| ١٦١ |
{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20)}
في هذا الوقت المتأزم والظرف العصيب الذي كثر فيه التهديد والتوعد واشتد فيه الإرهاب جاء من أقصى المدينة رجل يسعى ليعلن اتباعه للرسل وإيمانه بهم ويبين ضلال قومه غير مبال بما سيحدث له.
وفي التعبير دلالات مهمة في هذا الخصوص.
1- فقد ذكر أنه جاء من أقصى المدينة، أي من أبعد مكان فيها لا يثنيه شيء، حاملا هم الدعوة.
2- قال: {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} ولم يقل (من أقصى القرية) وقد سماها قرية بادئ ذي بدء فقال: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} ذلك للدلالة على أنها واسعة، فالقرية إذا كانت متسعة تسمى مدينة أيضًا. فأفاد أن هذه القرية كبيرة متسعة ولذا أطلق عليها مدينة، وذلك يفيد أنه جاء من مكان بعيد وذلك يدل على اهتمامه الكبير بمعتقده الجديد..
٣- قال: (يسعى) أي يعدو ويسرع في مشيه وليس متباطئًا يقدم رجلًا ويؤخر أخرى، وهو توجيه للدعاة بعدم التواني في أمر الله.
4-لم يسكت عن الحق ولم يجامل أو يهادن بل دعا قومه إلى الإيمان بما جاءت به الرسل وأتباعهم وأعلن عن إيمانه هو.
5- إن مجيئه من أقصى المدينة يدل على وصول البلاغ إلى أبعد مكان فيها، مما يدل على جديتهم في التبليغ وتوسعهم فيه، وهو تصديق لقولهم: {وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ}.
وقال هنا: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} فقدم {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} على (رجل)، وقال في سورة القصص {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ} {القصص: 20}، بتقديم (رجل) على {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ}.
ذلك أن القصد في آية (يس) أن يبين أن مجيء الرجل كان من أبعد مواضعها. وأما في القصص فإنه يفيد أن الرجل من أقصى المدينة، أي هو من أهل المواضع البعيدة غير أنه لا يلزم أن يكون مجيئه من أقصى المدينة. وهو كما تقول: (جاءني من القرية رجال) أي جاؤوك من القرية، وتقول: (جاءني رجال من القرية) فالرجال هم من أهل القرية لكن لا يقتضي أن مجيئهم إليك كان من القرية بل قد يكونون في المدينة ثم جاؤوك. وقد يكون المجيء من القرية. فقولك: (جاءني رجال من القرية) يحتمل معنيين، بخلاف قولك: (جاءني من القرية رجال).
وعلى أية حال فإن قوله: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} يفيد أنه جاء من أبعد مكان من المدينة.
وقوله: {وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} يحتمل ذلك ويحتمل أنه من أهل الأماكن البعيدة وإن لم يكن مجيئه من هناك.
وفي تقديم (من أقصى المدينة) في سورة (يس) فائدة أخرى حتى لو كان مجيئهما كليهما من أقصى المدينة. فإن قوله: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} يدل على أن الاهتمام أكبر لأكثر من سبب:
1- ذلك أن مجيء الرجل من أقصى المدينة إنما كان لغرض تبليغ الدعوة. في حين أن مجيء الرجل إلى موسى كان لغرض تحذيره. والأمر الأول أهم.
2- ثم إن مجيء الرجل من أقصى القرية إنما كان لإشهار إيمانه أمام الملا ونصح قومه. في حين أنه كان مجيء الرجل إلى موسى ليسر إليه كلمة في أذنه، فمجيء رجل (يس) إنما كان للإعلان والإشهار، ومجيء رجل موسى إنما كان للإسرار. وفرق بين الأمرين.
3- إن مجيء رجل (يس) فيه مجازفة ومخاطرة بحياته، وليس في مجيء رجل موسى شيء من ذلك، وإنما هو إسرار لشخص بأمر ما ليحذر.
4- إن المجتمع في القرية كله ضد على الرسل وعقيدتهم مكذب لهم متطير بهم، فإعلان الرجل أنه مؤمن بما جاء به الرسل مصدق لهم فيه ما فيه من التحدي لهم. بخلاف مجتمع سيدنا موسى عليه السلام فإنه ليس فيه فكر معارض أو مؤيد وليست هناك دعوة أصلًا.
5- إن نصر رسل الله وأوليائه ودعاته أولى من كل شيء، فإن تعزيزهم تعزيز لدعوة الله. وأما موسى عليه السلام فإنه كان رجلًا من المجتمع ليس صاحب دعوة آنذاك ولم يكلفه الله بعد حمل الرسالة.
فتقديم (من أقصى المدينة) دل على أن الموقف أهم وأخطر. ومع ذلك أفادنا أن تحذير شخص من ظالم أمر مهم ينبغي أن يسعى إليه ولو من مكان بعيد.
فإن كلا من الموقفين مهم، غير أن أحدهما أهم من الآخر، فقدم ما قدم ليدل على الاهتمام.
جاء في (التفسير الكبير): في قوله تعالى: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} "وفي فائدته وتعلقه بما قبله وجهان:
أحدهما: أن بيان لكونهم أتوا بالبلاغ المبين حيث آمن بهم الرجل الساعي.
وعلى هذا فقوله: {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} فيه بلاغة باهرة؛ وذلك لأنه لما جاء من (أقصى المدينة رجل) وهو قد آمن دل على أن إنذارهم وإظهارهم بلغ إلى أقصى المدينة...
وفي التفسير مسائل:
(المسألة الأولى): قوله: {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ} في تنكير الرجل مع أنه كان معروفًا معلومًا عند الله فائدتان:
(الأولى): أن يكون تعظيمًا لشأنه، أي رجل كامل في الرجولية.
(الثانية): أن يكون مفيدًا لظهور الحق من جانب المرسلين، حيث آمن رجل من الرجال لا معرفة لهم به فلا يقال إنهم تواطؤا.
(المسألة الثانية): قوله: (يسعى) تبصرة للمؤمنين وهداية لهم ليكونوا في النصح باذلين جهدهم. وقد ذكرنا فائدة قوله: (من أقصى المدينة) وهي تبليغهم الرسالة بحيث انتهى إلى من في أقصى المدينة" (1).
وجاء في (روح المعاني): "{وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} أي من أبعد مواضعها (رجل) أي رجل عند الله تعالى فتنوينه للتعظيم. وجوز أن يكون للتنكير لإفادة أن المرسلين لا يعرفونه ليتواطؤوا معه...
(يسعى) أي يعدو ويسرع في مشيه حرصًا على نصح قومه. وقيل: إنه سمع أن قومه عزموا على قتل الرسل فقصد وجه الله تعالى بالذب عنهم...
وجاء {مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ} هنا مقدمًا على (رجل) عكس ما جاء في القصص.
وجعله أبو حيان من التفنن في البلاغة.
وقال الخفاجي: قدم الجار والمجرور على الفاعل الذي حقه التقديم بيانًا لفضله، إذ هداه الله تعالى مع بعده عنهم، وأن بعده لم يمنعه عن ذلك. ولذا عبر بالمدينة هنا بعد التعبير بالقرية إشارة إلى السعة وأن الله تعالى يهدي من يشاء سواء قرب أو بعد.
وقيل: قدم للاهتمام حيث تضمن الإشارة إلى أن إنذارهم قد بلغ أقصى المدينة فيشعر بأنهم أتوا بالبلاغ المبين.
وقيل: إنه لو تأخر توهم تعلقه يسعى فلم يفد أنه من أهل المدينة، مسكنه في طرفها وهو المقصود" (2).
(1) التفسير الكبير 26/54.
(2) روح المعاني 22/225 – 226.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 90 إلى ص 94.
* * *
{قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21)}
قال لهم: (يا قوم) ليعطف قلوبهم. وذكر لهم ثلاثة أمور تدعوهم إلى اتباع هؤلاء الدعاة:
1- كونهم مرسلين من الله، وهذا أهم ما يستوجب اتباعهم، فكونهم مرسلين من ربهم يدعو إلى اتباعهم لأنهم لا يدعون إلى أنفسهم ولا إلى معتقدات شخصية ولا إلى آراء خاصة ولا إلى أفكار بشرية وإنما يدعونهم إلى ما أراده ربهم وخالقهم.
2- وأنهم لا يسألون أجرًا على هذا التبليغ ولا يبتغون مصلحة خاصة كما هو شأن كثير من أصحاب الدعوات الأرضية، مما يدل على أنهم مخلصون في دعوتهم لهم.
3- أنهم مهتدون، وهذا يقتضي الاتباع، وهو بغية كل متبع مخلص.
جاء في (الكشاف): "{مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} كلمة جامعة في الترغيب فيهم، أي لا تخسرون معهم شيئًا من دنياكم وتربحون صحة دينكم فينتظم لكم خير الدنيا وخير الآخرة" (1).
وقد كرر الاتباع بقوله: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} لأكثر من غرض. فالتكرار يفيد التوكيد ويفيد أمرًا آخر وهو: أن المرسلين ينبغي أن يتبعوا أصلًا، فإذا ثبت أن شخصًا ما مرسل من ربه كان ذلك داعيًا إلى أن يتبع قطعًا، وهذه دلالة قوله: {اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ}.
أما اتباع غير المرسلين فيكون لمن فيه صفتان:
1- أن يكون مهتديًا.
2- أن لا يسأل أجرًا ولا يطلب منفعة ذاتية.
وهذ توجيه لعموم المكلفين، ولو قال: (اتبعوا المرسلين. من لا يسألكم أجرًا وهم مهتدون) لكان ذلك خاضًا باتباع الرسل ولا يشير إلى اتباع غيرهم من المصلحين والداعين إلى دعوتهم. فتكرار (اتبعوا) أفاد الاتباع للرسل في حالة وجودهم. والاتباع الثاني لمن يحمل هاتين
الصفتين.
جاء في (روح المعاني): "تكرير للتأكيد وللتوسل به إلى وصفهم بما يتضمن نفي المانع عن اتباعهم بعد الإشارة إلى تحقق المقتضي" (2).
واختار (من) على (الذين) لكونها أعم، فإنها تشمل كل داع إلى الله، واحدًا كان أو أكثر.
(1) الكشاف 2/582.
(2) روح المعاني 22/226.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 94 إلى ص 96
الوقفة كاملة
|
| ١٦٢ |
{إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)}
أي ما كانت العقوبة أو الأخذة إلا صيحة واحدة (1)، واسم كان ضمير مستتر. ونفي بإن ولم ينف بما، ذلك لأن (إن) أقوى من (ما) (2) ولذلك كثيرًا ما تقترن بإلا لإفادة القصر. ويتبين ذلك من مواطن اجتماعهما. قال تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} {يوسف: 31}، فإثبات الملكية ليوسف يحتاج إلى قوة ولذلك نفى بما أولًا ثم نفى وأثبت بإن وإلا لما هو أقوى.
ونحو ذلك ما ذكرناه في قوله: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} فنفى أولًا بما، ثم نفى وأثبت بإن وإلا.
ونحوه ما مر قريبًا وهو قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} {يس: 28 - 29}، فنفى بما أولًا، ثم نفى وأثبت بإن وإلا.
وقوله: (واحدة) نعت مؤكد، وقد أفاد أمرين:
بيان بالغ قدرة الله، وبيان هوانهم وضعفهم، فإنهم لم يحتاجوا إلى أكثر من صيحة واحدة.
وأضمر اسم (كان) لظهوره ووضوحه، فإنه دل عليه المقام وإن لم يجر له ذكر.
وجاء بالفاء وإذا الفجائية للدلالة على سرعة هلاكهم، فإن الفاء تفيد الترتيب والتعقيب، وإذا تفيد المفاجأة، وجاء بهما معًا للدلالة على سرعة المفاجأة بحيث لم تكن بين الصيحة وخمودهم مهلة.
ولا يؤدي أي حرف هذا المؤدي، فلو جاء بثم فقال: (ثم إذا هم خامدون) لدل على أن خمودهم إنما حصل بعد مدة من الصيحة، نظير قوله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} {الروم: 20}.
ولو جاء بالواو لم يدل ذلك على التعقيب أيضًا ولم يدل أن ذلك إنما كان بسبب الصيحة، فإن الواو لا تفيد السبب بل تفيد الإتباع، فجاء بالفاء للدلالة على معنيي السبب والسرعة، ولا يؤدي أي حرف مؤداها.
جاء في (التفسير الكبير): "وقوله: (واحدة) تأكيد لكون الأمر هينًا عند الله.
وقوله: {فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} فيه إشارة إلى سرعة الهلاك، فإن خمودهم كان مع الصيحة وفي وقتها لم يتأخر" (3).
وجاء في (البحر المحيط) في قوله: {فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} :"أي فاجأهم الخمود إثر الصيحة لم يتأخر" (4).
وجاء في(روح المعاني): "و(إن) نافية، و(كان) ناقصة، واسمها مضمر، و(صيحة) خبرها، أي ما كانت هي، أي الأخذة أو العقوبة، إلا صيحة واحدة...
و(إذا) فجائية وفيها إشارة إلى سرعة هلاكهم بحيث كان مع الصيحة. وقد شبهوا بالنار على سبيل الاستعارة المكنية" (5).
وقال (خامدون) إشارة إلى سرعة هلاكهم وانطفاء حياتهم كانطفاء السراج.
واختيار هذا الوصف أحسن اختيار، فإنه مأخوذ من خمود النار وهو سكون لهبها وذهاب حسيسها، يقال: "خمدت النار تخمد خمودًا: سكن لهبها ولم يطفأ جمرها، وهمدت همودًا: إذا أطفئ جمرها البتة، وأخمد فلان ناره، وقوم خامدون: لا تسمع لهم حسًا. جاء في التنزيل العزيز {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} قال الزجاج: فإذا هم ساكتون قد ماتوا وصاروا بمنزلة الرماد الخامد الهامد" (6).
وفي (القاموس المحيط): "خمدت النار: كنصر وسمع خمدًا وخمودًا سكن لهبها، ولم يطفأ جمرها" (7).
وفي (المصباح المنير): "خمدت النار خمودًا من باب قعد: ماتت فلم يبق منها شيء، قيل: سكن لهبها وبقي جمرها" (8).
وفي (أساس البلاغة): "نار خامدة وقد خمدت خمودًا: سكن لهبها وذهب حسيسها" (9).
يتضح مما مر أن الفعل (خمد) يحمل المعاني الآتية:
1- يقال: خمدت النار، أي سكن لهبها ولم يطفأ جمرها.
2- وقيل أيضًا: خمدت النار، إذا ماتت ولم يبق منها شيء.
3- ويقال: خمد القوم، إذا سكتوا فلا تسمع لهم حسًا.
4- وخمد القوم: سكتوا وماتوا وصاروا بمنزلة الرماد الخامد الهامد.
أما همود النار فهو انطفاؤها وعدم بقاء أثر منها.
جاء في (لسان العرب): "وهمدت النار تهمد همودًا: طفئت طفوءًا وذهبت البتة فلم يبين لها أثر...
الأصمعي: خمدت النار: إذا سكن لهبها، وهمدت همودًا إذا طفئت البتة" (10).
وجاء في (القاموس المحيط): "الهمود: الموت وطفوء النار أو ذهاب حرارتها" (11).
وجاء في (المصباح المنير): "همدت النار همودًا من باب قعد: ذهب حرها ولم يبقى منها شيء" (12).
واختيار الخمود على الهمود أنسب من عدة نواح منها:
1- أن في ذلك إشارة إلى سرعة سكونهم وانقطاع حركتهم، فإن الخمود أسرع من الهمود؛ ذلك أن إطفاء السراج والشعلة إنما يكون في أسرع وقت.
جاء في (التفسير الكبير): "والخمود في أسرع زمان فقال: (خامدين) بسبها، فخمود النار في السرعة كإطفاء سراج أو شعلة" (13).
2- بيان أن حركتهم وأصواتهم قد خمدت فلا تسمع لهم حسًا وذلك بعد التوعد والتهديد والضجيج والصخب الذي ملأ القرية، وبعد البطش والتنكيل بالرجل الناصح. وبعد كل ذلك إذا هم ساكتون خامدون لا تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزًا.
3- ثم إن اختيار الخمود مناسب لقوله: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} وذلك أنه إذا كان في موضع ما ضجيج وصياح وصخب فإنه لا يسكته إلا صوت أو صيحة أعلى منه. فصاح بهم صيحة أسكتتهم وأخمدتهم.
4- إن في اختيار الخمود على الهمود إشارة إلى البعث بعد الموت، فإن الخمود لا يعني الفناء وإنما يعني ذهاب اللهب والحرارة وبقاء الجمر، فكأن ذلك إشارة إلى مفارقة الأرواح للأبدان وليس فناءها.
حاء في (روح المعاني): "ولعل في العدول عن (هامدون) إلى (خامدون) رمزًا حفيًا إلى البعث بعد الموت" (14).
5- اختيار الخمود على الهمود في صورة فنية أخرى، وهي صورة الجمر الذي يغطيه الرماد، وهي شبيهة بحالة الجثة التي يعلوها تراب القبر، وفيها إشارة إلى أنهم يحترقون بالنار في داخلها وإن كان لا يظهر ذلك للناظرين.
6- ومن معاني الخمود: الموت أيضًا كالهمود، فأعطى الخمود معنى الهمود مع معان أخرى لا يؤديها الهمود كسرعة الهلاك والسكوت بعد الصيحة، والرمز الخفي إلى البعث بعد الموت وأن ظاهرهم ساكن بارد وحقيقتهم نار تحرق.
فكان اختيار الخمود أولى والله أعلم.
(1) الكشاف 2/586.
(2) انظر معاني النحو 4/235.
(3) التفسير الكبير 26/62.
(4) البحر المحيط 7/332.
(5) روح المعاني 23/2.
(6) لسان العرب (خمد) 4/144.
(7) القاموس المحيط (خمد) 1/292.
(8) المصباح المنير (خمد) 1/181.
(9) أساس البلاغة (خمد) 250.
(10) لسان العرب 4/448 (همد).
(11) القاموس المحيط (همد) 1/348.
(12) المصباح المنير (همد) 2/64.
(13) التفسير الكبير 26/62.
(14) روح المعاني 23/2 – 3.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 137 إلى ص 142.
الوقفة كاملة
|
| ١٦٣ |
{وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)}
بعد أن ذكر الأرض واستدل بأحوالها على التوحيد والحشر استدل بالليل والنهار على ذلك فكان استدلاله بالمكان والزمان، فالمكان هو الأرض التي يعيشون عليها، والزمان هو الليل والنهار اللذان يتعاقبان عليهم.
جاء في (التفسير الكبير): " لما استدل الله بأحوال الأرض وهي المكان الكلي استدل بالليل والنهار وهو الزمان الكلي، فإن دلالة المكان والزمان مناسبة، لأن المكان لا تستغني عنه الجواهر، والزمان لا تستغنى عنه الأعراض؛ لأن كل عرض فهو في زمان" (1).
وقد تقول: لقد قدم الاستدلال بالأرض على الاستدلال باليل والنهار، وفي موطن آخر قدم الليل والنهار على الأرض، فقد قال في سورة (فصلت) {وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} {فصلت: 37 - 39}.
فما السبب؟
والجواب: أن السياق في سورة (يس) هو الاستدلال على الحشر، وقد وقعت الآية بعد قوله: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ}. والاستدلال بإحياء الأرض الميتة أدل على ذلك من الاستدلال باليل والنهار وإن كان فيهما استدلال من طريق آخر.
أما الكلام في سورة (فصلت) فهو في توحيد الله وإفراده بالعبادة والنهي عن عبادة غيره، وقد كان قسم المشركين يعبدون الشمس والقمر ويسجدون لهما فقال: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} ، فكان تقديم الليل والنهار وآيتيهما اللتين يسجد لهما طائفة من الناس أولى. بل إن السياق إنما هو في عبادة الله وتوحيده، فإنه بعد أن نهى عن السجود للشمس والقمر وعبادتهما ذكر أن الذين عند ربك يعبدون الله ويسبحونه بالليل والنهار. بل إن الأرض التي يعيشون عليها إنما هي خاضعة خاشعة لرب العالمين. واستعمال الخشوع أنسب شيء في هذا المقام العبادة (2).
فكان كل تعبير مناسبًا لمكانه الذي ورد فيه.
جاء في (التفسير الكبير): أن المقصود في سورة (فصلت): "إثبات الوحدانية بدليل قوله تعالى: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ} ثم الحشر بدليل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى} {فصلت: 39}، وههنا المقصود أولًا إثبات الحشر؛ لأن السورة فيها ذكر الحشر أكثر يدل عليه النظر في السورة. وهناك ذكر التوحيد أكثر بدليل قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} {فصلت: 9} إلى غيره، وآخر السورتين يبين الأمر" (3).
والليل والنهار آية دالة على الموت والنشور، فإن الليل كالموت، والنهار كالحياة، والناس في الليل أموات ينشرهم ربهم في النهار كما أخبر سبحانه بقوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} {الفرقان: 47}.
فكان ذلك مناسبًا للسياق من وجهة ثانية.
جاء في (التفسير الكبير): "لو قال قائل: إذا كان المراد منه الاستدلال بالزمان، فلم اختار الليل حيث قال: {وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ}؟
نقول: لما استدل بالمكان الذي هو المظلم وهو الأرض وقال:
{وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ} استدل بالزمان الذي فيه الظلمة وهو الليل.
ووجه آخر: وهو أن الليل فيه سكون الناس وهدوء الأصوات، وفيه النون – وهو كالموت – ويكون بعده طلوع الشمس كالنفخ في الصور فيتحرك الناس، فذكر الموت كما قال في الأرض: {وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ} فذكر من الزمانين أشبههما بالموت، كما ذكر من المكانين أشبههما بالموت" (4).
ومعنى {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} نزيله منه، من (سلخ جلد الشاة) إذا كشطه عنها وأزاله (5).
ومعنى (مظلمون) داخلون في الظلام (6)، كما يقال: أصبحنا: أي دخلنا في الصباح، وأعتمنا: أي دخلنا في العتمة، والمعنى أن الليل نزيل عنه النهار فيكون الناس في ظلام.
ويفيد هذا التعبير أن الليل مغطى بالنهار، ذلك أنه جعل الليل كالشاة ونحوها، والنهار كالجلد الذي يغطيها ويعلوها، فيسلخ منه النهار كما يسلخ الجلد فيكون تحته الليل، فجعل الليل أصلًا والنهار غلافًا له أو جلدًا.
وقد فهم المفسرون ذلك فقالوا: إنه جعل الليل أصلًا.
جاء في (البحر المحيط): "واستدل قوم بهذا على أن الليل أصل، والنهار فرع طارئ عليه" (7).
وجاء في (روح المعاني): "وفي الآية على ما قال غير واحد دلالة على أن الأصل الظلمة، والنور طارئ عليها يسترها بضوئه" (8).
والأمر كذلك فإن النهار إنما يأتي بسب الشمس، فإن ضوء الشمس يعلو الأرض ويغطيها فيكون النهار، فهو يأني من فوق فإذا زالت الشمس وذهب ضوؤها ظهر الأصل وهي الظلمة، فالظلمة هي الأصل والنهار طارئ.
ولم يقل: (وآية لهم النهار نسلخ منه الليل فإذا هم مبصرون)، أو فإذا هم (منهرون) أي داخلون في النهار؛ لأن ذلك لا يصح؛ لأن معنى ذلك أن الليل يأتي من فوق ويغطي النور، فإذا زال الليل ظهر النور الذي تحته وهو ضوء الأرض، وهذا لا يصح لأن الأرض مظلمة وليست مضيئة.
ثم من المعلوم أن الضوء هو الذي يزيل الظلمة، وليست الظلمة هي التي تزيل النور وتمحوه، ولو قال: (وآية لهم النهار نسلخ منه الليل فإذا هم مبصرون) لكان يعني أن الظلمة تزيل النور، ولا يصح ذلك.
وقال: (نسلخ) بإسناد الفعل إلى نفسه، ولم يقل (ينسلخ) ليدل على أن ذلك يجري بفعل الله وقدرته ولم يحصل من نفسه من دون تدبير مدبر ولا فعل فاعل، فيكون ذلك آية على توحيد الله وقدرته.
وقال: {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} ولم يقل: (فإذا الأرض مظلمة) ليبين أثر ذلك فيهم وفي حياتهم، فإنهم هم الذين يدخلون في الظلام بعد النهار فيكون ذلك آية لهم، وليبين أثر النعمة عليهم في الضياء والإظلام، فذكر نعمتي الضياء والإظلام عليهم، والنعمة إنم تكون بتعاقبهما لا أن يكون واحد منها سرمدًا إلى يوم القيامة. كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} {القصص: 71 - 72}.
وجاء بــ (إذا) التي تفيد المفاجأة للدلالة على سرعة التغير.
جاء في (التفسير الكبير): " فإن قيل: فالليل في نفسة آية، فأية حاجة إلى قوله: {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} ؟
نقول: الشيء تتبين بضده منافعه ومحاسنه، ولهذا لم يجعل الله الليل وحدة آية في موضع من المواضع إلا وذكر آية النهار معها.
وقوله: {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} أي داخلون في الظلام، و(إذا) للمفاجأة، أي ليس بيدهم بعد ذلك أمر ولا بد لهم من الدخول فيه" (9).
(1) التفسير الكبير 26/69.
(2) انظر في ظلال القرآن 5/3125.
(3) التفسير الكبير 26/70.
(4) التفسير الكبير 26/70.
(5) الكشاف 2/587.
(6) الكشاف 2/587.
(7) البحر المحيط 7/336.
(8) روح المعاني 23/11، وانظر فتح القدير 4/358.
(9) التفسير الكبير 26/70.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 176 إلى ص 181.
الوقفة كاملة
|
| ١٦٤ |
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)}
أي إذا طلب منهم الإنفاق مما رزقهم الله امتنعوا واحتجوا بأن الله هو الذي أفقرهم، ولو شاء أن يغنيهم لأغناهم، فكيف يجيعهم ربهم ونحن تطعمهم؟ إن طلبكم هذا مخالف لمشيئة الله، وهو ضلال ظاهر.
والظاهر أن المقصود بقوله: {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} إطعام المحتاجين، بدليل قولهم: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ}، إلا أنه أخرجه مخرج العموم في الطلب والخصوص في الجواب، ذلك أن قوله: {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} يدخل فيه الإطعام وغيره من أفعال الخير فكان الطلب عامًا.
غير أنهم امتنعوا عن أي شيء من الإنفاق حتى إطعام المحتاج، وهو ما تدعو إليه المروءة، فدل امتناعهم عن هذا امتناعهم عما هو أكبر وأعظم، وفي هذا مبالغة في الامتناع عن الإنفاق.
جاء في (التفسير الكبير): "ما الفائدة في تغيير اللفظ في جوابهم حيث لم يقولوا: أننفق على من لو يشاء الله رزقه، وذلك لأنهم أمروا بالإنفاق في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا} فكان جوابهم أن يقولوا: أنفق، فلم قالوا: أنطعم؟
نقول: فيه بيان غاية مخالفتهم ذلك؛ لأنهم إذا أمروا بالإنفاق - والإنفاق يدخل فيه الإطعام وغيره - لم يأتوا بالإنفاق، ولا بأقل منه - وهو الإطعام - وقالوا: لا نطعم. وهذا كما يقول القائل لغيره: أعط زيدًا دينارًا، يقول: (لا أعطيه درهمًا) مع أن المطابق هو أن يقول: لا أعطيه دينارًا، ولكن المبالغة في هذا الوجه أتم، فكذلك ههنا" (1).
وجاء في (البحر المحيط): "أمروا بالإنفاق مما رزقهم الله، وهو عام في الإطعام وغيره، فأجابوا بغاية المخالفة؛ لأن نفي إطعامهم يقتضي نفي الإنفاق العام، فكأنهم قالوا: لا ننفق ولا أقل الأشياء التي كانوا يسمحون بها ويؤثرون بها على أنفسهم وهو الإطعام الذي به يفتخرون. وهذا على سبيل المبالغة، كمن يقول لشخص: أعط لزيد دينارًا، فيقول: لا أعطيه درهمًا. فهذا أبلغ من: لا أعطيه دينارًا" (۲).
والملاحظ من الآيتين أنهم أمروا بالاتقاء وذلك قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وهو أمر عام يتعلق بالعبادة الفردية والحياة الشخصية ويتعلق بالآخرين، فإن وجوه الاتقاء متسعة.
وأمروا بالإنفاق في وجوه الخير وذلك قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا ....} وهو أمر يتعلق بالآخرين. ومنه إطعام المحتاجين الذي هو ضرورة من ضرورات الحياة. وهذا يدلنا على أن أوامر الله قسمان:
قسم يتعلق بالقيام بحقوق الله، وهو يدخل في التقوى.
وقسم يتعلق بحقوق العباد ومنه الإنفاق، وقد امتنعوا عنهما جميعًا.
جاء في (روح المعاني): "والكلام على ما قيل لذمهم على ترك الشفقة على خلق الله تعالى إثر ذمهم على ترك تعظيمه عز وجل بترك التقوى، وفي ذلك إشارة إلى أنهم أخلوا بجميع التكاليف ؛ لأنها كلها ترجع إلى أمرين: التعظيم لله تعالى، والشفقة على خلقه سبحانه" (3).
والملاحظ من الآية:
1- أنها بدأت بأداة الشرط (إذا) فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا ...} إشارة إلى أن هذا القول قد قيل لهم فعلاً، بل إنه لقد قيل لهم كثيرًا لما سبق أن ذكرنا في دلالة (إذا) في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ....}
۲- وقد بنى الفعل (قيل) للمجهول في الآيتين فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا} {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا} لأكثر من سبب:
من ذلك أن القائل معلوم وهم المؤمنون.
ومن ناحية أخرى أنه لا يتعلق غرض بذكر القائل، فإنه لا يتغير الحكم بتغير القائل، فإن المقصود هو المقول وليس القائل.
ومن ذلك الإشارة إلى ضرورة النظر في المقول لا في القائل، فالقول الحق ينبغي الأخذ به أيًّا كان قائله. فهو توجيه إلى الأخذ بالقول الحق دون النظر إلى قائله، وهو بمعنى: (خذ الحكمة ولا تضرك من أي وعاء خرجت).
ثم إنه لو ذكر القائل لظن أن هذا الموقف من الكفرة بسبب القائل، ولو كان القائل شخصًا آخر لتغير الموقف، فإن الناس كثيرًا ما يرفضون القول من قائل ويقبلونه من قائل آخر. فلو ذكر القائل لظن أن رفضهم بسبب القائل. فبين أن موقفهم هذا إنما هو من المقول لا من القائل.
٣- وقد جاء بـ (من) التبعيضية للدلالة على أنه طلب منهم إنفاق شيء مما أنعم الله به عليهم ليسهل ذلك عليهم.
4 - أسند الرزق إلى الله، أي إن الله هو الذي رزقكم وتفضل عليكم، فأنفقوا شيئا مما أعطاكم وتفضل عليكم؛ "أي أعطاكم سبحانه بطريق التفضل والإنعام من أنواع الأموال، وعبر بذلك تحقيقًا للحق وترغيبا في الإنفاق، على منهاج قوله تعالى: {وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ}، وتنبيهًا على عظم جنايتهم في ترك الامتثال بالأمر، وكذلك الإتيان بمن التبعيضية" (4).
5 - بين القائل والمقول له في الآية بعد البناء للمجهول فقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ}.
فبين قوله: {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا} أن القائل (أنفقوا) هم المؤمنون، وأن الذين قيل لهم هم الكفار، ولذا ذكر أن الذين كفروا ردوا على المؤمنين قولهم.
ومن هذا يتضح أن الآية بنيت على الإيضاح بعد الإبهام.
فقد قال: (قيل) فبنى الفعل للمجهول، ثم بين القائل بقوله: {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا}.
وقال: (لهم) فذكر الضمير ثم أوضح الضمير بأنه يعود على الذين كفروا و{قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا}
ثم قال: {أَنْفِقُوا} وهو عام، ثم بين المقصود بالإنفاق ههنا وهو إطعام المحتاجين.
6-لم يبين القائل في الآية الأولى وهي قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، وقد بينه في هذه الآية ؛ ذلك لأن القائل في الآية الأولى معلوم وهو لا يحتاج إلى إيضاح، فإنه معلوم أنه لا يقول هذا القول إلا مؤمن ولا يصدر عن كافر، وذلك لأن الكفار لا يؤمنون بالآخرة، ولذا ذكر بعد ذلك قولهم: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
أما الآية الثانية وهي قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} فيحتاج القائل إلى تبيين ذلك ؛ لأن هذا القول قد يصدر عن شخص غير مسلم يقوله مروءة، ذلك أن الله حكى عن كفار قريش أنهم يؤمنون بأن الله هو الذي يرزق الخلق، قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ} {يونس: 31}.
فبين أن الذي قال هذا القول ودعا إلى الإنفاق هم المؤمنون.
فكان كل تعبير أنسب في مكانه. هذا علاوة على أنه ذكرنا أن الآية الأولى بنيت على الإيجاز، وهذه بنيت على البيان بعد الإبهام.
واستبان من ذلك أن الذي يدعو إلى الخير والمكرمة إنما هو المؤمن، وأن المشفق على خلق الله الطالب لإعانتهم وإغاثتهم إنما هو المؤمن، فالمؤمن منبع كل خير ويمن وبركة.
۷- لم يبين وجوه الإنفاق في الآية بل أطلقها فقال: {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} ذلك ليشمل وجوه الخير كلها، وليشمل عموم خلق الله مؤمنهم وكافرهم، فهو لم يقل: (أنفقوا على المؤمنين) بل أطلق ذلك ليشمل الجميع فتتسع دائرة الخير.
8- لما أسند الرزق إلى الله بقوله: {مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} أسندوا الإطعام إليه فقالوا: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ}. فإنه لما قال لهم المؤمنون {أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} أجابوا {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} فكأنهم قالوا: الله الذي رزقنا هو الذي حرمهم.
9- لم يذكر اللام في جواب (لو) فلم يقل: (لو يشاء الله لأطعمه) ذلك أن الإطعام سهل ميسور فلا يحتاج إلى توكيد. والملاحظ في القرآن الكريم أن المنزوع اللام من جواب (لو) أقل توكيدًا مما ذكرت فيه اللام.
فيؤتى باللام فيما هو آكد، فما كان أصعب في ميزان البشر يؤتي معه باللام، وما كان أيسر تنزع منه اللام، مع أنه من المعلوم أن ليس شيء أصعب على الله من شيء.
قال تعالى: {فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} {الأنعام: 149} فجاء باللام لأن الهداية صعبة. وقال: {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ} {الأعراف: 155}. فلم يذكر اللام لأن الإهلاك مقدور عليه وليس كالهداية. وقال: {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} وهذا صعب عسير فجاء باللام. غير أنه قال: {أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ}، فلم يذكر اللام لأنه مقدور عليه من كثير من الناس وليبينوا أن ذلك من الأمور اليسيرة على الله، فلو شاء ذلك فعل، ولكن الله لم يشأ ذلك فكيف نطعمهم نحن؟
(1) التفسير الكبير 26/84 – 85.
(2) البحر المحيط 7/340، وانظر روح المعاني 23/30.
(3) روح المعاني 23/29.
(4) روح المعاني 23/29.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 225 إلى ص 230.
* * *
{إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}
أي ما أنتم إلا في ضلال ظاهر غير خاف على أحد، و(مبين) معناه مظهر لنفسه لا يحتاج أن يظهره أحد.
فإن الضلال على قسمين:
ضلال خفي لا يعلمه إلا ذوو البصيرة والعلم، وهذا يحتاج إلى إيضاح وتبيين.
وضلال مبين، أي مبين عن نفسه لا يحتاج إلى أن يظهره أحد أو يبينه شخص فإنه يبين نفسه بنفسه، وهو أظهر من كل إظهار وأبين من كل تبيين، فجعلوا أمرهم بالإنفاق من الضلال المبين الظاهر الذي يظهر نفسه.
وقد أخرج الكلام على جهة القصر، أي لستم إلا في الضلال، ولستم في شيء آخر. وهذا يختلف عن القول (أنتم في ضلال مبين) فإن ذلك - أي القصر - أكد، فإنه يفيد أنهم ليسوا في غير الضلال.
جاء في (التفسير الكبير): "قد ذكرنا أن قوله: (إن أنتم إلا) يفيد ما لا يفيد قوله: (أنتم في ضلال)؛ لأنه قد يوجب الحصر، وأنه ليسوا في غير الضلال.
البحث الثالث: وصف الضلال بالمبين، قد ذكرنا معناه أنه لظهوره يبين نفسه أنه ضلال، أي في ضلال لا يخفى على أحد أنه ضلال" (1).
ثم نفى بـ (إن) ولم ينف بـ (ما) لأن (إن) أكد في النفي من (ما) (۲).
وقال: (في ضلال) فاستعمل (في) وهو حرف يفيد الظرفية، أي: ما أنتم إلا مغمورون في الضلال ساقطون فيه كمن يسقط في اللجة.
وقد لاحظ المفسرون أن القرآن يستعمل (على) في الهداية، ويستعمل (في) في الضلال ونحوه، فيقول: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} {البقرة: 5}.
ويقول: {إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي} {هود: 28}، فاستعمل (على) في هذا المعنى للدلالة على تمكنهم من الهداية واستعلائهم على الطريق.
في حين قال: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} {المؤمنون: 54}، {وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} {الأنعام: 110}، {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} {التوبة: 45}، أي كأنهم ساقطون في ذلك لا يتبينون ما حولهم ولا هم متمكنون من أنفسهم، ولذا قال تعالى: {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} {سبأ: ۲4}، فاستعمل (على) مع الهدى و(في) مع الضلال.
جاء في (التفسير الكبير): "إن قوله: (في ضلال) يفيد كونهم مغمورين فيه غائصين. وقوله في مواضع: (على بينة)، و(على هدى) إشارة إلى كونهم راكبين متن الطريق المستقيم قادرين عليه" (3).
(1) التفسير الكبير 26/85.
(2) ينظر معاني النحو 4/235 وما بعدها.
(3) التفسير الكبير 26/85.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 230 إلى ص 232.
الوقفة كاملة
|
| ١٦٥ |
{مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49)}
معنى النظر ههنا وقوع الشيء من غير ترقب له، فلا يرونه إلا واقعًا، وقد فسره المفسرون بالانتظار، ولما كان الكفار غير منتظرين للصيحة بل ينكرونها فروها بالانتظار الفعلي.
جاء في (التفسير الكبير): "{مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} أي لا ينتظرون إلا الصيحة المعلومة... فإن قيل: هم ما كانوا ينتظرون الصيحة بل كانوا يجزمون بعدمها، فنقول: الانتظار فعلي لأنهم كانوا يفعلون ما يستحق به فاعله البوار وتعجيل العذاب وتقريب الساعة لولا حكم الله وقدرته وعلمه" (1).
وجاء في (البحر المحيط): "ما ينظرون أي ما ينتظرون، ولما كانت هذه الصيحة لابد من وقوعها جعلوا كأنهم منتظروها" (2).
والحق أن ثمة فرقًا بين (ينظرون) و(ينتظرون).
فمعنى (ينظرون) يرون الأمر واقعًا بغتة من غير ترقب له أو توقع. أما الانتظار فهو ترقب وقوع الأمر.
وأكثر الاستعمال القرآني على هذا، فهو يستعمل (النظر) لما يفاجئ من الأحداث، والانتظار لما فيه ترقب وتوقع.
قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} {الزخرف: 66}.
فذكر أنها تأتيهم بغتة أي من غير ترقب.
وقال: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ} {محمد: 18}.
وهي مثل ما قبلها.
وقال: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} {الأعراف: 53}.
والكلام واضح أنه في اليوم الآخر، وهو يأتيهم من غير ترقب له أو انتظار؛ لأنهم كافرون به كما يدل على ذلك الكلام.
في حين قال: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} {الأحزاب: 23}.
أي منهم من ينتظر ذلك ويترقبه.
وقال: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ} {السجدة: 30}.
فأمره بالانتظار وهو الترقب.
وقال هود لقومه: {قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ} {الأعراف: 71}.
فهو قد توعدهم وتهددهم وأمرهم بانتظار ذلك وترقبه.
ثم إن بناء كل من الفعلين يقوي ما ذكرناه، فإن بناء (انتظر) أطول من (نظر)، وذلك يدل على زيادة الانتظار وطوله، إذ كثيرًا ما يناسب اللفظ المعني.
ومعنى الآية - أي آية يس - أنهم لا ينظرون إلا صيحة واحدة تبغتهم وهم يختصمون في حياتهم ومعاشهم، والمقصود بالصيحة هذه صيحة القيامة.
واختار (ينظرون) على (ينتظرون) لأن في ذلك فزعًا أكبر؛ فإن الذي تفجؤه الصيحة يرجف فؤاده ويفزع أكثر ممن ينتظرها؛ "لأن الصيحة المعتادة إذا وردت على غافل يرجف، فإن المقبل على مهم إذا صاح به صائح يرجف فؤاده، بخلاف المنتظر للصيحة. فإذا كان حال الصيحة ما ذكرناه من الشدة والقوة وترد على الغافل الذي هو مع خصمه مشغول يكون الارتجاف أتم والإيجاف أعظم" (3).
وذكر الصيحة ههنا كما ذكرها في أصحاب القرية، فإن كلا من الصنفين لم يتق ما بين يديه وما خلفه، فلم يرحمه ربه وأخذته الصيحة.
غير أن هناك فرقًا بين البناء في الآيتين:
فقد قال في أصحاب القرية: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} بالفعل الماضي لأن الصيحة قد وقعت.
وقال ههنا: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} بالفعل المضارع لأنها لم تقع.
وقال في أصحاب القرية: {فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ}.
وقال ههنا: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} وذلك أنه لما قال: إن الصيحة تأخذهم، أي كأنها تأخذهم من أهلهم قال: {وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} لأن الصيحة أخذتهم بعيدًا عن أهلهم. ولم يقل مثل ذلك مع قوله: {فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} لأنها أخمدتهم جميعًا هم وأهلهم.
وناسب ذلك أيضًا قوله: {وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} أي يختصمون في أمور الدنيا، ومعنى ذلك أنهم ليسوا بين أهلهم ولا في مساكنهم، فناسب أن يقول: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ}.
ومعنى (يخصمون): (يختصمون) غير أنه أبدل من التاء صادًا وضعفها وكسر الخاء لالتقاء الساكنين فصار يخصمون. وسبب هذا الإبدال والتضعيف - والله أعلم - أن التضعيف يدل على المبالغة، فأبدل وضعف للدلالة على المبالغة في الاختصام.
أي أن الساعة تأخذهم وهم منهمكون في الاختصام مبالغون في أمور الدنيا لا يشغلهم عن ذلك شاغل، فتأخذهم الصيحة فلا يستطيعون توصية ولا ينطقون بشيء.
جاء في (بلاغة الكلمة في التعبير القرآني): "وأصل (يخصمون) يختصمون، فأبدلت التاء صادًا، وأدغمت في الصاد فصار (يخصمون)، والتضعيف يفيد القوة والتكثير والمبالغة. فأفاد ههنا المبالغة في الاختصام.
والمعنى أن الساعة تأخذهم وهم منهمكون في معاملاتهم منشغلون في خصومات الدنيا على أكثر ما يكون وأشد ما يكون غير منشغلين بشيء آخر عن الدنيا، فالساعة لا تقوم على رجل يقول: لا إله إلا الله.
وفي الحديث: (شرار الخلق الذين تدركهم الساعة وهم أحياء)، فتصيح الساعة صيحة تقطع الاختصام، فلا يكون نبس ولا حركة ولا خصومة ولا كلام، بل صمت مطبق وسكون مطلق، {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} فعبر عن ذلك بقوله: (يخصمون).
ولا يدل الأصل (يختصمون) على هذه المبالغة والقوة...
في حين قال: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} {الزمر: 31} من غير إبدال، ذلك أن الاختصام أمام رب العالمين لا يكون مثل الاختصام في الدنيا. فالاختصام في الدنيا عام يشمل المخاصمات التي تستدعي القضاء والفصل بين المتخاصمين، كما يشمل غيرها مما لا يستدعي قضاء ولا فصلاً.
أما الاختصام عند الرب فهو مما يستدعي القضاء والفصل، فبالغ في البناء فيما استعمله في الدنيا، بخلاف ما استعمله في الآخرة، والله أعلم" (4).
واختيار الصيحة هو المناسب في هذا المقام، إذ هي التي تقطع الاختصام والقيل والقال، فبينما هم يختصمون في معاملاتهم وهم في صخب الدنيا، إذ تأتيهم الصيحة فتقطع ذلك كله، كما يكون في مكان ما ضجيج وصخب فتقطع ذلك بصيحة واحدة فإذا هو صمت مطبق وسكون رهيب.
وذكر أن الصيحة واحدة؛ ذلك لأنهم لا يحتاجون إلى أخرى، فإن الصيحة الواحدة تأخذهم جميعًا فلا حاجة إلى ثانية. ثم إنه إذا تتابعت الصيحات ألفها السامع فلا تكون لها تلك الرهبة، أما هذه فصيحة واحدة ليس لها نظير تخلع قلوبهم فيموتون جميعًا.
أما الصيحة الثانية فلجمعهم عند رب العالمين.
(1) التفسير الكبير 26/86.
(2) البحر المحيط 7/340.
(3) التفسير الكبير 26/86.
(4) بلاغة الكلمة في التعبير القرآني – باب الإبدال 56 – 57.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 233 إلى ص 238.
الوقفة كاملة
|
| ١٦٦ |
{ قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا …. (52)}
قال: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا} ولم يقل: (يقولون يا ويلنا) ذلك أنه لو قال: (يقولون) لكان الفعل حالًا للنسلان أي (ينسلون قائلين يا ويلنا)، كما نقول: (هو يقبل يبكي) و(يُدبر يسرع) فيكون القول عند النسلان، في حين أن القول قبل النسلان، فإنما قالوا ذلك في ابتداء بعثهم من القبور (1).
جاء في (التفسير الكبير): "لو قال قائل: لو قال الله تعالى: (فإذا هم من الأجداث إلى ربهم ينسلون يقولون يا ويلنا) كان أليق.
نقول: معاذ الله، وذلك لأن قوله: {فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} على ما ذكرنا إشارة إلى أنه تعالى في أسرع زمان يجمع أجزاء ويؤلفها ويحييها ويحركها... فلو قال: (يقولون) لكان ذلك مثل الحال لينسلون أي ينسلون قائلين يا ويلنا، وليس كذلك، فإن قولهم: (يا ويلنا) قبل أن ينسلوا" (2).
{يَا وَيْلَنَا}
الويل هو الحزن والعذاب والهلاك، ومعنى (يا ويلنا) أنهم ينادون هلاكهم وعذابهم، أي احضر يا عذابنا و يا هلاكنا فهذا أوانك، كما يقول الناس: (يا مصيبتي) و(يا خراب بيتي) أي احضر فهذا وقتك وأوانك، قال تعالى في أصحاب النار: {وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا} {الفرقان: 13 - ۱4}، أي قالوا: يا ويلاه، يا ثبوراه.
جاء في (لسان العرب): "الويل: الحزن والهلاك والمشقة من العذاب وكل من وقع في هلكة دعا بالويل، ومعنى النداء فيه يا حزني و يا هلاكي و يا عذابي: احضر فهذا وقتك وأوانك، فكأنه نادي الويل أن يحضره لما عرض له من الأمر الفظيع" (3).
وقد تقول: ولم قال: (يا ويلنا) ولم يقل: (يا ويلتنا) بالتاء؟
والجواب: أن الويل هو ما ذكرناه أي العذاب والحزن، أما الويلة فهي الفضيحة. ويؤتى بها في مواطن الفضيحة وذلك نحو قوله تعالى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} {الكهف: 49}.
فقالوا: (يا ويلتنا) أي يا للفضيحة وهي فضيحة نشر الأعمال، فإن قسما من الأعمال كان يتستر منها فاعلها، فهو يفعلها في السر فإذا بالكتاب قد فضحها كلها.
ولو تتبعنا مواطن استعمال الويلة بالتاء في القرآن الكريم لوجدناها كلها في مواطن الفضيحة، بخلاف مواطن الويل.
قال تعالى: {قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} {هود: 72}.
فقالت: (يا ويلتا) ذلك أن العجوز المسنة التي تلد وبعلها شيخ تشعر بأن ولادتها في مثل هذه السن فضيحة تخجل منها، ولذا قال تعالى في موطن آخر: {فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ} {الذاريات: 29}.
وقال في ابن آدم الذي قتل أخاه ولم يعلم ماذا يفعل به ولا كيف يتخلص من الجثة وقد أعيته الحيلة {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ} {المائدة: 31}.
وهو موطن عجز فاضح، إذ كان أقل تفكيرًا وحيلة من الغراب.
وقال: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} {الفرقان: 27 - 29}.
وهذا موطن افتضاح في ضعف الشخصية وعجزها، فإن صاحبه استطاع أن يخدعه ويضله ويلغي تفكيره ويعبث بعقله وذلك دليل نقص وعجز.
ولم يرد الويل في مثل هذه المواطن.
قال تعالى: {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} {الأنبياء: 12 – 15}.
وقال: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} {الأنبياء: 46}.
وقال: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} {الأنبياء: 97}.
وقال: {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} {يس: 52}.
وقال: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} {الصافات: 19 – 20}.
وقال: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} {القلم: 30 - 31}.
جاء في (لسان العرب): "الويل: حلول الشر، والويلة: الفضيحة والبلية. وقيل هو تفجع، وإذا قال القائل: واويلتاه، فإنما يعني وافضيحتاه، وكذلك تفسير قوله تعالى: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ} {الكهف: 49}" (4).
و(المرقد) يحتمل المكان ويحتمل المصدر أي الرقاد، وهو بهذا المعنى أي بمعنى الرقاد تكون ضجعة القبر كالنوم بالنسبة إلى اليقظة، فيكون البعث يقظة والرقاد في القبر كالنوم.
وقال: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} ولم يقل: (من بعثنا من أجداثنا) ليشمل المعنيين: المكان والمصدر. فهم قد بعثوا من الأجداث وبعثوا من رقدة الموت.
جاء في (الكشاف): "عن مجاهد للكفار هجعة يجدون فيها طعم النوم، فإذا صيح بأهل القبور قالوا: من بعثنا" (5).
وجاء في (البحر المحيط): "المرقد استعارة عن مضجع الميت، واحتمل أن يكون مصدرًا، أي: من رقادنا، وهو أجود، أو يكون مكانًا فيكون المفرد فيه يراد به الجمع، أي من مراقدنا.
وما روي عن أبي بن كعب ومجاهد وقتادة من أن جميع البشر ينامون نومة قبل الحشر فقالوا: هو غير صحيح الإسناد، وقيل: قالوا: (من مرقدنا) لأن عذاب القبر كان كالرقاد في جنب ما صاروا إليه من عذاب جهنم" (6).
(1) روح المعاني 23/32.
(2) التفسير الكبير 26/89.
(3) لسان العرب (ويل) 14/265.
(4) لسان العرب (ويل) 14/265.
(5) الكشاف 2/560.
(6) البحر المحيط 7/341، روح المعاني 23/32.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 247 إلى ص 251.
* * *
{هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)}
من المحتمل أن يكون هذا كلام الملائكة جوابًا عن سؤالهم، ويحتمل أن يكون هذا كلام المؤمنين، أو أن يكون كلام الكافرين (1)، فإنهم يعلمون أن المؤمنين كانوا يذكرون اليوم الآخر ويؤمنون به، فذكر ما علموه عن ذلك، وقد حذف القائل ليعم جميع الاحتمالات ويشمل كل من يصح منه القول.
فإن قيل: إن قول الكفار: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} سؤال عن الذي بعثهم، وقوله: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} ليس جوابًا عنه فكيف يصح ذلك؟ والجواب: أن قول الكفار: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} ليس سؤالًا حقيقيًا عن الذي بعثهم، وإنما هو سؤال تحسر وابتئاس وندم، يدل على ذلك
قولهم: (يا ويلنا) فهم يعلمون على وجه اليقين أن الله هو بعثهم للحساب ولذا قالوا: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا}
فكان الجواب بما هو الأولى وهو تذكيرهم بالوعد الذي كان يوعدونه في الدنيا وما ذكرته الرسل وتقريعهم على ما فرط منهم ، ومع ذلك هو يتضمن الجواب عن الباعث وذلك قوله: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} أي أن الرحمن هو الذي بعثكم.
وهو نظير قولنا لرجل يقول متحسرًا مبتئسًا: كيف وصلت إلى هذه الحال؟
فنقول له: هذا بسوء عملك .
وهو ليس جوابًا عن سؤاله، فإن سؤاله عن الحال والكيفية، والجواب كان عن السبب، فهو في الحقيقة جواب عن سؤال (بأي شيء حصل؟) أو: لم حصل هذا؟
فعدل إلى ما هو الأولى بالجواب.
جاء في (الكشاف): "فإن قلت: {مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} سؤال عن الباعث فكيف طابقه ذلك جوابًا؟
قلت: معناه بعثكم الرحمن الذي وعدكم بالبعث وأنبأكم به الرسل، إلا أنه جيء به على طريقة سيئت بها قلوبهم ونعيت إليهم أحوالهم وذكروا كفرهم وتكذيبهم وأخبروا بوقوع ما أنذروا به، وكأنه قيل لهم: ليس بالبعث الذي عرفتموه وهو بعث النائم من مرقده حتى يهمكم السؤال عن الباعث، إن هذا هو البعث الأكبر ذو الأهوال والأفزاع، وهو الذي وعده الله في كتبه المنزلة على ألسنة رسله الصادقين" (2).
وجاء في (التفسير الكبير): "إن قلنا: (هذا) إشارة إلى المرقد أو إلى البعث فجواب الاستفهام بقولهم: (من بعثنا) أين يكون؟
نقول: لما كان غرضهم من قولهم: (من بعثنا) حصول العلم بأنه بعث أو تنبيه، حصل الجواب بقوله: هذا بعث وعد الرحمن به ليس تنبيهًا. كما أن الخائف إذا قال لغيره: ماذا تقول أيقتلني فلان؟
فله أن يقول: (لا تخف) ويسكت لعلمه أن غرضه إزالة الرعب عنه و به يحصل الجواب" (3).
وجاء في (روح المعاني): "وكان الظاهر أن يجابوا بالفاعل لأنه الذي سألوا عنه بأن يقال الرحمن أو الله بعثكم، لكن عدل إلى ما ذكر تذكيرًا لكفرهم وتقريعًا لهم عليه مع تضمنه الإشارة إلى الفاعل. وذكر غير واحد أنه من الأسلوب الحكيم على أن المعني: لا تسألوا عن الباعث فإن هذا البعث ليس كبعث النائم وإن ذلك ليس مما يهمكم الآن، وإنما الذي يهمكم أن تسألوا ما هذا البعث ذو الأهوال والأفزاع. وفيه من تقريعهم ما فيه" (4).
و(ما) في قوله: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} تحتمل أن تكون اسمًا موصولًا أي هذا الذي وعده الرحمن. ويحتمل أن تكون مصدرية أي هذا وعد الرحمن.
أما الواو فتحتمل العطف على الجملة وتحتمل الحالية، أي وقد صدق المرسلون فيما أخبروا به. وجوزوا أيضًا أن تكون الواو عاطفة على الصلة، فإن كانت (ما) مصدرية كان التقدير: هذا وعد الرحمن وصدق المرسلين.
وإن كانت اسمًا موصولًا كان المعنى: هذا الذي وعده الرحمن وصدق فيه المرسلون.
جاء في (الكشاف): "فإن قلت: إذا جعلت (ما) مصدرية كان المعنى: هذا وعد الرحمن وصدق المرسلين، على تسمية الموعود والمصدوق فيه بالوعد والصدق، فما وجه قوله: {وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} إذا جعلتها موصولة؟
قلت: تقديره: هذا الذي وعده الرحمن والذي صدقه المرسلون، بمعنى: والذي صدق فيه المرسلون من قولهم: صدقوهم الحديث والقتال. ومنه: صدقني سن بكره" (5).
وهذه الآية نظير قوله في سورة الأحزاب: {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} {الأحزاب: 22}.
إن هذه الآية بمقابل قوله: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} {يس: 48}.
فهذا القول في الآخرة يقابل قولهم في الدنيا.
فقوله: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} {يس: 52} بمقابل قولهم في الدنيا: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ}.
وقوله: {وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} بمقابل قولهم: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ}.
والسخرية والاستهزاء بقولهم: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ ....} يقابله الندم والحسرة بقولهم: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا}.
وقوله: {وَيَقُولُونَ} في الدنيا يقابل قوله: (قالوا) في الآخرة.
ثم إن اختيار لفظ (المرسلون) هو المناسب لما تردد في السورة من ذكر المرسلين.
ثم لننظر من ناحية أخرى أن ثمة سؤالين قد ذكرا وهما:
السؤال الأول: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟
والسؤال الآخر: من بعثنا من مرقدنا؟
وأن قوله تعالى: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} جواب عن السؤالين معًا.
فقوله: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} جواب من جهة عن السؤال الأول، فقد سألوا: متى هذا الوعد؟
فقال: هذا هو.
وجواب عن السؤال الآخر من جهة أخرى، فقد تضمن ذكر الباعث الذي بعثهم من المرقد وهو الرحمن.
ثم إن هذه الآية مرتبطة أيضًا بقول أصحاب القرية: {وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ}.
فقوله: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} رد على قولهم: {وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} فوعد الرحمن إنما يكون فيما أنزل.
وقوله: {وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} رد على قولهم: {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ}.
وهي مرتبطة أيضًا بقوله تعالى في أول السورة: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} {يس: 11 – 12}.
فقد وعد الرحمن على لسان رسوله أن من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب له مغفرة وأجر كريم، ثم قال: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا}.
وقال ههنا: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ}.
فإنه أحيا الموتى وبعثهم من مرقدهم وصدق رسوله فيما بلغ.
هذا إضافة إلى أنه تردد ذكر الرحمن في الآيتين.
ثم لننظر من ناحية تعبيرية وهي أن كلمة (الوعد) في قوله: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} مصدر بمعنى اسم المفعول، أي الموعود به.
جاء في (التفسير الكبير): "وقوله: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ} أي متى يقع الموعود به" (6). وقد فسر بيوم القيامة وبالعذاب (7).
فالمصدر الصريح في الآية بمعنى الذات.
وقوله: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ} إجابة عن المصدر وعن الذات. فإن كانت (ما) اسمًا موصولًا فهي بمعنى الذات فتكون إجابة عن الوعد الذي هو بمعنى الذات.
وإن كانت (ما) مصدرية فقد أجاب بالمصدر المؤول وهو إجابة عن المصدر الذي هو الوعد. فجاء في (ما) ولم يأت بـ (الذي) ليشمل المعنيين معًا.
ثم إنه جمع قوله: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} بين الوعد والصدق، كما في قوله تعالى: {وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} {الأحقاف: 16}.
وأما اختيار لفظ (الرحمن) فله أكثر من سبب:
منها: أنه إذا كان هذا قول المؤمنين فإنهم آثروا اسم الرحمن؛ لأن هذا وقت رحمته التامة بهم فإنه يدخلهم في رحمته كما قال تعالى: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} {آل عمران: 107}.
وإذا كان قول الكافرين فإنهم آثروا اسم الرحمن طمعًا في رحمته.
جاء في (روح المعاني): "في إيثارهم اسم الرحمن قيل: إشارة إلى زيادة التقريع من حيث إن الوعد بالبعث من آثار الرحمة، وهم لم يلقوا له بالًا ولم يلتفتوا إليه وكذبوا به ولم يستعدوا لما يقتضيه. وقيل: آثره المجيبون من المؤمنين لما أن الرحمة قد غمرتهم فهي نصب أعينهم...
وقال ابن زيد: هذا الجواب من قبل الكفار على أنهم أجابوا أنفسهم، حيث تذكروا ما سمعوه من المرسلين عليهم السلام أو أجاب بعضهم بعضًا. وآثروا اسم الرحمن طمعًا في أن يرحمهم، وهيهات ليس لكافر نصيب يومئذ من رحمته عز وجل" (7).
هذا مع أنه من الملاحظ في القرآن الكريم أن اسم الرحمن كثيرًا ما يذكر في مشاهد الآخرة وهذا منها.
قال تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} {مريم: 61}.
وقال: {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} {طه: 108}.
وقال: {يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا} {طه: 109}.
وقال: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} {يس: 52}.
وقال: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا} {النبأ: 37}.
وقال: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} {النبأ: 38}.
وقال: {ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ} {مريم: 69}.
وقال: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} {مريم: 85}.
وقال: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} {مريم: 87}.
وقال: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آَتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا} {مريم: 93}.
وقال: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} {الفرقان: 26}.
هذا إضافة إلى أنه تردد اسم الرحمن في السورة أربع مرات وأن جو الرحمة شائع فيها.
قال تعالى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} {يس: 11}.
وقال:{قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ }{يس: 15}.
وقال: {إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ} {يس: 23}.
وقال: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} {يس: 52}.
وقال: {تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} {يس: 5}.
وقال: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} {يس: 58}.
وقال: {إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} {يس:44}.
وقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} {يس: 45}.
وقد تقول: لقد أسند الفعل (وعد) إلى (الله) في مواطن من القرآن الكريم وذلك كقوله تعالى {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} {النساء: 95}.
وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} {المائدة: 9}.
وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَ} {التوبة: 68}.
وقوله: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} {التوبة: 72}.
وهنا أسند الفعل (وعد) إلى الرحمن فما الفرق؟
فنقول: إن كل سورة أسند فيها الفعل الماضي (وعد) إلى (الله) لم يذكر فيها اسم (الرحمن) وإن كانت طويلة كسورة النساء والمائدة والتوبة وغيرها من السور، وذلك في عشر سور من القرآن الكريم.
وكل سورة أسند فيها الفعل (وعد) إلى (الرحمن) تكرر اسم الرحمن في السورة، وذلك في سورتي مريم و(يس). أما سورة مريم فقد تكرر فيها اسم الرحمن إحدى عشرة مرة، وأما سورة (يس) فقد تكرر فيها اسم الرحمن أربع مرات. فناسب هذا الاختيار من كل وجه.
وقد تقول: وهل ثمة فرق بين ما أسند الوعد فيه إلى الله، وما أسند إلى الرحمن؟
فنقول: إن ما أسند فيه الوعد إلى الله مخصص بالمؤمنين أو بالكافرين فيقول مثلا: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ} أو {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ} فهو وعد خاص.
أما ما أسند فيه الوعد إلى الرحمن فهو وعد عام يشمل عموم العباد وذلك تحقيقًا للرحمة التي يحققها اسم الرحمن، قال تعالى: {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} {مريم: 61}. فقد ذكر أنه وعد عباده على الإطلاق مع أن المقصود بعباده هؤلاء من تاب وآمن وعمل صالحًا كما في الآية السابقة، قال تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} {مريم: 60 – 61}.
وقال في سورة (يس): {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ}
فأطلق الوعد ولم يذكر الموعود من الخلق أهم المؤمنون أم الكافرون، فهو وعد عام على الإطلاق فلم يذكر مفعولاً لوعد، أما إسناده إلى الله فهو مخصص دائمًا وذلك في اثني عشر موضعًا من القرآن الكريم، فاتضح الفرق بينهما.
وسبحان قائل هذا الكلام.
(1) ينظر الكشاف 2/560.
(2) الكشاف 2/590.
(3) التفسير الكبير 26/90.
(4) روح المعاني 23/33.
(5) الكشاف 2/590.
(6) التفسير الكبير 26/86.
(7) البحر المحيط 7/340.
(8) روح المعاني 23/32.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 251 إلى ص 260.
الوقفة كاملة
|
| ١٦٧ |
{لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57)}
معنى (يدعون): يطلبون، ومعناه أيضًا: يتمنون، يقال: ادع على ما شئت، أي تمنه (1)، فلهم ما يطلبون وما يتمنون.
لقد قدم (لهم) على (فيها) وأخر الفاكهة، وذلك أن الكلام عليهم، فقد قال: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ} فناسب أن يقدم ما تعلق بهم.
ثم قال: (فيها) أي في الجنة، وهو نظير ما مر من قوله: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ}، وقوله: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} فقوله: (لهم) يقابل (أصحاب الجنة) ويقابل (هم وأزواجهم) فإن الضمير في (لهم) يعود عليهم، وقوله: (فيها) يقابل (في شغل) ويقابل (في ظلال) لأن ذلك فيها، أي في الجنة.
لقد وردت في القرآن الكريم تعبيرات مختلفة من نحو هذا التعبير اختلف فيها التقديم والتأخير وذلك نحو قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} {النحل: 31}.
وقوله: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا} {الفرقان: 16}.
فقدم في الآيتين (فيها) على (ما يشاؤون).
غير أنه قال في مكان آخر: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} {ق: 35}، فقدم (ما يشاؤون) وأخر (فيها).
وذلك بحسب ما يقتضيه المقام.
أما قوله تعالى في سورتي النحل والفرقان:{لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} بتقديم (فيها) على (ما يشاؤون) فلأن الكلام كان على الجنة.
قال تعالى: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} {النحل: 30 – 31}.
وقال: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا} {الفرقان: 15 – 16}.
فالكلام كما ترى على الجنة في الموطنين، فقدم ضمير الجنة (فيها) على (ما يشاؤون).
أما آية (ق) التي فيها قدم (ما يشاؤون) على (فيها) فلأن الكلام على من سيدخل الجنة. قال تعالى: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} {ق: 32 – 35}.
فقدم (ما يشاؤون) على ضمير الجنة.
والضمير في (يشاؤون) كما هو معلوم يعود على من سيدخل الجنة.
فناسب كل تعبير مكانه.
وقد تقول: لقد قال في آية (يس) هذه: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ}.
وقال في سورة فصلت: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} {فصلت: 31}.
فكرر (فيها) ولم يكررها في (يس). فما الفرق؟
والجواب أن آية (يس) فيمن هم في الجنة يتنعمون فيها هم وأزواجهم.
أما آية فصلت فالكلام فيها قبل دخول الجنة وهو عند الموت، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} {فصلت: 30}.
فالملائكة تتنزل عليهم تبشرهم بالجنة فقال: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} فكرر (فيها) ليعلمهم أن كلا الأمرين إنما هو في الجنة.
ولو قال: (ولكم ما تدعون) لأحتمل أن يكون ذلك قبل دخول الجنة عند الخطاب، فأعلمهم أن ذلك إنما يكون في الجنة.
أما آية (يس) فالكلام فيها على من في الجنة فقال: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} لأنهم فيها، فلا يحتاج إلى ما كرر في آية فصلت، والله أعلم.
وقد تقول: ولم قال في آية (يس): {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ}.
وقال في فصلت: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ}؟
والجواب: أن آية (يس) في أصحاب الجنة عمومًا، أما آية فصلت فهي في صنف معين من أهل الجنة وهم: الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا.
ولا شك أن هؤلاء أعلى منزلة من عدد غير قليل من أهل الجنة، فإن الاستقامة هي الالتزام بالشرع عملاً وانتهاء والاستمرار على ذلك، وليس كل أهل الجنة كذلك، فإن منهم من لم يستقم في حياته ولم يلتزم بحدود الشرع، غير أن الله أدخله الجنة تفضلا منه سبحانه.
فقال في الذين استقاموا: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ}، وقال في أصحاب الجنة عمومًا: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ}، فكان الجزاء للذين استقاموا أعلى، فإن ذلك أعم من مجرد الفاكهة، فالفاكهة ليست إلا جزءًا مما تشتهي النفس.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن هؤلاء الذين استقاموا على الشرع أبعدوا أنفسهم عن الشهوات وحرموها كثيرا مما كانت تطلب، فأطلقها الله لهم في الآخرة بمقابل الحرمان في الدنيا فقال: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ}.
وقد تقول: وما الفرق بين ما تشتهي وما تدعي؟
والجواب: أن ما تدعيه معناه: ما تريده وما تطلبه بالقول، وما تشتهيه: هو ما تريده النفس سواء طلبته أم لم تطلبه.
فقد تشتهي النفس شيئًا ولا تطلبه لأسباب عدة، فذكر تعالى أن لهؤلاء الأمرين كليهما، فإذا اشتهت أنفسهم شيئًا كان لهم ذلك وإن لم يطلبوه. فإنه يكفي أن يخطر في أنفسهم خاطر رغبة في شيء فيحققه الله لهم وإن لم تجر ألسنتهم بذكره. ولهم أيضًا ما يطلبون، فذكر ما يدور في النفس وما يطلبه اللسان، والله أعلم.
(1) ينظر الكشاف 2/591.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 277 إلى ص 281.
الوقفة كاملة
|
| ١٦٨ |
{وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68)}
والمعنى أن الذي يعمر لا بد أن ينتكس في خلقه إلى أسفل، فبعد أن كان يرتقي في قواه العقلية والبدنية سيأخذ بالانتكاس إلى أسفل، فيبدأ بالضعف والوهن في الجسم والعقل، حتى يرد إلى أرذل العمر فلا يعلم من بعد علم شيئًا.
إن ارتباط هذه الآية بما قبلها واضح، فإن فيها دليلا على قدرته تعالى أن يفعل ما ذكره من الطمس على الأعين، والمسخ على المكانة فلا يستطيعون حراكًا.
جاء في (الكشاف): " {نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} نقلبه فيه فنخلقه على عكس ما خلقناه من قبل، وذلك أنا خلقناه على ضعف في جسده، وخلو من عقل وعلم، ثم جعلناه يتزايد وينتقل من حال إلى حال، ويرتقي من درجة إلى درجة، إلى أن يبلغ أشده ويستكمل قوته، ويعقل ويعلم ما له وما عليه، فإذا انتهى نكسناه في الخلق فجعلناه يتناقص حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبي في ضعف جسده وقلة عقله وخلوه من العلم، كما ينكس السهم فيجعل أعلاه أسفله، قال عز وجل: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} {الحج: 5}، {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} {التين: 5}، وهذه دلالة على أن من ينقلهم من الشباب إلى الهرم، ومن القوة إلى الضعف، ومن رجاحة العقل إلى الخرف وقلة التمييز، ومن العلم إلى الجهل بعدما نقلهم خلاف هذا النقل وعكسه، قادر على أن يطمس على أعينهم، ويمسخهم على مكانتهم، ويفعل بهم ما شاء وأراد... أفلا يعقلون" (۱).
وقوله: {أَفَلَا يَعْقِلُونَ}: "أي أيرون ذلك فلا يعقلون أن من قدر على ذلك يقدر على ما ذكر من الطمس والمسخ، وأن عدم إيقاعهما لعدم تعلق مشيئته تعالى بهما" (2).
وقد قال: (نعمره وننكسه) بالفعل المضارع، ولم يقل: (ومن عمرناه نكسناه) للدلالة على الاستمرار، وأن هذا قانون الحياة. ولو قال: (ومن عمرناه نكسناه) لم يدل على الاستمرار، بل دل ذلك على حالة ماضية.
وقد أسند التعمير والتنكيس إلى ذاته سبحانه للدلالة على أن هذا من فعله وقدرته في البدء والختام، وأنه قادر أن يطمس على الأعين، وأن يمسح على المكانة. ولو قال (ومن يعمر ينكس) بالبناء للمجهول لم يدل على أن ذلك من فعله سبحانه، ولم يرتبط ذلك الارتباط بما قبله، ولا يكون فيه دليل على ما تقدم؛ لأنه لم يسند ذلك إلى نفسه.
وقال: {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} فجاء بالفاء الدالة على السبب، أي: أفلا يكون ذلك سببًا لأن يعقلوا ويتفكروا. وفيه تقريع لمن لا يعقل ويتفكر. وقال: (يعقلون) ولم يقل: (يعلمون) لأن العقل كاف لمعرفة ذلك والاستدلال به وإن لم يكن صاحبه ذا علم. فهو من الأمور الظاهرة التي لا تحتاج إلى غير العقل.
وقد تقول: لقد قال في موطن سابق من السورة: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} وقال ههنا: {أَفَلَا يَعْقِلُونَ} فما الفرق؟
والجواب: أن الآية السابقة تتكلم على أمور ماضية، فإنه خطاب من رب العزة يوم القيامة عما فعله بنو آدم في الدينا، فقد قال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ....} فناسب أن يقول: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} ولا يناسب أن يقول: (أفلا تعقلون).
أما هنا فالكلام على أمر مشاهد حاضر يرونه في حياتهم يعيشونه أو يعيشون معه فناسب قوله: {أَفَلَا يَعْقِلُونَ}ولا يناسب غيره، فلا يصح أن يوضع أحدهما مكان الآخر.
(1) الكشاف 2/592 – 593، وانظر البحر المحيط 7/345.
(2) روح المعاني 23/46.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 319 إلى ص 321.
الوقفة كاملة
|
| ١٦٩ |
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ}
بعد أن ذكر أن آيات الله المنزلة ليست بشعر، وأن الرسول ليس بشاعر، وإنما هي ذكر وقرآن مبين، لفت نظرهم إلى آيات الله في خلقه، فذكر أقرب شيء إليهم وألصقه بحياتهم وهي الأنعام، فقال: أولم يروا إلى هذه الأنعام وإلى قدرة خالقها فيذكروا نعمة ربهم عليهم بها فيشكروه عليها ويفردوه بالعبادة؟
{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71)}
{أَوَلَمْ يَرَوْا}
يرد في القرآن الكريم التعبير (أولم يروا) بالواو بعد همزة الاستفهام، وقد يرد (ألم يروا) من دون واو كما مر في هذه السورة في قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ}، وهذه الواو عند النحاة هي واو العطف، وهي تعطف على مذكور، وقد تعطف على مقدر.
فالمعطوف على المذكور نحو قولنا: (ألم تر إلى خالد ماذا فعل، أولم تر إلى أخيه كيف أنكر عليه؟) فهذا عطف على مذكور.
أما المعطوف على المقدر فهو قسمان:
قسم جرى له ذكر من غيرك فتبني عليه كلامك.
وقسم لم يجر له ذكر صريح ومع ذلك تأتي بالواو على التأويل وتقدير المعني.
فالأول كأن يقول محدثك: رجع خالد من الموصل.
فتقول له: أو زرته بعد عودته؟
فتبني كلامك على ما ذكره المتكلم. جاء في (كتاب سيبويه):
"(هذا باب الواو التي تدخل عليها ألف الاستفهام) وذلك قولك:
هل وجدت فلانة عند فلان؟
فيقول: أو هو ممن يكون عند فلان؟
فأدخلت ألف الاستفهام، وهذه الواو لا تدخل على ألف الاستفهام، وتدخل الألف عليها" (1).
وجاء في (النكت في تفسير كتاب سيبويه) للأعلم الشنتمري:
"فإذا قال القائل: هل وجدت فلانًا عند فلان؟
فقال المجيب: أو هو (2) ممن يكون عنده؟
فكلام المخاطب عطف على كلام المتكلم باستفهام وغير استفهام" (3).
والقسم الآخر كما في الآية هذه، وكقوله تعالى في سورة الملك: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} {الملك: 19} يبني ذلك على ما تقدم من الأمور المشاهدة المعلومة فيعطف عليها.
وقد ذكروا في الفرق بين (أولم تر) و(ألم تر) في القرآن الكريم أن (أولم تر) بالواو إنما تكون لما هو مشاهد، و(ألم تر) إنما تكون في الاستدلال بالنظر العقلي.
وقالوا أيضًا: إن (أولم تر) يستعمل فيما كثر أمثاله في الحياة مما هو
مشاهد.
أما (ألم تر) من دون الواو فهو من باب ما لا يكثر مثله.
جاء في (البرهان): "واعلم أنه قد وقع في القرآن {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا} في بعض المواضع بغير واو كما في الأنعام، وفي بعضها بالواو، وفي بعضها بالفاء (أفلم يروا).
وهذه الكلمة تأتي على وجهين:
أحدهما: أن تتصل بما كان الاعتبار فيه بالمشاهدة، فيذكر بالألف والواو ولتدل الألف على الاستفهام، والواو على عطف جملة على جملة قبلها، وذلك الفاء لكنها أشد اتصالًا بما قبلها.
والثاني: أن يتصل بما الاعتبار فيه بالاستدلال، فاقتصر على الألف دون الواو والفاء ليجري مجرى الاستئناف.
ولا ينتقض هذا الأصل بقوله في النحل: {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ} {النحل: 79}، لاتصالها بقوله: {واللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} {النحل: 78}، وسبيلها الاعتبار بالاستدلال فبني عليه {أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ}" (4).
وجاء في (درة التنزيل): "وكل موضع فيه بعد ألف الإنكار واو ففيه تبكيت على ما يسهل الطريق إلى ما بعد الواو فالاعتبار لكثرة أمثاله كقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} {الشعراء: 7}، كأن قائلاً قال: كذبوا الرسل وغفلوا عن الفكر والتدبر فقال: فعلوا ذلك ولم ينظروا إلى المشاهدات التي تنبه الفكر فيها من الغفلة.
وكذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ} {الملك: 18 - 19}، كأنه قال: كذبوا ولم ينظروا إلى ما يردع عن الغفلة من الفكر في المشاهدات... وكل ما فيه واو مثل (أولم يروا) فهو تنبيه على ما تقدمه في التقدير أمثال له منبهة لكثرتها فالتبكيت فيه أعظم، فهذا كله في المشاهد وما في حكمه.
وما ليس فيه واو مثل (ألم يروا) فهو ما لم يقدر قبله ما يعطف عليه ما بعده، لأنه من باب ما لا يكثر مثله، وذلك مما يؤدي إلى علمه بالاستدلالات كقوله في سورة الأنعام {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا} إلى قوله: {فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ} {الأنعام: 6}، وهذا ما لم يشاهدوه ولكن علموه" (5).
وقد قال في آية (يس) هذه (أولم) بالواو؛ لأنه ذكر أمرًا يقع الاستدلال فيه بالمشاهدة كأنه قال: إن ما ذكرناه من الآيات والدلائل لم يهدهم إلى الحق ويردعهم عن الشرك أو لم يروا إلى ما يشاهدونه كثيرًا ويعيشون معه وينتفعون به وهو الأنعام كيف ذللها الله لهم وسخرها لمنفعتهم؟
وبذلك يوجه أنظارهم إلى ما هو كثير المشاهدة فيستدل به.
ونحو ذلك أن تحاج أحدًا وتأتي له بالبراهين والأدلة فلم يقتنع فتأتي له ببرهان ظاهر الدلالة سهل المسلك كثير الوقوع.
جاء في (روح المعاني): "(أولم يروا) الهمزة للإنكار والتعجيب، والواو للعطف على جملة منفية مقدرة متتبعة للمعطوف، أي: ألم يتفكروا، أو ألم يلاحظوا أو ألم يعلموا علمًا يقينًا مشابهًا للمعاينة. زعم بعضهم أن هذا عطف على قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا} إلخ، والأول للحث على التوحيد بالتحذير من النقم، وهذا بالتذكير بالنعم المشار إليها بقوله تعالى: {أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ} أي لأجلهم وانتفاعهم" (6).
(1) الكتاب 1/491.
(2) في المطبوع (أهو) من دون واو. والصواب بالواو كما في كتاب سيبويه وكما يدل عليه الكلام بعد.
(3) النكت 2/809.
(4) البرهان 4/150.
(5) درة التنزيل 108 – 109، وانظر ملاك التأويل 1/282 – 283.0
(6) روح المعاني 23/50.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 332 إلى ص 336.
* * *
{أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ}
أسند الخلق إلى نفسه فقال: {أَنَّا خَلَقْنَا} ولم يبنه للمجهول فيقول (خلق) كما قال في مواطن أخرى من نحو قوله: {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} {النساء: 28}، وذلك أن هذا من باب التفضل والإنعام، والقرآن الكريم يسند النعمة والتفضل والخير إلى نفسه سبحانه. ثم إنه لو بناه للمجهول لم يدل على أن الخالق هو الله سبحانه. ولا يتناسب ذلك مع السياق الذي وردت فيه الآية والذي أراد الله فيه أن يظهر آياته ونعمه على خلقه ليعبدوه ويوحدوه فتكون الجهة مجهولة.
ثم إنه قال: {أَفَلَا يَشْكُرُونَ}، وإذا كان الفاعل مجهولًا كانت الجهة التي يوجه إليها الشكر مجهولة فلا يعرفون الجهة التي ينبغي أن يقدموا لها الشكر.
وقد تقول: لقد أسند الخلق هنا إلى ضمير المتكلم، وأسنده في سورة النحل إلى ضمير الغائب فقال: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} {النحل: 5} مع أن الموطنين متشابهان، فما الفرق؟ ولم ذاك ؟
فنقول: إن كل تعبير مناسب لما ورد فيه من أكثر من وجه.
من ذلك أن السياق في سورة النحل مبني على الإسناد إلى ضمير الغيبة، بل إن جو السورة مبني على ذلك، قال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ... خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ... خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ... وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا... وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ... هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً... يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ... وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ... وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ... وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} {النحل: 2 – 10}.
وغير ذلك.
وأن السياق في سورة (يس) مبني على الإسناد إلى ضمير المتكلم، وأن جو السورة كذلك. قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا... وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا... إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ... إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ... وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ... أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا... وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا... وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ... وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ... الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ... وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ... أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ... وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ... أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ}
إلى آخره.
وغير ذلك وغيره.
فناسب كل تعبير الموطن الذي ورد فيه.
ثم إن ما ورد في (يس) أكثر تكريمًا وتفضلاً مما ورد في النحل فأسنده إلى نفسه. وهذا هو الخط العام في إسناد النعمة والخير والتفضل.
وإن الآيات التي ورد فيها كل تعبير يوضح ذاك.
قال تعالى في (يس): {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ}.
وقال في سورة النحل: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} {النحل: 5 – 7}.
فقد ورد ضمير المتكلم الذي يعود على الله سبحانه أربع مرات في (يس) وهي:
أنا، خلقنا، أيدينا، ذللنا.
ولم يرد ضمير الغيبة الذي يعود على الله سبحانه إلا مرة واحدة في النحل وهو الضمير المستتر في (خلقها).
ثم لننظر إلى مواطن التكريم في الموضعين:
1- قال في (يس): {خَلَقْنَا لَهُمْ} فجعل الخلق لهم.
في حين قال في النحل: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا}، ولم يقل: (لكم) وإنما قال: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} (1).
2- قال في (يس): {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} للدلالة على الاهتمام والتكريم، كما تقول: هذا صنعته لك بيدي.
ولم يقل مثل ذلك في النحل.
3- قال في (يس): {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} فملكها لهم، ولم يذكر في النحل أنه ملكها لهم.
4- قال في (يس): إنه ذللها لهم فقال: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} ولم يقل مثل ذلك في النحل.
5- ذكر في (يس) أن منها ركوبهم، وذكر في النحل أنها تحمل أثقالهم في الأسفار.
6- ذكر في (يس) أن لهم فيها مشارب، ولم يذكر مثل ذلك في النحل.
7- ذكر في (يس) والنحل أنهم منها يأكلون.
8- ذكر في (يس) والنحل أن لهم فيها منافع.
9- ذكر في النحل أن لهم فيها دفئًا، ولم يذكر ذلك في (يس).
وهو يدخل في المنافع التي ذكرها في (يس).
10- ذكر في النحل أن لهم فيها جمالًا حين يريحون وحين يسرحون.
ونلخص ما تفرد به كل موضع من الموضعين.
ما تفردت به (يس):
1- أن الخلق لهم.
2- تمليكها إياهم.
3- تذليلها لهم.
4- الركوب.
5- المشارب.
ما تفردت به النحل:
1- الدفء.
2- حمل الأثقال.
3- الجمال.
وأظن أن معرفة أي الموطنين أكثر تكريمًا وتفضلاً مما لا يحتاج إلى بيان.
هذا إضافة إلى أنه يحسن بنا أن نذكر أن ما تفردت به النحل يدخل في المنافع التي ذكرها في (يس) بقوله: {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ}.
أما ما تفردت به (يس) فقد لا يدخل في المنافع كالتمليك والتذليل وأن الخلق لهم.
فناسب كل تعبير الموضع الذي ورد فيه من كل وجه، والله أعلم.
وقد تقول: لقد استعمل القرآن في (يس) الفعل (خلق) فقال: {أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ}، واستعمل في سورة (غافر) الفعل (جعل) فقال: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} {غافر: 79}، فلم ذاك؟ وما الفرق؟
والجواب: أنه قال في (يس): {أَفَلَا يَشْكُرُونَ} وقال في غافر: {فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ}، فجاء في (يس) بما هو أدعى للشكر.
فالقول: (خلقته لك) أدل على الاهتمام والعناية من (جعلته لك) ذلك أن الخالق له إنما جعله له ابتداء قبل إيجاده، أما الجعل فلا يشترط فيه ذاك.
ونحو ذلك أن تقول: (صنعت هذه السيارة لك) أو (جعلت هذه السيارة لك).
فقولك: (جعلتها لك) معناه: (ملكتها إياك) وجعلتها لتستفيد منها، ومعلوم أنها لم تصنع لك ابتداء.
أما قولك: (صنعتها لك) فمعناه أنها صنعت لك ابتداء لا لغيرك.
فقوله: {خَلَقْنَا لَهُمْ} أدل على الاهتمام والعناية وأدعى إلى الشكر.
ثم إن ما ورد في الآيتين يوضح ذلك:
قال تعالى في سورة غافر: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آَيَاتِهِ فَأَيَّ آَيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ} {غافر: 79 – 81}.
فالذي ذكره في (يس) أدعى إلى الشكر مما في (غافر)، ذلك أنه قال في (يس):
{خَلَقْنَا لَهُمْ}، {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}، {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ}، {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ}، {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ}، {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}، {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ}، {وَمَشَارِبُ}.
في حين قال في غافر:
{جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ}، {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا}، {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ}، {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ}، {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ}.
فزاد في (يس) على ما في غافر:
{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}، {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ}، {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} وزاد (المشارب) على المنافع، فكان ما في (يس) أدعى إلى الشكر.
ومما حسن ذلك أيضًا أنه تكرر ذكر الجعل في (غافر)، وتكرر ذكر الخلق في (يس) فقال في غافر: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} {غافر: 61}.
وقال: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا} {غافر: 64}.
فناسب قوله: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ} {غافر: 79}.
وقال في يس: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا}.
وقال: {أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ}
وقال: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ}
فناسب ذكر الخلق في (يس) وذكر الجعل في (غافر) من كل وجه، والله أعلم.
(1) انظر البحر المحيط 5/474.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 336 إلى ص 342.
* * *
{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا}
معنى {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} أي مما تولينا نحن إحداثه وعمله من غير واسطة ولا شركة ولا يمكن لغيرنا أن يعمله (1). وأسند العمل إلى اليد لأن الأشياء المصنوعة إنما تباشر باليد فيقال: هذا مما عملته يدي. فعبر عن ذلك بما يقرب من أفهامهم.
جاء في (البحر المحيط): "لما كانت الأشياء المصنوعة لا يباشرها البشر إلا باليد عبر لهم بما يقرب من أفهامهم بقوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} أي مما تولينا عمله ولا يمكن لغيرنا أن يعمله، فبقدرتنا وإرادتنا برزت هذه الأشياء لم يشركنا فيها أحد" (2).
وجاء في (فتح القدير): "{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} أي مما أبدعناه وعملناه من غير واسطة ولا شركة، وإسناد العمل إلى الأيدي مبالغة في الاختصاص والتفرد بالخلق كما يقول الواحد منا: (عملته بيدي) للدلالة على تفرده بعمله" (3).
و(ما) تحتمل أن تكون اسمًا موصولاً فيكون المعنى: (خلقنا لهم من الذي عملته أيدينا) أي من الأشياء التي عملتها أيدينا.
وتحتمل أن تكون مصدرية فيكون المعنى: (خلقنا لهم من عمل أيدينا). وكلاهما مراد ولكل منهما دلالة.
ولو عبر عن ذلك بـ (الذي) فقال: (من الذي عملته أيدينا) لكان نصا في الموصولية الاسمية ولم يحتمل المصدرية.
وكذلك لو قال: (مما عملته أيدينا) فذكر العائد.
ولم يقل أيا منهما للتوسع في المعنى والله أعلم.
ثم إنه قال: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} ولم يقل: (ما عملت أيدينا) ليدل على أن هذا بعض ما عملته يد القدرة الإلهية. ولو قال: (ما عملت) لاقتصر العمل على الأنعام. فما قاله أدل على التنوع وأدل على القدرة والتكريم.
وقال: (أيدينا) بصيغة الجمع؛ ذلك لأنه ذكر نفسه بصيغة الجمع {أَنَّا خَلَقْنَا}. والملاحظ في القرآن أنه إذا ذكر الله نفسه بصيغة الإفراد أفرد اليد أو ثناها فيقول {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} {الفتح: 10}، ويقول: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} {المائدة: 64}، ويقول: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} {ص: 75}. وإذا ذكر نفسه بصيغة الجمع جمع اليد كقوله تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} وهو المناسب.
{أَنْعَمْنَا} الأنعام جمع نم وهي البقر والغنم والإبل (4). وهو مفعول (خلقنا) وقدم الجارين على المفعول للاهتمام بشأنهما فقال: {خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} فقدم ما يتعلق بتكريمهم وهو (لهم) أي لأجلهم للدلالة على الاهتمام بالإنعام عليهم وتكريمهم، ولأنهم العلة في خلق الأنعام، فقدم العلة على المعلول. ووضع الأنعام بجنب ما عملته الأيدي لأنها بعض منه.
(1) انظر الكشاف 2/593، البحر المحيط 7/347، فتح القدير 4/370.
(2) البحر المحيط 7/347.
(3) فتح القدير 4/370.
(4) فتح القدير 4/370.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 342 إلى ص 344.
* * *
{فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ}
قدم الجار والمجرور (لها) على (مالكون) للاهتمام بشأن المملوك، وذلك لأنها من أهم أموالهم وأكرمها عليهم فقدمها للاهتمام بها.
ولا يفيد هذا التقديم قصرًا. ونحو هذا التقديم مما لا يفيد القصر قوله تعالى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} {يوسف: 72}، فقدم (به) على (زعيم) لأهمية حمل البعير آنذاك، وليس معناه: أنا زعيم به دون غيره. ونحو هذا أن يقول شخص: (من يتكفل بديني وأهلي وأنا أكفيكم أمر هذا الفاتك قاطع الطريق؟) فيقول له قائل: (أنا بذلك كفيل). فليس معناه أنا كفيل بذاك دون غيره، وإنما قدمه للاهتمام، فإن هذا الأمر هو ما أهمه وهو الذي يحول بينه وبين تولي أمر قاطع الطريق فيقدمه للاهتمام. هذا علاوة على رعاية الفاصلة.
وقال: (مالكون) بالاسم، ولم يقل: (يملكون) للدلالة على ثبات الأمر واستقراره. ولو قال: (يملكون) لاحتمل عدم الثبوت والحصول، وأنهم غير مالكيها الآن، وأنهم سيملكونها في المستقبل.
جاء في (روح المعاني) في قوله: {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ}: "وقدم لرعاية الفواصل مع الاهتمام، وإيثار الجملة الاسمية للدلالة على استقرار مالكيتهم لها واستمرارها" (1).
وتمليكها للإنسان من تمام النعمة عليهم، فلو خلقها لهم من دون تمليك لما كان بها تمام الانتفاع.
جاء في (التفسير الكبير ): "قوله تعالى: {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ}: إشارة إلى إتمام الإنعام في خلق الأنعام، فإنه تعالى لو خلقها ولم يملكها الإنسان ما كان ينتفع بها" (2).
وجاء في (الكشاف): "أي خلقناها لأجلهم فملكناها إياهم فهم متصرفون فيها تصرف الملاك مختصون بالانتفاع فيها لا يزاحمون، أو فهم لها ضابطون قاهرون" (3).
(1) روح المعاني 23/51.
(2) التفسير الكبير 26/106.
(3) الكشاف 2/593.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 344 إلى ص 345.
الوقفة كاملة
|
| ١٧٠ |
{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)}
ذكرت هذه الآية مفاتح الغيب.
فبدأت بعلم الساعة وهو أمر اختص الله به فلم يطلع عليه أحدًا كما قال تعالى: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} {الأحزاب: 63}
وقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} {الأعراف: ۱۸۷}.
وقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} {النازعات: 42 – 44}.
لقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} فقدم الخبر (عنده) على المبتدأ (علم الساعة)، وهذا التقديم يفيد الاختصاص، أي لا يعلمها إلا هو، وقد أكد ذلك بإن.
ثم قال: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} فعطف على جملة الخبر، والمعنى: وأن الله ينزل الغيث. فجعل الخبر جملة فعلية مسندة للاسم، وهذا يفيد الاختصاص أيضًا.
لقد قال: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} فذكر تنزيل الغيث، ولم يقل: (ويعلم نزول الغيث) أو نحو ذلك؛ لأن تنزيل الغيث هو الذي يعني الخلق، إذ به تبدأ حياتهم وبه تتم مصالحهم. فاختار ما هو أدل على النعمة.
وقال: (ينزل) بالمضارع؛ لأن ذلك يتكرر ويتجدد.
ثم قال: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} وهذا العلم عام يشمل الجنس وغير ذلك من نحو كونه تامًا أو ناقصًا، وذكيًا أو بليدًا، وطويلًا أو قصيرًا، وبعلم استعداده الجسمي والنفسي وكل ما يتعلق بأحواله، فلا يختص العلم بالجنس.
وهذا يعم جميع ما في الأرحام على مدى الدهر. وجاء بالفعل المضارع للدلالة على تكرار هذا العلم واستمراره.
جاء في (روح المعاني): "{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} أي أذكر أم أنثى، أتام أم ناقص، وكذلك ما سوى ذلك من الأحوال... وخولف بين {عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} وبين هذا، ليدل في الأول على مزيد الاختصاص اعتناء بأمر الساعة ودلالة على شدة خفائها، وفي هذا على استمرار تجدد المتعلقات بحسب تجدد المتعلقات مع الاختصاص، ولم يراع هذا الأسلوب فيما قبله، بأن يقال: ويعلم الغيث مثلًا إشارة بإسناد التنزيل إلى الاسم الجليل صريحًا إلى عظم شأنه لما فيه من كثرة المنافع لأجناس الخلائق وشيوع الاستدلال بما يترتب عليه من إحياء الأرض على صحة البعث المشار إليه بالساعة في الكتاب العظيم" (1).
وجاء في (التحرير والتنوير): "وفي كلمة (عنده) إشارة إلى اختصاصه تعالى بذلك العلم؛ لأن العندية شأنها الاستئثار، وتقديم (عنده) وهو ظرف مسند على المسند إليه يفيد التخصيص...
وجملة {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} عطف على جملة الخبر، والتقدير: وإن الله ينزل الغيث، فيفيد التخصيص بتنزيل الغيث... وفي اختيار الفعل المضارع إفادة إلى أنه يجدد إنزال الغيث المرة بعد المرة عند احتياج الأرض... وإذ قد جاء هذا نسقا في عداد الحصر كان الإتيان بالمسند فعلًا خبرًا عن مسند إليه مقدم مفيدًا للاختصاص بالقرينة...
وعطف عليه: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} أي ينفرد بعلم جميع أطواره... وجيء بالمضارع لإفادة تكرر العلم بتبدل تلك الأطوار والأحوال" (2).
(1) روح المعاني 21/109.
(2) التحرير والتنوير 21/196 – 197.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 517 إلى ص 519.
* * *
ثم قال: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}.
فذكر الغد لينفي القياس على كسب يومه فلا يقول: سأكسب غدًا مثل كسب اليوم، فإن قسمًا من أصحاب الأجور الثابتة قد يظن أن كسبه غدًا ككسبه اليوم وهو لا يعلم ماذا يخبئ له الغد.
ثم إن الكسب لا يتعلق بأمور المعاش فقط، وإنما هو عام في عموم ما يكسب، فقد يكون الكسب في أمور المعاش وما يتعلق به، وقد يكون في الأعمال من الحسنات والسيئات فذلك كله كسب. وقد سمى الله الحسنات والسيئات كسبًا، قال تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} {البقرة: 286}، وقال: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّار} {البقرة: 81}.
والكسب قد يكون للقلب وقد يكون لغيره، قال تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} {البقرة: 225} فأثبت الكسب للقلب، وقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} {الشورى: 30} فأثبته لغيره.
فمن يعلم ماذا يكسب غدا؟!
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 519 إلى ص 520.
* * *
{وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}
وهذا مما لا يعلمه أحد إلا الله، فإنه حتى المريض على فراشه قد ينتقل إلى الحمام فيموت، وقد ينتقل من مكان إلى آخر داخل البيت فيموت. فلا يعلم بأي أرض يموت، فكيف بالصحيح الذي لا يدري أيموت في بيته أم في مكان عمله أم في الطريق أم خارج بلده.
ثم لننظر الآية من حيث التقديم والتأخير، فإنه بدأ بذكر الساعة وهي رأس المغيبات وقد جعلها بعد قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ }وهو يوم القيامة فناسب ذكرها ما سبق.
ثم ذكر بعدها تنزيل الغيث، وهو أسبق المذكورات بعده وجودًا، فنزول الغيث يسبق في الوجود ما في الأرحام فإنه به يتحصل المشروب والمطعوم لما في الأرحام.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه كثيرًا ما يستدل القرآن بنزول الغيث على الساعة والنشور، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} {ق: 9 – 11}، فجعله بعد الكلام على الساعة.
ثم ذكر بعد ذلك ما في الأرحام وهو ما قبل الولادة، فقوله: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} له ارتباط بذكر الساعة قبله وارتباط بما في الأرحام بعده.
ثم ذكر بعده الكسب وهو فيما بعد الولادة، فإن الكاسب لا يكسب إلا بعد الولادة.
ثم ذكر الموت آخرًا.
فرتبها بحسب الأسبقية.
ثم لننظر من ناحية أخرى في هذه الآية، فإن فيها إثباتًا لعلم الله ونفيًا لعلم من عداه، فقد قال: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} وهو إثبات لعلم الله وقدرته.
ثم قال: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} وهذا نفي لعلم المخلوقات.
ثم ختم الآية بقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} فأثبت له العلم والخبرة، وهذا يتناسب مع ذكر علمه بمفاتيح الغيب.
واجتماع العلم والخبرة من كمال الاتصاف، فإن من تمام العلم وكماله أن تكون معه الخبرة.
وقد ذكر الوصفين بصيغة المبالغة للدلالة على كثرة علمه وخبرته وسعتهما.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 520 إلى ص 522.
الوقفة كاملة
|