عرض وقفة أسرار بلاغية
{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4)}
أكد الإعتاد بإن؛ ذلك لأنه عاقبة ما تقدمه من الهداية، والهداية مؤكدة، فالعاقبة مؤكدة أيضًا.
وقد تقول: ولم قال: (أعتدنا) ولم يقل: (أعددنا)؟ وما الفرق بين الإعتاد والإعداد؟
والجواب: أن (أعتد) قريب من (أعد) في المعنى، غير أن في (أعتد) قربًا وحضورًا، ولا يشترط في (أعد) الحضور. قال تعالى: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ} [ق: 23] أي حاضر عندي قريب، وقال: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} [الأنفال: 60] أي هيئوا، وليس معناه أحضروا، وقال: {وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً} [التوبة: 46] أي هيأوا، ولم يقل (أعتدوا) لأنه لا يريد الإحضار. جاء في (لسان العرب): "وشيء عتيد: مُعَدّ حاضر، وعتد الشيءُ عتادة فهو عتيد حاضر" (1).
وجاء في (التفسير الكبير): "الإعتاد هو إعداد الشيء حتى يكون عتيدًا حاضرًا متى احتيج إليه كقوله تعالى: {هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ}" (2).
ويدلك على ذلك الاستعمال القرآني، قال تعالى: {وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآَنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء : 18] فقال: (أعتدنا) لما كان هؤلاء من الموتى وهم كفار أو حضر أحدهم الموت وقد قرب العذاب منهم وأحضر فاستعمل (أعتدنا).
في حين قال: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93].
فقال: (أعدّ) وذلك لأن هؤلاء لا يزالون يتقلبون في حياتهم الدنيا .
وقال: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آَيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا} [الفرقان : 37].
فإنه لما ذكر أنه أغرقهم وجعلهم آية قال: (أعتدنا) لأن عذابهم حاضر وهم ذائقوه.
أما الجواب عن الاستعمال في هذه الآية فإنه لما ذكر جزاء أهل الجنة بصيغة الوقوع لا بصيغة أنه سيقع، وأن ما عندهم مُعَدّ حاضر، ناسب أن يقول في أهل النار كذلك. فقد ذكر أن الأبرار يشربون من كأس، وذكر أنه وقاهم شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورًا، وجزاهم بما صبروا جنة وحريرًا، فقد ذكر شأنهم وأحوالهم بالأفعال الماضية، فناسب أن يقول في أهل النار: (أعتدنا) للحضور والقرب.
بخلاف ما ورد في آخر السورة، فإنه لما ذكر أنه تعالى يدخل من يشاء في رحمته على الاستقبال ناسب أن يقول: {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ} (أعتد).
وهناك ملاحظة أخرى، وهي أنه لم يرد في القرآن استعمال (أعدّ) مسندًا إلى الضمير (نا)، فإنه لم يقل: (أعددنا)، كما لم يرد (أعتد) مسندًا إلى الله تعالى إلا بضمير التعظيم، أي (أعتدنا).
فإنه ورد (أعتدنا) والضمير يعود على الله، ولم يرد (أعددنا)، فكان هذا هو المناسب لما ورد في الاستعمال القرآني على العموم.
ثم إنه قال: {أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ} جمع الكافر، ولم يقل: (أعتدنا للكفر) جمع الكفور، وكان المظنون أنه لما قال: {وَإِمَّا كَفُورًا} أن يجمعه فيقول: (إنا أعتدنا للكفر) فما سبب ذلك؟
والجواب: أنه ذكر (الكافرين) ليشمل من بالغ في الكفر ومن لم يبالغ فيه. ولو قال: (للكُفًر) لظن ظان أن ذلك يتناول المبالغ في الكفر دون من لم يبالغ، ولظن أن هذا خاص بالكفور دون الكافر، فلما ذكر عاقبة الكافر شمل ذلك الكفور من باب أولى، وأنه سيلقى من العذاب أكبر مما ذكر، فإنه كما بالغ في الكفر يبالغ له في العذاب، فإذا كان هذا عذاب الكافر فما بالك بعذاب الكفور، وماذا أعتد له يا ترى؟
وقد ذكر العذاب بقوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} فذكر السلاسل والأغلال والسعير، وذلك أنه لما أطلق له الحرية والاختيار في الدنيا فقال: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} وهداه السبيل ليسلك فيها فلم يسلكها قيده في الآخرة ولم يتركه لمشيئته واختياره كما كان في الدنيا.
لقد قيده بالسلاسل وهي تقيد حركة الأرجل، وبالأغلال وهي تقيد حركة الأيدي والأعناق، قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} [يس: 8]، وقال: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} [المائدة: ٦٤] فالأغلال توضع في الأيدي وفي الأعناق، وبذلك قيد حركته على كل حال، فلم يترك له فرصة أو حالًا للحركة والاختيار بمقابل حريته واختياره في الدنيا.
إن هذا ما اختاره هو والسبيل التي آثرها، والله لا يظلم الناس شيئًا ولكن الناس أنفسهم يظلمون.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 221 إلى ص 224.
(1) لسان العرب (عتد) 4/269.
(2) التفسير الكبير 30/240.