عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ ﴿٣٧﴾    [يس   آية:٣٧]
{وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37)} بعد أن ذكر الأرض واستدل بأحوالها على التوحيد والحشر استدل بالليل والنهار على ذلك فكان استدلاله بالمكان والزمان، فالمكان هو الأرض التي يعيشون عليها، والزمان هو الليل والنهار اللذان يتعاقبان عليهم. جاء في (التفسير الكبير): " لما استدل الله بأحوال الأرض وهي المكان الكلي استدل بالليل والنهار وهو الزمان الكلي، فإن دلالة المكان والزمان مناسبة، لأن المكان لا تستغني عنه الجواهر، والزمان لا تستغنى عنه الأعراض؛ لأن كل عرض فهو في زمان" (1). وقد تقول: لقد قدم الاستدلال بالأرض على الاستدلال باليل والنهار، وفي موطن آخر قدم الليل والنهار على الأرض، فقد قال في سورة (فصلت) {وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} {فصلت: 37 - 39}. فما السبب؟ والجواب: أن السياق في سورة (يس) هو الاستدلال على الحشر، وقد وقعت الآية بعد قوله: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ}. والاستدلال بإحياء الأرض الميتة أدل على ذلك من الاستدلال باليل والنهار وإن كان فيهما استدلال من طريق آخر. أما الكلام في سورة (فصلت) فهو في توحيد الله وإفراده بالعبادة والنهي عن عبادة غيره، وقد كان قسم المشركين يعبدون الشمس والقمر ويسجدون لهما فقال: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} ، فكان تقديم الليل والنهار وآيتيهما اللتين يسجد لهما طائفة من الناس أولى. بل إن السياق إنما هو في عبادة الله وتوحيده، فإنه بعد أن نهى عن السجود للشمس والقمر وعبادتهما ذكر أن الذين عند ربك يعبدون الله ويسبحونه بالليل والنهار. بل إن الأرض التي يعيشون عليها إنما هي خاضعة خاشعة لرب العالمين. واستعمال الخشوع أنسب شيء في هذا المقام العبادة (2). فكان كل تعبير مناسبًا لمكانه الذي ورد فيه. جاء في (التفسير الكبير): أن المقصود في سورة (فصلت): "إثبات الوحدانية بدليل قوله تعالى: {لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ} ثم الحشر بدليل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى} {فصلت: 39}، وههنا المقصود أولًا إثبات الحشر؛ لأن السورة فيها ذكر الحشر أكثر يدل عليه النظر في السورة. وهناك ذكر التوحيد أكثر بدليل قوله تعالى: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} {فصلت: 9} إلى غيره، وآخر السورتين يبين الأمر" (3). والليل والنهار آية دالة على الموت والنشور، فإن الليل كالموت، والنهار كالحياة، والناس في الليل أموات ينشرهم ربهم في النهار كما أخبر سبحانه بقوله: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} {الفرقان: 47}. فكان ذلك مناسبًا للسياق من وجهة ثانية. جاء في (التفسير الكبير): "لو قال قائل: إذا كان المراد منه الاستدلال بالزمان، فلم اختار الليل حيث قال: {وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ}؟ نقول: لما استدل بالمكان الذي هو المظلم وهو الأرض وقال: {وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ} استدل بالزمان الذي فيه الظلمة وهو الليل. ووجه آخر: وهو أن الليل فيه سكون الناس وهدوء الأصوات، وفيه النون – وهو كالموت – ويكون بعده طلوع الشمس كالنفخ في الصور فيتحرك الناس، فذكر الموت كما قال في الأرض: {وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ} فذكر من الزمانين أشبههما بالموت، كما ذكر من المكانين أشبههما بالموت" (4). ومعنى {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} نزيله منه، من (سلخ جلد الشاة) إذا كشطه عنها وأزاله (5). ومعنى (مظلمون) داخلون في الظلام (6)، كما يقال: أصبحنا: أي دخلنا في الصباح، وأعتمنا: أي دخلنا في العتمة، والمعنى أن الليل نزيل عنه النهار فيكون الناس في ظلام. ويفيد هذا التعبير أن الليل مغطى بالنهار، ذلك أنه جعل الليل كالشاة ونحوها، والنهار كالجلد الذي يغطيها ويعلوها، فيسلخ منه النهار كما يسلخ الجلد فيكون تحته الليل، فجعل الليل أصلًا والنهار غلافًا له أو جلدًا. وقد فهم المفسرون ذلك فقالوا: إنه جعل الليل أصلًا. جاء في (البحر المحيط): "واستدل قوم بهذا على أن الليل أصل، والنهار فرع طارئ عليه" (7). وجاء في (روح المعاني): "وفي الآية على ما قال غير واحد دلالة على أن الأصل الظلمة، والنور طارئ عليها يسترها بضوئه" (8). والأمر كذلك فإن النهار إنما يأتي بسب الشمس، فإن ضوء الشمس يعلو الأرض ويغطيها فيكون النهار، فهو يأني من فوق فإذا زالت الشمس وذهب ضوؤها ظهر الأصل وهي الظلمة، فالظلمة هي الأصل والنهار طارئ. ولم يقل: (وآية لهم النهار نسلخ منه الليل فإذا هم مبصرون)، أو فإذا هم (منهرون) أي داخلون في النهار؛ لأن ذلك لا يصح؛ لأن معنى ذلك أن الليل يأتي من فوق ويغطي النور، فإذا زال الليل ظهر النور الذي تحته وهو ضوء الأرض، وهذا لا يصح لأن الأرض مظلمة وليست مضيئة. ثم من المعلوم أن الضوء هو الذي يزيل الظلمة، وليست الظلمة هي التي تزيل النور وتمحوه، ولو قال: (وآية لهم النهار نسلخ منه الليل فإذا هم مبصرون) لكان يعني أن الظلمة تزيل النور، ولا يصح ذلك. وقال: (نسلخ) بإسناد الفعل إلى نفسه، ولم يقل (ينسلخ) ليدل على أن ذلك يجري بفعل الله وقدرته ولم يحصل من نفسه من دون تدبير مدبر ولا فعل فاعل، فيكون ذلك آية على توحيد الله وقدرته. وقال: {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} ولم يقل: (فإذا الأرض مظلمة) ليبين أثر ذلك فيهم وفي حياتهم، فإنهم هم الذين يدخلون في الظلام بعد النهار فيكون ذلك آية لهم، وليبين أثر النعمة عليهم في الضياء والإظلام، فذكر نعمتي الضياء والإظلام عليهم، والنعمة إنم تكون بتعاقبهما لا أن يكون واحد منها سرمدًا إلى يوم القيامة. كما قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ} {القصص: 71 - 72}. وجاء بــ (إذا) التي تفيد المفاجأة للدلالة على سرعة التغير. جاء في (التفسير الكبير): " فإن قيل: فالليل في نفسة آية، فأية حاجة إلى قوله: {نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ} ؟ نقول: الشيء تتبين بضده منافعه ومحاسنه، ولهذا لم يجعل الله الليل وحدة آية في موضع من المواضع إلا وذكر آية النهار معها. وقوله: {فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} أي داخلون في الظلام، و(إذا) للمفاجأة، أي ليس بيدهم بعد ذلك أمر ولا بد لهم من الدخول فيه" (9). (1) التفسير الكبير 26/69. (2) انظر في ظلال القرآن 5/3125. (3) التفسير الكبير 26/70. (4) التفسير الكبير 26/70. (5) الكشاف 2/587. (6) الكشاف 2/587. (7) البحر المحيط 7/336. (8) روح المعاني 23/11، وانظر فتح القدير 4/358. (9) التفسير الكبير 26/70. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 176 إلى ص 181.