عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ﴿٢﴾    [الإنسان   آية:٢]
{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) } لما ذكر أن الإنسان أتى عليه حين من الدهر لم يكن شيئًا مذكورًا، واستدعى ذلك النظر فيمن أوجده وخلقه قال: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} فنسب الخلق إلى نفسه سبحانه بضمير التعظيم وأكده بإن؛ لأن ذلك يستدعي التعظيم ويستدعي التوكيد. وقد ذكر ضمير الخالق مرتين: مرة مع (إن) فقال: (إنّا)، ومرة مع الفعل خلق فقال: (خلقنا)، للدلالة على أنه هو الخالق وحده، وأنه ليس معه شريك. وقال: (نبتليه) بإسناد الابتلاء إليه ليعلم أن المبتلى هو الخالق. ثم أسند كل الأفعال إليه ليعلم أنه هو صاحبها لا غيره. ولم يبن فعلاً للمجهول، فإنه لو فعل ذلك لم يفد هذه الفائدة. ولأنه هو الخالق وهو الذي امتن عليه بالنعم فجعله سميعًا بصيرًا مميزًا استحق أن يعبد ويشكر. و(الإنسان) هنا بنو آدم وليس آدم، بدليل قوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ} فإن آدم لم يخلق من نطفة (1). والذي يترجح عندي – والله أعلم – قول من ذهب إلى أن المقصود بالإنسان المذكور في الآية الأولى هو آدم عليه السلام، وفي الآية هذه بنوه (2)، فيكون قد ذكر خلق آدم وبنيه، وهو أدل على القدرة وأظهر؛ لأن فيه نوعي الخلق: الإيجاد والاستمرار. ولذا – والله أعلم – كرر كلمة (الإنسان) ولم يذكر الضمير فقال: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ .... إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ} ولم يقل: (إنا خلقناه). ولو قال: (إنا خلقناه) لتعين أن يكون المقصود بالإنسان في الموضعين هم ذرية آدم ولم يشمل آدم. فكرر كلمة (الإنسان) ليحتمل أن يراد بالأول آدم وبالتالي ذريته فيشملهما جميعًا. ومعنى (الأمشاج): الأخلاط، يقال: مشج يمشج مشجًا إذا خلط، ومشجه ومزجه بمعنى، والمشيج: الخليط، والممشوج: المخلوط (3). وكلمة (أمشاج) تستعمل مفردًا وجمعًا، شأن كلمة هجان ودلاص وبشر وفلك وغيرها، فيقال في المفرد: مَشَج بفتحتين، كبطل وأبطال، ويقال: مشيج، كشريف وأشراف، وجمعهما أمشاج، ويقال في المفرد أمشاج أيضًا، كقولهم: برمة أعشار، وبرد أكباش، وثوب أسمال، وعلى هذا يقال: نطفة مَشَج، ونطفة مشيج، ونطفة أمشاج (4). واختار كلمة (أمشاج) على المشَج والمشيج لكثرة ما فيها من أخلاط وامتزاجات، وربما وصف الشيء بالجمع لإرادة التكثير، فيقال مثلاً: "بلد سبسب وبلد سباسب، كأنهم جعلوا كل جزء منه سبسبًا ثم جمعوه على هذا" (5). "وتقول: أرض قفر ودار قفر، وأرض قفار ودار قفار، تجمع على سعتها لتوهم المواضع كل موضع على حياله قفر" (6). فهذا إشارة إلى كثرة ما في النطفة من أخلاط على صغرها، ولا تفيد كلمة (مشج) أو (مشيج) هذا المعنى، والله أعلم. {نَبْتَلِيهِ} نختبره ونمتحنه، واختار (نبتلي) على (نبلوه) لبيان شدة الاختبار وقوته، فإن في (ابتلى) من الشدة والمبالغة ما ليس في (بلا)، ومعلوم أن (افتعل) فيه من المبالغة وقوة الحدث ما ليس في (فعل) وذلك كاكتسب وكسب واصطبر وصبر. ولو عدت إلى الاستعمال القرآني في (ابتلى) لو جدت ذلك واضحًا، قال تعالى بعد وقعة أحد وما أصابهم فيها: {وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عمران: 154]. وقال في وقعة الأحزاب: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} [الأحزاب: 10 – 11]. والله سبحانه يبلو ويبتلي. وقد تقول: ولم قال ههنا: (نبتليه)، وقال في سورة (الملك): {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك: 2]؟ والجواب: أن كل تعبير مناسب لموطنه، فقد ذكرنا أن (الابتلاء) أشد من البلاء، ولذا ذكر معه مما يصح معه الابتلاء ما لم يذكره في سورة الملك؛ 1- فقد قال في سورة الملك: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} والمغفرة تقتضي التخفيف، بخلاف ما في سورة الإنسان. 2- ذكر في سورة الإنسان ما يصح معه الابتلاء من سمع وبصر وأنه هداه السبيل، فلما أطال في ذكر ما زوده بما يصح معه الابتلاء أطال وبالغ في البلاء، ولما خفف ولم يذكر ذلك في سورة الملك خفف في الفعل. 3- لم يذكر شيئًا من ابتلاء الأعمال في سورة الملك عدا ذكر الكافرين وذكر الذين يخشون ربهم فقال: {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}، وقال في وصف المؤمنين: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} ولم يذكر شيئًا من أعمال هؤلاء وأولئك، في حين ذكر في سورة الإنسان من أعمال هؤلاء وهؤلاء ما لم يذكره في سورة الملك، فذكر أن المؤمنين يوفون بالنذر ويخافون يومًا كان شره مستطيرًا، وأنهم يطعمون الطعام على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا. وطلب من نبيه أن يصبر لحكم ربه وأن لا يطيع آثمًا أو كفورًا، كما طلب منه أن يذكر ربه بكرة وأصيلاً، وأن يسجد له ويسبحه ليلًا طويلاً، وأفاض في ذكر نعيم المؤمنين ما لم يفض في سورة الملك. وكذلك بالنسبة إلى الكافرين، فقد ذكر أنهم {يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا}. وقال في ختام السورة: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا}، فاقتضى ذلك أن يذكر الابتلاء ويطيل في صيغة الفعل ويبالغ فيه، بخلاف سورة الملك. وقوله: (نبتليه) يحتمل معنيين: المعنى الأول: التعليل، أي خلقناه لنبتليه، وهو مثل قولك: جئت أتعلم منك، أي لأتعلم، وجئت أشتري دارًا، أي لأشتري، وهذه الجملة استئنافية تفيد التعليل. والمعنى الثاني: أن يكون حالًا مقدرة عن الفاعل، بمعنى: خلقناه مبتلين له، أي مريدين ابتلاءه، ومعنى الحال المقدرة أن تكون الحال واقعة في المستقبل، كقوله تعالى: {} فهو لم يكن نبيًّا حين التبشير. وقد يكون حالاً من المفعول، أي خلقناه مبتلى. ولم يذكر لام التعليل كما في سورة (الملك) التي قال: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} وذلك ليجمع معنيي التعليل والحالية. وقد تقول: ولِمَ لَمْ يفعل ذلك في سورة الملك ليجمع بينهما؟ والجواب: أن التعبير لا يحتمل ذلك، فقد قال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} فإنه ذكر علة خلق الموت والحياة لا علة خلق الإنسان، فلا يحسن أن يقول: (الذي خلق الموت والحياة يبلوكم) فناسب كل تعبير موضعه. وقد تأتي الحال مفيدة للتعليل، كقولك: (جئت طالبًا للعلم) أي لطلب العلم، و(عبدت الله طامعًا في جنته) أي طمعًا، و(فعلت ذلك مبتغيًا رضوان الله) أي ابتغاء رضوان الله. وعلى هذا يمكن أن تكون جملة (نبتليه) استئنافية تفيد التعليل، أو حالية مفيدة للتعليل، أو حالًا مقدرة من الفاعل وهو الله، أي مستقبلة بمعنى مبتلين له، أو حالًا من المفعول وهو الإنسان (7) أي مبتلى. جاء في (التفسير الكبير): "أما قوله (نبتليه) ففيه مسائل: (المسألة الأولى) نبتليه معناه لنبتليه، وهو كقول الرجل: (جئتك أقضي حقك) أي لأقضي حقك، و(أتيتك أستمنحك) أي لا ستمنحك، كذا قوله: (نبتليه) أي لنبتليه. ونظيره قوله: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6]. (المسألة الثانية): نبتليه في موضع الحال، أي خلقناه مبتلين له، يعني مريدين ابتلاءه" (8). وجاء في (البحر المحيط): {نَبْتَلِيهِ} نختبره بالتكليف في الدنيا ... وعلى أن المعنى: نختبره بالتكليف، فهي في حالة مقدرة، لأنه تعالى حين خلقه من نطفة لم يكن مبتليًا له بالتكليف في ذلك الوقت" (9). وجاء في (الكشاف): {نَبْتَلِيهِ} في موضع الحال، أي خلقناه مبتلين له، بمعنى: مريدين ابتلاءه، كقولك: مررت برجل معه صقر صائدًا به غدًا، تريد: قاصدًا به الصيد غدًا" (10). وقد ذكر الله ههنا ما يصح معه الابتلاء ومستلزماته ومتعلقاته، فقد ذكر السمع والبصر والعقل، قال تعالى: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} ومعنى {هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} أرشدناه وعلمناه، وهذا يقتضي العقل وذكر الاختيار، ويشير إلى ذلك قوله: {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا}. وذكر مادة الاختبار وهو المنهج الرباني الذي أشار إليه بقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ}، وهذه الأمور لا يصح الابتلاء من دونها. ثم ذكر موقف المكلفين من هذا الاختبار أو الابتلاء، فذكر أنهم قسمان: شاكر وكفور، وذكر عاقبة هذا الاختبار أو الابتلاء وهي الجنة أو السعير، فذكر كل ما يتعلق بالاختبار من أركان وأحوال، فذكر المبتلى أو المختبر وهو الله وذلك قوله: (نبتليه)، وذكر المبتلى وهو (الإنسان)، وذكر موضوع الاختبار وهو قوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} وموقف المبتلى منه وعاقبته. جاء في (التفسير الكبير): "ثم ذكر أنه أعطاه ما يصح معه الابتلاء وهو السمع والبصر فقال: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} والسمع والبصر كنايتان عن الفهم والتمييز، كما قال تعالى حاكيًا عن إبراهيم عليه السلام: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ} [مريم: 42]" (11). {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} قَدَّم السمع على البصر، وهو الشأن في آيات القرآن التي اجتمع فيها السمع والبصر غالبًا، ذلك أن السمع أهم في باب الابتلاء والتكليف من البصر، فإن فاقد البصر يمكن أن يعي ويفهم ويبلغ، بخلاف فاقد السمع فإن من العسير تبليغه وإفهامه. وقدمهما على الهداية فقال بعد هذه الآية: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} لأن السمع والبصر طريقان يوصلان المعلومات إلى العقل، ومن دونهما يعسر على العقل فهم المعلومات واستيعابها. جاء في (التفسير الكبير): "الآية دالة على أن إعطاء الحواس كالمقدم على إعطاء العقل، والأمر كذلك" (12). وجاء في (البحر المحيط): "وامتن تعالى عليه بجعله بهاتين الصفتين وهما كناية عن التمييز والفهم، إذ آلتهما سبب ذلك ... ولمَّا جعله بهذه المثابة أخبره تعالى أنه هداه إلى السبيل، أي أرشده إلى الطريق، وعرفنا مآل طريق النجاة ومآل طريق الهلاك، إذ أرشدناه طريق الهدى" (13). ولم يفصل بين هاتين الصفتين بالواو، فلم يقل: (وجعلناه سميعًا وبصيرًا) لئلا يظن أنه جعل الإنسان قسمين قسمًا يسمع وقسمًا يبصر. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 210 إلى ص 216. (1) انظر الكشاف 3/295، البحر المحيط 8/293. (2) انظر التفسير الكبير 30/235. (3) انظر الكشاف 3/295، البحر المحيط 8/391، التفسير الكبير 30/236. (4) انظر الكشاف 3/295. (5) لسان العرب (سبسب) 1/243. (6) لسان العرب (قفر) 6/422. (7) انظر فتح القدير 5/235. (8) التفسير الكبير 30/237. (9) البحر المحيط 8/394. (10) الكشاف 3/295. (11) التفسير الكبير 30/237. (12) التفسير الكبير 30/237. (13) البحر المحيط 8/394.