عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴿٢٧﴾ ﴾ [الحديد آية:٢٧]
{ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا}
أي آثار نوح وإبراهيم ومن بعدهما من الذرية الذين جعل فيهم النبوة والكتاب.
{وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}
أي وأتبع الرسل بعيسى بن مريم، وذكر عيسى لأنه آخر الرسل قبل الرسول الخاتم، ولأنه ذكر الكتاب الذي أنزل إليه وذكر أتباعه وحالهم، واقتضى ذكره أيضًا لأنه تفرد عن بقية الرسل بأنه ليس من ذرية إبراهيم من جهة الأب وإنما من جهة الأم، والمعروف في ذرية الشخص من ينتسب إليه من جهة الأب، إلا أنه عده الله من ذريتهما في آية أخرى وهي قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنعام: 84 - 85].
والله سبحانه ينسبه إلى أمه ردًا على النصارى الذين يزعمون أنه أبن الله، جاء في (التحرير والتنوير): "وضمير الجمع في قوله: {عَلَى آَثَارِهِمْ} عائد إلى نوح وإبراهيم وذريتهما الذين كانت فيهم النبوة والكتاب، فأما الذين كانت فيهم النبوة فكثيرون، وأما الذين كان فيهم الكتاب فمثل بني إسرائيل.
و(على) للاستعلاء، وأصل (قفى على أثره) يدل على قرب ما بين الماشيين، أي حضر الماشي الثاني قبل أن يزول أثر الماشي الأول، وشاع ذلك حتى صار قولهم: (على أثره) بمعنى بعده بقليل أو متصلًا شأنه بشأن سابقه ... وفي إعادة فعل (قفينا) وعدم إعادة (على آثارهم) إشارة إلى بعد المدة بين آخر رسل بن إسرائيل وبين عيسى، فأن آخر رسل بني إسرائيل كان يونس بن متى أرسل إلى أهل نينوي أول القرن الثامن قبل المسيح" (2).
وقد تقول: لقد قال ههنا: {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}، وقال في المائدة: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة: 46] فقال في المائدة: {عَلَى آَثَارِهِمْ} ولم يقل مثل ذلك في الحديد، فما السبب؟
والجواب: أن الأمر مختلف، فإن آية الحديد في تقفية الرسل، وآية المائدة في تقفية الربانيين والأحبار، قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ} [المائدة: 44]، ثم قال: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} [المائدة: 46] فالربانيون والأحبار لم ينقطعوا فقفى على آثارهم بعيسى بن مريم، أي ليس بينهم وبينه مدة فاصلة، بخلاف ما بينه وبين الرسل فإن بينه وبينهم مدة ليست بالقليلة.
{وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً}
الرأفة أخص من الرحمة وأرق (3). جاء في (تاج العروس): "الرأفة: أشد الرحمة وأرقها ... والذي في المجل: أنها مطلق الرحمة وأخص ولا تكاد تقع في الكراهية، والرحمة قد تقع في الكراهية للمصلحة، وقال الفخر الرازي: الرأفة مبالغة في رحمة مخصوصة من دفع المكروه وإزالة الضر، وإنما ذكر الرحمة بعدها ليكون أعم وأشمل" (4).
فالرأفة تتعلق بدفع الأذى والضر فهي رحمة خاصة، والرحمة عامة في ذلك وغيره، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]، وقال: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا} [الروم: 36]، وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89]، وقال: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204]، وقال: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} [الأنعام: 157]، وقال: {أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ } [الأعراف: 49]، وقال: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآَتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} [هود: 28]، وقال: {فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} [الكهف: 65] فذلك ونحوه لا تصح فيه الرأفة، فالرحمة أعم.
وحيث اجتمعت الرأفة والرحمة قدمت الرأفة على الرحمة.
{وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ}
أي وابتدعوا رهبانية لم نكتبها عليهم، إلا أنهم ابتغوا بابتداعها رضوان الله، غير إنهم لم يرعوها حق الرعاية فهم لم يقوموا بها حق القيام.
جاء في (الكشاف) في قوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا}: "وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره (وابتدعوا رهبانية) (ابتدعوها) يعني وأحدثوها من عند أنفسهم ونذرها {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} لم نفرضها نحن عليهم.
{إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} استثناء منقطع، أي ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله. {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} كما يجب على الناذر رعاية نذره لأنه عهد مع الله لا يحل نكثه.
{فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا} يريد أهل الرحمة والرأفة الذين اتبعوا عيسى، {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} الذين لم يحافظوا على نذرهم.
ويجوز أن تكون الرهبانية معطوفة على ما قبلها، و{ابْتَدَعُوهَا} صفة لها في محل النصب، أي وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة من عندهم، بمعنى: وفقناهم للتراحم بينهم ولا بتداع الرهبانية واستحداثها، ما كتبناها عليهم إلا ليبتغوا بها رضوان الله ويستحقوا بها الثواب، على أنه كتبها عليهم وألزمها إياهم ليتخلصوا من الفتن ويبتغوا بذلك رضا الله وثوابه، فما رعوها جميعًا حق رعايتها ولكن بعضهم، فآتينا المؤمنين المراعين منهم الرهبانية أجرهم، وكثير منهم فاسقون وهم الذين لم يروعوها" (5).
والظاهر أن التفسير الأول ارجح من وجهين:
الوجه الأول: أنه قال: {ابْتَدَعُوهَا}، ومعنى {ابْتَدَعُوهَا} أنه لم يكتبها عليهم.
الوجه الثاني: أنه قال: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً}، والرهبانية أمر بدني سلوكي وليس قلبيًا فلا يصح عطفها على ما قبلها (6) والله أعلم.
وفي الإخبار عنهم بقوله: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} ذم من وجهين: الوجه الأول: أنهم ابتدعوا الرهبانية، والدين لا يؤخذ بالابتداع حتى لو كان ذلك لغرض رضوان الله، فإن رضوان الله يتوصل إليه بما شرع هو لا بابتداع البشر كائنًا من كان.
والوجه الثاني: أنهم لم يقوموا بما عاهدوا عليه أنفسهم حق القيام ولم يلتزموا بما شرعوه تقربًا لله – كما زعموا – فهم كالناذر الذي لم يوف بنذره. جاء في (تفسير ابن كثير): "{مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ }أي ما شرعناها لهم، وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم.
وقوله: {إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} فيه قولان:
أحدهما: أنهم قصدوا بذلك رضوان الله ...
والآخر: ما كتبنا عليهم ذلك إنما كتبنا عيلهم ابتغاء رضوان الله.
وقوله: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} أي فما قاموا بما التزموه حق القيام، وهذا لهم من وجهين:
أحدهما: في الابتداع في دين الله ما يأمر به الله.
والثاني: في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عز وجل" (7).
{فَآَتَيْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ}
دل قول ربنا هذا على أن مناط الأمر هو الإيمان وليس غير ذلك من رهبانية مبتدعة، فهو لم يقل: (فآتينا الذين رعوها حق رعايتها أجرهم) لئلا يظن أنه يرضى عن الابتداع لأي غرض كان حتى لو قصد بذلك رضوان الله، وإنما مناط الأمر ورأس النجاة هو الإيمان.
كما لم يقل كما قال في الآية السابقة: {فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} لئلا يظن أن الذين ابتدعوا الرهبانية أو قسمًا منهم يوصف بالهداية، ولئلا يحتج محتج بأن قسمًا من الابتداع فيه هداية، وإنما قسمهم على قسمين: من آمن منهم فلهم الرحمة، وقسم آخر فاسق، وذلك أن الفاسقين كثير.
قد تقول: لقد قال في موطن آخر: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} [المائدة: 46].
وواضح أن بين الآينين تشابهًا واختلافًا، فمن ذلك:
1- أنه قال في آية الحديد: {وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}
وقال في المائدة: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}
وقد ذكرنا سبب الاختلاف بين التعبيرين.
2- قال في المائدة: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ}
ولم يقل مثل ذلك في آية الحديد.
3- قال في المائدة: {وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ}
وقال في الحديد: {وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ} ولم يزد على ذلك.
4- ذكر في آية الحديد أتباع عيسى عليه السلام وحالهم.
وذكر في آية المائدة صفة الإنجيل فقال: {وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ}
فما سبب الاختلاف؟
فنقول: لقد اقتضى كل تعبير السياق الذي ورد فيه:
1- فإنه قال في المائدة: {وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} لما تقدم ذكر التوراة قبل هذه الآية فقال: { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ... إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ... وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ..... } [المائدة:43 - 45].
ولم يجر في سياق آية الحديد ذكر لموسى ولا للتوراة، فناسب ذكر ذلك في المائدة دون الحديد.
2- وقال في المائدة: { وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ } لما ذكر قبله التوراة، وقال: { فِيهَا هُدًى وَنُورٌ } فقد قال: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} فناسب ذكر ذلك في الإنجيل أيضًا، ولم يجر ذكر للتوراة في الحديد كما أسلفنا.
3- ذكر الكتب السماوية في المائدة وضرورة الحكم بها. فقد ذكر التوراة والإنجيل ثم ذكر القرآن بعد ذلك فقال: { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ....} [الآية: 48] وطلب من أهل كل كتاب أن يحكموا بما أنزل إليهم، فناسب أن يختم الآية بصفة الإنجيل فقال: {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ}.
وجرى في الحديد ذكر حال الذرية والأتباع وهو السياق الذي وردت فيه آية الحديد، فقد قال قبل هذه الآية: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ}، ثم ذكر أتباع عيسى وحالهم، ثم انتهى إلى خطاب المؤمنين بسيدنا محمد وما أعدّ لهم.
فناسب ختام كل آية سياق الذي وردت فيه، والحمد لله رب العالمين.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 415 إلى ص 423.
(1) روح المعاني 27/189.
(2) التحرير والتنوير 27/420 – 421.
(3) لسان العرب (رأف).
(4) تاج العروس (رأف)، وانظر التحرير والتنوير 27/421.
(5) الكشاف 4/67 – 68.
(6) انظر التحرير والتنوير 13/423.
(7) تفسير ابن كثير 4/373.