعراوي رحمه الله فهو في خواطره يرى أن الرسول رأى من آيات ربه الآية الكبرى والله أعلم بهذا.
آية (25):
*التوكيد بـ(اللام) في كلمة (للآخرة) في سورة الليل فيه اختلاف مع آية سورة النجم (فلله الآخرة والأولى) فما الحكم البياني في هذا التوكيد ؟(د.فاضل السامرائى)
التوكيد في سورة الليل جاء مناسباً لسياق الآيات، فسياق الآيات في ورة الليل جاء كله في الاموال وامتلاكها والتصرف فيها (فأما من أعطى) والمعطي لا بد ان يكون مالكاً لما يعطيه، (وأما من بخل واستغنى) والبخيل هو أيضاً مالك للمال لأنه لو لن يكن يملكه فبم يبخل؟ وكذلك الذي استغنى وهو من الغنى ثم ذكر المال (وما يغني عنه ماله إذا تردى) و (الذي يؤتي ماله يتزكى) فالسورة كلها في ذكر الاموال وتملكها والتصرف فيها فلذا ناسب التوكيد باللام هنا لأن الآخرة والاولى من الملك لله حصراً. أما في سورة النجم فسياق الآيات ليس في المال ولا في التملك اصلاً فلم يؤكد باللام.
*ما الفرق بين التزكيتين (قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (9) الشمس) (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32) النجم) وما معنى التزكية في القرآن الكريم؟(د.فاضل السامرائى)
كثير من الكلمات يسمونه من المشترك اللفظي بحيث له أكثر من معنى يصح في حال وآخر قديكون منهياً عنه. زكّى نفسه بها معنيين: طهّرها ومنه الزكاة (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا (103) التوبة) والزكاة هي النماء في الحقيقة والتطهير شيء آخر. قد أفلح من زكاها أي طهّر نفسه. (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ) زكّى نفسه أي نسبها إلى التزكية قال أنا جيّد أنا خير من كذا ففي هذه الحالة لا يجوز فقال تعالى لا تزكوا أنفسهم لا تقولوا أنا أحسن من هذا أنا أفضل لأنه تعالى أعلم بمن اتقى. مثل فعل قوّم بمعنى عدّل وقوّم بمعنى أعطى للشيء قيمة كم تقوّم هذه الساعة مثلاً؟ أو هذه السلعة؟ ثوّم السلعة أي بيّن مقدار قيمتها. قوّم ولا تقوّم يعني عدّلها لكن لا تقوم قيمتها فإذن هذه من المشترك وكل واحدة لها معنى. قد أفلح من زكاها أي طهّرها، لا تزكوا أنفسكم أي لا تفتخر بنفسك وكل واحدة لها معنى.
استطراد من المقدم: لاحظت أنك تقول مشترِك لفظي لا مشترَك فلماذا؟ يقال مشترِك، اشترك فعل لازم ليس متعدياً فاللازم إما أن يُبنى على حاله إذا جعلنا إسم المفعول يجب أن نقدر هنالك شيء إما جار ومجرور مشترك في التعبير كما نقول اشترك في كذا فيصير مشتَرك فيه يعني مشترَك في شيء أي المشترَك في أمر من الأمور أما إذا اشترك في المعنى يصير مشترِك لو قدّرنا الفعل لازماً بدون تقدير نقول مشترِك كما في قوله (فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) الصافات).
*ما الحكمة في عدم استخدام كلمة الزوجين في الآية ( وما خلق الزوجين الذكر والانثى)فى سورة الليل؟ كما يأتي في معظم الآيات التي فيها الذكر والانثى كقوله تعالى:( (فجعل منه الزوجين الذكر والانثى)(سورة القيامة) وقوله: (وأنه خلق الزوجين الذكر والانثى)(سورة النجم) ؟(د.فاضل السامرائى)
إذا استعرضنا الآيات في سورة القيامة نرى ان الله سبحانه وتعالى فسر تطور الجنين من بداية (ألم يك نطفة) الى قوله (فجعل منه الزوجين الذكر والانثى) فالآيات جاءت اذن مفصلة وكذلك في سورة النجم (وأنه هو اضحك وأبكى) الى قوله (انه خلق الزوجين الذكر والانثى). لقد فصل سبحانه مراحل تطور الجنين في سورة القيامة وفصل القدرة الالهية في سورة النجم أما في سورة الليل فإن الله تعالى أقسم بلا تفصيل هذا من ناحية ومن ناحية أخرى قوله تعالى (إن سعيكم لشتى) يقتضي عدم التفصيل وعدم ذكر الزوجين. لماذا؟ لأن كلمة الزوج في القرآن تعني المثيل كقوله تعالى (وآخر من شكله أزواج) وكلمة شتى تعني مفترق لذا لا يتناسب التماثل مع الافتراق فالزوج هو المثيل والنظير وفي الآية (إن سعيكم لشتى) تفيد التباعد فلا يصح ذكر الزوجين معها. الزوج قريب من زوجته مؤتلف معها (لتسكنوا اليها) وكلمة شتى في الآية هنا في سورة الليل تفيد الافتراق. فخلاصة القول اذن ان كلمة الزوجين لا تتناسب مع الآية (وما خلق الذكر والانثى)من الناحية اللغوية ومن ناحية الزوج والزوجة لذا كان من الانسب عدم ذكر كلمة الزوجين في الآية.