عرض وقفة أسرار بلاغية
{لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57)}
معنى (يدعون): يطلبون، ومعناه أيضًا: يتمنون، يقال: ادع على ما شئت، أي تمنه (1)، فلهم ما يطلبون وما يتمنون.
لقد قدم (لهم) على (فيها) وأخر الفاكهة، وذلك أن الكلام عليهم، فقد قال: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ} فناسب أن يقدم ما تعلق بهم.
ثم قال: (فيها) أي في الجنة، وهو نظير ما مر من قوله: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ}، وقوله: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} فقوله: (لهم) يقابل (أصحاب الجنة) ويقابل (هم وأزواجهم) فإن الضمير في (لهم) يعود عليهم، وقوله: (فيها) يقابل (في شغل) ويقابل (في ظلال) لأن ذلك فيها، أي في الجنة.
لقد وردت في القرآن الكريم تعبيرات مختلفة من نحو هذا التعبير اختلف فيها التقديم والتأخير وذلك نحو قوله تعالى: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} {النحل: 31}.
وقوله: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا} {الفرقان: 16}.
فقدم في الآيتين (فيها) على (ما يشاؤون).
غير أنه قال في مكان آخر: {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} {ق: 35}، فقدم (ما يشاؤون) وأخر (فيها).
وذلك بحسب ما يقتضيه المقام.
أما قوله تعالى في سورتي النحل والفرقان:{لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} بتقديم (فيها) على (ما يشاؤون) فلأن الكلام كان على الجنة.
قال تعالى: {وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ} {النحل: 30 – 31}.
وقال: {قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا} {الفرقان: 15 – 16}.
فالكلام كما ترى على الجنة في الموطنين، فقدم ضمير الجنة (فيها) على (ما يشاؤون).
أما آية (ق) التي فيها قدم (ما يشاؤون) على (فيها) فلأن الكلام على من سيدخل الجنة. قال تعالى: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} {ق: 32 – 35}.
فقدم (ما يشاؤون) على ضمير الجنة.
والضمير في (يشاؤون) كما هو معلوم يعود على من سيدخل الجنة.
فناسب كل تعبير مكانه.
وقد تقول: لقد قال في آية (يس) هذه: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ}.
وقال في سورة فصلت: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} {فصلت: 31}.
فكرر (فيها) ولم يكررها في (يس). فما الفرق؟
والجواب أن آية (يس) فيمن هم في الجنة يتنعمون فيها هم وأزواجهم.
أما آية فصلت فالكلام فيها قبل دخول الجنة وهو عند الموت، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} {فصلت: 30}.
فالملائكة تتنزل عليهم تبشرهم بالجنة فقال: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} فكرر (فيها) ليعلمهم أن كلا الأمرين إنما هو في الجنة.
ولو قال: (ولكم ما تدعون) لأحتمل أن يكون ذلك قبل دخول الجنة عند الخطاب، فأعلمهم أن ذلك إنما يكون في الجنة.
أما آية (يس) فالكلام فيها على من في الجنة فقال: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} لأنهم فيها، فلا يحتاج إلى ما كرر في آية فصلت، والله أعلم.
وقد تقول: ولم قال في آية (يس): {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ}.
وقال في فصلت: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ}؟
والجواب: أن آية (يس) في أصحاب الجنة عمومًا، أما آية فصلت فهي في صنف معين من أهل الجنة وهم: الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا.
ولا شك أن هؤلاء أعلى منزلة من عدد غير قليل من أهل الجنة، فإن الاستقامة هي الالتزام بالشرع عملاً وانتهاء والاستمرار على ذلك، وليس كل أهل الجنة كذلك، فإن منهم من لم يستقم في حياته ولم يلتزم بحدود الشرع، غير أن الله أدخله الجنة تفضلا منه سبحانه.
فقال في الذين استقاموا: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ}، وقال في أصحاب الجنة عمومًا: {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ}، فكان الجزاء للذين استقاموا أعلى، فإن ذلك أعم من مجرد الفاكهة، فالفاكهة ليست إلا جزءًا مما تشتهي النفس.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن هؤلاء الذين استقاموا على الشرع أبعدوا أنفسهم عن الشهوات وحرموها كثيرا مما كانت تطلب، فأطلقها الله لهم في الآخرة بمقابل الحرمان في الدنيا فقال: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ}.
وقد تقول: وما الفرق بين ما تشتهي وما تدعي؟
والجواب: أن ما تدعيه معناه: ما تريده وما تطلبه بالقول، وما تشتهيه: هو ما تريده النفس سواء طلبته أم لم تطلبه.
فقد تشتهي النفس شيئًا ولا تطلبه لأسباب عدة، فذكر تعالى أن لهؤلاء الأمرين كليهما، فإذا اشتهت أنفسهم شيئًا كان لهم ذلك وإن لم يطلبوه. فإنه يكفي أن يخطر في أنفسهم خاطر رغبة في شيء فيحققه الله لهم وإن لم تجر ألسنتهم بذكره. ولهم أيضًا ما يطلبون، فذكر ما يدور في النفس وما يطلبه اللسان، والله أعلم.
(1) ينظر الكشاف 2/591.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 277 إلى ص 281.