عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ﴿٩﴾    [يس   آية:٩]
{وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9)} بعدما ذكر أنه جعل في أعناقهم أغلالًا، ذكر أنه جعل من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا. وقال: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} و{وَمِنْ خَلْفِهِمْ} ولم يقل: (وجعلنا بين أيديهم سدًا وخلفهم سدًا) ذلك أن (من) تفيد ابتداء الغاية، ومعنى ذلك أنه جعل السد ابتداء من بين أيديهم ولم يترك بينه وبينهم فراغَا، وكذلك من خلفهم، فإن السد ملتصق بهم من الأمام وكذلك من الخلف فلا يستطيعون أن يخطوا خطوة واحدة أو حركة. بخلاف ما إذا لم يذكر (من) فإنه يحتمل أن يكون بينهم وبين السد مسافة بعيدة أو قريبة وذلك نحو قوله: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ} {ق: 6}، فإن بينهم وبين السماء مسافة بعيدة، وكذلك قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} {الملك: 19}، فإن بينهم وبين الطير مسافة غير قليلة. في حين قال عن الأرض: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا} {فصلت: 10} فجاء بـ (من) ليدل على أن الرواسي ملتصقة بالأرض ليس بينها وبينها فراغ. ثم قدم الجار والمجرور على السد فقال: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} ولم يقل: (وجعلنا سدًا من بين أيديهم وسدًا من خلفهم) وذلك لأن الكلام عليهم لا على السد فكان تقديم ما تعلق بهم أولى. ونحوه قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} كما ذكرنا. وقد تقول: هذا أمر السد من أمامهم فلماذا جعل من خلفهم سدًا؟ وما الغرض منه؟ فنقول: كما أنه منعهم من السير إلى أمام منعهم من العودة والرجوع إلى أماكنهم الأولى. فإن الشخص إذا قطع عليه الطريق عاد إلى مكانه الأول ومقامه الذي كان فيه. وهنا قد منعه من ذلك فبقي في مكانه من الطريق في غير مأمن وفي غير مقام فهلك. ثم أغشى أبصارهم وغطاهم فمنعهم من الرؤية فهم لا يبصرون ولا يتحركون فكيف يهتدون؟. وقوله: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ} يحتمل أنه أغشاهم بالسدين، أي غطاهم فلا يستطيعون الإبصار ولا الحركة، أو أغشى أبصارهم علاوة على السدين. وفي كلتا الحالتين لا يستطيعون الحركة ولا الابصار. وقد تقول: ولم ترك الجانبين وهما جهتا اليمين واليسار، فلم يذكر أنه جعل فيهما سدين؟ فنقول: 1- إن قوله: {مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} منعهم من الحركة البتة إلى أية جهة كانت، ذلك لأن السدين ملتصقان بهم. 2- قوله: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ} أي غطيناهم، والتغطية تشمل جميع الجسم وليس جانبًا منه أو جانبين فلا يستطيعون الحركة لإغشائهم. 3- قوله: {فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} يمنعهم من معرفة ما هم عليه من السبيل. 4- إذا اتجهوا إلى جهة اليمين كان السد من بين أيديهم أيضًا ومن خلفهم، لأن هذه الجهة ستكون هي الأمام فتكون مسدودة عليهم، وإن أية جهة سيتجهون إليها ستكون هي ما بين أيديهم فيجعل سدًا من بين أيديهم ومن خلفهم. فقوله: (من بين أيديهم ومن خلفهم) يشمل جميع الجهات؛ لأن اية جهة يتجهون إليها ستكون ما بين أيديهم فلا حاجة إلى ذكر جهتي اليمين واليسار، فما ذكره يغني عن ذكرهما. وإسناده الجعل والإغشاء إلى الله تعالى بيان أنه لا يمكن لأحد أن يزيل السدين أو يرفع الغشاوة. جاء في (التفسير الكبير): "وعلى هذا فقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} يكون متممًا لمعنى جعل الله إياهم مغلولين، لأن قوله: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} إشارة إلى أنهم لا ينتهجون سبيل الرشاد، فكأنه قال: لا يبصرون الحق فينقادون له لمكان السد ولا ينقادون لك فيبصرون الحق فينقادون له لمكان الغل... وفيه وجه أخر وهو أن يقال: المانع إما أن يكون في النفس وإما أن يكون خارجًا عنها. ولهم المانعان جميعًا من الإيمان. أما في النفس فالغل وأما من الخارج فالسد. ولا يقع نظرهم على أنفسهم فيرون الآيات التي في أنفسهم، كما قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} {فصلت: 53}، وذلك لأن المقمح لا يرى نفسه ولا يقع بصره على يديه، ولا يقع نظره على الآفاق؛ لأن من بين السدين لا يبصرون الآفاق فلا تبين لهم الآيات التي في الآفاق. وعلى هذا فقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا} {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} إشارة إلى عدم هدايتهم لآيات الله في الأنفس والآفاق. وفي تفسير قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا} مسائل: (المسألة الأولي) السد من بين الأيدي ذكره ظاهر الفائدة، فإنهم في الدنيا سالكون وينبغي أن يسلكوا الطريقة المستقيمة (ومن بين أيديهم سدًا) فلا يقدرون على السلوك. وأما السد من خلفهم فما الفائدة فيه؟ فنقول: الجواب عنه من وجوه: (الأول): هو أن الانسان له هداية فطرية والكافر قد يتركها، وهداية نظرية والكافر ما أدركها، فكأنه تعالى يقول: (جعلنا من بين أيديهم سدًا) فلا يسلكون طريقة الاهتداء التي هي نظرية (وجعلنا من خلفهم سدًا) فلا يرجعون إلى الهداية الجبلية التي هي الفطرية.... (الثالث): هو أن السالك إذا لم يكن له بد من سلوك طريق فإن انسد الطريق الذي قوامه يفوته المقصد ولكنه يرجع، وإذا انسد الطريق من خلفه ومن قدامه فالموضع الذي هو فيه لا يكون موضع إقامة لأنه مهلك فقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ} إشارة إلى إهلاكهم. (المسألة الثانية): قوله تعالى: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ} بحرف الفاء يقتضي أن يكون للإغشاء بالسد تعلق، ويكون الإغشاء مرتبًا على جعل السد فكيف ذلك؟. فنقول: ذلك من وجهين: أحدهما: أن يكون ذلك بيانًا لأمور مترتبة يكون بعضها سببًا للبعض، فكأنه تعالى قال: (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالًا) فلا يبصرون أنفسهم لإقماحهم (وجعلنا من بين أيديهم سدًا ومن خلفهم سدًا) فلا يبصرون ما في الآفاق، وحينئذ يمكن أن يروا السماء وما على يمينهم وشمالهم فقال بعد هذا كله: (وجعلنا على أبصارهم غشاوة) فلا يبصرون شيئًا أصلًا. وثانيهما: هو أن ذلك بيان لكون السد قريبًا منهم بحيث يصير ذلك كالغشاوة على أبصارهم، فإن من جعل من خلفه ومن قدامه سدين ملتزقين به بحيث يبقى بينهما ملتزقًا بهما تبقى عينه على سطح السد فلا يبصر شيئًا. أما غير السد فللحجاب، وأما عين السد فلكون شرط المرئي أن لا يكون قريبًا من العين جدًا. (المسألة الثالثة): ذكر السدين من بين الأيدي ومن خلف، ولم يذكر من اليمين والشمال ما الحكمة فيه؟... لأنهم إن قصدوا السلوك إلى جانب اليمين أو جانب الشمال صاروا متوجهين إلى شيء ومولين عن شيء، فصار ما إليه توجههم ما بين أيديهم فيجعل الله السد هناك فيمنعه من السلوك. فكيفما يتوجه الكافر يجعل الله بين يديه سدًا. ووجه أخر أحسن مما ذكرنا، وهو أنا لما بينا أن جعل السد صار سببًا للإغشاء كان السد ملتزقًا به، وهو ملتزق بالسدين فلا قدرة له على الحركة يمنة ولا يسرة، فلا حاجة إلى السد عن اليمين وعن الشمال. وقوله تعالى: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} يحتمل ما ذكرنا أنهم لا يبصرون شيئًا، ويحتمل أن يكون المراد هو أن الكافر مصدود، وسبيل الحق عليه مسدود، وهو لا يبصر السد ولا يعلم الصد، فيظن أنه على الطريقة المستقيمة وغير ضال" (1). وقد تقول: ولم لم يقل قال في سورة البقرة: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} {البقرة: 7}؟ فنقول: إن كل موطن اقتضى ما ذكر فيه، علاوة على أن ما ذكر في سورة (يس) يفيد ما أفاده في سورة البقرة. ذلك أن قوله: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} هو بمعنى قوله: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ}، وأن قوله: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ} يفيد أنهم لا يسمعون، فإن من كان بين سدين مغطى بهما لا يسمع. وإذا كان كذلك فهو لا يفقه؛ لأن منافذ العلم مسدودة، فأفاد أنهم لا يبصرون ولا يسمعون ولا يفقهون. ثم إن ما ذكره في كل موطن هو المناسب من جهة أخرى، ذلك أنه قال في سورة يس: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} والصراط إنما يكون للسير فيه وسلوكه، فذكر ما يمنع الكفرة من سلوك الصراط المستقيم والسير فيه، وهو الأغلال في أعناقهم، والسد من بين أيديهم ومن خلفهم. والسد إنما هو لمنعهم من السير. أما المؤمنون فإنهم على الصراط المستقيم يسلكونه ويتخذونه سبيلًا. ولم يذكر مثل ذلك في البقرة، فكان ذكر السد مناسبًا في سورة (يس). وأما في سورة البقرة فقد قال: إن هذا الكتاب لا ريب فيه وهو هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله، الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد وما أنزل من قبله ويوقنون بالآخرة. فالمسألة متعلقة بالإيمان والتقوى، فذكر أن الكفرة مختوم على قلوبهم وعلى سمعهم وأن على أبصارهم غشاوة فانسدت منافذ الإيمان والتقوى. ومنافذ الإيمان والتقوى والعلم لدفع الريب هي السمع والبصر والقلب، فذكر أن هذه كلها مغلقة. فأغلق منافذ السير على الصراط المستقيم في سورة (يس) وأغلق منافذ الإيمان والهدى في سورة البقرة، فناسب كل تعبير مكانه الذي هو أليق به. وقد تقول: ولم لم يكرر (جعلنا) من الخلف فيقول: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} كما قال في سورة النبأ: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} {النبأ: 10 – 11}؟ والجواب: أن التكرار يفيد التأكيد. والسدان ليسا بمنزلة واحدة، فإن السد الذي من بين أيديهم يمنعهم من السير إلى أمام، وهو أهم؛ لأنه هو الموصل إلى الهدى وإلى الفلاح، وأما السد من خلف فهو مانع من الرجوع، والعود ليس أحمد. ولما لم يكن السدان بمنزلة واحدة من حيث الأهمية لم يجعلها في التعبير بمنزلة واحدة، فذكر الفعل في المهم وحذفه مما هو أقل اهمية. وأما تكراره في سورة النبأ فإن الليل والنهار كلاهما مهم للإنسان وحياته، فلا تصلح الحياة بليل لانهار فيها، ولا تصلح بنهار لا ليل فيها. قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} {القصص:71 – 72}. فلما كانت الحياة إنما تستقيم بالليل والنهار معًا جعلهما بمنزلة واحدة في التعبير فكرر الجعل مع كل واحد منهما، والله أعلم. (1) التفسير الكبير 26/45 – 46. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 33 إلى ص 40.