عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴿٧٠﴾    [يس   آية:٧٠]
{لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)} قد يكون المقصود بقوله: (لينذر) القرآن أو الرسول، فكلاهما منذر، قال تعالى: {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} والمقصود به الرسول. وقال: {وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} {الأحقاف: 12}. والمنذر ههنا الكتاب. فالرسول منذر والقرآن منذر. وقوله: {مَنْ كَانَ حَيًّا} ذكرت فيه أقوال: منها: أن المقصود به من كان حي القلب حي البصيرة فينتفع بالإنذار. وقيل: إن المقصود به من كان عاقلا متأملا، لأن الغافل كالميت. وقيل: إن المقصود به من كان مؤمنًا؛ لأن الإيمان حياة، فمن كان مؤمنًا كان حيًا، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} {الأنعام: 122}. وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ} {الأنفال: 24}. وقيل: إن المقصود من كان قلبه صحيحا يقبل الحق ويأبى الباطل. وقيل: إن المقصود به كل حي على وجه الأرض، كقوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} {الأنعام: 19}. وقيل: إن المقصود به من كان حيًّا في علم الله؛ أي علم الله أنه سيؤمن بهذا الإنذار (1). وكل هذه الأقوال محتملة، وإن كل هؤلاء معنيون بالإنذار. قال تعالى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} {الكهف: 4} وهذا إنذار للكافرين. وقال: {لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ} {الأحقاف: 12}. وقال: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} {الفرقان: 1}. وقال: {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} {فاطر: 18} وهذا إنذار للمؤمنين. فالإنذار عام لكل الخلق مؤمنهم وكافرهم، محسنهم ومسيئهم، إلا أن الذي يترجح في ظني هنا - والله أعلم - أن المقصود بقوله: {مَنْ كَانَ حَيًّا} ما قصده في أول السورة بقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} {يس: 11}، وذلك لأنه قال بعد ذلك: {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} فجعل من كان حيًا بإزاء الكافرين. وإن كان كل من ذكرته الأقوال محتملاً مطلوبًا له الإنذار. ومعنى {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ}: أي تجب عليهم كلمة العذاب (2). ومعنى {حَقَّ الْقَوْلُ} في القرآن: وجب العذاب كما ذكرناه في أول السورة، وذلك أن الله سبحانه قال في الأزل وقال في كتبه المنزلة على رسله: إنه من كفر به أدخله النار وعذبه بعد إلزامهم بالحجة. والحجة هي ما أنزل الله على لسان رسله وبلغوهم به فيحق القول بعد الإنذار وإلزامهم الحجة. قال تعالى: { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} {الإسراء: 15}، وقال: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} {الإنسان: 4}، وقال: {وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} {الشورى: 26}، وقال: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} {آل عمران: 131}. جاء في (التفسير الكبير): "{وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ}، إما قول العذاب وكلمته كما قال تعالى: {وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} {السجدة: 13}، وقوله تعالى: {حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} {الزمر: 71}، وذلك لأن الله تعالى قال: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا}، فإذا جاء حق التعذيب على من وجد منه التكذيب" (3). وفي مقابلة الكافرين للحي في قوله: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} إشارة إلى أن الكفار أموات وهو ما ذكره ربنا في أكثر من موطن، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} {الأنعام: 122}. جاء في (أنوار التنزيل): "وجعلهم في مقابلة من كان حيًا إشعارًا بأنهم لكفرهم وسقوط حجتهم وعدم تأملهم أموات في الحقيقة" (4). إن هاتين الآيتين ارتبطتا بأول السورة ارتباطا لطيفة من نواح عدة: 1- فقد قال تعالى في أول السورة: {يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}. فقوله: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} يعني أنه ليس بشاعر، وهو يناسب قوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ}. وقوله: {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} يقوي ذاك، فإن الشعراء كما قال رب العزة في كل واد يهيمون، فهذا مما يعضد هذا المعنى. 2- وقوله: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} يعني أن القرآن ليس بشعر، وهو يناسب قوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ}. 3- أن قوله: {لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آَبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ}، وقوله: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ} يناسب قوله: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا}. 4- وأن قوله: {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} يناسب قوله: {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ}. 5- لقد وصف الله القرآن في أول السورة بأنه حكيم فقال: {وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ}، ووصفه هنا بأنه مبين فقال: {وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ}. ذلك أنه قال في أول السورة إنه على صراط مستقيم، ومعرفة الصراط المستقيم من غيره تحتاج إلى حكمة، والسير على الصراط المستقيم يحتاج إلى حكمة، فوصفه بأنه حكيم. وههنا أراد أن يبين أن القرآن ليس بشعر، وهذا أمر لا يحتاج إلى حكمة وإنما يحتاج إلى تبيين فقال: {وَقُرْآَنٍ مُبِينٍ}، فكان كل وصف في مكانه أنسب. 6- سمى الله تعالى ما أنزله على رسوله قرآنًا وذكرًا ههنا فقال: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ}. وقال في أول السورة: {وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ}، وقال بعد ذلك: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} فسماه في الموطنين قرآنًا وذكرًا. وقد يكون من المناسب أن نذكر أنه قدم القرآن في أول السورة وأخر الذكر فقال: {يس (1) وَالْقُرْآَنِ الْحَكِيمِ}، ثم قال في الآية الحادية عشرة: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ}. وههنا قدم الذكر وأخر القرآن فقال: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ}. ولعل من دواعي ذلك أنه في أول السورة بدأ بالكلام على القرآن ثم أخر الكلام على ما يشبه الطمس والمسخ وهو قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ} فقدم القرآن لذلك. وههنا بدأ بالطمس والمسخ وأر الكلام على القرآن فقال: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ}، ثم قال بعد ذلك: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ}، فأخر ذكر القرآن لذلك والله أعلم. وهو من الموافقات اللطيفة. وهذا من لطيف الارتباط والتناسب. (1) انظر الكشاف 2/593، التفسير الكبير 26/106، أنوار التنزيل 587، تفسير ابت مثير 3/580، روح المعاني 23/49، فتح القدير 4/368. (2) انظر الكشاف 2/593، روح المعاني 23/50. (3) التفسير الكبير 26/106. (4) أنوار التنزيل 587، وانظر روح المعاني 23/50. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 327 إلى ص 331.