عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴿١٢﴾    [لقمان   آية:١٢]
{وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)} الحكمة: هي وضع الشيء في محله في القول والعمل، وقيل: هي" عبارة عن توفيق العمل بالعلم. فكل من أوتي توفيق العمل بالعلم فقد أوتي الحكمة" (1). فالحكمة لها جانبان: جانب القول وجانب العمل، ولا يكون الفرد حكيما حتى يحسن القول والعمل. وقد أسند الله إيتاء الحكمة إلى نفسه (آتينا)؛ وذلك لأن إيتاء الحكمة من الخير، ومن الشائع في القرآن الكريم أن ربنا سبحانه يسند الإيتاء إلى نفسه في الخير، بل يسند أفعال الخير إلى نفسه في العموم (2). قال تعالى: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} {الجن: 10}، فأسند الخير وهو الرشد إلى نفسه فقال: {أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} وبنى مريد الشر للمجهول فقال: {أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ}. والواو في أول الآية "عاطفة قصة لقمان على قصة النضر بن الحارث في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} باعتبار كونها تضمنت عجيب حاله في الضلالة من عنايته بلهو الحديث ليضل عن سبيل الله ويتخذ سبيل الله هزوا، وباعتبار كون قصة لقمان متضمنة عجيب حال لقمان في الاهتداء والحكمة، فهما حالان متضادان" (3). {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} ذهب كثير من المفسرين إلى أن (أن) في الآية تفسيرية (4) فيجعلون (آتينا) متضمنًا معنى القول دون حروفه. جاء في (التفسير الكبير): "فإن (أن) في مثل هذا تسمى المفسرة، قسر إيتاء الله الحكمة بقوله: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} وهو كذلك" (5). وذهب بعضهم إلى أن قوله: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} تفسير للحكمة لا للفعل. جاء في (التحرير والتنوير): "و(أن) قوله: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} تفسيرية وليست تفسيرًا لفعل (آتينا) لأنه نصب مفعوله وهو الحكمة. فتكون (أن) مفسرة للحكمة باعتبار أن الحكمة هنا أقوال أوحيت إليه أو إليهما فيكون في الحكمة معنى القول دون حروفه فيصلح أن تفسر بـ (أن) التفسيرية... وأيضًا فإن شكر الله من الحكمة" (6). والأقرب إلى المعنى فيما يبدو أن يقال: إن التقدير: آتينا لقمان الحكمة وأوصيناه أن اشكر لله، فيكون المعنى أنه أتاه الحكمة وأوصاه بالشكر وأمره به. أو بتقدير: وآتيناه أن اشكر الله. أي آتيناه الحكمة وآتيناه أن اشكر لله، أي أوحينا إليه ذلك وألهمناه إياه، ولا يشترط ذلك أن يكون وحي نبوة بل قد يكون وحي إلهام كقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ} {القصص: 7}، وقوله: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا} {النحل: 68}، فكما أوحى الرب إلى أم موسى الأمر بالإرضاع، وأوحي إلى النحل الأمر بالاتخاذ، آتى لقمان وأوحى إليه الأمر بالشكر، وهذا أولى من جعل (أن) تفسيرية، وذلك لأن التفسير يجعل الحكمة هي الشكر فحسب، مع أن الشكر إنما هو من الحكمة وليس هو الحكمة كلها. إن هذا التعبير يعني أيضًا أن من الحكمة التي أوتيها لقمان أن يشكر ربه. فشكر الله إنما هو من الحكمة، ويعني أيضًا أن يشكر ربه على ما آتاه من الحكمة، فإن الحكمة نعمة ينبغي أن يشكر ربه عليها، كما تقول: إن من الحكمة أن تشكر ربك، وقد آتاك الله الحكمة فاشكره على ما آتاك. فهذا التعبير يفيد عدة معان في آن واحد: اتينا لقمان الحكمة، وآتيناه أن اشكر لله، أو: وأوصيناه به، ومن الحكمة أن تشكر ربك، واشكر ربك على ما آتاك من الحكمة. وقد تقول: لم يقل: ولقد آتينا لقمان الحكمة فاشكر لله؟ فنقول: لو قال ذاك لم يفد هذه المعاني وما أفاد إلا معنى واحدًا وهو أن تكون الحكمة سببًا للشكر. ولكان فيه ضعف في الدلالة، ذلك أن المعني سيكون أن الذي أوتي الحكمة لقمان، والمأمور بالشكر غيره. فيكون المعني: لقد آتينا لقمان الحكمة فاشكر أنت أيها المخاطب الله، فيكون قد طلب منه الشكر للإنعام على غيره لا عليه. وقال: {أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ} لهم ولم يقل: (أن اشكر لنا) فالتفت ليدل على أن مؤتي الحكمة هو الله. ومن المطرد في التعبير القرآني أنه ما عبر الله عن نفسه بضمير الجمع إلا ذكر بعده أو قبله ما يدل على الإفراد ليدل على أنه واحد لا شريك له، وذلك أمر مطرد في جميع القرآن لم يتخلف عنه موطن واحد وذلك نحو قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} {الكوثر: 1-2}، فذكر بعد ضمير الجمع في: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ} الرب بصورة الإفراد فقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ} وقال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}، ثم قال بعد ذلك: {تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}، فذكر الرب بعد ضمير الجمع. (1) التفسير الكبير 9/118. (2) انظر معاني النحو 2/89 وما بعدها. (3) التحرير والتنوير 21/148. (4) انظر التفسير الكبير 9/119، البحر المحيط 7/181. (5) التفسير الكبير 9/119. (6) التحرير والتنوير 21/151 – 152. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 409 إلى ص 412. * * * {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} جاء بفعل الشرط (يشكر) مضارعًا للدلالة على أن الشكر يتكرر، وذلك لأن كل نعمة تمر بك تشكر الله عليها وهو ينبغي أن يتكرر، وجاء بفعل الشرط في قوله: {وَمَنْ كَفَرَ} ماضيًا، لأن الكفر لا يتكرر تكرر الشكر، بل قد يحصل ابتداء ويبقى صاحبه عليه إلا إذا شاء الله.. ومن الظاهر في استعمال الشرط في القرآن الكريم أنه يؤتي بفعل الشرط مضارعًا فيما يتكرر حدوثه، ويؤتى به ماضيًا فيما لا يتكرر حدوثه، وهذا الأمر جاء كثيرًا في القرآن الكريم (1). جاء في (التفسير الكبير) في هذه الآية: "قال في الشكر: {وَمَنْ يَشْكُرْ} بصيغة المستقبل، وفي الكفران: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} وإن كان الشرط يجعل الماضي والمستقبل في معنى واحد كقول القائل: من دخل داري فهو حر، ومن يدخل داري فهو حر، فنقول فيه إشارة إلى معنى وإرشاد إلى أمر، وهو أن الشكر ينبغي أن يتكرر في كل وقت لتكرر النعمة، فمن شكر ينبغي أن يكرر، والكفر ينبغي أن ينقطع، فمن كفر ينبغي أن يترك الكفران" (2). ومن الملاحظ أنه قدم الشكر على الكفر في هذه الآية، في حين قدم الكفر على العمل الصالح في آية أخرى، قال تعالى في سورة الروم: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} {الروم: 44}. وبالنظر في الآيتين نجد أكثر من اختلاف في التعبير: 1- فقد قدم في آية الروم الكفر وأخر العمل الصالح، وقدم في آية لقمان الشكر وأخر الكفر كما أشرت. 2- ذكر في الروم عاقبة كل من الفريقين فقال: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}، في حين قال في لقمان: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}، فذكر عاقبة الشكر ولم يذكر عاقبة الكفران. 3- ذكر في الروم فعلي الشرط بالماضي فقال: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا}. في حين ذكر في لقمان فعل الشكر بالمضارع وفعل الكفر بالماضي. 4- ذكر في لقمان مقابل (من كفر): (من يشكر)، وذكر في الروم مقابل (من كفر): (من عمل صالحًا). ولكل ذلك سبب اقتضاه. أما تقديم الكفر في الروم على العمل الصالح فذلك لأن السياق هو في ذكر الكافرين ومآلهم، فقد قال قبل هذه الآية: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} {الروم: 41 – 44}. فالسياق في ذكر الكافرين فقدمهم. وأما آية لقمان فوقعت في سياق الأمر بالشكر، قال تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ}، فناسب تقديم الشكر. جاء في (التفسير الكبير): "قال تعالى هنا: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ}، بتقديم الشكر على الكفران. وقال في سورة الروم: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ}. فنقول: هناك كان الذكر للترهيب لقوله تعالى من قبل: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ}. وههنا الذكر للترغيب؛ لأن وعظ الأب للابن يكون بطريق اللطف والوعد" (3). وأما ذكر عاقبة الكفر في الروم فلما تقدم من ذكر عاقبة من كفر في الدنيا وعاقبة ذلك في الآخرة، فقد قال فيمن أظهر الفساد في البر والبحر: {لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41)}، وقال: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)}، فوجهنا للنظر في عاقبة الكافرين. ثم هدد بما سينالهم في الآخرة، ولذا ناسب ذكر عاقبة من كفر فقال: {مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ}، ولم يذكر شيئًا من ذلك في لقمان فاكتفى بقوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ }. وبالنسبة إلى اختلاف فعلي الشرط في المضارع والمضي فإن آية لقمان فيمن هو في الدنيا، فذكر فعل الشرط بالمضارع لأن الشكر يتكرر، وذكر الكفر بالماضي لأنه لا يتكرر تكرر الشكر كما أسلفنا. وأما آية الروم فهي في الآخرة، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا ..... } {الروم: 43 – 44}، فذكر الكفر والعمل الصالح بالماضي؛ لأنه ليس عمل ثم، وإنما هو جزاء على ما قدم من عمل. وأما ذكر الكفر بمقابل الشكر في لقمان فلأنه ذكر الشاكرين أولاً فقال: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}. وأما في سورة الروم فقد ذكر الكافرين والمشركين فناسب ذكر من آمن وعمل صالحًا فقال: {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} {الروم: 44 – 45}، فناسب كل تعبير موطنه. وقال: {فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} فجاء بـ (إنما) للدلالة على أن الشكر لا ينفع إلا صاحبه حصرًا ولا يفيد الله سبحانه، فإن الشكر ينفع صاحبه في الدنيا والآخرة. وقد قضى ربنا بأن يزيد الشاكر من نعمه، قال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } {إبراهيم: 7}. {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} لا ينفعه شكر ولا يضره كفر، فهو الغني المحمود في غناه. والحميد هو الذي يستحق الحمد على الدوام. والجمع بين الغني وكونه محمودًا أحسن جمع وألطفه، فقد يكون الشخص غنيا غير محمود، أو محمودًا غير غني، فربنا غني محمود على الدوام. وقد تقول: لقد جاء في سورة إبراهيم. {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} {إبراهيم: 8}، فأكد الجملة بإن واللام، فقال: {فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ}، في حين أكدها في آية لقمان بـ (إن) وحدها فقال: {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} فما الفرق؟. والجواب: أن كل تعبير مناسب لما ورد فيه، فقد قال في لقمان: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}، فقد قسم العباد إلى من يشكر ومن كفر. أما في سورة إبراهيم فافترض كفر أهل الأرض جميعًا فقال: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}، فالاختلاف في التعبير من ثلاث نواح: 1- أنه في آية لقمان جرى على التبعيض، وجرى في سورة إبراهيم على الشمول. 2- أنه قال في لقمان: {وَمَنْ كَفَرَ} فجعل فعل الشرط ماضيًا، وقال في سورة إبراهيم: {إِنْ تَكْفُرُوا} بالمضارع للدلالة على تكرر الكفر وتجدده، أي إن تستمروا على الكفر وتداوموا عليه. 3- وأكد ذلك بالحال المؤكدة فقال: (جميعًا). فاقتضى ذلك زيادة التأكيد في آية إبراهيم. وقد تقول: لقد قال في آية أخرى في سورة لقمان: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} {لقمان: 26}، فعرف الوصفين وجاء بضمير الفصل، في حين قال في هذه الآية: {فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} من دون تعريف ولا فصل. فما الفرق؟ والجواب واضح في سياق كل منهما. فقد قال في آية لقمان الأولى: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}، فلم يذكر سبحانه له ملكًا. والمعنى: فإن الله غني عن شكره. وهو كما يقول الشخص ولله المثل الأعلى: أنا غني عنك وغني عن مدحك وثنائك، ولا يعني أنه ذو مال أو ثروة، ونحوه ما قال الخليل: أبلغ سليمان أني عنه في جدة وفي غنى غير أني لست ذا مال أما في الآية الثانية فقد قال: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} فقد ذكر ملكه وهو ما في السماوات والأرض. ومن المعلوم أن الغني فيما تعارف عليه الناس من يملك الأموال. ثم إن الأغنياء يتفاوتون، فمن يملك ثروة أكبر كان أغني. وقد ذكر ربنا أن له ما في السماوات والأرض فلا ملك أكبر ولا أوسع من ملكه، فعرف وجاء بضمير الفصل للدلالة على أنه هو الغني دون سواه. ومن المعلوم أن قولك: (فلان هو الغني) أدل على الغنى من قولك: (فلان غني)؛ لأن قولك: (فلان غني) يعني أنه أحد الأغنياء، وأن هناك أغنياء آخرين. أما قولك: (فلان هو الغني) فيدل على أنه لا غني في الحقيقة سواه. ولا شك أن من له ما في السماوات والأرض هو الغني الذي لا غني سواه. (1) انظر معاني النحو 4/66. (2) التفسير الكبير 9/119. (3) التفسير الكبير 9/119. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 412 إلى ص 418.