التدبر

١٥١ أي مشروع وفكرة وبنيان يؤسس على رضى الله وفي سبيله فسيرتقي به صاحبه في سلم الرضوان والأجر والتوفيق (أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الوقفة كاملة
١٥٢ الهمة العالية تجعل لحياتك قيمة اكبر ومن يعش بغير هدف فلا قيمة ولا معني لحياته الوقفة كاملة
١٥٣ قال الله عن القرآن : (هدى وبشرى للمؤمنين) ابحث عن بشائر القرآن وافرح بها : الجنة الرضوان المغفرة الهداية الشفاء... الوقفة كاملة
١٥٤ لايشعر الإنسان بالطمأنية حتى يوافق طبيعته وفطرته وذلك يتحقق بأن يقيم حياته لله حنيفاً الوقفة كاملة
١٥٥ لاترى شخصا قد أدى حقوق الله وحقوق عباده إلا تجده ناجحا في حياته وعلاقاته الوقفة كاملة
١٥٦ لا بد للمرء من قدوات في حياته يحذو حذوهم,، والموفق من يسلك طريق أهل التوحيد والطاعة(واتبع سبيل من أناب إليَّ) الوقفة كاملة
١٥٧ لن تجمع الأمة دستوراً أعظم لها و أحكم و أسعد لحياتها من القرآن ( قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون ) قال ابن عباس : هو القرآن . الوقفة كاملة
١٥٨ اهتمامات،، {يا لَيْتَ قَوْمِى يَعْلَمُونَ } الداعية يحمل هم مصير قومه حتى بعد موته دليل على أنه كان يحمل همهم طوال حياته الوقفة كاملة
١٥٩ (حسبنا الله ونعم الوكيل) النفوس التي جعلت حياتها لله وأسست رؤيتها ومناهجها لله يصح منها التوكل وقت الشدة لأنها اعتمدت عليه وفوضت أمرها إليه الوقفة كاملة
١٦٠ لو سارالناس على أمر الله بانضباط لسارت حياتهم كسير الكواكب في الفلك بدقة ولكن يتركونه فيضطربون ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة ) . الوقفة كاملة

أسرار بلاغية

١٥١ {وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} قيل: إن المقصود بالآخرة ما يقابل الدنيا وهي التي بعد الموت، ولا شك أن تلك الحياة خير له من الأولى لما أعد له من الكرامة. وقيل: إن الآخرة كلمة عامة، وهي تشمل ما يستقبل من حياته في الدنيا والآخرة، وهو الأولى. إن (الآخرة) قد تستعمل في القرآن الكريم للحياة الآخرة، وتستعمل لما وصف بالتأخر على وجه العموم. قال تعالى: {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 7]. ولا شك أن هذا في الدنيا. وقال: {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآَخِرَةِ} [ص: 7]. فالأولى أن يراد بها العموم والإطلاق. جاء في (التبيان في أقسام القرآن): "وأطلق سبحانه أن الآخرة خير له من الأولى، وهذا يعم كل حالة يرقيه إليها هي خير له مما قبلها، كما أن الدار الآخرة خير له مما قبلها" (1). وجاء في (أنوار التنزيل) أن معنى الآية قد يفيد أن المقصود أنه "لنهاية أمرك خير من بدايته، فإنه لا يزال يتصاعد في الرفعة والكمال" (2). وجاء في (روح المعاني): "وقال ابن عطية وجماعة: يحتمل أن يراد بهما نهاية أمره صلى الله تعالى عليه وسلم وبدايته، فاللام فيهما للعهد، أو عوض عن المضاف إليه، أي لنهاية أمرك خير من بدايته، لا تزال تتزايد قوة وتتصاعد رفعة" (3). ثم من الملاحظ أنه لم يقل: (وللآخرة خير لك من الدنيا) فيكون نصًّا على أن المقصود بالآخرة ما يقابل الحياة الدنيا، وإنما قال: {وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} ليعم الآخرة جميعًا، سواء ما كان في الدنيا وما كان في الحياة الأخرى، فكان ما ذكره أعم وأدل على الإكرام والبشرى. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 150 إلى ص 151. (1) التبيان في أقسام القرآن 48. (2) أنوار التنزيل 804. (3) روح المعاني 30/158. الوقفة كاملة
١٥٢ {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} وعد شامل مؤكد أن يعطيه ربه في المستقبل فيرضى. ومن الملاحظ أنه لم يذكر المفعول الثاني لأعطى، فلم يقل ماذا يعطيه، بل أطلق العطاء ليشمل كل خير في الدنيا والآخرة. كما أنه لم يحدد ظرفًا معينًا لزمن هذا العطاء، وإنما أطلقه ليشمل كل وقت بعد نزول هذه الآية في الدنيا والآخرة. كما أنه أطلق الرضا فلم يقيده بشيء، فلم يقل: ترضى بكذا ولا عن كذا، فأنت ترى أنه أطلق العطاء وأطلق الرضا، وقد ذكر المعطي وهو ربه سبحانه. وفي هذا تكريم أي تكريم، فإن العطاء يكون على قدر المعطي، فلا عطاء أجل وأعظم وأكرم من عطاء الرب، وإضافة الرب إلى ضمير الخطاب فيه من التكريم ما لا يخفى. ثم إنه لما ذكر الآخرة قبل هذه الآية فقال: {وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى} فجعل مستقبله خيرًا من ماضيه وحاضره ناسب أن يقول: {} فيأتي بحرف الاستقبال (سوف) فيكون توكيدًا لما ذكر من أن الآخرة خير له من الأولى. ولما كانت كلمة (الآخرة) تشمل كل ما يستقبله من عمره في الحياة الدنيا والآخرة ناسب أن يأتي بحرف الاستقبال (سوف) ولم يأت بالسين، فإن السين جزء من (سوف)، وهو لم يذكر جزءًا من المستقبل، وإنما ذكره كله، فناسب أن يذكر (سوف) وهو الحرف كله بإزاء الآخرة وهي ههنا المستقبل كله، وهو تناظر طريف. ولما قال: (وللآخرة) فأكد ذلك باللام أكد إعطاءه باللام فقال: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} فناظر بين التوكيدين. إن هذه الآية مرتبطة بالآية قبلها، إذ هي: تأكيد بأن الآخرة خير له من الأولى لأنه سوف يعطيه فيرضى. وهي مرتبطة بقوله تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} فإن ذلك أمارة على أن ربه ما ودعه وما قلاه. جاء في (أنوار التنزيل) في هذه الآية أنها "وعد شامل لما أعطاه، من كمال النفس وظهور الأمر وإعلاء الدين، ولما ادخره له مما لا يعرف كنهه سواه" (1). وجاء في (تفسير الرازي): "ما الفائدة في قوله: (ولسوف)؟ ولِمَ لَمْ يقل: (وسيعطيك ربك)؟. الجواب فيه فوائد: إحداها: يدل على أنه ما قرب أجله، بل يعيش بعد ذلك زمانًا" (2). إن ما وعد الله في هذه الآية من أنه سوف يعطيه فيرضى هو من أجل النعم، ذلك أن الرضا في الحياة هو أساس الاستقرار والطمأنينة والهناء والسعادة وراحة البال، فإن فقد الرضا حلت الهموم وحل القلق والشقاء وعموم دواعي النكد. ولا يكون الإنسان مرتاحًا ولا هانئًا إلا إذا عم الرضا. جميع جوانب حياته، فإن فقد من جانب منها فقد الإنسان من راحته واستقراره بقدر ذلك الجانب، ولذلك أطلق سبحانه الرضا لنبيه فقال: (فترضى) ولم يقيده بشيء، لا بمال ولا جاه ولا غيرهما. ولعظم هذه النعمة وجلالها جعلها الله صفة أهل الجنة وصفة عيشها فقال: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} [الفجر: 27 - 28] فوصفها بأنها راضية مرضية، وقال: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الحاقة: 21 - 22]، وقال: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ} [القارعة: 6 - 7]. إن عدم الرضا قد يؤدي إلى الضغط النفسي ثم اليأس والقنوط ثم الانتحار، فأي نعمة أجل من الرضا؟ إن التعب معه راحة، والراحة من دونه تعب ونكد، وإن الفقر معه غنى، والغنى من دونه فقر. وإن الحرمان معه عطاء، والعطاء من دونه حرمان. أعرفت الآن عظم ما وعده ربه به؟ وهل أدركت الإشارة إلى نعمة الرضا في الحياة؟ ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 151 إلى ص 154. (1) أنوار التنزيل 802، وانظر الكشاف 3/345، البحر المحيط 8/486. (2) التفسير الكبير 31/231. الوقفة كاملة
١٥٣ {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18} ولم يقل: (ولا يجنبها إلا الأتقى) كما قال: {لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى}، وإنما ذكر أن الأتقى سيجنبها، أما غير الأتقى فقد يجنبها أيضًا أو يردها ورودًا خفيفًا على حسب عمله، أما الأتقى فإنه يجنبها تجنيبًا كاملاً. ثم ذكر مقابل الأشقى الذي كذب وتولى: {الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى} وذكر له ثلاث خصال: التقوى بل الصفة العليا في التقوى وهي {الْأَتْقَى}، وأنه يؤتي ماله يتزكى، وهو مقابل {بَخِلَ وَاسْتَغْنَى} وهو الوصف الأعلى في هذا الأمر، ذلك أنه {يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى}، فهو يعطي ماله كله، وبذا يكون قد وصفه بالوصف الأعلى في التقوى والوصف الأعلى في الإنفاق، فإنه لا عطاء أكثر من ذلك. ثم انظر كيف قال: {يُؤْتِي مَالَهُ} بإضافة المال إليه، ولم يقل: (يؤتي المال) بمعنى أنه يؤتي ثمرة كدّه وعمله وهو. ثم ذكر الغرض من ذلك وحاله عند العطاء وهو أنه يتزكى بذلك، أي يتطهر. وذكر أنه لم يفعل ذلك إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى، وذلك أعلى درجات التصديق بالحسنى. ثم انظر كيف أنه لما ذكر الأشقى بصفات أعم وأسوأ مما قاله فيمن قبله فقال: {الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى} وهو أعم وأسوأ ممن قال فيهم: { وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى} ذكر أيضًا بمقابل: {مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} من هو أعلى منه فقال: {الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى}، فقد ذكر بمقابل {أَعْطَى} وهو يحتمل العطاء الكثير والقليل أنه {يُؤْتِي مَالَهُ} وهو أكثر وأعم؛ ذلك لأن هذا يؤتي ماله كله. وبمقابل (اتقى) الأتقى وهي الصفة العليا، وبمقابل {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} أنه يفعل ذلك ابتغاء وجه ربه الأعلى ولا يفعله إلا لذلك، فهو أعلى درجات التصديق. ولذا كان الجزاء أعلى، فإنه قال في الأولى: {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} وقال ههنا أنه يجنب النار وأنه سوف يرضى، فذكر أمرين. ومعنى {وَلَسَوْفَ يَرْضَى} أنه سوف يرضى بثوابه في الآخرة لعظيم ما أعد له. وهناك معنى آخر لها، وهو أنه لم يفعل ذلك إلا ابتغاء وجه ربه الأعلى ورضوانه ولسوف يرضى الله عنه، وكلا المعنيين جليل شريف، فإن رضا الله أكبر من الجنات، كما قال الله تعالى {وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ} [التوبة: 72] والمعنيان مرادان معًا، ذلك أن الله سوف يرضى عنه، وأنه سيرضى بما جزاه الله سبحانه، فانظر عظم هذا الجزاء. ثم انظر من ناحية أخرى كيف قال: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} بالبناء للمجهول، ولم يقل: (سيتجنبها الأتقى) بالبناء للمعلوم، ذلك أن تجنب النار أمر عسير ليس ذلك إليه بل ذلك إلى ربه، وسبيل ذلك التقوى والتطهر وإنفاق المال وإخلاص العمل الله. ونظير ذلك قوله تعالى: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185] بالبناء للمجهول، ولم يقل: (فمن تزحزح عن النار) لأن الزحزحة عن النار ليست إلى الناس بل إلى خالقهم ومالكهم خالق النار، وهذا إنذار عظيم للناس لو كانوا يعلمون، فإنه ليس باستطاعة أحد أن يتجنب النار بنفسه ولو كان الأتقى، وكيف يمكن أن يتجنبها وقد أقسم ربنا على أننا كلنا سنردها ولا ينجو إلا من ينجيه الله منها، فقال سبحانه: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} [مريم: ۷۱ - ۷۲]، وقال: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [الزمر: 60 – 61]. ألا ترى إلى قوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا}، وقوله: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا} بإسناد التنجية إلى الرب نفسه لا إلى المتقين، وهو نظير قوله: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى} ببناء التجنيب للمجهول، والمتقون – كما يظهر من الآيات – هم الناجون. وقد تقول: ولم أسند ضمير التنجية في سورة مريم إلى ضمير المتكلمين فقال: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} وأسنده في سورة الزمر إلى الله فقال: {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا} وبنى الفعل للمجهول في سورة الليل فقال: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى}؟ والجواب: أن ذلك بحسب السياق الذي ورد فيه التعبير، فإن الجو الشائع في سورة مريم إسناد الفعل إلى ضمير المتكلمين، وذلك نحو قوله: { أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ …. (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ …. (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ …. ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ ..... ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا ...... يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ ..... } إلخ، فناسب ذلك إسناد الفعل (ننجي) إلى ضمير الجماعة للتعظيم. وإن الجو الشائع في سورة الزمر إسناد الفعل إلى الله سبحانه، وقد شاع فيها ذكر الله نحو قوله: { إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ ..... إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا .... ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ .... أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ .... وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً .... أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ .... اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ .... فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا .... } وغير ذلك وغيره، فناسب ذلك أن يسند التنجية إلى الله. في حين شاع في سورة الليل العموم والإطلاق، فناسب حذف الفاعل وإسناد التجنيب إلى غير مذكور ليناسب جو الإطلاق في السورة، ولا شك أن ذكر الفاعل يفيد التخصيص لا الإطلاق. ومن الملاحظ أنه ذكر في الذين اتقوا أنه ينجيهم، وفي الأتقى أنه يجنبها، ذلك أن النجاة قد تكون بعد الوقوع في الشيء ومعاناته، وذلك نحو قوله تعالى في بني إسرائيل: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ} [البقرة: 49 ]. أما التجنيب فمعناه التنحية والمباعدة، فقولي: (جنبتك العذاب) يفيد أني أبعدتك عنه فلم تذقه، وأما (أنجيتك من العذاب) فقد يحتمل أنه كان واقعًا فيه ثم أنجاه منه، ولذا قال تعالى بعد قوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا}: {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} أي بعد الورود. ولا شك أن الأتقى هو في الدرجة العليا من التقوى فقال فيه: (وسيجنبها)، وأما الذين اتقوا ففيهم المتقي والأتقى، فذكر أن لهم النجاة، وكلاهما ذو حظ عظيم غير أنهم درجات عند ربهم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 195 إلى ص 198. الوقفة كاملة
١٥٤ {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) } لما ذكر أن الإنسان أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا، واستدعى ذلك النظر فيمن أوجده وخلقه قال: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} فنسب الخلق إلى نفسه سبحانه بضمير التعظيم وأكده بإن؛ لأن ذلك يستدعي التعظيم ويستدعي التوكيد. وقد ذكر ضمير الخالق مرتين: مرة مع (إن) فقال: (إنّا)، ومرة مع الفعل خلق فقال: (خلقنا)، للدلالة على أنه هو الخالق وحده، وأنه ليس معه شريك. وقال: (نبتليه) بإسناد الابتلاء إليه ليعلم أن المبتلى هو الخالق. ثم أسند كل الأفعال إليه ليعلم أنه هو صاحبها لا غيره. ولم يبن فعلاً للمجهول، فإنه لو فعل ذلك لم يفد هذه الفائدة. ولأنه هو الخالق وهو الذي امتن عليه بالنعم فجعله سميعًا بصيرًا مميزًا استحق أن يعبد ويشكر. و(الإنسان) هنا بنو آدم وليس آدم، بدليل قوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} فإن آدم لم يخلق من نطفة (1). والذي يترجح عندي – والله أعلم – قول من ذهب إلى أن المقصود بالإنسان المذكور في الآية الأولى هو آدم عليه السلام، وفي الآية هذه بنوه (2)، فيكون قد ذكر خلق آدم وبنيه، وهو أدل على القدرة وأظهر؛ لأن فيه نوعي الخلق: الإيجاد والاستمرار. ولذا – والله أعلم – كرر كلمة (الإنسان) ولم يذكر الضمير فقال: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ .... إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} ولم يقل: (إنا خلقناه). ولو قال: (إنا خلقناه) لتعين أن يكون المقصود بالإنسان في الموضعين هم ذرية آدم ولم يشمل آدم. فكرر كلمة (الإنسان) ليحتمل أن يراد بالأول آدم وبالتالي ذريته فيشملهما جميعًا. ومعنى (الأمشاج): الأخلاط، يقال: مشج يمشج مشجًا إذا خلط، ومشجه ومزجه بمعنى، والمشيج: الخليط، والممشوج: المخلوط (3). وكلمة (أمشاج) تستعمل مفردًا وجمعًا، شأن كلمة هجان ودلاص وبشر وفلك وغيرها، فيقال في المفرد: مَشَج بفتحتين، كبطل وأبطال، ويقال: مشيج، كشريف وأشراف، وجمعهما أمشاج، ويقال في المفرد أمشاج أيضًا، كقولهم: برمة أعشار، وبرد أكباش، وثوب أسمال، وعلى هذا يقال: نطفة مَشَج، ونطفة مشيج، ونطفة أمشاج (4). واختار كلمة (أمشاج) على المشَج والمشيج لكثرة ما فيها من أخلاط وامتزاجات، وربما وصف الشيء بالجمع لإرادة التكثير، فيقال مثلاً: "بلد سبسب وبلد سباسب، كأنهم جعلوا كل جزء منه سبسبًا ثم جمعوه على هذا" (5). "وتقول: أرض قفر ودار قفر، وأرض قفار ودار قفار، تجمع على سعتها لتوهم المواضع كل موضع على حياله قفر" (6). فهذا إشارة إلى كثرة ما في النطفة من أخلاط على صغرها، ولا تفيد كلمة (مشج) أو (مشيج) هذا المعنى، والله أعلم. {نَبْتَلِيهِ} نختبره ونمتحنه، واختار (نبتلي) على (نبلوه) لبيان شدة الاختبار وقوته، فإن في (ابتلى) من الشدة والمبالغة ما ليس في (بلا)، ومعلوم أن (افتعل) فيه من المبالغة وقوة الحدث ما ليس في (فعل) وذلك كاكتسب وكسب واصطبر وصبر. ولو عدت إلى الاستعمال القرآني في (ابتلى) لو جدت ذلك واضحًا، قال تعالى بعد وقعة أحد وما أصابهم فيها: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154]. وقال في وقعة الأحزاب: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10 – 11]. والله سبحانه يبلو ويبتلي. وقد تقول: ولم قال ههنا: (نبتليه)، وقال في سورة (الملك): {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2]؟ والجواب: أن كل تعبير مناسب لموطنه، فقد ذكرنا أن (الابتلاء) أشد من البلاء، ولذا ذكر معه مما يصح معه الابتلاء ما لم يذكره في سورة الملك؛ 1- فقد قال في سورة الملك: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} والمغفرة تقتضي التخفيف، بخلاف ما في سورة الإنسان. 2- ذكر في سورة الإنسان ما يصح معه الابتلاء من سمع وبصر وأنه هداه السبيل، فلما أطال في ذكر ما زوده بما يصح معه الابتلاء أطال وبالغ في البلاء، ولما خفف ولم يذكر ذلك في سورة الملك خفف في الفعل. 3- لم يذكر شيئًا من ابتلاء الأعمال في سورة الملك عدا ذكر الكافرين وذكر الذين يخشون ربهم فقال: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، وقال في وصف المؤمنين: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} ولم يذكر شيئًا من أعمال هؤلاء وأولئك، في حين ذكر في سورة الإنسان من أعمال هؤلاء وهؤلاء ما لم يذكره في سورة الملك، فذكر أن المؤمنين يوفون بالنذر ويخافون يومًا كان شره مستطيرًا، وأنهم يطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا. وطلب من نبيه أن يصبر لحكم ربه وأن لا يطيع آثمًا أو كفورًا، كما طلب منه أن يذكر ربه بكرة وأصيلاً، وأن يسجد له ويسبحه ليلًا طويلاً، وأفاض في ذكر نعيم المؤمنين ما لم يفض في سورة الملك. وكذلك بالنسبة إلى الكافرين، فقد ذكر أنهم {يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا}. وقال في ختام السورة: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}، فاقتضى ذلك أن يذكر الابتلاء ويطيل في صيغة الفعل ويبالغ فيه، بخلاف سورة الملك. وقوله: (نبتليه) يحتمل معنيين: المعنى الأول: التعليل، أي خلقناه لنبتليه، وهو مثل قولك: جئت أتعلم منك، أي لأتعلم، وجئت أشتري دارًا، أي لأشتري، وهذه الجملة استئنافية تفيد التعليل. والمعنى الثاني: أن يكون حالًا مقدرة عن الفاعل، بمعنى: خلقناه مبتلين له، أي مريدين ابتلاءه، ومعنى الحال المقدرة أن تكون الحال واقعة في المستقبل، كقوله تعالى: {} فهو لم يكن نبيًّا حين التبشير. وقد يكون حالاً من المفعول، أي خلقناه مبتلى. ولم يذكر لام التعليل كما في سورة (الملك) التي قال: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} وذلك ليجمع معنيي التعليل والحالية. وقد تقول: ولِمَ لَمْ يفعل ذلك في سورة الملك ليجمع بينهما؟ والجواب: أن التعبير لا يحتمل ذلك، فقد قال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} فإنه ذكر علة خلق الموت والحياة لا علة خلق الإنسان، فلا يحسن أن يقول: (الذي خلق الموت والحياة يبلوكم) فناسب كل تعبير موضعه. وقد تأتي الحال مفيدة للتعليل، كقولك: (جئت طالبًا للعلم) أي لطلب العلم، و(عبدت الله طامعًا في جنته) أي طمعًا، و(فعلت ذلك مبتغيًا رضوان الله) أي ابتغاء رضوان الله. وعلى هذا يمكن أن تكون جملة (نبتليه) استئنافية تفيد التعليل، أو حالية مفيدة للتعليل، أو حالًا مقدرة من الفاعل وهو الله، أي مستقبلة بمعنى مبتلين له، أو حالًا من المفعول وهو الإنسان (7) أي مبتلى. جاء في (التفسير الكبير): "أما قوله (نبتليه) ففيه مسائل: (المسألة الأولى) نبتليه معناه لنبتليه، وهو كقول الرجل: (جئتك أقضي حقك) أي لأقضي حقك، و(أتيتك أستمنحك) أي لا ستمنحك، كذا قوله: (نبتليه) أي لنبتليه. ونظيره قوله: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6]. (المسألة الثانية): نبتليه في موضع الحال، أي خلقناه مبتلين له، يعني مريدين ابتلاءه" (8). وجاء في (البحر المحيط): {نَبْتَلِيهِ} نختبره بالتكليف في الدنيا ... وعلى أن المعنى: نختبره بالتكليف، فهي في حالة مقدرة، لأنه تعالى حين خلقه من نطفة لم يكن مبتليًا له بالتكليف في ذلك الوقت" (9). وجاء في (الكشاف): {نَبْتَلِيهِ} في موضع الحال، أي خلقناه مبتلين له، بمعنى: مريدين ابتلاءه، كقولك: مررت برجل معه صقر صائدًا به غدًا، تريد: قاصدًا به الصيد غدًا" (10). وقد ذكر الله ههنا ما يصح معه الابتلاء ومستلزماته ومتعلقاته، فقد ذكر السمع والبصر والعقل، قال تعالى: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} ومعنى {هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} أرشدناه وعلمناه، وهذا يقتضي العقل وذكر الاختيار، ويشير إلى ذلك قوله: {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}. وذكر مادة الاختبار وهو المنهج الرباني الذي أشار إليه بقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ}، وهذه الأمور لا يصح الابتلاء من دونها. ثم ذكر موقف المكلفين من هذا الاختبار أو الابتلاء، فذكر أنهم قسمان: شاكر وكفور، وذكر عاقبة هذا الاختبار أو الابتلاء وهي الجنة أو السعير، فذكر كل ما يتعلق بالاختبار من أركان وأحوال، فذكر المبتلى أو المختبر وهو الله وذلك قوله: (نبتليه)، وذكر المبتلى وهو (الإنسان)، وذكر موضوع الاختبار وهو قوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} وموقف المبتلى منه وعاقبته. جاء في (التفسير الكبير): "ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر فقال: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} والسمع والبصر كنايتان عن الفهم والتمييز، كما قال تعالى حاكيًا عن إبراهيم عليه السلام: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ} [مريم: 42]" (11). {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} قَدَّم السمع على البصر، وهو الشأن في آيات القرآن التي اجتمع فيها السمع والبصر غالبًا، ذلك أن السمع أهم في باب الابتلاء والتكليف من البصر، فإن فاقد البصر يمكن أن يعي ويفهم ويبلغ، بخلاف فاقد السمع فإن من العسير تبليغه وإفهامه. وقدمهما على الهداية فقال بعد هذه الآية: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} لأن السمع والبصر طريقان يوصلان المعلومات إلى العقل، ومن دونهما يعسر على العقل فهم المعلومات واستيعابها. جاء في (التفسير الكبير): "الآية دالة على أن إعطاء الحواس كالمقدم على إعطاء العقل، والأمر كذلك" (12). وجاء في (البحر المحيط): "وامتن تعالى عليه بجعله بهاتين الصفتين وهما كناية عن التمييز والفهم، إذ آلتهما سبب ذلك ... ولمَّا جعله بهذه المثابة أخبره تعالى أنه هداه إلى السبيل، أي أرشده إلى الطريق، وعرفنا مآل طريق النجاة ومآل طريق الهلاك، إذ أرشدناه طريق الهدى" (13). ولم يفصل بين هاتين الصفتين بالواو، فلم يقل: (وجعلناه سميعًا وبصيرًا) لئلا يظن أنه جعل الإنسان قسمين قسمًا يسمع وقسمًا يبصر. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 210 إلى ص 216. (1) انظر الكشاف 3/295، البحر المحيط 8/293. (2) انظر التفسير الكبير 30/235. (3) انظر الكشاف 3/295، البحر المحيط 8/391، التفسير الكبير 30/236. (4) انظر الكشاف 3/295. (5) لسان العرب (سبسب) 1/243. (6) لسان العرب (قفر) 6/422. (7) انظر فتح القدير 5/235. (8) التفسير الكبير 30/237. (9) البحر المحيط 8/394. (10) الكشاف 3/295. (11) التفسير الكبير 30/237. (12) التفسير الكبير 30/237. (13) البحر المحيط 8/394. الوقفة كاملة
١٥٥ {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4)} أكد الإعتاد بإن؛ ذلك لأنه عاقبة ما تقدمه من الهداية، والهداية مؤكدة، فالعاقبة مؤكدة أيضًا. وقد تقول: ولم قال: (أعتدنا) ولم يقل: (أعددنا)؟ وما الفرق بين الإعتاد والإعداد؟ والجواب: أن (أعتد) قريب من (أعد) في المعنى، غير أن في (أعتد) قربًا وحضورًا، ولا يشترط في (أعد) الحضور. قال تعالى: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق: 23] أي حاضر عندي قريب، وقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] أي هيئوا، وليس معناه أحضروا، وقال: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46] أي هيأوا، ولم يقل (أعتدوا) لأنه لا يريد الإحضار. جاء في (لسان العرب): "وشيء عتيد: مُعَدّ حاضر، وعتد الشيءُ عتادة فهو عتيد حاضر" (1). وجاء في (التفسير الكبير): "الإعتاد هو إعداد الشيء حتى يكون عتيدًا حاضرًا متى احتيج إليه كقوله تعالى: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ}" (2). ويدلك على ذلك الاستعمال القرآني، قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء : 18] فقال: (أعتدنا) لما كان هؤلاء من الموتى وهم كفار أو حضر أحدهم الموت وقد قرب العذاب منهم وأحضر فاستعمل (أعتدنا). في حين قال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]. فقال: (أعدّ) وذلك لأن هؤلاء لا يزالون يتقلبون في حياتهم الدنيا . وقال: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفرقان : 37]. فإنه لما ذكر أنه أغرقهم وجعلهم آية قال: (أعتدنا) لأن عذابهم حاضر وهم ذائقوه. أما الجواب عن الاستعمال في هذه الآية فإنه لما ذكر جزاء أهل الجنة بصيغة الوقوع لا بصيغة أنه سيقع، وأن ما عندهم مُعَدّ حاضر، ناسب أن يقول في أهل النار كذلك. فقد ذكر أن الأبرار يشربون من كأس، وذكر أنه وقاهم شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورًا، وجزاهم بما صبروا جنة وحريرًا، فقد ذكر شأنهم وأحوالهم بالأفعال الماضية، فناسب أن يقول في أهل النار: (أعتدنا) للحضور والقرب. بخلاف ما ورد في آخر السورة، فإنه لما ذكر أنه تعالى يدخل من يشاء في رحمته على الاستقبال ناسب أن يقول: {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ} (أعتد). وهناك ملاحظة أخرى، وهي أنه لم يرد في القرآن استعمال (أعدّ) مسندًا إلى الضمير (نا)، فإنه لم يقل: (أعددنا)، كما لم يرد (أعتد) مسندًا إلى الله تعالى إلا بضمير التعظيم، أي (أعتدنا). فإنه ورد (أعتدنا) والضمير يعود على الله، ولم يرد (أعددنا)، فكان هذا هو المناسب لما ورد في الاستعمال القرآني على العموم. ثم إنه قال: {أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ} جمع الكافر، ولم يقل: (أعتدنا للكفر) جمع الكفور، وكان المظنون أنه لما قال: {وَإِمَّا كَفُورًا} أن يجمعه فيقول: (إنا أعتدنا للكفر) فما سبب ذلك؟ والجواب: أنه ذكر (الكافرين) ليشمل من بالغ في الكفر ومن لم يبالغ فيه. ولو قال: (للكُفًر) لظن ظان أن ذلك يتناول المبالغ في الكفر دون من لم يبالغ، ولظن أن هذا خاص بالكفور دون الكافر، فلما ذكر عاقبة الكافر شمل ذلك الكفور من باب أولى، وأنه سيلقى من العذاب أكبر مما ذكر، فإنه كما بالغ في الكفر يبالغ له في العذاب، فإذا كان هذا عذاب الكافر فما بالك بعذاب الكفور، وماذا أعتد له يا ترى؟ وقد ذكر العذاب بقوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} فذكر السلاسل والأغلال والسعير، وذلك أنه لما أطلق له الحرية والاختيار في الدنيا فقال: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} وهداه السبيل ليسلك فيها فلم يسلكها قيده في الآخرة ولم يتركه لمشيئته واختياره كما كان في الدنيا. لقد قيده بالسلاسل وهي تقيد حركة الأرجل، وبالأغلال وهي تقيد حركة الأيدي والأعناق، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [يس: 8]، وقال: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: ٦٤] فالأغلال توضع في الأيدي وفي الأعناق، وبذلك قيد حركته على كل حال، فلم يترك له فرصة أو حالًا للحركة والاختيار بمقابل حريته واختياره في الدنيا. إن هذا ما اختاره هو والسبيل التي آثرها، والله لا يظلم الناس شيئًا ولكن الناس أنفسهم يظلمون. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 221 إلى ص 224. (1) لسان العرب (عتد) 4/269. (2) التفسير الكبير 30/240. الوقفة كاملة
١٥٦ {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)} أجمل حقيقة ما يعيشه الناس في هذه الحياة بما ذكر في الآية. وقد رتب هذه الأشياء بحسب ترتيبها في حياة الناس مبتدئًا باللعب واللهو منتهيًا بالجد. فبدأ باللعب وهو ما يقع في دور الطفولة والصبا. هذا هو الأصل وإن كان يطلق اللعب أحيانًا على نقيض الجد كقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65]، وقوله: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الزخرف: 83]، وقوله: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} [الدخان: 9]، وقوله: {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} [الأنبياء: 55]. ثم ذكر اللهو وهو ما يكون في دور الفتوة والشباب. ثم إن اللهو أعم من اللعب، فاللهو يقع للصغير والكبير. ثم ذكر الزينة وهو مقصد من مقاصد الشباب والنساء في دور بداية اكتمال أنوثتهن. وذكر بعدها التفاخر وهو أكثر ما يكون من شأن الرجال فيفتخرون بمآثر أفعالهم وأحسابهم وأنسابهم ومآثر آبائهم وأجدادهم. ثم يأتي بعد ذلك دور التكاثر في الأموال والأولاد وهو التباري في جمعها، وهو المقصد الأهم في الحياة، إذ بالمال والأولاد تدوم الحياة وبهما ينشغل الناس وفيهما يجدون. أما ما قبلها من الأمور فهي ليست بتلك المنزلة والمكانة. وقد الأموال على الأولاد لأن التكاثر في الأموال أكثر، وختم بالأولاد لأنهم أجل ما ذكر ولهم يترك المال. جاء في (نظم الدرر): "لعب: أي تعب لا ثمرة له فهو باطل كلعب الصبيان، ولهو أي شيء يفرح الإنسان به فيلهيه ويشغله عما يعنيه ثم ينقضي كلهو الفتيان، ثم أتبع ذلك عظم ما يلهي في الدنيا فقال: (وزينة) أي شيء يبهج العين ويسر النفس كزينة النسوان، وأتبعها ثمرتها فقال: (وتفاخر) أي كتفاخر الأقران يفتخر بعضهم على بعض" (1). وجاء في (تفسير الرازي): "المقصود الأصلي من الآية تحقير حال الدنيا وتعظيم حال الآخرة... ثم إنه وصفها بأمور: (أولها) أنها لعب وهو فعل الصبيان الذي يتبعون أنفسهم جدًا، ثم إن تلك المتاعب تنقضي من غير فائدة. و(ثانيها) أنها لهو، وهو فعل الشبان... و(رابعها) تفاخر بينكم بالصفات الفانية الزائلة" (2). وجاء في (التحرير والتنوير): "وهي أيضًا أصول أطوار آحاد الناس في تطور كل واحد منهم. فإن اللعب طور سن الطفولة والصبا، واللهو طور الشباب، والزينة طور الفتوة، والتفاخر طور الكهولة، والتكاثر طور الشيخوخة... واللعب هو الغالب على أعمال الأطفال والصبيان فطور الطفولة طور اللعب، ويتفاوت غيرهم في الإتيان منه فيقل ويكثر بحسب تفاوت الناس في الأطوار الأولى من الإنسان وفي رجاحة العقول وضعفها. والإفراط فيه من غير أصحاب طوره يؤذن بخسة العقل، ولذلك قال قون إبراهيم له: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} ....واللهو اسم لفعل أو قول يقصد منه التذاذ النفس بخ وصرفها عن ألم حاصل من تعب الجسد أو الحزن أو الكمد، يقال: لها عن الشيء، أي تشاغل عنه... ويغلب اللهو على أحوال الشباب فطور الشباب طوره، ويكثر اللهو في أحوال الدنيا من تطلب اللذات والطرب. والزينة: تخسين الذات أو المكان بما جعل وقعه عند ناظره مسرًا له، وفي طباع الناس الرغبة في أن تكون مناظرهم حسنة في عين ناظريهم، وذلك في طباع النساء أشد... ويغلب التزيين على أحوال الحياة، فإن معظم المساكن والملابس يراد منه الزينة... والتفاخر: الكلام الذي يفخر به، والفخر: حديث المرء عن محامده والصفات المحمودة منها فيه بالحق أو الباطل، وصيغ منه زنة التفاعل لأن شأن الفخر أن يقع بين جانبين كما أنبأ به تقييده بظرف (بينكم)... والتكاثر: تفاعل من الكثرة، وصيغة التفاعل هنا للمبالغة في الفعل بحيث ينزل منزلة من يغالب غيره في كثرة شيء... ثم شاع إطلاق صيغة التكاثر فصارت تستعمل في الحرص على تحصيل الكثير من غير مراعاة مغالبة الغير ممن حصل عليه" (3). وقد اقتصر في مواضع أخرى من القرآن الكريم على اللعب واللهو ولم يذكر الزينة وما بعدها، قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 32]. وقال: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد: 36]. وقال: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64]. فاقتصر كما ترى على اللعب واللهو؛ ذلك لأن ما ذكره في آية الحديد من زينة وتفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد قد يندرج تحت اللهو. فالزينة قد تلهي، والتفاخر قد يلهي، والتكاثر في الأموال والأولاد قد يلهي، فقد سمى الله المال والبنين زينة فقال: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون: 9]، وقال: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 1 - 2]. وتندرج كثير من أمور الحياة في معنى اللعب بمعناه الواسع، وهو ما كان نقيض الجد وما لا يقصد به من الأعمال قصدًا صحيحًا كما ورد في القرآن مما سماه لعبًا. ولما فصل في آية الحديد في حقيقة الحياة الدنيا فصل في وصفها وعاقبتها، ولما أجمل في الآيات الأخرى لم يذكر شيئًا آخر يتعلق بها وإنما ذكر الآخرة أو أمورًا أخرى لا تتعلق بوصف الحياة. وقدم اللعب على اللهو فيما مر من الآيات إلا في آية واحدة قدم فيها اللهو على اللعب وهو قوله: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] وذلك لأن السياق يقتضي هذا التقديم، ذلك أنه تقدم الآية قوله: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} والرزق مدعاة إلى الالتهاء به والمشغلة لجمعه لا إلى اللعب، ولذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} فالذي بسط له رزقه ملتٍه بجمعه والذي قدر عليه رزقه ملتٍه بالحصول عليه. ثم قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 63] ومع معرفتهم وإقرارهم بذاك التهوا بالدنيا عن الله وعبادته وعن الآخرة، فناسب تقديم اللهو. ولم يتقدم آية الأنعام ولا آية محمد ما يدعو إلى اللهو فكان تقديمه في آية العنكبوت أنسب. {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} شبه الحياة الدنيا بغيث أعجب الكفار نباته. والكفار هم الكافرون بالله الجاحدون لنعمه. وقال بعضهم: إن الكفار هم الزراع؛ لأن الزراع قد يسمى كافرًا؛ لأنه يكفر البذر الذي يبذره بتراب الأرض، أي يغطيه (4). ويترجح عندي المعنى الأول، فإن الكافرين هم الذين يغترون بالدنيا وهم أشد إعجابًا بها وبزينتها. ولا مانع من أن يكون المعنيان مقصودين، فإنه من التوسع في المعنى الذي يراعيه القرآن كثيرًا. وقد ذكر القرآن الزراع باسمهم في سورة الفتح حين وصف أصحاب محمد فقال: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29]. واخيار الزراع هنا أنسب، كما اختيار الكفار هناك أنسب، ذلك أن التشبيه في سورة الفتح وقع لصورة محمودة فناسب ذكر الزراع لا الكفار، بخلاف ما في سورة الحديد. ثم إنه قال في آية الفتح: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} فلا يناسب أن يقول: يعجب الكفار ليغيظ بهم الكفار. ثم إنه قال: (الزراع) في آية الفتح للدلالة على أنه زرع مقصود؛ لأن الزراع يزرع ما ينتفع وينتفع به الآخرون، بخلاف ما ذكر في آية الحديد فإنه قال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} وهو ما يخرج بسبب المطر من أنواع مختلفة، منها ما لا فائدة فيه للإنسان ومنها الأدغال والحشائش، فكان كل تعبير في مكانه أنسب. {ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} ذكر مآل الزرع وناسب ذلك الزينة والأموال فذكر زوالهما وذهابهما وذلك شأن الدنيا. لقد قال: {فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} ولم يقل: (ثم يكون مصفرًا). كما قال: {ثُمَّ يَهِيجُ} و {ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} بإسناد الفعل إلى النبات. أي يراه الناظر مصفرًا وذلك للدلالة على زوال الزينة وذهابها، فإن الزينة تتعلق بالناظر كما قال تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} [الحجر: 16]، ومن ناحية أخرى ليدل على موطن العبرة والاتعاظ فإن ذلك يحصل بالرؤية. وقال: {ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} أي هذا مآله، ولم يقل: (ثم تراه حطامًا) فلم يعلق ذلك بالرؤية، وإنما أراد أن يبين أنه يكون كذلك، إذ ربما يكون الشيء غير ذي زينة للناظر ولكنه ثمين نافع وهو من كرائم الأموال، فقال: {ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} فيذهب المال ويزول فلا يبقى مال ولا تكاثر ولا تفاخر ولا زينة لأن الحطام ليس مالًا ولا يتفاخر أو يتكاثر به. بل سيذهب اللعب واللهو معه، فإن الذي لم يبق له إلا الحطام لا يلعب ولا يلهو، وكيف يلهو ويلعب وقد أصبح ما لدية حطامًا؟ وقد تقول: ولم لم يقل: (ثم يجعله حطامًا) كما قال في سورة الزمر؟ والجواب: إن السياق مختلف في الآيتين. ففي آية الزمر الأفعال مسندة إلى الله، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [الزمر: 21]، فالله هو الذي أنزل من السماء ماء، وهو الذي سلكه ينابيع في الأرض، وهو الذي أخرج به الزرع، فناسب أن يقول: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا} لأن الذي أخرجه هو الذي يجعله حطامًا. وليس كذلك التعبير في آية الحديد، فإنه قال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} فلم يسند حدثًا إلى نفسه سبحانه، فناسب كل تعبير موضعه. {وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ} قدم العذاب على المغفرة لأنه ذكر قبله اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر مما ليس محمودًا على العموم. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن العذاب يسبق المغفرة والرضوان، فعذاب الموقف قبل الحساب وقبل القضاء وقبل الدخول في الجنة والنار. وورود النار لجميع الخلق قبل الدخول في الجنة كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] ومن الناس من يعذب أولًا ثم يدخل الجنة. ووصف العذاب بأنه شديد. وذكر أن المغفرة والرضوان من الله، ولم يذكر مثل ذلك في العذاب للدلالة علة سعة رحمته، وقدم المغفرة على الرضوان لأنها أسبق منه وهي قبله، جاء في (روح المعاني): "{وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} لأنه من نتائج الانهماك فيما فصل من أحوال الحياة الدنيا، و(مغفرة) عظيمة ( من الله ورضوان) عظيم لا يقادر قدره. وفي مقابلة العذاب الشديد بشيئين إشارة إلى غلبة الرحمة وأنه من باب ( لن يغلب عسر يسرين). وفي ترك وصف العذاب بكونه من الله تعالى مع وصف ما بعده بذلك إشارة إلى غلبتها أيضًا" (5). وقال: (مغفرة) ولم يقل: (غفران)؛ ذلك أن كلمة (غفران) لم ترد في القرآن الكريم إلا في موطن واحد لمعنى واحد وهو طلب المغفرة من الله وهو قوله: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]. وأما المغفرة من الله فتأتي في غير الطلب كالإخبار بها والدعوة إليها وغير ذلك. قال تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 221] وقال: {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة: 268]، وقال: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6]. وقد تكون المغفرة من غير الله، قال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة: 263]. وقال: (رضوان) ولم يقل: (مرضاة) لأن الرضوان معناه "الرضا الكثير، ولما كان أعظم الرضا رضا الله تعالى خص لفظ الرضوان في القرآن بما كان من الله تعالى" (6).قال تعالى: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 162]، وقال: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ} [التوبة: 21]، وقال: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ} [التوبة: 109]. وأما المرضاة فإنها تستعمل له ولغيره، قال تعالى: {تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1]، وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة: 207]. ثم إن (المرضاة) لم تستعمل إلا في ابتغاء الرضا، وأما الرضوان فهو عام يستعمل في ابتغاء الرضا وغيره، قال تعالى في المرضاة: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة: 265]، وقال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114]. وقال في الرضوان: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ} [التوبة: 21] وهذا في غير ابتغاء الرضا. وقال في ابتغاء الرضا: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد: 27]، وقال: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29] ومن هذا يتبين أن المغفرة: 1- تستعمل في المغفرة من الله وغيره، فهي عامة من حيث الغافر. 2- انها عامة في غير الطلب، فهي عامة من حيث الدلالة بخلاف (الغفران) فإنه خاص بمعنى واحد وهو طلب المغفرة، وخاص في الغافر وهو الله. وأن المرضاة: 1- خاصة في ابتغاء الرضا، فهي لم تستعمل في غيره. 2- وأنها عامة في المبتغى منه الرضا، فهو الله أو غيره. وأن الرضوان: 1- خاص في أنه من الله. 2- عام في ابتغاء الرضا وغيره، فهو عام من حيث الدلالة. فخصص المغفرة وقال: {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ} لتقابل الرضوان؛ لأن الرضوان مخصص في كونه من الله. وكلاهما مطلق من حيث الدلالة، فتناظرا من حيث كونهما خاصين بالله، عامين من حيث الدلالة. والله أعلم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 384 إلى ص 393. (1) نظم الدرر 7/452. (2) تفسير الرازي 29/233 – 234. (3) التحرير والتنوير 27/401 – 403. (4) انظر تفسير الرازي 29/235، الكشاف 4/65. (5) روح المعاني 27/185. (6) مفردات الراغب، مادة (رضي). الوقفة كاملة
١٥٧ {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا} أي آثار نوح وإبراهيم ومن بعدهما من الذرية الذين جعل فيهم النبوة والكتاب. {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} أي وأتبع الرسل بعيسى بن مريم، وذكر عيسى لأنه آخر الرسل قبل الرسول الخاتم، ولأنه ذكر الكتاب الذي أنزل إليه وذكر أتباعه وحالهم، واقتضى ذكره أيضًا لأنه تفرد عن بقية الرسل بأنه ليس من ذرية إبراهيم من جهة الأب وإنما من جهة الأم، والمعروف في ذرية الشخص من ينتسب إليه من جهة الأب، إلا أنه عده الله من ذريتهما في آية أخرى وهي قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنعام: 84 - 85]. والله سبحانه ينسبه إلى أمه ردًا على النصارى الذين يزعمون أنه أبن الله، جاء في (التحرير والتنوير): "وضمير الجمع في قوله: {عَلَى آَثَارِهِمْ} عائد إلى نوح وإبراهيم وذريتهما الذين كانت فيهم النبوة والكتاب، فأما الذين كانت فيهم النبوة فكثيرون، وأما الذين كان فيهم الكتاب فمثل بني إسرائيل. و(على) للاستعلاء، وأصل (قفى على أثره) يدل على قرب ما بين الماشيين، أي حضر الماشي الثاني قبل أن يزول أثر الماشي الأول، وشاع ذلك حتى صار قولهم: (على أثره) بمعنى بعده بقليل أو متصلًا شأنه بشأن سابقه ... وفي إعادة فعل (قفينا) وعدم إعادة (على آثارهم) إشارة إلى بعد المدة بين آخر رسل بن إسرائيل وبين عيسى، فأن آخر رسل بني إسرائيل كان يونس بن متى أرسل إلى أهل نينوي أول القرن الثامن قبل المسيح" (2). وقد تقول: لقد قال ههنا: {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}، وقال في المائدة: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة: 46] فقال في المائدة: {عَلَى آَثَارِهِمْ} ولم يقل مثل ذلك في الحديد، فما السبب؟ والجواب: أن الأمر مختلف، فإن آية الحديد في تقفية الرسل، وآية المائدة في تقفية الربانيين والأحبار، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة: 44]، ثم قال: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة: 46] فالربانيون والأحبار لم ينقطعوا فقفى على آثارهم بعيسى بن مريم، أي ليس بينهم وبينه مدة فاصلة، بخلاف ما بينه وبين الرسل فإن بينه وبينهم مدة ليست بالقليلة. {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً} الرأفة أخص من الرحمة وأرق (3). جاء في (تاج العروس): "الرأفة: أشد الرحمة وأرقها ... والذي في المجل: أنها مطلق الرحمة وأخص ولا تكاد تقع في الكراهية، والرحمة قد تقع في الكراهية للمصلحة، وقال الفخر الرازي: الرأفة مبالغة في رحمة مخصوصة من دفع المكروه وإزالة الضر، وإنما ذكر الرحمة بعدها ليكون أعم وأشمل" (4). فالرأفة تتعلق بدفع الأذى والضر فهي رحمة خاصة، والرحمة عامة في ذلك وغيره، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقال: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا} [الروم: 36]، وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]، وقال: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]، وقال: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} [الأنعام: 157]، وقال: {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ } [الأعراف: 49]، وقال: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود: 28]، وقال: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65] فذلك ونحوه لا تصح فيه الرأفة، فالرحمة أعم. وحيث اجتمعت الرأفة والرحمة قدمت الرأفة على الرحمة. {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} أي وابتدعوا رهبانية لم نكتبها عليهم، إلا أنهم ابتغوا بابتداعها رضوان الله، غير إنهم لم يرعوها حق الرعاية فهم لم يقوموا بها حق القيام. جاء في (الكشاف) في قوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا}: "وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره (وابتدعوا رهبانية) (ابتدعوها) يعني وأحدثوها من عند أنفسهم ونذرها {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} لم نفرضها نحن عليهم. {إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} استثناء منقطع، أي ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله. {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} كما يجب على الناذر رعاية نذره لأنه عهد مع الله لا يحل نكثه. {فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا} يريد أهل الرحمة والرأفة الذين اتبعوا عيسى، {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} الذين لم يحافظوا على نذرهم. ويجوز أن تكون الرهبانية معطوفة على ما قبلها، و{ابْتَدَعُوهَا} صفة لها في محل النصب، أي وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة من عندهم، بمعنى: وفقناهم للتراحم بينهم ولا بتداع الرهبانية واستحداثها، ما كتبناها عليهم إلا ليبتغوا بها رضوان الله ويستحقوا بها الثواب، على أنه كتبها عليهم وألزمها إياهم ليتخلصوا من الفتن ويبتغوا بذلك رضا الله وثوابه، فما رعوها جميعًا حق رعايتها ولكن بعضهم، فآتينا المؤمنين المراعين منهم الرهبانية أجرهم، وكثير منهم فاسقون وهم الذين لم يروعوها" (5). والظاهر أن التفسير الأول ارجح من وجهين: الوجه الأول: أنه قال: {ابْتَدَعُوهَا}، ومعنى {ابْتَدَعُوهَا} أنه لم يكتبها عليهم. الوجه الثاني: أنه قال: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً}، والرهبانية أمر بدني سلوكي وليس قلبيًا فلا يصح عطفها على ما قبلها (6) والله أعلم. وفي الإخبار عنهم بقوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} ذم من وجهين: الوجه الأول: أنهم ابتدعوا الرهبانية، والدين لا يؤخذ بالابتداع حتى لو كان ذلك لغرض رضوان الله، فإن رضوان الله يتوصل إليه بما شرع هو لا بابتداع البشر كائنًا من كان. والوجه الثاني: أنهم لم يقوموا بما عاهدوا عليه أنفسهم حق القيام ولم يلتزموا بما شرعوه تقربًا لله – كما زعموا – فهم كالناذر الذي لم يوف بنذره. جاء في (تفسير ابن كثير): "{مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ }أي ما شرعناها لهم، وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم. وقوله: {إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} فيه قولان: أحدهما: أنهم قصدوا بذلك رضوان الله ... والآخر: ما كتبنا عليهم ذلك إنما كتبنا عيلهم ابتغاء رضوان الله. وقوله: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} أي فما قاموا بما التزموه حق القيام، وهذا لهم من وجهين: أحدهما: في الابتداع في دين الله ما يأمر به الله. والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عز وجل" (7). {فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} دل قول ربنا هذا على أن مناط الأمر هو الإيمان وليس غير ذلك من رهبانية مبتدعة، فهو لم يقل: (فآتينا الذين رعوها حق رعايتها أجرهم) لئلا يظن أنه يرضى عن الابتداع لأي غرض كان حتى لو قصد بذلك رضوان الله، وإنما مناط الأمر ورأس النجاة هو الإيمان. كما لم يقل كما قال في الآية السابقة: {فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} لئلا يظن أن الذين ابتدعوا الرهبانية أو قسمًا منهم يوصف بالهداية، ولئلا يحتج محتج بأن قسمًا من الابتداع فيه هداية، وإنما قسمهم على قسمين: من آمن منهم فلهم الرحمة، وقسم آخر فاسق، وذلك أن الفاسقين كثير. قد تقول: لقد قال في موطن آخر: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [المائدة: 46]. وواضح أن بين الآينين تشابهًا واختلافًا، فمن ذلك: 1- أنه قال في آية الحديد: {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} وقال في المائدة: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} وقد ذكرنا سبب الاختلاف بين التعبيرين. 2- قال في المائدة: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} ولم يقل مثل ذلك في آية الحديد. 3- قال في المائدة: {وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} وقال في الحديد: {وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ} ولم يزد على ذلك. 4- ذكر في آية الحديد أتباع عيسى عليه السلام وحالهم. وذكر في آية المائدة صفة الإنجيل فقال: {وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} فما سبب الاختلاف؟ فنقول: لقد اقتضى كل تعبير السياق الذي ورد فيه: 1- فإنه قال في المائدة: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} لما تقدم ذكر التوراة قبل هذه الآية فقال: { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ... إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ... وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ..... } [المائدة:43 - 45]. ولم يجر في سياق آية الحديد ذكر لموسى ولا للتوراة، فناسب ذكر ذلك في المائدة دون الحديد. 2- وقال في المائدة: { وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ } لما ذكر قبله التوراة، وقال: { فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } فقد قال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} فناسب ذكر ذلك في الإنجيل أيضًا، ولم يجر ذكر للتوراة في الحديد كما أسلفنا. 3- ذكر الكتب السماوية في المائدة وضرورة الحكم بها. فقد ذكر التوراة والإنجيل ثم ذكر القرآن بعد ذلك فقال: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ....} [الآية: 48] وطلب من أهل كل كتاب أن يحكموا بما أنزل إليهم، فناسب أن يختم الآية بصفة الإنجيل فقال: {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}. وجرى في الحديد ذكر حال الذرية والأتباع وهو السياق الذي وردت فيه آية الحديد، فقد قال قبل هذه الآية: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}، ثم ذكر أتباع عيسى وحالهم، ثم انتهى إلى خطاب المؤمنين بسيدنا محمد وما أعدّ لهم. فناسب ختام كل آية سياق الذي وردت فيه، والحمد لله رب العالمين. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 415 إلى ص 423. (1) روح المعاني 27/189. (2) التحرير والتنوير 27/420 – 421. (3) لسان العرب (رأف). (4) تاج العروس (رأف)، وانظر التحرير والتنوير 27/421. (5) الكشاف 4/67 – 68. (6) انظر التحرير والتنوير 13/423. (7) تفسير ابن كثير 4/373. الوقفة كاملة
١٥٨ {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآَوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ} [هود: 42 - 43]. بعد الأمر بالركوب انتقل إلى مشهد الفلك وهي تجري في الماء، فلم يقل: (فركبوا فيها ثم جرت السفينة) لأنه لا يتعلق غرض بذكر ذلك، فإن قوله: {وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ} يدل على أنهم ركبوا وقد جرت بهم. وقوله: {تَجْرِي بِهِمْ} حكاية للحال الماضية، فكأنك تشاهدها وهي تجري بهم والأمواج تصعد بها وتنزل. وقوله: {فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ} يرسم المشهد الذي هي فيه. {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ} أي رفع نوح صوته مناديًا ابنه مما يدل على أن ابنه في مكان بعيد لا يُسمعه إلا النداء. والملاحظ ههنا أن نوحًا هو الذي نادى ابنه ليركب معه، وكان المظنون أن ينادي الابن أباه ليحمله فينجو مع الناجين، وكل الأمر يدل على أن الفلك هي سبيل النجاة الوحيد ولكن الابن رفض هذه الدعوة وأثر على رفقة هؤلاء الذين لا يرغب فيهم أن يلجأ وحيدًا إلى جبل ظانًا أنه يعصمه من الماء. وكان نداء نوح هو: {يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} فقال: (يا بني) بنداء التحبيب وذلك بتصغير الابن وإضافته إلى ياء المتكلم، وهو نداء كله حنان، ولم يقل له: (يا فلان) أو نحو ذلك. وقال: {ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} ولم يقل: (ولا تكن من الكافرين) فلم يدعه إلى الدخول في دينه في هذا الموقف وإنما نهاه أن يكون مع الكافرين فيغرق معهم. وقد دعاه إلى النجاة أولًا ليعيش في مجتمع مؤمن غير الذي ألفه وغير الخلان الذين كان يحيا معهم فيميلون به إلى معتقداتهم وأسلوب حياتهم. والخليل يؤثر في خليله كما قال تعالى: {يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي} [الفرقان: 28 - 29]. فنوح أراد أن يكون ابنه معهم اولًا فيعيش في مجتمع مؤمن مرقاة إلى أن يكون منهم فيما بعد. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثالث من ص 160 إلى ص 162. الوقفة كاملة
١٥٩ {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)} معنى (حق القول) في القرآن الكريم ثبت لهم العذاب ووجب، والقول هو قوله تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} {السجدة: 13}. جاء في (الكشاف): "(القول) قوله تعالى: {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} يعني تعلق بهم هذا القول وثبت عليهم ووجب؛ لأنهم ممن علم أنهم يموتون على الكفر" (1). وجاء في (فتح القدير): "ومعنى (حق) ثبت ووجب القول، أي العذاب على أكثرهم.. وقيل المراد بالقول المذكور هنا هو قوله سبحانه: {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ} {ص: 84 – 85}" (2). وجاء في (التفسير الكبير): في قوله تعالى: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ} وجوه: (الأول): وهو المشهور، أن المراد من القول هو قوله تعالى: {فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ}. (الثاني) : هو أن معناه: لقد سبق في علمه أن هذا يؤمن وأن هذا لا يؤمن فقال في حق البعض: إنه لا يؤمن، وقال في حق غيره: إنه يؤمن (فحق القول) أي وجد وثبت بحيث لا يبدل بغيره. (الثالث) هو أن يقال: المراد منه لقد حق القول الذي قاله الله على لسان الرسل من التوحيد وغيرها وبان برهانه، فأكثرهم لا يؤمنون بعد ذلك.... (على أكثرهم) فإن أكثر الكفار ماتوا على الكفر ولم يؤمنوا" (3). ولا شك أن سبق قوله لسبق علمه فلا اختلاف بين القولين الأول والثاني مما ذكره الرازي. وكذلك أن المعنى الذي ذكره في القول الثالث صحيح، لكن الذي يظهر أن المراد من معنى (حق القول) في القرآن هو ثبوت العذاب ووجوبه كما ذكرت. والذي يرجح ذلك أنه لم يرد في القرآن الكريم (حق القول) إلا لهذا المعنى، وكذلك (حقت كلمة ربك) فإسناد الفعل (حق) إلى القول أو الكلمة لا يعني إلا ثبوت العذاب ووجوبه، وذلك في ثلاثة عشر موضعًا. قال تعالى: {قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} {القصص: 63}. وقال: {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} {فصلت: 25}. وقال: {أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} {الأحقاف: 18}. وقال: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} {السجدة: 13}. وقال: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} {يس: 7}. وقال: {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} {الإسراء: 16}. وقال: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} {يس: 70}. وقال: {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ} {الصافات: 31}. وقال: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ} {الزمر: 19}. وقال: {حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} {الزمر: 71}. وقال: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} {يونس: 33}. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ} {يونس: 96 – 97}. وقال: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} {غافر: 6}. وبذا يترجح ما ذكرناه. وذكر في أية (يس) أنه حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون، وهذا ما حصل فإن أكثر الكفار لم يؤمنوا وماتوا على الكفر وبذا تحقق ما أخبر به القرآن. وهو من الإعجاز لأنه أخبر بالشيء قبل حصوله فحصل. وقد تقول: وما أدرانا أن هذا الأمر قد تحقق وأن أكثرهم ماتوا على الكفر؟ والجواب: يكفي وروده في القرآن الكريم، فإن القرآن أصدق وثيقة تاريخية عما أخبر في وقته. ولو لم يتم هذا الأمر لكان ذلك دليلًا على كذب ما أخبر به ولأعترض عليه الكفار بأن ما أخبر به لم يحصل. فإن القرآن يتلى عليهم ليل نهار وهذه الآية يسمعونها دومًا، فلو لم يحصل ذلك لكذبوه ولارتدوا عنه. ثم لنلاحظ أن الآية مصدرة بـ (لقد) وهذه اللام واقعة في جواب قسم عند النحاة سواء كان القسم مذكورًا أم مقدرًا. و(قد) حرف تحقيق وقد دخلت على الفعل الماضي، ومعنى ذلك أن ما أخبر به قد حصل وتحقق فعلًا. وقال: {فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} ولم يقل: (فهم لم يؤمنوا) ليدل على أنهم سيموتون على الكفر وأنهم لا يؤمنون في مستقبل حياتهم، ولو قال: (فهم لم يؤمنوا) لكان إخبارًا عن أمر قد مضى. وكذلك لو قال: (فهم غير مؤمنين) لاحتمل أنه يخبر عن حالتهم التي هم عليها وقت نزول الآية، وقد يتغير ذلك في المستقبل، فقد يكون أشخاص غير مؤمنين وقت نزول هذه الآية وسيؤمنون بعد ذلك، فلا يكون عند ذاك إخبارًا عن أمر غيب. فكان قوله الذي قاله أمثل شيء وأنسبه. وقد تقول: ولم قدم (القول) على الجار والمجرور فقال: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} مع أنه في مواطن أخرى يقدم الجار والمجرور على القول وذلك نحو قوله تعالى: {وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} {فصلت: 25}، وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} {يونس: 96}. والجواب: أن التقديم والتأخير إنما هو لغرض معنوي كما هو مقرر في علم البلاغة، فما كانت العناية به أكثر قدم في الكلام. فإذا كان الاهتمام بالقول أكثر قدم، وإذا كان الاهتمام بمن حق عليهم القول أكثر قدموا، وإليك إيضاح ذلك: قال تعالى: {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ}. فقدم (عليهم) على (القول)، ذلك أن السياق فيمن حق عليهم القول، أي على الأقوام الذين حق عليهم العذاب، ذلك أن الكلام على أعداء الله ابتداء من الآية التاسعة عشرة إلى الآية التاسعة والعشرين. قال تعالى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ} {فصلت: 19 – 29}. فناسب تقديم ضمير هؤلاء على (القول) لأن الكلام يدور عليهم. في حين قال: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} {يونس: 33}، فقدم الكلمة على (الذين فسقوا) لأن الاهتمام ليس منصرفًا إلى هؤلاء، وإنما الكلام على الله ونعمة واستحقاقه للعبادة، فناسب تقديم كلمته سبحانه. قال تعالى: {فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} {يونس: 29 – 35}. فانت ترى أن الكلام في آية (يس) فإن العناية بقول الله عليهم أكثر من الكلام على القوم وأفعالهم. فإنه لم يذكر عن القوم إلا أنهم غافلون لأن آباءهم لم ينذروا. ولم يذكر شيئًا عن أفعالهم وإنما ذكر تفسير استحقاق القول عليهم، فذكر أنه سبحانه جعل من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا... إلخ، فذكر ما فعله ربنا ولم يذكر ما فعلوه هم فقال: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} {يس: 8}، فجاعل الأغلال هو الله. {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا}، وجاعل السد هو الله، {فَأَغْشَيْنَاهُمْ} والذي أغشاهم هو الله. فناسب تقديم قوله عليهم وهو المناسب للسياق. فالجعل جعله، والإغشاء إغشاؤه، والقول قوله. هذا من حيث السياق والمقام. وهناك أمر آخر لفظي في هذه الآيات وهو: أنه إذا كان حرف الجر داخلًا على الضمير نحو (عليهم) و(علينا) تقدم الجار والمجرور على القول وإلا تأخر. وهذا لم يتخلف في جميع هذه الآيات. قال تعالى: {حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ}، في ثلاث آيات: {القصص: 63}، {فصلت: 25}، {الأحقاف: 18}. وقال: {فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ} {الإسراء: 16}. وقال: {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا} {الصافات: 31}. وقال: {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} {الزمر: 19}. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ} {يونس: 96}. بتقديم الجار والمجرور على الفاعل في كل ذلك. في حين قال: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ} {يس: 7}. وقال: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا} {يونس: 33}، وقال: {حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} {الزمر: 71}. وقال: {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} {يس: 70}. بتقديم الفاعل على الجار والمجرور. فناسب تقديم القول في سورة يس من ناحية اللفظ إضافة إلى المعنى. وأود أن أشير إلى أمر آخر وهو: أن كل تعبير قدم فيه ما قدم إنما كان لغرض تقتضيه البلاغة ويقتضيه السياق والمقام إضافة إلى اللفظ، فليس اللفظ وحده الداعي إلى التقديم. فازداد ذلك حسنًا على حسن. (1) الكشاف 2/582. (2) فتح القدير 4/394. (3) التفسير الكبير 26/43، وانظر البحر المحيط 7/323 – 324، روح المعاني 22/213. (4) انظر التفسير الكبير 26/44. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 24 إلى ص 31. الوقفة كاملة
١٦٠ {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)} بعدما ذكر أنه جعل في أعناقهم أغلالًا، ذكر أنه جعل من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا. وقال: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} و{وَمِنْ خَلْفِهِمْ} ولم يقل: (وجعلنا بين أيديهم سدًا وخلفهم سدًا) ذلك أن (من) تفيد ابتداء الغاية، ومعنى ذلك أنه جعل السد ابتداء من بين أيديهم ولم يترك بينه وبينهم فراغَا، وكذلك من خلفهم، فإن السد ملتصق بهم من الأمام وكذلك من الخلف فلا يستطيعون أن يخطوا خطوة واحدة أو حركة. بخلاف ما إذا لم يذكر (من) فإنه يحتمل أن يكون بينهم وبين السد مسافة بعيدة أو قريبة وذلك نحو قوله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ} {ق: 6}، فإن بينهم وبين السماء مسافة بعيدة، وكذلك قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} {الملك: 19}، فإن بينهم وبين الطير مسافة غير قليلة. في حين قال عن الأرض: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا} {فصلت: 10} فجاء بـ (من) ليدل على أن الرواسي ملتصقة بالأرض ليس بينها وبينها فراغ. ثم قدم الجار والمجرور على السد فقال: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} ولم يقل: (وجعلنا سدًا من بين أيديهم وسدًا من خلفهم) وذلك لأن الكلام عليهم لا على السد فكان تقديم ما تعلق بهم أولى. ونحوه قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} كما ذكرنا. وقد تقول: هذا أمر السد من أمامهم فلماذا جعل من خلفهم سدًا؟ وما الغرض منه؟ فنقول: كما أنه منعهم من السير إلى أمام منعهم من العودة والرجوع إلى أماكنهم الأولى. فإن الشخص إذا قطع عليه الطريق عاد إلى مكانه الأول ومقامه الذي كان فيه. وهنا قد منعه من ذلك فبقي في مكانه من الطريق في غير مأمن وفي غير مقام فهلك. ثم أغشى أبصارهم وغطاهم فمنعهم من الرؤية فهم لا يبصرون ولا يتحركون فكيف يهتدون؟. وقوله: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ} يحتمل أنه أغشاهم بالسدين، أي غطاهم فلا يستطيعون الإبصار ولا الحركة، أو أغشى أبصارهم علاوة على السدين. وفي كلتا الحالتين لا يستطيعون الحركة ولا الابصار. وقد تقول: ولم ترك الجانبين وهما جهتا اليمين واليسار، فلم يذكر أنه جعل فيهما سدين؟ فنقول: 1- إن قوله: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} منعهم من الحركة البتة إلى أية جهة كانت، ذلك لأن السدين ملتصقان بهم. 2- قوله: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ} أي غطيناهم، والتغطية تشمل جميع الجسم وليس جانبًا منه أو جانبين فلا يستطيعون الحركة لإغشائهم. 3- قوله: {فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} يمنعهم من معرفة ما هم عليه من السبيل. 4- إذا اتجهوا إلى جهة اليمين كان السد من بين أيديهم أيضًا ومن خلفهم، لأن هذه الجهة ستكون هي الأمام فتكون مسدودة عليهم، وإن أية جهة سيتجهون إليها ستكون هي ما بين أيديهم فيجعل سدًا من بين أيديهم ومن خلفهم. فقوله: (من بين أيديهم ومن خلفهم) يشمل جميع الجهات؛ لأن اية جهة يتجهون إليها ستكون ما بين أيديهم فلا حاجة إلى ذكر جهتي اليمين واليسار، فما ذكره يغني عن ذكرهما. وإسناده الجعل والإغشاء إلى الله تعالى بيان أنه لا يمكن لأحد أن يزيل السدين أو يرفع الغشاوة. جاء في (التفسير الكبير): "وعلى هذا فقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} يكون متممًا لمعنى جعل الله إياهم مغلولين، لأن قوله: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} إشارة إلى أنهم لا ينتهجون سبيل الرشاد، فكأنه قال: لا يبصرون الحق فينقادون له لمكان السد ولا ينقادون لك فيبصرون الحق فينقادون له لمكان الغل... وفيه وجه أخر وهو أن يقال: المانع إما أن يكون في النفس وإما أن يكون خارجًا عنها. ولهم المانعان جميعًا من الإيمان. أما في النفس فالغل وأما من الخارج فالسد. ولا يقع نظرهم على أنفسهم فيرون الآيات التي في أنفسهم، كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} {فصلت: 53}، وذلك لأن المقمح لا يرى نفسه ولا يقع بصره على يديه، ولا يقع نظره على الآفاق؛ لأن من بين السدين لا يبصرون الآفاق فلا تبين لهم الآيات التي في الآفاق. وعلى هذا فقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} إشارة إلى عدم هدايتهم لآيات الله في الأنفس والآفاق. وفي تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} مسائل: (المسألة الأولي) السد من بين الأيدي ذكره ظاهر الفائدة، فإنهم في الدنيا سالكون وينبغي أن يسلكوا الطريقة المستقيمة (ومن بين أيديهم سدًا) فلا يقدرون على السلوك. وأما السد من خلفهم فما الفائدة فيه؟ فنقول: الجواب عنه من وجوه: (الأول): هو أن الانسان له هداية فطرية والكافر قد يتركها، وهداية نظرية والكافر ما أدركها، فكأنه تعالى يقول: (جعلنا من بين أيديهم سدًا) فلا يسلكون طريقة الاهتداء التي هي نظرية (وجعلنا من خلفهم سدًا) فلا يرجعون إلى الهداية الجبلية التي هي الفطرية.... (الثالث): هو أن السالك إذا لم يكن له بد من سلوك طريق فإن انسد الطريق الذي قوامه يفوته المقصد ولكنه يرجع، وإذا انسد الطريق من خلفه ومن قدامه فالموضع الذي هو فيه لا يكون موضع إقامة لأنه مهلك فقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ} إشارة إلى إهلاكهم. (المسألة الثانية): قوله تعالى: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ} بحرف الفاء يقتضي أن يكون للإغشاء بالسد تعلق، ويكون الإغشاء مرتبًا على جعل السد فكيف ذلك؟. فنقول: ذلك من وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك بيانًا لأمور مترتبة يكون بعضها سببًا للبعض، فكأنه تعالى قال: (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالًا) فلا يبصرون أنفسهم لإقماحهم (وجعلنا من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا) فلا يبصرون ما في الآفاق، وحينئذ يمكن أن يروا السماء وما على يمينهم وشمالهم فقال بعد هذا كله: (وجعلنا على أبصارهم غشاوة) فلا يبصرون شيئًا أصلًا. وثانيهما: هو أن ذلك بيان لكون السد قريبًا منهم بحيث يصير ذلك كالغشاوة على أبصارهم، فإن من جعل من خلفه ومن قدامه سدين ملتزقين به بحيث يبقى بينهما ملتزقًا بهما تبقى عينه على سطح السد فلا يبصر شيئًا. أما غير السد فللحجاب، وأما عين السد فلكون شرط المرئي أن لا يكون قريبًا من العين جدًا. (المسألة الثالثة): ذكر السدين من بين الأيدي ومن خلف، ولم يذكر من اليمين والشمال ما الحكمة فيه؟... لأنهم إن قصدوا السلوك إلى جانب اليمين أو جانب الشمال صاروا متوجهين إلى شيء ومولين عن شيء، فصار ما إليه توجههم ما بين أيديهم فيجعل الله السد هناك فيمنعه من السلوك. فكيفما يتوجه الكافر يجعل الله بين يديه سدًا. ووجه أخر أحسن مما ذكرنا، وهو أنا لما بينا أن جعل السد صار سببًا للإغشاء كان السد ملتزقًا به، وهو ملتزق بالسدين فلا قدرة له على الحركة يمنة ولا يسرة، فلا حاجة إلى السد عن اليمين وعن الشمال. وقوله تعالى: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} يحتمل ما ذكرنا أنهم لا يبصرون شيئًا، ويحتمل أن يكون المراد هو أن الكافر مصدود، وسبيل الحق عليه مسدود، وهو لا يبصر السد ولا يعلم الصد، فيظن أنه على الطريقة المستقيمة وغير ضال" (1). وقد تقول: ولم لم يقل قال في سورة البقرة: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} {البقرة: 7}؟ فنقول: إن كل موطن اقتضى ما ذكر فيه، علاوة على أن ما ذكر في سورة (يس) يفيد ما أفاده في سورة البقرة. ذلك أن قوله: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} هو بمعنى قوله: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}، وأن قوله: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ} يفيد أنهم لا يسمعون، فإن من كان بين سدين مغطى بهما لا يسمع. وإذا كان كذلك فهو لا يفقه؛ لأن منافذ العلم مسدودة، فأفاد أنهم لا يبصرون ولا يسمعون ولا يفقهون. ثم إن ما ذكره في كل موطن هو المناسب من جهة أخرى، ذلك أنه قال في سورة يس: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} والصراط إنما يكون للسير فيه وسلوكه، فذكر ما يمنع الكفرة من سلوك الصراط المستقيم والسير فيه، وهو الأغلال في أعناقهم، والسد من بين أيديهم ومن خلفهم. والسد إنما هو لمنعهم من السير. أما المؤمنون فإنهم على الصراط المستقيم يسلكونه ويتخذونه سبيلًا. ولم يذكر مثل ذلك في البقرة، فكان ذكر السد مناسبًا في سورة (يس). وأما في سورة البقرة فقد قال: إن هذا الكتاب لا ريب فيه وهو هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله، الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد وما أنزل من قبله ويوقنون بالآخرة. فالمسألة متعلقة بالإيمان والتقوى، فذكر أن الكفرة مختوم على قلوبهم وعلى سمعهم وأن على أبصارهم غشاوة فانسدت منافذ الإيمان والتقوى. ومنافذ الإيمان والتقوى والعلم لدفع الريب هي السمع والبصر والقلب، فذكر أن هذه كلها مغلقة. فأغلق منافذ السير على الصراط المستقيم في سورة (يس) وأغلق منافذ الإيمان والهدى في سورة البقرة، فناسب كل تعبير مكانه الذي هو أليق به. وقد تقول: ولم لم يكرر (جعلنا) من الخلف فيقول: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} كما قال في سورة النبأ: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} {النبأ: 10 – 11}؟ والجواب: أن التكرار يفيد التأكيد. والسدان ليسا بمنزلة واحدة، فإن السد الذي من بين أيديهم يمنعهم من السير إلى أمام، وهو أهم؛ لأنه هو الموصل إلى الهدى وإلى الفلاح، وأما السد من خلف فهو مانع من الرجوع، والعود ليس أحمد. ولما لم يكن السدان بمنزلة واحدة من حيث الأهمية لم يجعلها في التعبير بمنزلة واحدة، فذكر الفعل في المهم وحذفه مما هو أقل اهمية. وأما تكراره في سورة النبأ فإن الليل والنهار كلاهما مهم للإنسان وحياته، فلا تصلح الحياة بليل لانهار فيها، ولا تصلح بنهار لا ليل فيها. قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} {القصص:71 – 72}. فلما كانت الحياة إنما تستقيم بالليل والنهار معًا جعلهما بمنزلة واحدة في التعبير فكرر الجعل مع كل واحد منهما، والله أعلم. (1) التفسير الكبير 26/45 – 46. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 33 إلى ص 40. الوقفة كاملة


إظهار النتائج من 151 إلى 160 من إجمالي 314 نتيجة.