عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴿٢٠﴾ ﴾ [الحديد آية:٢٠]
{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)} أجمل حقيقة ما يعيشه الناس في هذه الحياة بما ذكر في الآية. وقد رتب هذه الأشياء بحسب ترتيبها في حياة الناس مبتدئًا باللعب واللهو منتهيًا بالجد.
فبدأ باللعب وهو ما يقع في دور الطفولة والصبا. هذا هو الأصل وإن كان يطلق اللعب أحيانًا على نقيض الجد كقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} [التوبة: 65]، وقوله: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} [الزخرف: 83]، وقوله: {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} [الدخان: 9]، وقوله: {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} [الأنبياء: 55].
ثم ذكر اللهو وهو ما يكون في دور الفتوة والشباب. ثم إن اللهو أعم من اللعب، فاللهو يقع للصغير والكبير.
ثم ذكر الزينة وهو مقصد من مقاصد الشباب والنساء في دور بداية اكتمال أنوثتهن.
وذكر بعدها التفاخر وهو أكثر ما يكون من شأن الرجال فيفتخرون بمآثر أفعالهم وأحسابهم وأنسابهم ومآثر آبائهم وأجدادهم.
ثم يأتي بعد ذلك دور التكاثر في الأموال والأولاد وهو التباري في جمعها، وهو المقصد الأهم في الحياة، إذ بالمال والأولاد تدوم الحياة وبهما ينشغل الناس وفيهما يجدون. أما ما قبلها من الأمور فهي ليست بتلك المنزلة والمكانة.
وقد الأموال على الأولاد لأن التكاثر في الأموال أكثر، وختم بالأولاد لأنهم أجل ما ذكر ولهم يترك المال.
جاء في (نظم الدرر): "لعب: أي تعب لا ثمرة له فهو باطل كلعب الصبيان، ولهو أي شيء يفرح الإنسان به فيلهيه ويشغله عما يعنيه ثم ينقضي كلهو الفتيان، ثم أتبع ذلك عظم ما يلهي في الدنيا فقال: (وزينة) أي شيء يبهج العين ويسر النفس كزينة النسوان، وأتبعها ثمرتها فقال: (وتفاخر) أي كتفاخر الأقران يفتخر بعضهم على بعض" (1).
وجاء في (تفسير الرازي): "المقصود الأصلي من الآية تحقير حال الدنيا وتعظيم حال الآخرة... ثم إنه وصفها بأمور:
(أولها) أنها لعب وهو فعل الصبيان الذي يتبعون أنفسهم جدًا، ثم إن تلك المتاعب تنقضي من غير فائدة. و(ثانيها) أنها لهو، وهو فعل الشبان... و(رابعها) تفاخر بينكم بالصفات الفانية الزائلة" (2).
وجاء في (التحرير والتنوير): "وهي أيضًا أصول أطوار آحاد الناس في تطور كل واحد منهم.
فإن اللعب طور سن الطفولة والصبا، واللهو طور الشباب، والزينة طور الفتوة، والتفاخر طور الكهولة، والتكاثر طور الشيخوخة...
واللعب هو الغالب على أعمال الأطفال والصبيان فطور الطفولة طور اللعب، ويتفاوت غيرهم في الإتيان منه فيقل ويكثر بحسب تفاوت الناس في الأطوار الأولى من الإنسان وفي رجاحة العقول وضعفها.
والإفراط فيه من غير أصحاب طوره يؤذن بخسة العقل، ولذلك قال قون إبراهيم له: {أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ} ....واللهو اسم لفعل أو قول يقصد منه التذاذ النفس بخ وصرفها عن ألم حاصل من تعب الجسد أو الحزن أو الكمد، يقال: لها عن الشيء، أي تشاغل عنه...
ويغلب اللهو على أحوال الشباب فطور الشباب طوره، ويكثر اللهو في أحوال الدنيا من تطلب اللذات والطرب.
والزينة: تخسين الذات أو المكان بما جعل وقعه عند ناظره مسرًا له، وفي طباع الناس الرغبة في أن تكون مناظرهم حسنة في عين ناظريهم، وذلك في طباع النساء أشد... ويغلب التزيين على أحوال الحياة، فإن معظم المساكن والملابس يراد منه الزينة...
والتفاخر: الكلام الذي يفخر به، والفخر: حديث المرء عن محامده والصفات المحمودة منها فيه بالحق أو الباطل، وصيغ منه زنة التفاعل لأن شأن الفخر أن يقع بين جانبين كما أنبأ به تقييده بظرف (بينكم)...
والتكاثر: تفاعل من الكثرة، وصيغة التفاعل هنا للمبالغة في الفعل بحيث ينزل منزلة من يغالب غيره في كثرة شيء... ثم شاع إطلاق صيغة التكاثر فصارت تستعمل في الحرص على تحصيل الكثير من غير مراعاة مغالبة الغير ممن حصل عليه" (3).
وقد اقتصر في مواضع أخرى من القرآن الكريم على اللعب واللهو ولم يذكر الزينة وما بعدها، قال تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأنعام: 32].
وقال: {إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ} [محمد: 36].
وقال: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64].
فاقتصر كما ترى على اللعب واللهو؛ ذلك لأن ما ذكره في آية الحديد من زينة وتفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد قد يندرج تحت اللهو.
فالزينة قد تلهي، والتفاخر قد يلهي، والتكاثر في الأموال والأولاد قد يلهي، فقد سمى الله المال والبنين زينة فقال: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} [المنافقون: 9]، وقال: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 1 - 2].
وتندرج كثير من أمور الحياة في معنى اللعب بمعناه الواسع، وهو ما كان نقيض الجد وما لا يقصد به من الأعمال قصدًا صحيحًا كما ورد في القرآن مما سماه لعبًا.
ولما فصل في آية الحديد في حقيقة الحياة الدنيا فصل في وصفها وعاقبتها، ولما أجمل في الآيات الأخرى لم يذكر شيئًا آخر يتعلق بها وإنما ذكر الآخرة أو أمورًا أخرى لا تتعلق بوصف الحياة.
وقدم اللعب على اللهو فيما مر من الآيات إلا في آية واحدة قدم فيها اللهو على اللعب وهو قوله: {وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] وذلك لأن السياق يقتضي هذا التقديم، ذلك أنه تقدم الآية قوله: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} والرزق مدعاة إلى الالتهاء به والمشغلة لجمعه لا إلى اللعب، ولذا قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} فالذي بسط له رزقه ملتٍه بجمعه والذي قدر عليه رزقه ملتٍه بالحصول عليه.
ثم قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 63] ومع معرفتهم وإقرارهم بذاك التهوا بالدنيا عن الله وعبادته وعن الآخرة، فناسب تقديم اللهو. ولم يتقدم آية الأنعام ولا آية محمد ما يدعو إلى اللهو فكان تقديمه في آية العنكبوت أنسب.
{كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ}
شبه الحياة الدنيا بغيث أعجب الكفار نباته. والكفار هم الكافرون بالله الجاحدون لنعمه. وقال بعضهم: إن الكفار هم الزراع؛ لأن الزراع قد يسمى كافرًا؛ لأنه يكفر البذر الذي يبذره بتراب الأرض، أي يغطيه (4).
ويترجح عندي المعنى الأول، فإن الكافرين هم الذين يغترون بالدنيا وهم أشد إعجابًا بها وبزينتها. ولا مانع من أن يكون المعنيان مقصودين، فإنه من التوسع في المعنى الذي يراعيه القرآن كثيرًا.
وقد ذكر القرآن الزراع باسمهم في سورة الفتح حين وصف أصحاب محمد فقال: {وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} [الفتح: 29].
واخيار الزراع هنا أنسب، كما اختيار الكفار هناك أنسب، ذلك أن التشبيه في سورة الفتح وقع لصورة محمودة فناسب ذكر الزراع لا الكفار، بخلاف ما في سورة الحديد.
ثم إنه قال في آية الفتح: {يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ} فلا يناسب أن يقول: يعجب الكفار ليغيظ بهم الكفار.
ثم إنه قال: (الزراع) في آية الفتح للدلالة على أنه زرع مقصود؛ لأن الزراع يزرع ما ينتفع وينتفع به الآخرون، بخلاف ما ذكر في آية الحديد فإنه قال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} وهو ما يخرج بسبب المطر من أنواع مختلفة، منها ما لا فائدة فيه للإنسان ومنها الأدغال والحشائش، فكان كل تعبير في مكانه أنسب.
{ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا}
ذكر مآل الزرع وناسب ذلك الزينة والأموال فذكر زوالهما وذهابهما وذلك شأن الدنيا.
لقد قال: {فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} ولم يقل: (ثم يكون مصفرًا). كما قال: {ثُمَّ يَهِيجُ} و {ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} بإسناد الفعل إلى النبات. أي يراه الناظر مصفرًا وذلك للدلالة على زوال الزينة وذهابها، فإن الزينة تتعلق بالناظر كما قال تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} [الحجر: 16]، ومن ناحية أخرى ليدل على موطن العبرة والاتعاظ فإن ذلك يحصل بالرؤية.
وقال: {ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} أي هذا مآله، ولم يقل: (ثم تراه حطامًا) فلم يعلق ذلك بالرؤية، وإنما أراد أن يبين أنه يكون كذلك، إذ ربما يكون الشيء غير ذي زينة للناظر ولكنه ثمين نافع وهو من كرائم الأموال، فقال: {ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} فيذهب المال ويزول فلا يبقى مال ولا تكاثر ولا تفاخر ولا زينة لأن الحطام ليس مالًا ولا يتفاخر أو يتكاثر به.
بل سيذهب اللعب واللهو معه، فإن الذي لم يبق له إلا الحطام لا يلعب ولا يلهو، وكيف يلهو ويلعب وقد أصبح ما لدية حطامًا؟
وقد تقول: ولم لم يقل: (ثم يجعله حطامًا) كما قال في سورة الزمر؟
والجواب: إن السياق مختلف في الآيتين.
ففي آية الزمر الأفعال مسندة إلى الله، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [الزمر: 21]، فالله هو الذي أنزل من السماء ماء، وهو الذي سلكه ينابيع في الأرض، وهو الذي أخرج به الزرع، فناسب أن يقول: {ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا} لأن الذي أخرجه هو الذي يجعله حطامًا.
وليس كذلك التعبير في آية الحديد، فإنه قال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} فلم يسند حدثًا إلى نفسه سبحانه، فناسب كل تعبير موضعه.
{وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ}
قدم العذاب على المغفرة لأنه ذكر قبله اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر مما ليس محمودًا على العموم.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن العذاب يسبق المغفرة والرضوان، فعذاب الموقف قبل الحساب وقبل القضاء وقبل الدخول في الجنة والنار. وورود النار لجميع الخلق قبل الدخول في الجنة كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} [مريم: 71] ومن الناس من يعذب أولًا ثم يدخل الجنة.
ووصف العذاب بأنه شديد. وذكر أن المغفرة والرضوان من الله، ولم يذكر مثل ذلك في العذاب للدلالة علة سعة رحمته، وقدم المغفرة على الرضوان لأنها أسبق منه وهي قبله، جاء في (روح المعاني): "{وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ} لأنه من نتائج الانهماك فيما فصل من أحوال الحياة الدنيا، و(مغفرة) عظيمة ( من الله ورضوان) عظيم لا يقادر قدره.
وفي مقابلة العذاب الشديد بشيئين إشارة إلى غلبة الرحمة وأنه من باب ( لن يغلب عسر يسرين). وفي ترك وصف العذاب بكونه من الله تعالى مع وصف ما بعده بذلك إشارة إلى غلبتها أيضًا" (5).
وقال: (مغفرة) ولم يقل: (غفران)؛ ذلك أن كلمة (غفران) لم ترد في القرآن الكريم إلا في موطن واحد لمعنى واحد وهو طلب المغفرة من الله وهو قوله: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} [البقرة: 285]. وأما المغفرة من الله فتأتي في غير الطلب كالإخبار بها والدعوة إليها وغير ذلك. قال تعالى: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 221] وقال: {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا} [البقرة: 268]، وقال: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ} [الرعد: 6].
وقد تكون المغفرة من غير الله، قال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى} [البقرة: 263].
وقال: (رضوان) ولم يقل: (مرضاة) لأن الرضوان معناه "الرضا الكثير، ولما كان أعظم الرضا رضا الله تعالى خص لفظ الرضوان في القرآن بما كان من الله تعالى" (6).قال تعالى: {أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 162]، وقال: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ} [التوبة: 21]، وقال: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ} [التوبة: 109].
وأما المرضاة فإنها تستعمل له ولغيره، قال تعالى: {تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ} [التحريم: 1]، وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة: 207].
ثم إن (المرضاة) لم تستعمل إلا في ابتغاء الرضا، وأما الرضوان فهو عام يستعمل في ابتغاء الرضا وغيره، قال تعالى في المرضاة: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} [البقرة: 265]، وقال: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 114].
وقال في الرضوان: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ} [التوبة: 21] وهذا في غير ابتغاء الرضا.
وقال في ابتغاء الرضا: {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ} [الحديد: 27]، وقال: {يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا} [الفتح: 29]
ومن هذا يتبين أن المغفرة:
1- تستعمل في المغفرة من الله وغيره، فهي عامة من حيث الغافر.
2- انها عامة في غير الطلب، فهي عامة من حيث الدلالة بخلاف (الغفران) فإنه خاص بمعنى واحد وهو طلب المغفرة، وخاص في الغافر وهو الله.
وأن المرضاة:
1- خاصة في ابتغاء الرضا، فهي لم تستعمل في غيره.
2- وأنها عامة في المبتغى منه الرضا، فهو الله أو غيره.
وأن الرضوان:
1- خاص في أنه من الله.
2- عام في ابتغاء الرضا وغيره، فهو عام من حيث الدلالة.
فخصص المغفرة وقال: {وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ} لتقابل الرضوان؛ لأن الرضوان مخصص في كونه من الله.
وكلاهما مطلق من حيث الدلالة، فتناظرا من حيث كونهما خاصين بالله، عامين من حيث الدلالة. والله أعلم.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 384 إلى ص 393.
(1) نظم الدرر 7/452.
(2) تفسير الرازي 29/233 – 234.
(3) التحرير والتنوير 27/401 – 403.
(4) انظر تفسير الرازي 29/235، الكشاف 4/65.
(5) روح المعاني 27/185.
(6) مفردات الراغب، مادة (رضي).