عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ ﴿٢٩﴾    [يس   آية:٢٩]
{إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)} أي ما كانت العقوبة أو الأخذة إلا صيحة واحدة (1)، واسم كان ضمير مستتر. ونفي بإن ولم ينف بما، ذلك لأن (إن) أقوى من (ما) (2) ولذلك كثيرًا ما تقترن بإلا لإفادة القصر. ويتبين ذلك من مواطن اجتماعهما. قال تعالى: {مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} {يوسف: 31}، فإثبات الملكية ليوسف يحتاج إلى قوة ولذلك نفى بما أولًا ثم نفى وأثبت بإن وإلا لما هو أقوى. ونحو ذلك ما ذكرناه في قوله: {مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ} فنفى أولًا بما، ثم نفى وأثبت بإن وإلا. ونحوه ما مر قريبًا وهو قوله تعالى: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} {يس: 28 - 29}، فنفى بما أولًا، ثم نفى وأثبت بإن وإلا. وقوله: (واحدة) نعت مؤكد، وقد أفاد أمرين: بيان بالغ قدرة الله، وبيان هوانهم وضعفهم، فإنهم لم يحتاجوا إلى أكثر من صيحة واحدة. وأضمر اسم (كان) لظهوره ووضوحه، فإنه دل عليه المقام وإن لم يجر له ذكر. وجاء بالفاء وإذا الفجائية للدلالة على سرعة هلاكهم، فإن الفاء تفيد الترتيب والتعقيب، وإذا تفيد المفاجأة، وجاء بهما معًا للدلالة على سرعة المفاجأة بحيث لم تكن بين الصيحة وخمودهم مهلة. ولا يؤدي أي حرف هذا المؤدي، فلو جاء بثم فقال: (ثم إذا هم خامدون) لدل على أن خمودهم إنما حصل بعد مدة من الصيحة، نظير قوله تعالى: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ} {الروم: 20}. ولو جاء بالواو لم يدل ذلك على التعقيب أيضًا ولم يدل أن ذلك إنما كان بسبب الصيحة، فإن الواو لا تفيد السبب بل تفيد الإتباع، فجاء بالفاء للدلالة على معنيي السبب والسرعة، ولا يؤدي أي حرف مؤداها. جاء في (التفسير الكبير): "وقوله: (واحدة) تأكيد لكون الأمر هينًا عند الله. وقوله: {فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} فيه إشارة إلى سرعة الهلاك، فإن خمودهم كان مع الصيحة وفي وقتها لم يتأخر" (3). وجاء في (البحر المحيط) في قوله: {فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} :"أي فاجأهم الخمود إثر الصيحة لم يتأخر" (4). وجاء في(روح المعاني): "و(إن) نافية، و(كان) ناقصة، واسمها مضمر، و(صيحة) خبرها، أي ما كانت هي، أي الأخذة أو العقوبة، إلا صيحة واحدة... و(إذا) فجائية وفيها إشارة إلى سرعة هلاكهم بحيث كان مع الصيحة. وقد شبهوا بالنار على سبيل الاستعارة المكنية" (5). وقال (خامدون) إشارة إلى سرعة هلاكهم وانطفاء حياتهم كانطفاء السراج. واختيار هذا الوصف أحسن اختيار، فإنه مأخوذ من خمود النار وهو سكون لهبها وذهاب حسيسها، يقال: "خمدت النار تخمد خمودًا: سكن لهبها ولم يطفأ جمرها، وهمدت همودًا: إذا أطفئ جمرها البتة، وأخمد فلان ناره، وقوم خامدون: لا تسمع لهم حسًا. جاء في التنزيل العزيز {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} قال الزجاج: فإذا هم ساكتون قد ماتوا وصاروا بمنزلة الرماد الخامد الهامد" (6). وفي (القاموس المحيط): "خمدت النار: كنصر وسمع خمدًا وخمودًا سكن لهبها، ولم يطفأ جمرها" (7). وفي (المصباح المنير): "خمدت النار خمودًا من باب قعد: ماتت فلم يبق منها شيء، قيل: سكن لهبها وبقي جمرها" (8). وفي (أساس البلاغة): "نار خامدة وقد خمدت خمودًا: سكن لهبها وذهب حسيسها" (9). يتضح مما مر أن الفعل (خمد) يحمل المعاني الآتية: 1- يقال: خمدت النار، أي سكن لهبها ولم يطفأ جمرها. 2- وقيل أيضًا: خمدت النار، إذا ماتت ولم يبق منها شيء. 3- ويقال: خمد القوم، إذا سكتوا فلا تسمع لهم حسًا. 4- وخمد القوم: سكتوا وماتوا وصاروا بمنزلة الرماد الخامد الهامد. أما همود النار فهو انطفاؤها وعدم بقاء أثر منها. جاء في (لسان العرب): "وهمدت النار تهمد همودًا: طفئت طفوءًا وذهبت البتة فلم يبين لها أثر... الأصمعي: خمدت النار: إذا سكن لهبها، وهمدت همودًا إذا طفئت البتة" (10). وجاء في (القاموس المحيط): "الهمود: الموت وطفوء النار أو ذهاب حرارتها" (11). وجاء في (المصباح المنير): "همدت النار همودًا من باب قعد: ذهب حرها ولم يبقى منها شيء" (12). واختيار الخمود على الهمود أنسب من عدة نواح منها: 1- أن في ذلك إشارة إلى سرعة سكونهم وانقطاع حركتهم، فإن الخمود أسرع من الهمود؛ ذلك أن إطفاء السراج والشعلة إنما يكون في أسرع وقت. جاء في (التفسير الكبير): "والخمود في أسرع زمان فقال: (خامدين) بسبها، فخمود النار في السرعة كإطفاء سراج أو شعلة" (13). 2- بيان أن حركتهم وأصواتهم قد خمدت فلا تسمع لهم حسًا وذلك بعد التوعد والتهديد والضجيج والصخب الذي ملأ القرية، وبعد البطش والتنكيل بالرجل الناصح. وبعد كل ذلك إذا هم ساكتون خامدون لا تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزًا. 3- ثم إن اختيار الخمود مناسب لقوله: {إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} وذلك أنه إذا كان في موضع ما ضجيج وصياح وصخب فإنه لا يسكته إلا صوت أو صيحة أعلى منه. فصاح بهم صيحة أسكتتهم وأخمدتهم. 4- إن في اختيار الخمود على الهمود إشارة إلى البعث بعد الموت، فإن الخمود لا يعني الفناء وإنما يعني ذهاب اللهب والحرارة وبقاء الجمر، فكأن ذلك إشارة إلى مفارقة الأرواح للأبدان وليس فناءها. حاء في (روح المعاني): "ولعل في العدول عن (هامدون) إلى (خامدون) رمزًا حفيًا إلى البعث بعد الموت" (14). 5- اختيار الخمود على الهمود في صورة فنية أخرى، وهي صورة الجمر الذي يغطيه الرماد، وهي شبيهة بحالة الجثة التي يعلوها تراب القبر، وفيها إشارة إلى أنهم يحترقون بالنار في داخلها وإن كان لا يظهر ذلك للناظرين. 6- ومن معاني الخمود: الموت أيضًا كالهمود، فأعطى الخمود معنى الهمود مع معان أخرى لا يؤديها الهمود كسرعة الهلاك والسكوت بعد الصيحة، والرمز الخفي إلى البعث بعد الموت وأن ظاهرهم ساكن بارد وحقيقتهم نار تحرق. فكان اختيار الخمود أولى والله أعلم. (1) الكشاف 2/586. (2) انظر معاني النحو 4/235. (3) التفسير الكبير 26/62. (4) البحر المحيط 7/332. (5) روح المعاني 23/2. (6) لسان العرب (خمد) 4/144. (7) القاموس المحيط (خمد) 1/292. (8) المصباح المنير (خمد) 1/181. (9) أساس البلاغة (خمد) 250. (10) لسان العرب 4/448 (همد). (11) القاموس المحيط (همد) 1/348. (12) المصباح المنير (همد) 2/64. (13) التفسير الكبير 26/62. (14) روح المعاني 23/2 – 3. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 137 إلى ص 142.