﴿لَّوۡلَاۤ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ ظَنَّ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَـٰتُ
بِأَنفُسِهِمۡ خَیۡرࣰا وَقَالُوا۟ هَـٰذَاۤ إِفۡكࣱ مُّبِینࣱ﴾
[النور ١٢]
المعنى: أنه كان ينبغي للمؤمنين والمؤمنات أن يقيسوا ذلك الأمر على أنفسهم؛ فإن كان ذلك يبعد في حقهم، فهو في حق عائشة أبعد؛ لفضلها، وروي أن هذا النظر وقع لأبي أيوب الأنصاري، فقال لزوجته: أكنت أنت تفعلين ذلك، قالت: لا والله، قال: فعائشة أفضل منك؟ قالت: نعم.
(تفسير ابن جزي)
وفيه تنبيه على أن حق المؤمن إذا سمع قالة في أخيه، أن يبنى الأمر فيها على الظنّ لا على الشك. وأن يقول بملء فيه بناء على ظنه بالمؤمن الخير: هذا إِفْكٌ مُبِينٌ هكذا بلفظ المصرح ببراءة ساحته.
كما يقول المستيقن المطلع على حقيقة الحال.
وهذا من الأدب الحسن الذي قل القائم به والحافظ له، وليتك تجد من يسمع فيسكت ولا يشيع ما سمعه.
(الكشاف للزمخشري ).
بعد هذا علينا أن نعرف الجواب عن سؤال :
ما الواجب على المسلم إذا سمع عن الصالحين شيئاً لا يسر؟
ما الواجب الأخلاقي الذي يمليه علينا ديننا تجاه الإشاعات والفضائح والطعن في الأعراض ؟
لا يجوز الاستهانة بأثر الكلمة...
هذا إبراهيم قال: (بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون)
فنالت هذه الكلمة من قلوبهم،
وكأنهم كانوا في نومٍ فأيقظتهم:
(فرجعوا إلى أنفسهمم فقالوا إنكم أنتم الظالمون)
أي حين عبدتم مَنْ لا يتكلم...
وانتصر إبراهيم...
د.عبدالحكيم الأنيس
﴿فَلَعَلَّكَ بَـٰخِعࣱ نَّفۡسَكَ عَلَىٰۤ ءَاثَـٰرِهِمۡ إِن لَّمۡ یُؤۡمِنُوا۟
بِهَـٰذَا ٱلۡحَدِیثِ أَسَفًا﴾ [الكهف ٦]
قال العلامة السعدي :
ولما كان النبي ﷺ حريصا على هداية الخلق، ساعيا في ذلك أعظم السعي، فكان ﷺ يفرح ويسر بهداية المهتدين، ويحزن ويأسف على المكذبين الضالين، شفقة منه ﷺ عليهم، ورحمة بهم، أرشده الله أن لا يشغل نفسه بالأسف على هؤلاء، الذين لا يؤمنون بهذا القرآن،
كما قال في الآية الأخرى: ﴿لعلك باخع نفسك أن لا يكونوا مؤمنين﴾
وقال ﴿فلا تذهب نفسك عليهم حسرات﴾
وهنا قال ﴿فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ﴾ أي: مهلكها، غما وأسفا عليهم، وذلك أن أجرك قد وجب على الله، وهؤلاء لو علم الله فيهم خيرا لهداهم، ولكنه علم أنهم لا يصلحون إلا للنار، فلذلك خذلهم، فلم يهتدوا، فإشغالك نفسك غما وأسفا عليهم، ليس فيه فائدة لك.
:وفي هذه الآية ونحوها عبرة، فإن المأمور بدعاء الخلق إلى الله، عليه التبليغ والسعي بكل سبب يوصل إلى الهداية، وسد طرق الضلال والغواية بغاية ما يمكنه، مع التوكل على الله في ذلك، فإن اهتدوا فبها ونعمت، وإلا فلا يحزن ولا يأسف، فإن ذلك مضعف للنفس، هادم للقوى، ليس فيه فائدة، بل يمضي على فعله الذي كلف به وتوجه إليه، وما عدا ذلك، فهو خارج عن قدرته،
وإذا كان النبي ﷺ يقول الله له: ﴿إنك لا تهدي من أحببت﴾
وموسى عليه السلام يقول: ﴿رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي﴾ الآية،
فمن عداهم من باب أولى وأحرى، قال تعالى: ﴿فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر﴾
قال تعالى :
﴿لَّا تُدۡرِكُهُ ٱلۡأَبۡصَـٰرُ وَهُوَ یُدۡرِكُ ٱلۡأَبۡصَـٰرَۖ وَهُوَ ٱللَّطِیفُ ٱلۡخَبِیرُ﴾ [الأنعام ١٠٣]
قال ابن القيم:
"واسمه اللطيف يتضمن: علمه بالأشياء الدقيقة، وإيصاله الرحمة بالطرق الخفية".
وقال:
" ختم الآية باسمين وهما (اللطيف) الذي لطف صنعه وحكمته ودق حتى عجزت عنه الأفهام.
و (الخبير) الذي انتهى علمه إلى الإحاطة ببواطن الأشياء وخفاياها، كما أحاط بظواهرها.
فكيف يخفى على اللطيف الخبير ما تحويه الضمائر وتخفيه الصدور؟! ".
ومن اللطائف : أنه لم يقترن في كتاب الله اسم الله اللطيف إلا باسمه الخبير،
والسبب في هذا أن الله تعالى يطلِّع على بواطن الأمور ويلطف بعباده، فلا يُقدِر لهم إلا ما فيه الخير ،
وقد يخفى على العبد هذا الخير، فيُقابل قضاء الله بالاعتراض.فلا يلطف بك إلا من عرفك وكان خبيرا بمواطن ضعفك وقوتك وبكل أحوالك.
قال العلامة عبدالرحمن السعدي في اسم "اللطيف" :
"الذي لطف علمه وخبرته، ودق حتى أدرك السرائر والخفايا، والخبايا والبواطن.
ومن لطفه، أنه يسوق عبده إلى مصالح دينه، ويوصلها إليه بالطرق التي لا يشعر بها العبد، ولا يسعى فيها، ويوصله إلى السعادة الأبدية، والفلاح السرمدي، من حيث لا يحتسب، حتى أنه يقدر عليه الأمور، التي يكرهها العبد، ويتألم منها، ويدعو الله أن يزيلها، لعلمه أن دينه أصلح، وأن كماله متوقف عليها، فسبحان اللطيف لما يشاء، الرحيم بالمؤمنين
ومن معاني اللطيف، أنه الذي يلطف بعبده ووليه، فيسوق إليه البر والإحسان من حيث لا يشعر، ويعصمه من الشر، من حيث لا يحتسب، ويرقيه إلى أعلى المراتب، بأسباب لا تكون من العبد على بال، حتى إنه يذيقه المكاره، ليتوصل بها إلى المحاب الجليلة، والمقامات النبيلة ".
فمن حدثكم عن زمن مخيف =
فحدثوه عن ربٍّ بعباده لطيف.
ومن حذركم من مستقبل قادم =
فأخبروه بأن ربّكم رؤوف راحم.
ومن خوفكم على أرزاقكم =
فأعلموه بأنها ليست في أيديكم إنما في يد الله.
قال تعالى : {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ }[هود: 114].
"إن ارتكبتَ معصيةً
فلا تنصرف عن الطاعة ...
أتُهزم مرتين ؟!
(إن الحَسناتِ يُذهبن السيئات)..."
وفي قصص العُبّاد :
خرج رجلٌ حاجًا مع رفقته في قافلة..
فهجم عليهم قطاع طرق، ونهبوا القافلة وسرقوها ..
وأخذوا يأكلون من طعام الحجيج المسروق..
وكبيرهم معتزل في مكان ليس بالبعيد عنهم .
قال الحاج : فأتيتُه
وقلتُ : ما شأنك لا تأكل مع أصحابك؟
قال: إني صائم!
قلتُ: تصوم وتقطع الطريق؟
قال: "أَدعُ بابًا مفتوحًا بيني وبين ربي!"
قال الحاج : فرأيت ذاك الرجل بعد مدة من الزمان يطوف بالبيت؛ وقد أقلع عما كان عليه،
فسألته فقال:
"من ذلك الباب اهتديت إلى الطريق".*
فإياك أن تُهزم مرتين !!
قال الحسن البصري رحمه الله:
"استعينوا على السيئات القديمات بالحسنات الحديثات،
وإنكم لن تجدوا شيئا أذهب بسيئة قديمة من حسنة حديثة،
وأنا أجد تصديق ذلك في كتاب الله:
{إن الحسنات يذهبن السيئات}"
قال تعالى:
﴿وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوۡمِهِۦ لِیُبَیِّنَ
لَهُمۡۖ فَیُضِلُّ ٱللَّهُ مَن یَشَاۤءُ وَیَهۡدِی مَن یَشَاۤءُۚ
وَهُوَ ٱلۡعَزِیزُ ٱلۡحَكِیمُ﴾ [إبراهيم ٤]
قال العلامة عبدالرحمن السعدي:
" ويستدل بهذه الآية الكريمة على أن علوم العربية الموصلة إلى تبيين كلامه وكلام رسوله أمور مطلوبة محبوبة لله لأنه لا يتم معرفة ما أنزل على رسوله إلا بها إلا إذا كان الناس بحالة لا يحتاجون إليها، وذلك إذا تمرنوا على العربية، ونشأ عليها صغيرهم وصارت طبيعة لهم فحينئذ قد اكتفوا المؤنة، وصلحوا لأن يتلقوا عن الله وعن رسوله ابتداء كما تلقى عنهم الصحابة رضي الله عنهم ".
قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ }
وهذا يعني أن كل نبي يخاطب المبعوث إليهم بلغتهم لأن المراد هو الإفهام والإيضاح ولا تقوم الحجة إلا بذلك ..
ومما يندرج في مراعاة المُخاطبين وما يناسبهم ما التفت إليه ابن كثير في هذا النص النفيس الرائق الذي يشير فيه إلى تناسب معجزة كل نبي بما كان سائداً في عصره، يقول رحمه الله :
(كانت معجزة كل نبي في زمانه بما يناسب أهل ذلك الزمان،
فذكروا أن موسى عليه السلام كانت معجزته مما يناسب أهل زمانه، وكانوا سحرةً أذكياء، فَبُعِثَ بآيات بهرت الأبصار، وخضعت لها الرقاب، ولما كان السحرة خبيرين بفنون السحر وما ينتهي إليه، وعاينوا ما عاينوا من الأمر الباهر الهائل، الذي لا يمكن صدوره إلا عمن أيَّده الله وأجرى الخارق على يديه تصديقًا له، أسلموا سراعًا، ولم يتلعثموا.
وهكذا عيسى بن مريم بُعث في زمن الطبائعية الحكماء، فأُرسل بمعجزات لا يستطيعونها ولا يهتدون إليها، وأنَّى لحكيمٍ إبراء الأكْمَه الذي هو أسوأ حالًا من الأعمى والأبرص والمجذوم ومن به مرضٌ مزمن؟! وكيف يَتوصل أحدٌ من الخلق إلى أن يقيم الميت من قبره؟! هذا مما يعلم كلُّ أحد أنه معجزة دالة على صدق من قامت به، وعلى قدرة من أرسله.
وهكذا محمد ﷺ وعليهم أجمعين، بُعِثَ في زمن الفصحاء البلغاء، فأنزل الله عليه القرآن العظيم الذي ﴿لَّا يَأۡتِيهِ ٱلۡبَٰطِلُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَلَا
مِنۡ خَلۡفِهِۦۖ تَنزِيلٌ مِّنۡ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾،
فلفظه معجز تحدَّى به الإنس والجن أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور من مثله، أو بسورة، وقطع عليهم بأنهم لا يقدرون لا في الحال ولا في الاستقبال، فإنَّ لم يفعلوا ولن يفعلوا، وما ذاك إلا لأنه كلام الخالق عز وجل، والله تعالى لا يشبهه شيء في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله).
البداية والنهاية (٢٧٤،٢٧٣/٢).
وكل هذا يدل على أهمية مراعاة أحوال المُخاطبين بما يناسب لغتهم وعلوم عصرهم بما يقيم الحجة البالغة عليهم .. والله أعلم .