عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴿٣٤﴾    [لقمان   آية:٣٤]
{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)} ذكرت هذه الآية مفاتح الغيب. فبدأت بعلم الساعة وهو أمر اختص الله به فلم يطلع عليه أحدًا كما قال تعالى: {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} {الأحزاب: 63} وقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} {الأعراف: ۱۸۷}. وقال: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا} {النازعات: 42 – 44}. لقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} فقدم الخبر (عنده) على المبتدأ (علم الساعة)، وهذا التقديم يفيد الاختصاص، أي لا يعلمها إلا هو، وقد أكد ذلك بإن. ثم قال: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} فعطف على جملة الخبر، والمعنى: وأن الله ينزل الغيث. فجعل الخبر جملة فعلية مسندة للاسم، وهذا يفيد الاختصاص أيضًا. لقد قال: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} فذكر تنزيل الغيث، ولم يقل: (ويعلم نزول الغيث) أو نحو ذلك؛ لأن تنزيل الغيث هو الذي يعني الخلق، إذ به تبدأ حياتهم وبه تتم مصالحهم. فاختار ما هو أدل على النعمة. وقال: (ينزل) بالمضارع؛ لأن ذلك يتكرر ويتجدد. ثم قال: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} وهذا العلم عام يشمل الجنس وغير ذلك من نحو كونه تامًا أو ناقصًا، وذكيًا أو بليدًا، وطويلًا أو قصيرًا، وبعلم استعداده الجسمي والنفسي وكل ما يتعلق بأحواله، فلا يختص العلم بالجنس. وهذا يعم جميع ما في الأرحام على مدى الدهر. وجاء بالفعل المضارع للدلالة على تكرار هذا العلم واستمراره. جاء في (روح المعاني): "{وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} أي أذكر أم أنثى، أتام أم ناقص، وكذلك ما سوى ذلك من الأحوال... وخولف بين {عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} وبين هذا، ليدل في الأول على مزيد الاختصاص اعتناء بأمر الساعة ودلالة على شدة خفائها، وفي هذا على استمرار تجدد المتعلقات بحسب تجدد المتعلقات مع الاختصاص، ولم يراع هذا الأسلوب فيما قبله، بأن يقال: ويعلم الغيث مثلًا إشارة بإسناد التنزيل إلى الاسم الجليل صريحًا إلى عظم شأنه لما فيه من كثرة المنافع لأجناس الخلائق وشيوع الاستدلال بما يترتب عليه من إحياء الأرض على صحة البعث المشار إليه بالساعة في الكتاب العظيم" (1). وجاء في (التحرير والتنوير): "وفي كلمة (عنده) إشارة إلى اختصاصه تعالى بذلك العلم؛ لأن العندية شأنها الاستئثار، وتقديم (عنده) وهو ظرف مسند على المسند إليه يفيد التخصيص... وجملة {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} عطف على جملة الخبر، والتقدير: وإن الله ينزل الغيث، فيفيد التخصيص بتنزيل الغيث... وفي اختيار الفعل المضارع إفادة إلى أنه يجدد إنزال الغيث المرة بعد المرة عند احتياج الأرض... وإذ قد جاء هذا نسقا في عداد الحصر كان الإتيان بالمسند فعلًا خبرًا عن مسند إليه مقدم مفيدًا للاختصاص بالقرينة... وعطف عليه: {وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} أي ينفرد بعلم جميع أطواره... وجيء بالمضارع لإفادة تكرر العلم بتبدل تلك الأطوار والأحوال" (2). (1) روح المعاني 21/109. (2) التحرير والتنوير 21/196 – 197. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 517 إلى ص 519. * * * ثم قال: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا}. فذكر الغد لينفي القياس على كسب يومه فلا يقول: سأكسب غدًا مثل كسب اليوم، فإن قسمًا من أصحاب الأجور الثابتة قد يظن أن كسبه غدًا ككسبه اليوم وهو لا يعلم ماذا يخبئ له الغد. ثم إن الكسب لا يتعلق بأمور المعاش فقط، وإنما هو عام في عموم ما يكسب، فقد يكون الكسب في أمور المعاش وما يتعلق به، وقد يكون في الأعمال من الحسنات والسيئات فذلك كله كسب. وقد سمى الله الحسنات والسيئات كسبًا، قال تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} {البقرة: 286}، وقال: {بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّار} {البقرة: 81}. والكسب قد يكون للقلب وقد يكون لغيره، قال تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} {البقرة: 225} فأثبت الكسب للقلب، وقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} {الشورى: 30} فأثبته لغيره. فمن يعلم ماذا يكسب غدا؟! ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 519 إلى ص 520. * * * {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} وهذا مما لا يعلمه أحد إلا الله، فإنه حتى المريض على فراشه قد ينتقل إلى الحمام فيموت، وقد ينتقل من مكان إلى آخر داخل البيت فيموت. فلا يعلم بأي أرض يموت، فكيف بالصحيح الذي لا يدري أيموت في بيته أم في مكان عمله أم في الطريق أم خارج بلده. ثم لننظر الآية من حيث التقديم والتأخير، فإنه بدأ بذكر الساعة وهي رأس المغيبات وقد جعلها بعد قوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ }وهو يوم القيامة فناسب ذكرها ما سبق. ثم ذكر بعدها تنزيل الغيث، وهو أسبق المذكورات بعده وجودًا، فنزول الغيث يسبق في الوجود ما في الأرحام فإنه به يتحصل المشروب والمطعوم لما في الأرحام. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه كثيرًا ما يستدل القرآن بنزول الغيث على الساعة والنشور، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} {ق: 9 – 11}، فجعله بعد الكلام على الساعة. ثم ذكر بعد ذلك ما في الأرحام وهو ما قبل الولادة، فقوله: {وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ} له ارتباط بذكر الساعة قبله وارتباط بما في الأرحام بعده. ثم ذكر بعده الكسب وهو فيما بعد الولادة، فإن الكاسب لا يكسب إلا بعد الولادة. ثم ذكر الموت آخرًا. فرتبها بحسب الأسبقية. ثم لننظر من ناحية أخرى في هذه الآية، فإن فيها إثباتًا لعلم الله ونفيًا لعلم من عداه، فقد قال: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ} وهو إثبات لعلم الله وقدرته. ثم قال: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} وهذا نفي لعلم المخلوقات. ثم ختم الآية بقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} فأثبت له العلم والخبرة، وهذا يتناسب مع ذكر علمه بمفاتيح الغيب. واجتماع العلم والخبرة من كمال الاتصاف، فإن من تمام العلم وكماله أن تكون معه الخبرة. وقد ذكر الوصفين بصيغة المبالغة للدلالة على كثرة علمه وخبرته وسعتهما. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 520 إلى ص 522.