أسرار بلاغية
| ٤١١ | {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)} قد يكون المقصود بقوله: (لينذر) القرآن أو الرسول، فكلاهما منذر، قال تعالى: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} والمقصود به الرسول. وقال: {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} {الأحقاف: 12}. والمنذر ههنا الكتاب. فالرسول منذر والقرآن منذر. وقوله: {مَنْ كَانَ حَيًّا} ذكرت فيه أقوال: منها: أن المقصود به من كان حي القلب حي البصيرة فينتفع بالإنذار. وقيل: إن المقصود به من كان عاقلا متأملا، لأن الغافل كالميت. وقيل: إن المقصود به من كان مؤمنًا؛ لأن الإيمان حياة، فمن كان مؤمنًا كان حيًا، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} {الأنعام: 122}. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} {الأنفال: 24}. وقيل: إن المقصود من كان قلبه صحيحا يقبل الحق ويأبى الباطل. وقيل: إن المقصود به كل حي على وجه الأرض، كقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} {الأنعام: 19}. وقيل: إن المقصود به من كان حيًّا في علم الله؛ أي علم الله أنه سيؤمن بهذا الإنذار (1). وكل هذه الأقوال محتملة، وإن كل هؤلاء معنيون بالإنذار. قال تعالى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} {الكهف: 4} وهذا إنذار للكافرين. وقال: {لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} {الأحقاف: 12}. وقال: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} {الفرقان: 1}. وقال: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} {فاطر: 18} وهذا إنذار للمؤمنين. فالإنذار عام لكل الخلق مؤمنهم وكافرهم، محسنهم ومسيئهم، إلا أن الذي يترجح في ظني هنا - والله أعلم - أن المقصود بقوله: {مَنْ كَانَ حَيًّا} ما قصده في أول السورة بقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} {يس: 11}، وذلك لأنه قال بعد ذلك: {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} فجعل من كان حيًا بإزاء الكافرين. وإن كان كل من ذكرته الأقوال محتملاً مطلوبًا له الإنذار. ومعنى {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ}: أي تجب عليهم كلمة العذاب (2). ومعنى {حَقَّ الْقَوْلُ} في القرآن: وجب العذاب كما ذكرناه في أول السورة، وذلك أن الله سبحانه قال في الأزل وقال في كتبه المنزلة على رسله: إنه من كفر به أدخله النار وعذبه بعد إلزامهم بالحجة. والحجة هي ما أنزل الله على لسان رسله وبلغوهم به فيحق القول بعد الإنذار وإلزامهم الحجة. قال تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} {الإسراء: 15}، وقال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} {الإنسان: 4}، وقال: {وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} {الشورى: 26}، وقال: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} {آل عمران: 131}. جاء في (التفسير الكبير): "{وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ}، إما قول العذاب وكلمته كما قال تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} {السجدة: 13}، وقوله تعالى: {حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} {الزمر: 71}، وذلك لأن الله تعالى قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، فإذا جاء حق التعذيب على من وجد منه التكذيب" (3). وفي مقابلة الكافرين للحي في قوله: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} إشارة إلى أن الكفار أموات وهو ما ذكره ربنا في أكثر من موطن، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} {الأنعام: 122}. جاء في (أنوار التنزيل): "وجعلهم في مقابلة من كان حيًا إشعارًا بأنهم لكفرهم وسقوط حجتهم وعدم تأملهم أموات في الحقيقة" (4). إن هاتين الآيتين ارتبطتا بأول السورة ارتباطا لطيفة من نواح عدة: 1- فقد قال تعالى في أول السورة: {يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. فقوله: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} يعني أنه ليس بشاعر، وهو يناسب قوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ}. وقوله: {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يقوي ذاك، فإن الشعراء كما قال رب العزة في كل واد يهيمون، فهذا مما يعضد هذا المعنى. 2- وقوله: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} يعني أن القرآن ليس بشعر، وهو يناسب قوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ}. 3- أن قوله: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ}، وقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} يناسب قوله: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا}. 4- وأن قوله: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} يناسب قوله: {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ}. 5- لقد وصف الله القرآن في أول السورة بأنه حكيم فقال: {وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ}، ووصفه هنا بأنه مبين فقال: {وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ}. ذلك أنه قال في أول السورة إنه على صراط مستقيم، ومعرفة الصراط المستقيم من غيره تحتاج إلى حكمة، والسير على الصراط المستقيم يحتاج إلى حكمة، فوصفه بأنه حكيم. وههنا أراد أن يبين أن القرآن ليس بشعر، وهذا أمر لا يحتاج إلى حكمة وإنما يحتاج إلى تبيين فقال: {وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ}، فكان كل وصف في مكانه أنسب. 6- سمى الله تعالى ما أنزله على رسوله قرآنًا وذكرًا ههنا فقال: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ}. وقال في أول السورة: {وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ}، وقال بعد ذلك: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} فسماه في الموطنين قرآنًا وذكرًا. وقد يكون من المناسب أن نذكر أنه قدم القرآن في أول السورة وأخر الذكر فقال: {يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ}، ثم قال في الآية الحادية عشرة: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ}. وههنا قدم الذكر وأخر القرآن فقال: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ}. ولعل من دواعي ذلك أنه في أول السورة بدأ بالكلام على القرآن ثم أخر الكلام على ما يشبه الطمس والمسخ وهو قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} فقدم القرآن لذلك. وههنا بدأ بالطمس والمسخ وأر الكلام على القرآن فقال: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ}، ثم قال بعد ذلك: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ}، فأخر ذكر القرآن لذلك والله أعلم. وهو من الموافقات اللطيفة. وهذا من لطيف الارتباط والتناسب. (1) انظر الكشاف 2/593، التفسير الكبير 26/106، أنوار التنزيل 587، تفسير ابت مثير 3/580، روح المعاني 23/49، فتح القدير 4/368. (2) انظر الكشاف 2/593، روح المعاني 23/50. (3) التفسير الكبير 26/106. (4) أنوار التنزيل 587، وانظر روح المعاني 23/50. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 327 إلى ص 331. الوقفة كاملة |
| ٤١٢ | {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} بعد أن ذكر أن آيات الله المنزلة ليست بشعر، وأن الرسول ليس بشاعر، وإنما هي ذكر وقرآن مبين، لفت نظرهم إلى آيات الله في خلقه، فذكر أقرب شيء إليهم وألصقه بحياتهم وهي الأنعام، فقال: أولم يروا إلى هذه الأنعام وإلى قدرة خالقها فيذكروا نعمة ربهم عليهم بها فيشكروه عليها ويفردوه بالعبادة؟ {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71)} {أَوَلَمْ يَرَوْا} يرد في القرآن الكريم التعبير (أولم يروا) بالواو بعد همزة الاستفهام، وقد يرد (ألم يروا) من دون واو كما مر في هذه السورة في قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ}، وهذه الواو عند النحاة هي واو العطف، وهي تعطف على مذكور، وقد تعطف على مقدر. فالمعطوف على المذكور نحو قولنا: (ألم تر إلى خالد ماذا فعل، أولم تر إلى أخيه كيف أنكر عليه؟) فهذا عطف على مذكور. أما المعطوف على المقدر فهو قسمان: قسم جرى له ذكر من غيرك فتبني عليه كلامك. وقسم لم يجر له ذكر صريح ومع ذلك تأتي بالواو على التأويل وتقدير المعني. فالأول كأن يقول محدثك: رجع خالد من الموصل. فتقول له: أو زرته بعد عودته؟ فتبني كلامك على ما ذكره المتكلم. جاء في (كتاب سيبويه): "(هذا باب الواو التي تدخل عليها ألف الاستفهام) وذلك قولك: هل وجدت فلانة عند فلان؟ فيقول: أو هو ممن يكون عند فلان؟ فأدخلت ألف الاستفهام، وهذه الواو لا تدخل على ألف الاستفهام، وتدخل الألف عليها" (1). وجاء في (النكت في تفسير كتاب سيبويه) للأعلم الشنتمري: "فإذا قال القائل: هل وجدت فلانًا عند فلان؟ فقال المجيب: أو هو (2) ممن يكون عنده؟ فكلام المخاطب عطف على كلام المتكلم باستفهام وغير استفهام" (3). والقسم الآخر كما في الآية هذه، وكقوله تعالى في سورة الملك: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} {الملك: 19} يبني ذلك على ما تقدم من الأمور المشاهدة المعلومة فيعطف عليها. وقد ذكروا في الفرق بين (أولم تر) و(ألم تر) في القرآن الكريم أن (أولم تر) بالواو إنما تكون لما هو مشاهد، و(ألم تر) إنما تكون في الاستدلال بالنظر العقلي. وقالوا أيضًا: إن (أولم تر) يستعمل فيما كثر أمثاله في الحياة مما هو مشاهد. أما (ألم تر) من دون الواو فهو من باب ما لا يكثر مثله. جاء في (البرهان): "واعلم أنه قد وقع في القرآن {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا} في بعض المواضع بغير واو كما في الأنعام، وفي بعضها بالواو، وفي بعضها بالفاء (أفلم يروا). وهذه الكلمة تأتي على وجهين: أحدهما: أن تتصل بما كان الاعتبار فيه بالمشاهدة، فيذكر بالألف والواو ولتدل الألف على الاستفهام، والواو على عطف جملة على جملة قبلها، وذلك الفاء لكنها أشد اتصالًا بما قبلها. والثاني: أن يتصل بما الاعتبار فيه بالاستدلال، فاقتصر على الألف دون الواو والفاء ليجري مجرى الاستئناف. ولا ينتقض هذا الأصل بقوله في النحل: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ} {النحل: 79}، لاتصالها بقوله: {واللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} {النحل: 78}، وسبيلها الاعتبار بالاستدلال فبني عليه {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ}" (4). وجاء في (درة التنزيل): "وكل موضع فيه بعد ألف الإنكار واو ففيه تبكيت على ما يسهل الطريق إلى ما بعد الواو فالاعتبار لكثرة أمثاله كقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} {الشعراء: 7}، كأن قائلاً قال: كذبوا الرسل وغفلوا عن الفكر والتدبر فقال: فعلوا ذلك ولم ينظروا إلى المشاهدات التي تنبه الفكر فيها من الغفلة. وكذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} {الملك: 18 - 19}، كأنه قال: كذبوا ولم ينظروا إلى ما يردع عن الغفلة من الفكر في المشاهدات... وكل ما فيه واو مثل (أولم يروا) فهو تنبيه على ما تقدمه في التقدير أمثال له منبهة لكثرتها فالتبكيت فيه أعظم، فهذا كله في المشاهد وما في حكمه. وما ليس فيه واو مثل (ألم يروا) فهو ما لم يقدر قبله ما يعطف عليه ما بعده، لأنه من باب ما لا يكثر مثله، وذلك مما يؤدي إلى علمه بالاستدلالات كقوله في سورة الأنعام {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا} إلى قوله: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} {الأنعام: 6}، وهذا ما لم يشاهدوه ولكن علموه" (5). وقد قال في آية (يس) هذه (أولم) بالواو؛ لأنه ذكر أمرًا يقع الاستدلال فيه بالمشاهدة كأنه قال: إن ما ذكرناه من الآيات والدلائل لم يهدهم إلى الحق ويردعهم عن الشرك أو لم يروا إلى ما يشاهدونه كثيرًا ويعيشون معه وينتفعون به وهو الأنعام كيف ذللها الله لهم وسخرها لمنفعتهم؟ وبذلك يوجه أنظارهم إلى ما هو كثير المشاهدة فيستدل به. ونحو ذلك أن تحاج أحدًا وتأتي له بالبراهين والأدلة فلم يقتنع فتأتي له ببرهان ظاهر الدلالة سهل المسلك كثير الوقوع. جاء في (روح المعاني): "(أولم يروا) الهمزة للإنكار والتعجيب، والواو للعطف على جملة منفية مقدرة متتبعة للمعطوف، أي: ألم يتفكروا، أو ألم يلاحظوا أو ألم يعلموا علمًا يقينًا مشابهًا للمعاينة. زعم بعضهم أن هذا عطف على قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا} إلخ، والأول للحث على التوحيد بالتحذير من النقم، وهذا بالتذكير بالنعم المشار إليها بقوله تعالى: {أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ} أي لأجلهم وانتفاعهم" (6). (1) الكتاب 1/491. (2) في المطبوع (أهو) من دون واو. والصواب بالواو كما في كتاب سيبويه وكما يدل عليه الكلام بعد. (3) النكت 2/809. (4) البرهان 4/150. (5) درة التنزيل 108 – 109، وانظر ملاك التأويل 1/282 – 283.0 (6) روح المعاني 23/50. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 332 إلى ص 336. * * * {أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ} أسند الخلق إلى نفسه فقال: {أَنَّا خَلَقْنَا} ولم يبنه للمجهول فيقول (خلق) كما قال في مواطن أخرى من نحو قوله: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} {النساء: 28}، وذلك أن هذا من باب التفضل والإنعام، والقرآن الكريم يسند النعمة والتفضل والخير إلى نفسه سبحانه. ثم إنه لو بناه للمجهول لم يدل على أن الخالق هو الله سبحانه. ولا يتناسب ذلك مع السياق الذي وردت فيه الآية والذي أراد الله فيه أن يظهر آياته ونعمه على خلقه ليعبدوه ويوحدوه فتكون الجهة مجهولة. ثم إنه قال: {أَفَلَا يَشْكُرُونَ}، وإذا كان الفاعل مجهولًا كانت الجهة التي يوجه إليها الشكر مجهولة فلا يعرفون الجهة التي ينبغي أن يقدموا لها الشكر. وقد تقول: لقد أسند الخلق هنا إلى ضمير المتكلم، وأسنده في سورة النحل إلى ضمير الغائب فقال: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} {النحل: 5} مع أن الموطنين متشابهان، فما الفرق؟ ولم ذاك ؟ فنقول: إن كل تعبير مناسب لما ورد فيه من أكثر من وجه. من ذلك أن السياق في سورة النحل مبني على الإسناد إلى ضمير الغيبة، بل إن جو السورة مبني على ذلك، قال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ... خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ... خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ... وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا... وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ... هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً... يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ... وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ... وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ... وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} {النحل: 2 – 10}. وغير ذلك. وأن السياق في سورة (يس) مبني على الإسناد إلى ضمير المتكلم، وأن جو السورة كذلك. قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا... وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا... إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ... إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ... وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ... أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا... وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا... وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ... وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ... الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ... وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ... أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ... وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ... أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} إلى آخره. وغير ذلك وغيره. فناسب كل تعبير الموطن الذي ورد فيه. ثم إن ما ورد في (يس) أكثر تكريمًا وتفضلاً مما ورد في النحل فأسنده إلى نفسه. وهذا هو الخط العام في إسناد النعمة والخير والتفضل. وإن الآيات التي ورد فيها كل تعبير يوضح ذاك. قال تعالى في (يس): {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ}. وقال في سورة النحل: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} {النحل: 5 – 7}. فقد ورد ضمير المتكلم الذي يعود على الله سبحانه أربع مرات في (يس) وهي: أنا، خلقنا، أيدينا، ذللنا. ولم يرد ضمير الغيبة الذي يعود على الله سبحانه إلا مرة واحدة في النحل وهو الضمير المستتر في (خلقها). ثم لننظر إلى مواطن التكريم في الموضعين: 1- قال في (يس): {خَلَقْنَا لَهُمْ} فجعل الخلق لهم. في حين قال في النحل: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا}، ولم يقل: (لكم) وإنما قال: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} (1). 2- قال في (يس): {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} للدلالة على الاهتمام والتكريم، كما تقول: هذا صنعته لك بيدي. ولم يقل مثل ذلك في النحل. 3- قال في (يس): {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} فملكها لهم، ولم يذكر في النحل أنه ملكها لهم. 4- قال في (يس): إنه ذللها لهم فقال: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} ولم يقل مثل ذلك في النحل. 5- ذكر في (يس) أن منها ركوبهم، وذكر في النحل أنها تحمل أثقالهم في الأسفار. 6- ذكر في (يس) أن لهم فيها مشارب، ولم يذكر مثل ذلك في النحل. 7- ذكر في (يس) والنحل أنهم منها يأكلون. 8- ذكر في (يس) والنحل أن لهم فيها منافع. 9- ذكر في النحل أن لهم فيها دفئًا، ولم يذكر ذلك في (يس). وهو يدخل في المنافع التي ذكرها في (يس). 10- ذكر في النحل أن لهم فيها جمالًا حين يريحون وحين يسرحون. ونلخص ما تفرد به كل موضع من الموضعين. ما تفردت به (يس): 1- أن الخلق لهم. 2- تمليكها إياهم. 3- تذليلها لهم. 4- الركوب. 5- المشارب. ما تفردت به النحل: 1- الدفء. 2- حمل الأثقال. 3- الجمال. وأظن أن معرفة أي الموطنين أكثر تكريمًا وتفضلاً مما لا يحتاج إلى بيان. هذا إضافة إلى أنه يحسن بنا أن نذكر أن ما تفردت به النحل يدخل في المنافع التي ذكرها في (يس) بقوله: {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ}. أما ما تفردت به (يس) فقد لا يدخل في المنافع كالتمليك والتذليل وأن الخلق لهم. فناسب كل تعبير الموضع الذي ورد فيه من كل وجه، والله أعلم. وقد تقول: لقد استعمل القرآن في (يس) الفعل (خلق) فقال: {أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ}، واستعمل في سورة (غافر) الفعل (جعل) فقال: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} {غافر: 79}، فلم ذاك؟ وما الفرق؟ والجواب: أنه قال في (يس): {أَفَلَا يَشْكُرُونَ} وقال في غافر: {فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ}، فجاء في (يس) بما هو أدعى للشكر. فالقول: (خلقته لك) أدل على الاهتمام والعناية من (جعلته لك) ذلك أن الخالق له إنما جعله له ابتداء قبل إيجاده، أما الجعل فلا يشترط فيه ذاك. ونحو ذلك أن تقول: (صنعت هذه السيارة لك) أو (جعلت هذه السيارة لك). فقولك: (جعلتها لك) معناه: (ملكتها إياك) وجعلتها لتستفيد منها، ومعلوم أنها لم تصنع لك ابتداء. أما قولك: (صنعتها لك) فمعناه أنها صنعت لك ابتداء لا لغيرك. فقوله: {خَلَقْنَا لَهُمْ} أدل على الاهتمام والعناية وأدعى إلى الشكر. ثم إن ما ورد في الآيتين يوضح ذلك: قال تعالى في سورة غافر: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} {غافر: 79 – 81}. فالذي ذكره في (يس) أدعى إلى الشكر مما في (غافر)، ذلك أنه قال في (يس): {خَلَقْنَا لَهُمْ}، {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}، {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ}، {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ}، {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ}، {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}، {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ}، {وَمَشَارِبُ}. في حين قال في غافر: {جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ}، {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا}، {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}، {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ}، {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ}. فزاد في (يس) على ما في غافر: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}، {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ}، {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} وزاد (المشارب) على المنافع، فكان ما في (يس) أدعى إلى الشكر. ومما حسن ذلك أيضًا أنه تكرر ذكر الجعل في (غافر)، وتكرر ذكر الخلق في (يس) فقال في غافر: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} {غافر: 61}. وقال: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا} {غافر: 64}. فناسب قوله: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ} {غافر: 79}. وقال في يس: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}. وقال: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} وقال: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ} فناسب ذكر الخلق في (يس) وذكر الجعل في (غافر) من كل وجه، والله أعلم. (1) انظر البحر المحيط 5/474. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 336 إلى ص 342. * * * {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} معنى {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} أي مما تولينا نحن إحداثه وعمله من غير واسطة ولا شركة ولا يمكن لغيرنا أن يعمله (1). وأسند العمل إلى اليد لأن الأشياء المصنوعة إنما تباشر باليد فيقال: هذا مما عملته يدي. فعبر عن ذلك بما يقرب من أفهامهم. جاء في (البحر المحيط): "لما كانت الأشياء المصنوعة لا يباشرها البشر إلا باليد عبر لهم بما يقرب من أفهامهم بقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} أي مما تولينا عمله ولا يمكن لغيرنا أن يعمله، فبقدرتنا وإرادتنا برزت هذه الأشياء لم يشركنا فيها أحد" (2). وجاء في (فتح القدير): "{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} أي مما أبدعناه وعملناه من غير واسطة ولا شركة، وإسناد العمل إلى الأيدي مبالغة في الاختصاص والتفرد بالخلق كما يقول الواحد منا: (عملته بيدي) للدلالة على تفرده بعمله" (3). و(ما) تحتمل أن تكون اسمًا موصولاً فيكون المعنى: (خلقنا لهم من الذي عملته أيدينا) أي من الأشياء التي عملتها أيدينا. وتحتمل أن تكون مصدرية فيكون المعنى: (خلقنا لهم من عمل أيدينا). وكلاهما مراد ولكل منهما دلالة. ولو عبر عن ذلك بـ (الذي) فقال: (من الذي عملته أيدينا) لكان نصا في الموصولية الاسمية ولم يحتمل المصدرية. وكذلك لو قال: (مما عملته أيدينا) فذكر العائد. ولم يقل أيا منهما للتوسع في المعنى والله أعلم. ثم إنه قال: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} ولم يقل: (ما عملت أيدينا) ليدل على أن هذا بعض ما عملته يد القدرة الإلهية. ولو قال: (ما عملت) لاقتصر العمل على الأنعام. فما قاله أدل على التنوع وأدل على القدرة والتكريم. وقال: (أيدينا) بصيغة الجمع؛ ذلك لأنه ذكر نفسه بصيغة الجمع {أَنَّا خَلَقْنَا}. والملاحظ في القرآن أنه إذا ذكر الله نفسه بصيغة الإفراد أفرد اليد أو ثناها فيقول {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} {الفتح: 10}، ويقول: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} {المائدة: 64}، ويقول: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} {ص: 75}. وإذا ذكر نفسه بصيغة الجمع جمع اليد كقوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} وهو المناسب. {أَنْعَمْنَا} الأنعام جمع نم وهي البقر والغنم والإبل (4). وهو مفعول (خلقنا) وقدم الجارين على المفعول للاهتمام بشأنهما فقال: {خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} فقدم ما يتعلق بتكريمهم وهو (لهم) أي لأجلهم للدلالة على الاهتمام بالإنعام عليهم وتكريمهم، ولأنهم العلة في خلق الأنعام، فقدم العلة على المعلول. ووضع الأنعام بجنب ما عملته الأيدي لأنها بعض منه. (1) انظر الكشاف 2/593، البحر المحيط 7/347، فتح القدير 4/370. (2) البحر المحيط 7/347. (3) فتح القدير 4/370. (4) فتح القدير 4/370. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 342 إلى ص 344. * * * {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} قدم الجار والمجرور (لها) على (مالكون) للاهتمام بشأن المملوك، وذلك لأنها من أهم أموالهم وأكرمها عليهم فقدمها للاهتمام بها. ولا يفيد هذا التقديم قصرًا. ونحو هذا التقديم مما لا يفيد القصر قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} {يوسف: 72}، فقدم (به) على (زعيم) لأهمية حمل البعير آنذاك، وليس معناه: أنا زعيم به دون غيره. ونحو هذا أن يقول شخص: (من يتكفل بديني وأهلي وأنا أكفيكم أمر هذا الفاتك قاطع الطريق؟) فيقول له قائل: (أنا بذلك كفيل). فليس معناه أنا كفيل بذاك دون غيره، وإنما قدمه للاهتمام، فإن هذا الأمر هو ما أهمه وهو الذي يحول بينه وبين تولي أمر قاطع الطريق فيقدمه للاهتمام. هذا علاوة على رعاية الفاصلة. وقال: (مالكون) بالاسم، ولم يقل: (يملكون) للدلالة على ثبات الأمر واستقراره. ولو قال: (يملكون) لاحتمل عدم الثبوت والحصول، وأنهم غير مالكيها الآن، وأنهم سيملكونها في المستقبل. جاء في (روح المعاني) في قوله: {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ}: "وقدم لرعاية الفواصل مع الاهتمام، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على استقرار مالكيتهم لها واستمرارها" (1). وتمليكها للإنسان من تمام النعمة عليهم، فلو خلقها لهم من دون تمليك لما كان بها تمام الانتفاع. جاء في (التفسير الكبير ): "قوله تعالى: {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ}: إشارة إلى إتمام الإنعام في خلق الأنعام، فإنه تعالى لو خلقها ولم يملكها الإنسان ما كان ينتفع بها" (2). وجاء في (الكشاف): "أي خلقناها لأجلهم فملكناها إياهم فهم متصرفون فيها تصرف الملاك مختصون بالانتفاع فيها لا يزاحمون، أو فهم لها ضابطون قاهرون" (3). (1) روح المعاني 23/51. (2) التفسير الكبير 26/106. (3) الكشاف 2/593. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 344 إلى ص 345. الوقفة كاملة |
| ٤١٣ | {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73) } قدم الضمير العائد عليهم في الجار والمجرور (لهم) على ضمير الأنعام في قوله: (فيها) لأن الكلام إنما هو عليهم وهي مخلوقة لهم. فهم سبب وجودها والعلة المسببة لخلقها، ثم ذكر ضمير الأنعام بعد ذلك. ثم ذكر أن لهم فيها منافع عدا الركوب والأكل كالجلود والأوبار والأصواف وغيرها، وكالحراثة وما إلى ذلك (1). والمشارب تعم شيئين: اللبن وأدوات الشرب، فإن من الجلود ما يتخذ أواني للشرب والأدوات من القرب وغيرها (2). فجمع بقوله: (مشارب) معنيين، ولو قال: (لهم فيها شراب) لم يفد إلا معنى واحدًا وهو اللبن. وذكر المشارب بعد المنافع من باب ذكر الخاص بعد العام، وذلك لأهميتها واعتناء العرب بها. وقدم الأكل على الشرب كما هو في سائر القرآن الكريم من تقديم الأكل على الشرب كقوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} {الأعراف: 31} وذلك الأهمية الأكل وصعوبة الحصول عليه. ولأن الأكل من الأنعام أعم من الشرب، فإن الأكل يكون من إناثها وذكورها صغارها وكبارها، أما الشرب فيكون من الإناث خاصة وفي حالات خاصة، فقدم ما هو أهم وأعم. وقد أخر ذكر المشارب عن بقية المنافع؛ لأن ما تقدم من المنافع يمكن الانتفاع به متى شاء صاحبها إلا المشارب فإنها لا تكون إلا في وقت معين وهو وقت الإرضاع ولا يكون في غيره، فأخرها لمحدودية الانتفاع بها والله أعلم {أَفَلَا يَشْكُرُونَ} أي ألا يكون ذلك سببًا لشكرهم لاستدامة النعم عليهم؟ وقال ذلك بصيغة الاستفهام لأن الاستفهام في نحو هذا أدعى إلى الحث واستثارة النفوس إلى مقابلة النعم بالشكر وأدل على بيان سوء صنيعهم إن لم يفعلوا. وجاء بالفاء الدالة على السبب؛ وذلك لأنه تقدم ما يستدعي الشكر وهو ما ذكره من النعم. وأطلق الشكر ليتناول المنعم والنعمة كما مر بيان ذلك في آية سابقة في السورة. (1) ينظر الكشاف 2/594، التفسير الكبير 26/106، روح المعاني 23/51. (2) ينظر التفسير الكبير 26/106. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 352 إلى ص 353. الوقفة كاملة |
| ٤١٤ | {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} لم يقل: (لا ينصرونهم) لأن ذلك قد يدل على أنهم قادرون على النصر ولكن لا يفعلون ذلك وإنما قال {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} ليدل على عجزهم وضعفهم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 354 إلى ص 354. * * * {وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} قيل: المعنى أن الآلهة لا يستطيعون نصرهم وإنما هم؛ أي: عابدوهم جند لهم يدافعون عنهم وينصرونهم، فهم بدل أن ينتصروا بهم صاروا جنودًا لهم يدافعون عنهم وينصرونهم، فهم بدل أن ينتصروا بهم أنفسهم، وهذا أسوأ ما يكون من خيبة الأمل وانقطاع الرجاء. جاء في (روح المعاني): "(وهم) أي أولئك المتخذون المشركون (لهم) أي لآلهتهم {جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} أي معدون لحفظهم والذب عنهم في الدنيا" (1). وجاء في (فتح القدير): "أي والكفار جند للأصنام محضرون، أي يحضرونهم في الدنيا. قال الحسن: يمنعون منهم ويدفعون عنهم، وقال قتادة: أي يغضبون لهم في الدنيا. قال الزجاج: ينتصرون للأصنام وهي لا تستطيع نصرهم. وقيل: المعنى: يعبدون الآلهة ويقومون بها فهم لها بمنزلة الجند. هذه الأقوال على جعل ضمير (هم) للمشركين وضمير (لهم) للآلهة" (2). وقيل: بل المعنى أنهم جند لهم، أي جند للآلهة محضرون للعذاب في الآخرة، وذلك أن هذه الآلهة توقد بها النار يوم القيامة فتتقدمهم إلى النار وهم يتبعونهم إليها كما يتبع الجند قائدهم. أو أن الآلهة تكون جندا لهم محضرة للعذاب. جاء في (الكشاف): "اتخذوا الآلهة طمعًا في أن يتقووا بهم ويعتضدوا بمكانهم، والأمر على عكس ما قدروا، حيث هم جند لآلهتهم معدون (محضرون) يخدمونهم ويذبون عنهم ويغضبون لهم، والآلهة لا استطاعة بهم ولا قدرة على النصر، أو اتخذوهم لينصروهم عند الله ويشفعوا لهم، والأمر على خلاف ما توهموا، حيث هم يوم القيامة جند معدون لهم محضرون لعذابهم؛ لأنهم يجعلون وقودًا للنار" (3). وفيه معنى لطيف آخر وهو أن هذه الآلهة لا تستطيع نصرهم في حال أن لهم جندا محضرين، أي هي لا تستطيع النصر ولو كان لهم أي للآلهة جند محضرون معدون فكيف إذا لم يكن لهم ذلك؟ فلا شك أنهم سيكونون أعجز وأذل وأضعف، وعلى هذا تكون الواو واو الحال. وذكر الفخر الرازي معنى آخر: وهو أن الآلهة لا تستطيع نصرهم، ولو كانت هي جندًا محضرين لنصرتهم أي: حتى لو اجتمعت الآلهة وكانت جندًا معدة لنصرهم لم تستطع أن تنصرهم فكيف إذا لم تكن كذلك؟ جاء في (التفسير الكبير): في قوله: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ} "وهو يحتمل معنيين: (أحدهما): أن يكون العابدون جندًا لما اتخذوه آلهة كما ذكرنا. (الثاني): أن يكون الأصنام جندًا للعابدين، وعلى هذا ففيه معنى لطيف وهو أنه تعالى لما قال: {لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} أكدها بأنهم لا يستطيعون نصرهم حال ما يكونون جندًا لهم ومحضرون (4) لنصرتهم، فإن ذلك دال على عدم الاستطاعة، فإن من حضر واجتمع ثم عجز عن النصرة يكون في غاية الضعف، بخلاف من لم يكن متأهبًا ولم يجمع أنصاره" (5). وهذه المعاني كلها محتملة صحيحة: 1- فإن الآلهة عاجزة وإن عابديهم ينصرونهم ويدفعون عنهم وهم لهم جند محضرون. 2- وأنهم وآلهتهم سيكونون محضرين للعذاب في النار. 3- وأن الآلهة لا تستطيع أن تنصرهم ولو كان لها جند محضرون معدون للنصر فكيف وهي ليست كذلك؟. 4- وهي لا تستطيع أن تنصرهم ولو اجتمعت وكانت جندًا معدين النصرة عابديهم. فجمع هذا التعبير كل هذه المعاني. ولو غير أي لفظ عن مكانه بتقديم أو تأخير لم يؤد هذه المعاني مجتمعة، فلو قال: وهم جند محضرون لهم. أو: وهم جند لهم محضرون. أو: ولهم هم جند محضرون. وكذلك لو قيل أي تعبير آخر لم يفد هذه المعاني مجتمعة، بل ربما اختل المعنى. فكان هذا التعبير أعدل التعبيرات وأحسنها وأجمعها للمعاني المطلوبة. (1) روح المعاني 23/51. (2) فتح القدير 4/371. (3) الكشاف 2/594. (4) كذا، والصواب: (ومحضرين). (5) التفسير الكبير 26/107. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 354 إلى ص 357. الوقفة كاملة |
| ٤١٥ | {فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76) } نهاه عن أن يحزن لما يقولونه فيه وفي دعوته. فهم يقولون فيه إنه كاذب، وإنه شاعر، وإنه ساحر، وإنه مجنون، ويقولون في دعوته إنها ضلال وإفك وكذب وافتراء، إلى غير ذلك مما يتناجون به من العداوة له وحربه، فنهاه عن أن يحزن لأقوالهم، وقد أطلق القول ليشمل ما يقولونه فيه وفيما يدعو إليه. ثم استأنف معللًا ذلك بقوله: {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ}، فلم الحزن والله يعلم سرهم وجهرهم، وهو قادر على إبطال ما يظهرون أو يضمرون؟ إن (ما) في قوله: {مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} تحتمل أن تكون اسمًا موصولًا، أي: نعلم الذي يسرونه والذي يعلنونه، وتحتمل أن تكون مصدرية، أي نعلم إسرارهم وإعلانهم، وهو يعلم ذلك كله إسرارهم وما يسرونه وإعلانهم وما يعلنونه. ولو قال: (ما يسرونه وما يعلنونه) لتعينت الموصولية الاسمية ولم تحتمل المصدرية، فلم يذكر العائد ليشمل المعنيين جميعًا. وأطلق الإسرار والإعلان ليشمل كل ما يسرون وكل ما يعلنون في كل أمر من الأمور، فعلمه يعم الجميع ولا يخص شيئًا دون شيء. جاء في (روح المعاني): "و(ما) موصولة والعائد محذوف، أي نعلم الذي يسرونه من العقائد الزائغة والعداوة لك ونحو ذلك، والذي يعلنونه من كلمات الإشراك والتكذيب ونحوها. وجوز أن تكون مصدرية، أي نعلم إسرارهم وإعلانهم، والمفعول محذوف، أو الفعلان منزلان منزلة اللازم. والمتبادر الأول وهو الأولى" (1). وقد قدم السر على الإعلان، قيل: لأن مرتبة السر مقدمة على مرتبة العلن لأن السر يسبق الإعلان، فهو علة لما يفعله الإنسان، والعلة مقدمة على المعلول. وقيل: إن العلم بالسر يدل على الإحاطة بالمعلومات كلها. فمن كان يعلم السر فهو يعلم العلن من باب أولى. وقيل غير ذلك. جاء في (روح المعاني): "وتقديم السر على العلن لبيان إحاطة علمه سبحانه بحيث إن علم السر عنده كأنه أقدم من علم العلن. وقيل: لأن مرتبة السر متقدمة على مرتبة العلن، إذ ما من شيء معلن إلا وهو أو مباديه مضمر في القلب قبل ذلك. فتعلق علمه تعالى بحالته الأولى متقدم على تعلقه بحالته الثانية حقيقة. وقيل: للإشارة إلى الاهتمام بإصلاح الباطن فإنه ملاك الأمر، ولأنه محل الاشتباه المحتاج للبيان" (2). والملاحظ في القرآن الكريم أنه لا يقتصر على تقديم السر، فهو - كما يقدم السر على الإعلان - قد يقدم الجهر على الإخفاء، وذلك نحو قوله تعالى: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} {الأعلى: 7}، وقوله: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} {الأنبياء: 110}، وقوله {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} {البقرة: 284}. وهو أحيانًا يكتفي بذكر أحدهما دون الآخر، فقد يكتفي بذكر الإسرار مثلًا كما قال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} {محمد: 26}. وقد يكتفي بذكر الأمور الظاهرة كذكر العمل والصنع ونحوهما وذلك كقوله تعالى: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} {البقرة: 96}، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} {النور: 30}، وكل ذلك بحسب ما يقتضيه المقام. وقد قيل في تقديم الإخفاء على الإعلان، أو الإعلان على الإخفاء: إنه إذا تقدم الكلام على المنافقين أو الكفار قدم الإخفاء، وإذا تقدم ذكر المؤمنين قدم الإبداء، وهذا مطرد في جميع ما ورد من القرآن الكريم. جاء في (ملاك التأويل) في قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ}: "أما آية البقرة فلم يجر فيها ذكر النفاق ولا صفة أهله وإنما الخطاب فيها وفي آية الذين قبلها وفيما أعقبت به بعد للمؤمنين فيما يخصهم من الأحكام فورد فيها قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} فقدم فيها بادي أعمالهم بناء على سلامة بواطنهم وتنزههم عن صفة المنافقين. ومنه قوله تعالى: {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} {المائدة: 99}، فتقدم ذكر ما يبدونه لأنه خطاب للمؤمنين... وهذا جار مطرد فيما يلحق بهذا الضرب كما اطرد بالبدء بالإخفاء على الإعلان حيث يتقدم ذكر أهل الكفر وينتظم الكلام بذكرهم كقوله تعالى: {يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} {الأنعام: 3} بعد قوله تعالى: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} {الأنعام: 1}، وكقوله تعالى: {وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} {التغابن: 4}، وكقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} {النحل: 19} بعد قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} {التغابن: 2}، وكقوله تعالى: {أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ} {النمل: 74}، فاطرد ما ذكرناه في الطرفين على رعي الإيمان والنفاق، وجاء كل على ما يجب ويناسب" (3). وهذه ملاحظة صحيحة تتبعتها في مواطن قوله تعالى: {مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} وقد وردت في أربعة مواضع في القرآن الكريم وهي: (البقرة 77، هود 5، النحل 23، يس 76). وهذه المواطن خاصة بذكر الكافرين. وقد ورد قوله تعالى: {مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} بالخطاب في موطنين وهما قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} {النحل: 19}، وقوله: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} {التغابن: 4}، وهما ليسا مختصين بالكافرين، وإنما هما من المواطن العامة التي تشمل عموم بني آدم وإن كان قد جرى فيها ذكر للكافرين. أما آية النحل فقد وقعت في سياق تعداد النعم على الإنسان وهي قوله: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ .....} وتستمر إلى قوله: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا... وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} إلى أن يقول: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} {النحل: 17 – 19}. فأنت ترى أنها ذكرت في سياق تعداد النعم. إلا أن الملاحظ أن السياق بدأ في الكلام على المشركين والشرك، فقد بدأت السورة بقوله: {أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}، وبدأت الآيات بقوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا} الآيات، فهي إذن ذكرت بعد ذكر الإنسان الخصيم لربه المشرك به. ثم يأتي في عقب ذلك مباشرة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} {النحل: 20 – 22}، ويستمر في الكلام على الكفار. على هذا تكون الآية وقعت في سياق الكلام على المشركين والكافرين ولم يرد فيها ذكر للمؤمنين. وأما آية التغابن فقد وقعت في السياق الآتي: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} {التغابن: 2 – 4}. فالسياق لم يختص بالكلام على الكافرين إلا أنه جرى بعدها مباشرة ذكر الكافرين فقال: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} {التغابن: 5 – 7}. فتكون قد وقعت في سياق الكافرين سواء تقدمها ذكر الكافرين أم وقع في عقبها. وعلى أية حال تكون الملاحظة صحيحة، فكل ما تقدم فيه السر على العلن كان في سياق الكلام على الكافرين سواء تقدم الآية أم كان في عقبها. غير أنه مع هذا الخط العام للتقديم والتأخير يكون التقديم والتأخير مناسبًا للسياق الذي ترد فيه الآية. فقوله تعالى مثلًا: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} {البقرة: 284}، إنما قدم الإبداء فيه على الإخفاء لقوله تعالى: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} فإن الحساب يكون على ما يبديه الإنسان ويفعله لا على ما يدور في نفسه من خواطر، فإن ذلك ليس بوسع الإنسان أن يمنعه، "ولهذا لما نزلت هذه الآية اشتد ذلك على الصحابة رضي الله عنهم وخافوا منها ومن محاسبة الله لهم على جليل الأعمال وحقيرها" (4). وورد في الحديث الصحيح الذي رواه الإمام مسلم وغيره أنه لما نزلت هذه الآية على رسول الله اشتد ذلك على أصحاب رسول الله فأتوا رسول الله ثم جثوا على الركب وقالوا: يا رسول الله كلفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله : "أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين قبلكم سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير"، فلما أقر بها القوم وذلت بها ألسنتهم أنزل الله في إثرها: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} {البقرة: 285}، فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} إلى آخره (5). وكذلك قوله تعالى: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} {الأنبياء: 110}، فإنه قدم الجهر على الكتمان وذلك لما تقدم قبلها قوله تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آَذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} {الأنبياء: 109}، والإيذان هو الإعلام والإشهار، وذلك لا يكون إلا جهرًا، وقوله: {عَلَى سَوَاءٍ} يعني "مستوين في الإعلام به لم يطوه عن أحد منهم وكاشف كلهم وقشر العصا عن لحائه" (6) وذلك كله جهر فناسب تقديمه. ونحوه قوله تعالى: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} {الأعلى: 7}، فقد قدم الجهر وذلك لتقدم قوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} {الأعلى: 6}، والإقراء لا يكون إلا جهرًا، بخلاف القراءة فقد تكون سرًا وجهرًا. فناسب تقديم الجهر. والمقصود أنه إضافة إلى الخط العام الذي ذكرناه في تقديم السر على العلن، فإن السياق الذي ترد فيه الآية يقتضي ذلك أيضًا. أما الاكتفاء بأحدهما دون الآخر فذلك ما يقتضيه المقام أيضًا وذلك نحو قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} {محمد: 26}. وذلك لأن السياق والمقام يقتضيان ذلك، فقد قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} {محمد: 26}، ولم يقل: (وجهرهم) ذلك لأنه ذكر ما جهروا به وهو قولهم: {سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ} غير أنهم لم يذكروا الأمر الذي يطيعونهم فيه ولم يبينوه، وإنما أسروه فقال: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} أي لا يخفى عليه ما أسروه، فذكر ما يحتاج إليه المقام، والله أعلم. (1) روح المعاني 23/52. (2) روح المعاني 23/52. (3) ملاك التأويل 1/137 – 138. (4) تفسير ابن كثير 1/338. (5) انظر تفسير ابن كثير 1/338 – 339. (6) الكشاف 2/339. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 357 إلى ص 364. الوقفة كاملة |
| ٤١٦ | {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} {یس: 77 – 83}. قيل: جاء أحد عتاة مكة - قيل: هو أبي بن خلف، وقيل: العاص بن وائل - إلى رسول الله وفي يده عظم رميم وهو يفته ويذروه في الهواء وهو يقول: يا محمد أتزعم أن الله يبعث هذا؟ قال : نعم يميتك الله ثم يبعثك ثم يحشرك إلى النار. ونزلت هذه الآيات من آخر (يس): {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} إلى آخرهن. وفي رواية أنه قال له بعدما فت العظم البالي: أيحيي الله هذا بعدما أرى؟ فأجابه رسول الله بما ذكرنا (1). (1) ينظر تفسير ابن كثير 3/581. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 364 إلى ص 365. * * * {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77)} المقصود هو التعجيب من حال الإنسان بعدما خلقه الله من نطفة فإذا هو مخاصم لربه معاند له، فكان جزاء نعمته عليه أن كان خصمًا لربه مظهرًا خصومته له. وقيل: المقصود بيان قدرة الخالق وذلك أن ربه خلقه من نطفة فإذا هو ناطق مخاصم ذو حجة ولدد مبين عما في نفسه. جاء في (الكشاف): "قبح الله عز وجل إنكارهم البعث تقبيحًا لا ترى أعجب منه وأبلغ، وأدل على تمادي كفر الإنسان وإفراطه في جحود المنعم وعقوق الأيادي، وتوغله في الخسة وتغلغله في القحة، حيث قرره بأن عنصره الذي خلقه منه هو أخس شيء وأمهنه، وهو النطفة المذرة... ثم عجب من حاله بأن يتصدى مثله على مهانة أصله ودناءة أوله لمخاصمة الجبار... وقيل معنى قوله: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} فإذا هو بعدما كان ماء مهينًا رجل مميز منطيق قادر على الخصام مبين معرب عما في نفسه فصيح" (1). وجاء في (روح المعاني): "قوله تعالى: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} أي مبالغ في الخصومة والجدال الباطل، (مبين) ظاهر متجاهر في ذلك... وقيل: معنى قوله تعالى: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ}: فإذا هو بعدما كان ماء مهينًا رجل مميز منطيق قادر على الخصام مبين معرب عما في ضميره فصيح" (2). وجاء في (البحر المحيط): "{فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} الوصف الذي آل إليه من التمييز والإدراك الذي يتأتى معه الخصام، أي فإذا هو بعدما كان نطفة رجل مميز منطيق قادر على الخصام مبين معرب عما في نفسه" (3). والمعنيان مرادان مقصودان، فالإنسان بعدما خلقه ربه من نطفة من ماء مهين وسواه رجلًا إذا هو مخاصم له يتخذ من دونه آلهة. أولًا ينظر الإنسان إلى قدرة خالقه بأن جعل من النطفة إنسانًا عاقلًا ناطقًا مخاصمًا مبينًا عن حجته؟ إن الآية تبدأ بالهمزة الدالة على الإنكار والتعجيب، فهي تنكر عليه فعله وموقفه من ربه وتعجب من حاله، وذلك أن يقابل الإحسان بالإساءة، والنعمة بالجحود، فهو إنكار وتعجيب. ثم جاء بالواو التي قيل فيها إنها عطف على كلام مقدر، وقيل أيضًا: إن المقصود بها الاستدلال بالمشاهد وكثرة الوقوع كما سبق أن ذكرنا، وقيل: هي عطف على قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ}. ثم ذكر (الإنسان) فقال: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ} مع أنه جاء بضمير الغائبين قبلها فقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ}، وذلك أن الاستدلال في هذه الآية يخص كل إنسان وهو حجة على كل فرد، فكان الأولى أن ينظر في نفسه ويتأمل فيها وفي خلقها وينظر في أصله وماذا هو الآن. أما قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا} فهو كلام على مجموعة من الناس، فهذه الآية أعم وأشمل. جاء في (التفسير الكبير): "قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} معناه الكافرون المنكرون التاركون عبادة الله المتخذون من دونه آلهة، أولم يروا خلق الأنعام لهم. وعلى هذا فقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ} كلام أعم من قوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا}، لأنه مع جنس الإنسان وهو مع جمع منهم، فنقول: سبب ذلك أن دليل الأنفس أشمل وأكمل وأتم وألزم، فإن الإنسان قد يغفل عن الأنعام وخلقها عند غيبتها ولكن لا يغفل هو مع نفسه متى ما يكون وأينما يكون، فقال: إن غاب عن الحيوان وخلقه فهو لا يغيب عن نفسه فما باله؟ أولم ير أنا خلقناه من نطفة وهو أتم نعمة؟" (4). وجاء في (روح المعاني): "الهمزة للإنكار والتعجب، والواو للعطف على جملة مقدرة هي مستتبعة للمعطوف كما مر في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا}... إلخ، أي: ألم يتفكر الإنسان ولم يعلم أنا خلقناه من نطفة، أو هي عين تلك الجملة أعيدت تأكيدًا للنكير السابق وتمهيدًا الإنكار ما هو أحق منه بالإنكار لما أن المنكر عين علمهم بما يتعلق بخلق أنفسهم... ويشير كلام بعض الآجلة إلى أن العطف على {أَوَلَمْ يَرَوْا} السابق والجامع ابتناء كل منهما على التعكيس، فإنه تعالى خلق الإنسان ما خلق ليشكر، فكفر وجحد المنعم والنعم، وخلقه سبحانه من نطفة قذرة ليكون منقادًا متذللًا فطغى وتكبر وخاصم. وإيراد الإنسان) مورد الضمير لأن مدار الإنكار متعلق بأحواله من حيث هو إنسان" (5). وقال: (خلقناه) بإسناد الخلق إلى ضمير المعظم نفسه ليبين الفاعل وقدرته وإنعامه وتفضله. وقال: (من نطفة) ليذكر الإنسان بأصله، ويذكره بقدرة الخلاق العليم، وكيف تعهد هذه النطفة وجعل منها إنسانًا عاقلًا ناطقًا فيتطامن لخالقه. ثم قال: (فإذا) فجاء بالفاء الدالة على التعقيب، أي: فإذا هو في عقب ذلك مباشرة خصم لربه. والفاء تفيد السبب أيضًا، فكأن إحسان خالقه إليه كان سببًا في كفره وخصومته له. وهذا أعجب شيء وأبعد شيء عن مألوف المعاملات والعادات، إذ المفروض أن يكون الإحسان سببًا إلى الشكر والاعتراف بالفضل والجميل. أما الإنسان فكان الإحسان إليه سببًا لخصومة المنعم عليه وكفره به. فجمع بالفاء بين معنيي التعقيب والسبب. وجاء بـ (إذا) الدالة على المفاجأة للدلالة على أن موقفه هذا مفاجئ وهو غير متوقع أن يفعل هذا مع من أحسن إليه. ومن جهة أخرى تدل الآية على بالغ قدرة الله، فإنه من المفاجآت العجيبة أن تصبح هذه النطفة إنسانًا عاقلًا مخاصمًا ناطقًا بالحجة مدافعًا عن نفسه مبينًا عما في ضميره، فهي مفاجأة من كل وجه. و(الخصيم) هو المبالغ في الخصومة. واختار (الخصيم) لأن الخصيم من يخاصم غيره ويبالغ في ذلك، فدل بذلك على النطق والعقل والقيام بالحجة. و(المبين) هو المفصح عما في نفسه المظهر لخصومته وما يريد إظهاره، فذكر أضعف شيء في طور خلق الإنسان وهي النطفة، وأبلغ شيء فيه وهو الخصيم. وجاء بالجملة اسمية للدلالة على الثبوت، أي ثبوت هذا الأمر في الإنسان. جاء في (التفسير الكبير): "(خصيم) أي ناطق، وإنما ذكر الخصيم مكان الناطق لأنه أعلى أحوال الناطق فإن الناطق مع نفسه لا يبين كلامه مثلما يبينه وهو يتكلم مع غيره، والمتكلم مع غيره إذا لم يكن خصمًا لا يبين ولا يجتهد مثلمًا يجتهد إذا كان كلامه مع خصمه. وقوله: (مبين) إشارة إلى قوة عقله، واختار الإبانة لأن العاقل عند الإفهام أعلى درجة منه عند عدمه... فقوله تعالى: {مِنْ نُطْفَةٍ} إشارة إلى أدني ما كان عليه، وقوله: {خَصِيمٌ مُبِينٌ} إشارة إلى أعلى ما حصل عليه" (6). وجاء في (روح المعاني): "وقوله تعالى: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ} أي مبالغ في الخصومة والجدال الباطل. (مبين): ظاهر متجاهر في ذلك، عطف على الجملة المنفية داخل في حيز الإنكار والتعجيب، كأنه قيل: أولم ير أنا خلقناه من أخس الأشياء وأمهنها ففاجأ خصومتنا في أمر يشهد بصحته مبدأ فطرته شهادة بينة، وإيراد الجملة الاسمية للدلالة على استقراره في الخصومة واستمراره عليها. وفي الحواشي الخفاجية أن تعقيب الإنكار بالفاء وإذا الفجائية على ما يقتضي خلافه مقو للتعجيب، والمراد بالإنسان الجنس، والخصيم إنما هو الكافر المنكر للبعث مطلقًا... وقيل معنى قوله تعالى: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ}: فإذا هو بعدما كان ماء مهينًا رجل مميز منطيق قادر على الخصام مبين معرب عما في ضميره فصيح، فهو حينئذ معطوف على (خلقناه) والتعقيب والمفاجأة ناظران إلى خلقه" (7). إن هذه الآية مرتبطة بما قبلها وما بعدها من الآيات أحسن ارتباط وأبلغه. فهي مرتبطة بقوله تعالى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آَلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ}، وهذه خصومة ظاهرة لخالقهم. ومرتبطة بقوله تعالى: {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} وذلك أنه إذا كان الله خلق الإنسان من نطفة وأنشأه حتى سواه رجلًا، فلا شك أنه يعلم كل ما يسر وما يعلن. وهي مرتبطة بقوله: {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ}، فإن الذي خلقه من نطفة أقدر على إعادته في الآخرة، لأن الإعادة أيسر من الابتداء. (1) الكشاف 2/594 – 595. (2) روح المعاني 23/53 – 54. (3) البحر المحيط 7/348. (4) التفسير الكبير 23/53. (5) روح المعاني 23/53. (6) التفسير الكبير 26/108. (7) روح المعاني 23/53 – 54. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 365 إلى ص 370. الوقفة كاملة |
| ٤١٧ | {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)} لما ذكر الكافرين وذكر أن لهم عذابًا مهينًا وعذابًا أليمًا ذكر بمقابل ذلك من آمن وعمل صالحًا فذكر أن لهم جنات النعيم. وإضافة الجنات إلى النعيم أنسب إضافة، إذ هي بمقابل ما يلقاه المضل المستهزئ من عذاب مهين وعذاب أليم. ومن كان في عذاب أليم ومهين لا ينعم وإن كان في الجنات، فناسب ذلك إضافة الجنات إلى النعيم. وتقديم الجار والمجرور (لهم) على الجنات يفيد الاختصاص، فإن جنات النعيم لا تكون إلا لمن آمن وعمل صالحًا. ثم ذكر أنهم خالدون فيها، وأن هذا وعد منه لا يتخلف، وكيف يتخلف وهو وعد من الله العزيز الحكيم؟ والعزيز هو الذي لا يغلبه شيء فليس ثمة ما يمنعه من إنجاز وعده و تحقيق وعيده، والحكيم الذي لا يفعل إلا ما تقتضيه الحكمة والمصلحة (1). واختيار (العزيز الحكيم) لخاتمة الآية أنسب شيء. فالعزيز هو الغالب الممتنع. والحكيم يحتمل أن يكون من الحكمة أي هو ذو حكمة، ويحتمل أن يكون من الحكم أي هو حاكم. والمعنيان مرادان معًا فهو الحاكم ذو الحكمة. واجتماع هذين الاسمين أحسن شيء وأنسبه في هذا المكان، فإن تمام العزة أن يكون صاحبها حاكمًا وهو أعلى العزة، فإن العزة درجات والأعزة درجات، فبعضهم أعز من بعض، وأعلى العزة أن تجتمع مع الحكم، فإنه قد يكون العزيز غير حاكم، فإذا اجتمع معها الحكم كان تمام العزة. والعزيز الحاكم إن لم يكن ذا حكمة كانت عزته وحكمه تهورًا وبطشًا وغرورًا، وكان ذلك في حقه منقصة وليس صفة كمال، فإن من ألزم صفات الكمال للعزيز الحاكم أن يكون ذا حكمة فتزداد صفاته كمالاً، فكان اجتماع هذين الوصفين أحسن اجتماع وأنسبه. وقد عرف الوصفين بأل فقال: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ولم يقل: (إنه عزيز حكيم) للدلالة على أنه المتفرد فيهما ولا يماثله في ذلك أحد. ولو قال: (عزيز حكيم) لاحتمل أن يكون هناك من يماثله ممن هو عزيز حكيم. وقد تقول: ولم قال إذن في السورة نفسها: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فلم يعرف؟ والجواب: أن السياق مختلف، ذلك أنه في الآية الأولى قالها تعقيبًا على المستكبر الذي اتخذ آيات الله هزوا، وبعد التهديد الذي ألحقه به وبمن يضلهم، وبعد ذكر الجزاء الذي يؤتيه أولياءه، فاقتضى تعريف العزيز الحكيم، إذ هو الذي سيفعل بكل صنف هذا الفعل لا يمنعه من ذلك مانع، وليس ثمة من يظن أن هناك عزيزًا حكيمًا يمنعه من ذلك. وأما الآية الثانية فجاءت في سياق قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} فليس في السياق ذكر محارب له أو معاند، كما لم ترد في التعقيب على نصرة أوليائه وجزائهم، فلم يقتض ذلك ما اقتضى في الأول من التعريف، فناسب كل تعبير موضعه. (1) ينظر روح المعاني 21/81. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 402 إلى ص 404. الوقفة كاملة |
| ٤١٨ | {وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)} الحكمة: هي وضع الشيء في محله في القول والعمل، وقيل: هي" عبارة عن توفيق العمل بالعلم. فكل من أوتي توفيق العمل بالعلم فقد أوتي الحكمة" (1). فالحكمة لها جانبان: جانب القول وجانب العمل، ولا يكون الفرد حكيما حتى يحسن القول والعمل. وقد أسند الله إيتاء الحكمة إلى نفسه (آتينا)؛ وذلك لأن إيتاء الحكمة من الخير، ومن الشائع في القرآن الكريم أن ربنا سبحانه يسند الإيتاء إلى نفسه في الخير، بل يسند أفعال الخير إلى نفسه في العموم (2). قال تعالى: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} {الجن: 10}، فأسند الخير وهو الرشد إلى نفسه فقال: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} وبنى مريد الشر للمجهول فقال: {أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ}. والواو في أول الآية "عاطفة قصة لقمان على قصة النضر بن الحارث في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} باعتبار كونها تضمنت عجيب حاله في الضلالة من عنايته بلهو الحديث ليضل عن سبيل الله ويتخذ سبيل الله هزوا، وباعتبار كون قصة لقمان متضمنة عجيب حال لقمان في الاهتداء والحكمة، فهما حالان متضادان" (3). {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} ذهب كثير من المفسرين إلى أن (أن) في الآية تفسيرية (4) فيجعلون (آتينا) متضمنًا معنى القول دون حروفه. جاء في (التفسير الكبير): "فإن (أن) في مثل هذا تسمى المفسرة، قسر إيتاء الله الحكمة بقوله: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} وهو كذلك" (5). وذهب بعضهم إلى أن قوله: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} تفسير للحكمة لا للفعل. جاء في (التحرير والتنوير): "و(أن) قوله: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} تفسيرية وليست تفسيرًا لفعل (آتينا) لأنه نصب مفعوله وهو الحكمة. فتكون (أن) مفسرة للحكمة باعتبار أن الحكمة هنا أقوال أوحيت إليه أو إليهما فيكون في الحكمة معنى القول دون حروفه فيصلح أن تفسر بـ (أن) التفسيرية... وأيضًا فإن شكر الله من الحكمة" (6). والأقرب إلى المعنى فيما يبدو أن يقال: إن التقدير: آتينا لقمان الحكمة وأوصيناه أن اشكر لله، فيكون المعنى أنه أتاه الحكمة وأوصاه بالشكر وأمره به. أو بتقدير: وآتيناه أن اشكر الله. أي آتيناه الحكمة وآتيناه أن اشكر لله، أي أوحينا إليه ذلك وألهمناه إياه، ولا يشترط ذلك أن يكون وحي نبوة بل قد يكون وحي إلهام كقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} {القصص: 7}، وقوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} {النحل: 68}، فكما أوحى الرب إلى أم موسى الأمر بالإرضاع، وأوحي إلى النحل الأمر بالاتخاذ، آتى لقمان وأوحى إليه الأمر بالشكر، وهذا أولى من جعل (أن) تفسيرية، وذلك لأن التفسير يجعل الحكمة هي الشكر فحسب، مع أن الشكر إنما هو من الحكمة وليس هو الحكمة كلها. إن هذا التعبير يعني أيضًا أن من الحكمة التي أوتيها لقمان أن يشكر ربه. فشكر الله إنما هو من الحكمة، ويعني أيضًا أن يشكر ربه على ما آتاه من الحكمة، فإن الحكمة نعمة ينبغي أن يشكر ربه عليها، كما تقول: إن من الحكمة أن تشكر ربك، وقد آتاك الله الحكمة فاشكره على ما آتاك. فهذا التعبير يفيد عدة معان في آن واحد: اتينا لقمان الحكمة، وآتيناه أن اشكر لله، أو: وأوصيناه به، ومن الحكمة أن تشكر ربك، واشكر ربك على ما آتاك من الحكمة. وقد تقول: لم يقل: ولقد آتينا لقمان الحكمة فاشكر لله؟ فنقول: لو قال ذاك لم يفد هذه المعاني وما أفاد إلا معنى واحدًا وهو أن تكون الحكمة سببًا للشكر. ولكان فيه ضعف في الدلالة، ذلك أن المعني سيكون أن الذي أوتي الحكمة لقمان، والمأمور بالشكر غيره. فيكون المعني: لقد آتينا لقمان الحكمة فاشكر أنت أيها المخاطب الله، فيكون قد طلب منه الشكر للإنعام على غيره لا عليه. وقال: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} لهم ولم يقل: (أن اشكر لنا) فالتفت ليدل على أن مؤتي الحكمة هو الله. ومن المطرد في التعبير القرآني أنه ما عبر الله عن نفسه بضمير الجمع إلا ذكر بعده أو قبله ما يدل على الإفراد ليدل على أنه واحد لا شريك له، وذلك أمر مطرد في جميع القرآن لم يتخلف عنه موطن واحد وذلك نحو قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} {الكوثر: 1-2}، فذكر بعد ضمير الجمع في: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} الرب بصورة الإفراد فقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}، ثم قال بعد ذلك: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}، فذكر الرب بعد ضمير الجمع. (1) التفسير الكبير 9/118. (2) انظر معاني النحو 2/89 وما بعدها. (3) التحرير والتنوير 21/148. (4) انظر التفسير الكبير 9/119، البحر المحيط 7/181. (5) التفسير الكبير 9/119. (6) التحرير والتنوير 21/151 – 152. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 409 إلى ص 412. * * * {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} جاء بفعل الشرط (يشكر) مضارعًا للدلالة على أن الشكر يتكرر، وذلك لأن كل نعمة تمر بك تشكر الله عليها وهو ينبغي أن يتكرر، وجاء بفعل الشرط في قوله: {وَمَنْ كَفَرَ} ماضيًا، لأن الكفر لا يتكرر تكرر الشكر، بل قد يحصل ابتداء ويبقى صاحبه عليه إلا إذا شاء الله.. ومن الظاهر في استعمال الشرط في القرآن الكريم أنه يؤتي بفعل الشرط مضارعًا فيما يتكرر حدوثه، ويؤتى به ماضيًا فيما لا يتكرر حدوثه، وهذا الأمر جاء كثيرًا في القرآن الكريم (1). جاء في (التفسير الكبير) في هذه الآية: "قال في الشكر: {وَمَنْ يَشْكُرْ} بصيغة المستقبل، وفي الكفران: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} وإن كان الشرط يجعل الماضي والمستقبل في معنى واحد كقول القائل: من دخل داري فهو حر، ومن يدخل داري فهو حر، فنقول فيه إشارة إلى معنى وإرشاد إلى أمر، وهو أن الشكر ينبغي أن يتكرر في كل وقت لتكرر النعمة، فمن شكر ينبغي أن يكرر، والكفر ينبغي أن ينقطع، فمن كفر ينبغي أن يترك الكفران" (2). ومن الملاحظ أنه قدم الشكر على الكفر في هذه الآية، في حين قدم الكفر على العمل الصالح في آية أخرى، قال تعالى في سورة الروم: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} {الروم: 44}. وبالنظر في الآيتين نجد أكثر من اختلاف في التعبير: 1- فقد قدم في آية الروم الكفر وأخر العمل الصالح، وقدم في آية لقمان الشكر وأخر الكفر كما أشرت. 2- ذكر في الروم عاقبة كل من الفريقين فقال: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}، في حين قال في لقمان: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}، فذكر عاقبة الشكر ولم يذكر عاقبة الكفران. 3- ذكر في الروم فعلي الشرط بالماضي فقال: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا}. في حين ذكر في لقمان فعل الشكر بالمضارع وفعل الكفر بالماضي. 4- ذكر في لقمان مقابل (من كفر): (من يشكر)، وذكر في الروم مقابل (من كفر): (من عمل صالحًا). ولكل ذلك سبب اقتضاه. أما تقديم الكفر في الروم على العمل الصالح فذلك لأن السياق هو في ذكر الكافرين ومآلهم، فقد قال قبل هذه الآية: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} {الروم: 41 – 44}. فالسياق في ذكر الكافرين فقدمهم. وأما آية لقمان فوقعت في سياق الأمر بالشكر، قال تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ}، فناسب تقديم الشكر. جاء في (التفسير الكبير): "قال تعالى هنا: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ}، بتقديم الشكر على الكفران. وقال في سورة الروم: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}. فنقول: هناك كان الذكر للترهيب لقوله تعالى من قبل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ}. وههنا الذكر للترغيب؛ لأن وعظ الأب للابن يكون بطريق اللطف والوعد" (3). وأما ذكر عاقبة الكفر في الروم فلما تقدم من ذكر عاقبة من كفر في الدنيا وعاقبة ذلك في الآخرة، فقد قال فيمن أظهر الفساد في البر والبحر: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)}، وقال: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)}، فوجهنا للنظر في عاقبة الكافرين. ثم هدد بما سينالهم في الآخرة، ولذا ناسب ذكر عاقبة من كفر فقال: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ}، ولم يذكر شيئًا من ذلك في لقمان فاكتفى بقوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }. وبالنسبة إلى اختلاف فعلي الشرط في المضارع والمضي فإن آية لقمان فيمن هو في الدنيا، فذكر فعل الشرط بالمضارع لأن الشكر يتكرر، وذكر الكفر بالماضي لأنه لا يتكرر تكرر الشكر كما أسلفنا. وأما آية الروم فهي في الآخرة، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا ..... } {الروم: 43 – 44}، فذكر الكفر والعمل الصالح بالماضي؛ لأنه ليس عمل ثم، وإنما هو جزاء على ما قدم من عمل. وأما ذكر الكفر بمقابل الشكر في لقمان فلأنه ذكر الشاكرين أولاً فقال: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}. وأما في سورة الروم فقد ذكر الكافرين والمشركين فناسب ذكر من آمن وعمل صالحًا فقال: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} {الروم: 44 – 45}، فناسب كل تعبير موطنه. وقال: {فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} فجاء بـ (إنما) للدلالة على أن الشكر لا ينفع إلا صاحبه حصرًا ولا يفيد الله سبحانه، فإن الشكر ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة. وقد قضى ربنا بأن يزيد الشاكر من نعمه، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } {إبراهيم: 7}. {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} لا ينفعه شكر ولا يضره كفر، فهو الغني المحمود في غناه. والحميد هو الذي يستحق الحمد على الدوام. والجمع بين الغني وكونه محمودًا أحسن جمع وألطفه، فقد يكون الشخص غنيا غير محمود، أو محمودًا غير غني، فربنا غني محمود على الدوام. وقد تقول: لقد جاء في سورة إبراهيم. {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} {إبراهيم: 8}، فأكد الجملة بإن واللام، فقال: {فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ}، في حين أكدها في آية لقمان بـ (إن) وحدها فقال: {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} فما الفرق؟. والجواب: أن كل تعبير مناسب لما ورد فيه، فقد قال في لقمان: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}، فقد قسم العباد إلى من يشكر ومن كفر. أما في سورة إبراهيم فافترض كفر أهل الأرض جميعًا فقال: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}، فالاختلاف في التعبير من ثلاث نواح: 1- أنه في آية لقمان جرى على التبعيض، وجرى في سورة إبراهيم على الشمول. 2- أنه قال في لقمان: {وَمَنْ كَفَرَ} فجعل فعل الشرط ماضيًا، وقال في سورة إبراهيم: {إِنْ تَكْفُرُوا} بالمضارع للدلالة على تكرر الكفر وتجدده، أي إن تستمروا على الكفر وتداوموا عليه. 3- وأكد ذلك بالحال المؤكدة فقال: (جميعًا). فاقتضى ذلك زيادة التأكيد في آية إبراهيم. وقد تقول: لقد قال في آية أخرى في سورة لقمان: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} {لقمان: 26}، فعرف الوصفين وجاء بضمير الفصل، في حين قال في هذه الآية: {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} من دون تعريف ولا فصل. فما الفرق؟ والجواب واضح في سياق كل منهما. فقد قال في آية لقمان الأولى: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}، فلم يذكر سبحانه له ملكًا. والمعنى: فإن الله غني عن شكره. وهو كما يقول الشخص ولله المثل الأعلى: أنا غني عنك وغني عن مدحك وثنائك، ولا يعني أنه ذو مال أو ثروة، ونحوه ما قال الخليل: أبلغ سليمان أني عنه في جدة وفي غنى غير أني لست ذا مال أما في الآية الثانية فقد قال: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} فقد ذكر ملكه وهو ما في السماوات والأرض. ومن المعلوم أن الغني فيما تعارف عليه الناس من يملك الأموال. ثم إن الأغنياء يتفاوتون، فمن يملك ثروة أكبر كان أغني. وقد ذكر ربنا أن له ما في السماوات والأرض فلا ملك أكبر ولا أوسع من ملكه، فعرف وجاء بضمير الفصل للدلالة على أنه هو الغني دون سواه. ومن المعلوم أن قولك: (فلان هو الغني) أدل على الغنى من قولك: (فلان غني)؛ لأن قولك: (فلان غني) يعني أنه أحد الأغنياء، وأن هناك أغنياء آخرين. أما قولك: (فلان هو الغني) فيدل على أنه لا غني في الحقيقة سواه. ولا شك أن من له ما في السماوات والأرض هو الغني الذي لا غني سواه. (1) انظر معاني النحو 4/66. (2) التفسير الكبير 9/119. (3) التفسير الكبير 9/119. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 412 إلى ص 418. الوقفة كاملة |
| ٤١٩ | {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)} قوله: (قليلًا) يحتمل أنه وصف للمصدر المحذوف، أي مفعول مطلق بمعنى نمتعهم تمتيعًا قليلًا، ويحتمل أنه وصف للزمان المحذوف، أي ظرف زمان بمعنى نمتعهم زمانًا قليلًا، وقد حذف الموصوف ليشمل المعنيين، أي نمتعهم تمتيعًا قليلًا زمانًا قليلًا، وهو من التوسع في المعنى، فلو قال: (نمتعهم تمتيعًا قليلاً) لانحصرت القلة في التمتيع، ولو قال: (نمتعهم زمانًا قليلاً) لانحصرت القلة في الزمان، فحذف الموصوف ليشمل المعنيين جميعًا، والله أعلم. {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} وصف العذاب بأنه غليظ تنزيلاً للعذاب في منزلة الأشياء الملموسة، وهو مجاز. وقد تقول: لقد قال في البقرة: {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} {البقرة: 126}. وبين التعبيرين أوجه اختلاف منها: 1- أنه قال في لقمان: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ}، بضمير الجمع للكفرة، وهو المفعول به (هم) في الفعلين. وقال في البقرة: {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} بضمير الإفراد وهو الهاء في الفعلين، مع أنه قال في الآيتين: (ومن كفر). 2- أسند الفعل في لقمان إلى ضمير الجمع المستتر وهو الفاعل، وتقديره (نحن) في الفعلين وأسنده في البقرة إلى الفاعل المفرد فقال: {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} وهو ضمير مستتر تقديره (أنا) في الفعلين. فيكون كل من الفاعل والمفعول به جمعًا في لقمان، ومفردًا في البقرة. 3- قال في لقمان: {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ولم يقل مثل ذلك في البقرة. 4- جعل جواب الشرط في لقمان: {فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ ....} وجعل جواب الشرط في البقرة: {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا} 5- قال في لقمان: {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ}. وقال في البقرة: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}. فما سبب هذا الاختلاف؟ فنقول: إن سياق كل من الآيتين يوضح سبب ذلك. أما آية لقمان فقد ذكرنا سياقها. وأما آية البقرة فهي: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} {البقرة: 126}. فنقول الآن: أما التعبير عن الكفرة بضمير الأفراد في البقرة وبضمير الجمع في لقمان، وأعني بذلك المفعول به في الفعلين، فذلك أن الكلام في البقرة على أهل بلد واحد وهو مكة، وذلك أن إبراهيم عليه السلام دعا لأهل مكة بقوله: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آَمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ .....} فالكلام على من كفر من أهل مكة خاصة. وأما في لقمان فالكلام عام. ومن كفر من أهل مكة بالقياس إلى الكفار في عموم أهل الأرض قلة جدًا، فعبر عن القلة بضمير المفرد وعن الكثرة بضمير الجمع. وهناك سبب آخر نذكره في موضعه. وأما إسناد الفعل في البقرة إلى ضمير الإفراد، وفي لقمان إلى ضمير الجمع، وأعني بذلك الضمير المستر في الفعلين وهو الفاعل فذلك لما ذكرناه من أن ضمير التعظيم يسبقه أو يليه ضمير الإفراد، فكان ما في البقرة واقعًا بعد ضمير الجمع للتعظيم { وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ … وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } فناسب الإفراد بعده. أما في لقمان فقد وقع بعد الإفراد {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ .... وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ ..... وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} فجاء بضمير الجمع للتعظيم. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه أضاف البيت إلى نفسه فقال: {أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ ....} فناسب أن يتولى بنفسه أهل بيته وحرمه فعبر عن ذلك بضمير الإفراد. وهناك سبب آخر نذكره في موطنه. وأما أنه لم يقل في البقرة كما قال في لقمان: {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا}، وإنما قال مباشرة: {فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا} فذلك لأن ذلك جواب عن دعوة إبراهيم عليه السلام {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آَمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} فالأمر يتعلق بالرزق وليس بالتبليغ، ولذا جعل الجواب التمتيع. أما في لقمان فإنه جعل الجواب: {فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} لأنه في التبليغ، ومن ناحية أخرى أن الكفار حاضرون في زمن الرسول معاندون له فقال: {فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ}. وأما المذكورون لإبراهيم بقوله: (ومن كفر) فإنهم لم يخلقوا بعد فلا يناسب أن يقول: {فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ}. وأما قوله في لقمان: {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ}، وقوله في البقرة: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} فذلك أنه ذكر العذاب في البقرة لمن كفر من أهل بلد الله الحرام، والسيئة في الحرم تتضاعف كما أن الحسنة فيه تتضاعف، فالذي يكفر وهو في بلد الله الحرام ليس كمن يكفر خارج البلد الحرام، والذي يعصي ربه في البلد الحرام ليس كمن يعصيه في مكان آخر، ولذلك قال فيمن كفر من أهل البلد الحرام: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} والتصريح بالتعذيب بالنار أشد من التهديد بالعذاب الغليظ. فإنك قد تقول: سأعذبك عذابًا غليظًا ولا تعني أنك ستحرقه بالنار حتمًا. ومما يدل على ذلك أيضا إسناد الفعل إليه بضمير الإفراد (أمتع... أضطره) فإن التهديد بذلك أشد من قوله: (نمتع، نضطر) وذلك لأنه كأنه يتولاه بنفسه. ومما يدل على ذلك أيضًا أنه ذكر الكافر بضمير الإفراد وهو الهاء، والتعبير بالإفراد أشد تهديدًا ووعيدًا من تهديد الجمع؛ لأنه يعني أنه يتولى من كفر واحدًا واحدًا فيعذبه، والوحدة في نفسها عذاب وقد أضاف إليها عذاب النار. فالتهديد والتعذيب لمن كفر في البلد الحرام أشد من عدة نواح، منها: 1- أنه أسند ذلك إلى نفسه بضمير الإفراد فكأنه يتولى التعذيب بنفسه. 2- أنه صرح بعذابهم في النار وبئس المصير. 3- وأنه ذكر الكفار بضمير الإفراد، فكأنه يعذب كل واحد بمفرده فلا يرى معه أحدًا فيكون التعذيب بالنار والوحدة، نعوذ بالله من ذلك جميعًا، والله أعلم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 472 إلى ص 476. الوقفة كاملة |
| ٤٢٠ | {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)} لما ذكر أن الله له ما في السماوات والأرض لربما ظن ظان أن هذا جميع ملكه، فجاء بعده بما يدل على أنه لا حدود لملكه وخزائنه وقدرته فقال: لو أن كل شجرة في الأرض بريت أقلامًا، والبحر يمده من بعده سبعة أبحر يكتب بها، ما نفدت كلمات الله وعجائب قدرته. جاء في (التفسير الكبير): "لما قال تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} وكان ذلك موهمًا لتناهي ملكه لانحصار ما في السماوات وما في الأرض فيهما، وحكم العقل الصريح بتناهيهما بين أن في قدرته وعلمه عجائب لا نهاية لها فقال: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ} ويكتب بها والأبحر مداد لا تفنى عجائب صنع الله" (1). وجاء في (الكشاف): "فإن قلت: لم قيل: (من شجرة) على التوحيد دون اسم الجنس الذي هو شجر؟ قلت: أريد تفصيل الشجر وتعقبها شجرة شجرة حتى لا يبقى من جنس الشجر ولا واحدة إلا قد بريت أقلامًا. فإن قلت: الكلمات جمع قلة، والموضع موضع التكثير لا التقليل؛ فهلا قيل: كلم الله؟ قل: معناه أن كلماته لا تفي بكتبتها البحار فكيف بكلمه؟" (2). وجاء في (البحر المحيط): "وفي هذا الكلام من المبالغة في تكثير الأقلام والمداد ما ينبغي أن يتأمل، وذلك أن الأشجار مشتمل كل واحدة منها على الأغصان الكثيرة، وتلك الأغصان كل غصن منها يقطع على قدر القلم فيبلغ عدد الأقلام في التناهي إلى ما لا يعلم به ولا يحيط إلا الله تعالى" (3). (1) التفسير الكبير 9/127. (2) الكشاف 2/519. (3) البحر المحيط 7/187. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 484 إلى ص 485. * * * {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} إنه عزيز بقدرته التي لا تحد، وعلمه الذي لا ينتهي، وخزائنه التي لا تنفد، حكيم لا يصدر فعله إلا عن حكمة. وقد تقول: لقد قال ههنا: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وقال في آية سابقة من السورة: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} بتعريف الاسمين الكريمين فلم ذاك؟ والجواب: أن الآية السابقة إنما هي في الآخرة، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} {لقمان: 8 – 9}، ومن المعلوم أنه لا يبقى آنذاك عزيز إلا هو ولا حاكم إلا هو. لقد كان الناس في الدنيا يرون أشخاصًا أعزة ويرون ملوكًا وحكامًا يتداولون الملك والحكم، أما في الآخرة فيرى الخلق جميعا مؤمنهم وكافرهم أن لا عزيز إلا هو ولا ملك إلا هو كما قال تعالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} {الحج: 56}، فقال: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي لا عزيز غيره ولا حكيم فناسب التعريف. وقد تقول: ولم لم يؤكد ذلك بإن فيقول: (إنه هو العزيز الحكيم) كما أكده في الآية هذه؟ فنقول: ليس في ذلك الوقت أحد يشك أو ينكر عزة الله وحكمه وحكمته، بل كلهم يرى ذلك ويسلم به فلا حاجة إلى التوكيد، بخلاف ما في الدنيا، فناسب كل تعبير موضعه، والله أعلم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 485 إلى ص 486. الوقفة كاملة |
إظهار النتائج من 411 إلى 420 من إجمالي 429 نتيجة.