عرض وقفات أسرار بلاغية

  • ﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ ﴿١﴾    [البلد   آية:١]
ما دلالة (لا) في القسم؟ أولاً لم يرد في القرآن كلّه (أقسم بـ) أبداً، كل القسم في القرآن ورد باستخدام (لا) كقوله تعالى: (لا أقسم بمواقع النجوم) (ولا أقسم بالخنّس) (فلا وربّك لا يؤمنون) وهكذا في القرآن كله. فما هي (لا)؟ اختلف النحاة في دلالة (لا):  كلام عام من (لا أقسم عموماً) يقولون (لا) زائدة لتوكيد القسم بمعنى (أقسم) مثال قولنا: والله لا أفعل معناها لا أفعل، ولو قلنا: لا والله لا أفعل معناها لا أفعل، لا يختلف المعنى والقسم دلالة واحدة. وقسم يقولون هي للنفي (أي نفي القسم) والغرض منه أن الأمر لا يحتاج للقسم لوضوحه فلا داعي للقسم، وقسم قال أنها تنفي لغرض الإهتمام كأن تقول لا أوصيك بفلان (بمعنى لا أحتاج لأن أوصيك). وفي السورة (لا أقسم بهذا البلد) تدور (لا) في كل هذه الأمور على أنها توكيد للقسم بمعنى (أقسم بهذا البلد)، إذن الغرض للتوكيد لأن الأمر فيه عناية واهتمام.
  • ﴿وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ﴿٢﴾    [البلد   آية:٢]
ما اللمسة البيانية في قوله تعالى (حِلّ) عوضاً عن كلمة حالّ أو مقيم؟ بداية السورة (لا أقسم بهذا البلد  وأنت حلّ بهذا البلد ووالد وما ولد لقد خلقنا الإنسان في كبد) المعنى العام أنه أقسم أو لم يقسم بهذا البلد في وقت حلول الرسول في البلد أنه خلق الإنسان في الشدائد لكن يبقى السؤال (وأنت حل) ما معنى حل؟ الرأي الأشهر أنه الحالّ والمقيم أي بمعنى وأنت حالٌ في البلد تبلّغ دعوة ربك وتلقى من الأذى ما تلقى. إذا كان هذا هو المعنى فلماذا لم تأتي كلمة (حالّ) بدل (حِلّ)؟ لأن كلمة (حل) لها أكثر من دلالة ولا تقتصر على الدلالة المتبادرة للذهن: (حل) تأتي بمعنى اسم المفعول أي بمعنى (مُستحِل) (على صيغة وزن من أوزان أسماء المفعول مثل الطحي من طحيناً والذبح، ما يعدّ للذبح، والحِمل اي الذي يُحمل). لأن صيغة فعل هي من جملة أوزان أسماء المفعول الذي له أكثر من ثمانية أوزان (فعل مثل سلب ونهب). لا أقسم بهذا البلد وأنت مستحلٌ قتلك لا تراعى حرمتك في بلد آمن يأمن فيه الطير والوحش (إذا كانت لهذا المعنى فلا تكون نافية). وتأتي (حِل) بمعنى حلال (حل، حلال، حلة) أي بمعنى حلال أن تقتل وتأسر من تشاء في ذلك البلد وذلك في يوم الفتح لأن أهل البلد جاءوا بما يستحلون به حرمتهم فرفعت الحرمة عنهم فأصبح حِلاً فتكون لا للنفي. وهذه المعاني كلها مادة وهو ما يسمى بالتوسع في المعنى. لا أقسم بهذا البلد وأنت حالٌ في هذا البلد تلاقي ما تلاقي وأنت مستحلٌ لا تُراعى حرمتك وأنت حلال بهذا البلد تقتل من تشاء وتأسر من تشاء في وقت من الأوقات (هذه كلها تشير إلى معاني كلمة حِل) ومرتبطة بمعاني (لقد خلقنا الإنسان في كبد). ولو جاء باسم الفاعل (حال) لاقتصر على معنى واحد من هذه المعاني المتعددة لكن المطلوب كل هذه المعاني فجاءت كلمة (حِل) لمناسبتها لمقتضى المعنى.
  • ﴿وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ﴿٢﴾    [البلد   آية:٢]
قال تعالى في آية أخرى في القرآن ( وهذا البلد الأمين) فما الحكمة في أن يرد القسم في سورة البلد (لا أقسم بهذا البلد) بدون استخدام كلمة الأمين؟ هذا لأن جو السورة كلها فيه ذكر للكابدة والمشقة واستحلال الحرمات وما أصاب الرسول  في هذا البلد وليس في السورة مجال لذكر الأمن، فالرسول والصحابة ليسوا آمنين في هذا البلد والرسول  حلٌ يفعل ما يشاء يوم الفتح فارتفعت عن البلد صفة الأمن في هذه السورة، فجو السورة كلها من أولها إلى آخرها ليس فيه أمن وأمان حتى في نهاية السورة لم يذكر جزاء المؤمنين (أولئك أصحاب الميمنة) إنما اكتفى تعالى بذكر جزاء الكافرين (والذين كفروا بآيتنا هم أصحاب المشئمة عليهم نار مؤصدة). لا يوجد أمن في البلد ولا الجو العام في السورة فيه أمن.
  • ﴿وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ ﴿٢﴾    [البلد   آية:٢]
ما اللمسة البيانية في تكرار كلمة (البلد)؟ فلماذا لم ترد مثلاً : وأنت حلٌ به؟ لو لاحظنا كلام العرب لوجدنا أنهم يكررون في مواطن التحسّر أو التعظيم أو التهويل لأنه أبلغ كما في قوله تعالى (القارعة ما القارعة) و(الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة) هنا تأتي للتهويل. وكما في قوله تعالى (أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا بياتا وهم نائمون، أو أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا ضحى وهم يلعبون، أفأمنوا مكر الله) هنا التكرار للتعظيم. وفي سورة البلد تكرار كلمة (البلد) هي في مقام التعظيم. ويذكر أيضاً سبب آخر للتكرار وهو أن البلد المقصود به مكّة وهو بلد حرام لا يسفك فيه دمٌ ولا يروّع فيه آمن ولكن الله تعالى أحلّ لرسوله  في يوم الفتح أن يفعل ما يشاء من قتل أو أسر فكأنما البلد صار غير البلد في يوم الفتح فأصبح له صفتان: حالة الحلّ وحالة الحرب وكأنه أصبح بلدين فكرّر سبحانه كلمة البلد لتكرار الوصف.
  • ﴿وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ﴿٣﴾    [البلد   آية:٣]
هذا التعبير عدة دلالات: قسم قال المقصود به الإنسان (آدم وذريته)، وقسم قال أن المقصود كلّ والد وما ولد من الأناسيّ والبهائم ولذا لم يقل ومن ولد وإنما قال وما ولد (المقصود به العموم وليس الخصوص ومن جملته آدم وذريته) وخصص بعد. أما ارتباطه بالمقسم عليه فهو أن جواب القسم (لقد خلقنا الإنسان في كبد) والكبد هو المشقة والشدّة، والولادة هي المكابدة والشدّة والمشقة فإذن ارتبطت بقوله (لقد خلقنا الإنسان في كبد) ثم ارتبطت بآخر السورة (وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة) لأن الوالد يحتاج في تربية ولده إلى صبر ومرحمة سواء كان من الأناسيّ أو البهائم ولولاهما لما استطاع تربية أبنائه. وهي مناسبة لجو السورة الذي كله يقوم على المكابدة والمشقة والصبر والمرحمة والإطار العام للسورة ، وارتبط بما كان يلاقيه الرسول  من مكابدة ومشقة.
  • ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي كَبَدٍ ﴿٤﴾    [البلد   آية:٤]
ما هو ارتباط الجواب بالقسم وما هي دلالة كبد؟ الكبد له أكثر من دلالتين فهو يعني: الشدة والمشقة: يكابد مشاق الدنيا والآخرة ولم يقل خلقنا الإنسان مكابداً. (في كبد) تعني أنه مغمور في الشدائد والمشقات منذ قطع سرّته والمشاق تحيط به وهو منغمر فيها إلى أن يقتحم العقبة فأما أن ينجو أو أن يكون في النار. للقوة والصلابة والشدة: والكبدة هي القطعة من الأرض الصلبة يقال (أرض كبداء) لأن الذي خُلق للمشاقّ ينبغي أن يكون متحملاً للشدائد فهي من لوازم المعنى الأول. أما ارتباط الجواب بالقسم: السورة كلها مبنية على هذا الأمر أي الكبد وكل تعبير مبني على ذلك. لا أقسم بهذا البلد وأنت حل بهذا البلد وقد ذكرنا عدة معاني لكلمة (حِل) فإذا كان المعنى الأول أي بمعنى (حالّ) فهو يلقى من قومه ما يلقاه من العنت فهو في كبد مم يلاقيه من المشقة وهو يلقاها بقوة وثبات وتحمّل. وإذا كان بمعنى (مستحل) لا تراعى حرمته فهو دليل على أنه في كبد يُحارب من قومه ويحاولون قتله. وإذا كان المقصود المعنى الثالث وهو (حلال في البلد) أي ضد الحرام فهو  يحلّ له أن يقتل ويأسر إذن فالكفار هم في كبد ومشقة وعنت أما المسلمون ففي قوة، وهكذا ارتبط الجواب بالقسم فمن كل ناحية وفي كل معنى من المعاني. وكذلك ارتباط (ووالد وما ولد) فالولادة مشقة وعنت وتحتاج إلى مثابرة وقوة للتربية، كما هي مرتبطة بما بعدها من اقتحام العقبة ومشاقّ الجوع في يوم ذي مسغبة.
  • ﴿فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ ﴿٨﴾    [الواقعة   آية:٨]
  • ﴿وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ ﴿٩﴾    [الواقعة   آية:٩]
*لماذا لم يرد تصنيف لأصحاب المشأمة في سورة الواقعة على غرار تصنيف أصحاب الميمنة والسابقون؟(د.حسام النعيمى) هذا سؤال وجيه. (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) (الواقعة)) السائلة تسأل أهل اليمين ميمنة وسابقون فلماذا لم يصنف أصحاب المشأمة على صنفين؟ ليست المسألة مسألة تقسيم وإنما نحن في هذه الدنيا مؤمنون وغير مؤمنين. المنافقون كافرون في الحقيقة لكن يتظاهرون بالإيمان المنافق كافر ولكن يتظاهر بالإيمان ولذلك صار أشد لأن عنده صفة الكفر إضافة إلى صفة المخادعة. المطلوب في هذه الحياة لما يعرض القرآن الكريم علينا الصور المطلوب المنافسة في الخير (وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) المطففين) أنا لما أعلم أن الجنة درجات وأعلاها الفردوس الأعلى وعندي نوع من الهِمّة أحاول أن أسابق الآخرين في الإرتقاء إلى هذه الدرجة العليا، فيها مجال للمنافسة لما أعرف أن يوم القيامة لا يكون الناس على حدٍ سواء الكل في مستوى واحد في الجنة وإنما هناك من يكون قريباً من الأنبياء والشهداء والصديقين ويؤتى بقارئ القرآن يوم القيامة بعد أن يعرّف منزلته في الجنة فيقال له إقرأ ورتل وارتق فإن منزلتك عند آخر آية تقرأها فيتنافسون في الحفظ. فصار عندنا أصحاب يمين وهؤلاء جنتهم فيها صفات معينة. وعندنا السابقون السابقون جنّتهم لها صفات معينة. فأنا لما أقرأ هذه وأقرأ هذه أحرص على الأفضل فأحاول أن أقدم الخير. لكن الذي سيدخل جهنم هو سيشتوي بمجرد دخولها لا مجال للتمايز، حتى الدركات هم نازلون فيها ليس هناك مجال للتنافس في أخذ الأفضل، لما كان في الجنة مجال منافسة للأفضل كان عندنا ميمنة وسابقون لكن هؤلاء إذا كان سيشتوي سواء كان في الدركة الأولى أو الثانية فهو مشوي مشوي ولا مجال لتشجيعه على التنافس، هم في داخلها ويصطرخون نسأل الله السلامة والعافية. إذن الغرض من التقسيم - والله أعلم - هو الحث على المنافسة، هناك أكثر من درجة، هناك مراتب والناس عند الله سبحانه وتعالى مقامات ليسوا سواء، بل حتى الذين يدخلون الجنة قسم منهم يأتي ليشرب من حوض الرسول  لأن الحوض على وجه اليقين في الجنة وليس خارج الجنة والرسول  هو يسقي شربة لا يظمأ بعدها أبداً، فيأتي ليشرب يمنعه الملائكة أنك أنت منزلتك لا تؤهلك للشرب من حوض محمد . حتى أنه في الحديث يقول  أصحابي أي يعرف بعضهم، قسم من الشُرّاح قالوا أصحابي يقصد من أمتي وظاهر النص أنهم أصحابه في زمنه من أهل الجنة لكن خاض بعضهم فيما خاض من فتن لأنه صارت فتن فيدخل الجنة ولا نشك في ذلك لكن لما يصل لحوض المصطفى  ليشرب منه يقال له لا حتى قيل للرسول  أنت لا تدري ماذا أحدثوا بعدك، أحدثوا فتناً فيما بينهم، فُتِنوا لكن هم من أهل الجنة وهم على العين والرأس لكن لا يشربون من الحوض ولا ندري من هم؟ ولا نستطيع أن نقول فلان أو فلان لا يجوز، لكلٍ مقامهم ونحن مبدأنا أن الصحابة على العين والرأس ولا نخوض فيما شجر بينهم من خلاف ولا نخوض في المفاضلة بينهم ويمكن أن يكون فلان في قلبي أفضل من فلان لسابقته لكن نُهينا عن الحوض في المفاضلة لأنه يؤدي إلى نتيجة (لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ (4) الأنفال) ولا نصل لتراب أقدام أدناهم لكنهم مراتب ودرجات. لذلك جاء التقسيم ميمنة وسابقون وأهل النار أهل نار لا يحتاجون إلى تقسيم لأنه ليس فيه حثٌ على المنافسة والمسابقة. هناك في السعي لنيل درجات الجنان ترغيب في المنافسة لكن أهل النار لا مجال للترغيب. استطراد من المقدم: نحن نفهم هذا في سياق أننا مؤمنون بالله وبآيات القرآن فهل الكفار كانوا يفهمون هذه المعاني؟ التسابق في الخيرات؟ هو كيف يتسابق في النار؟ هل يزيد من سيئاته ليتسابق في أهل النار؟ هم لا يقسّمون ولله المثل الأعلى مثل طلبة جامعة الناجحون يقسّمون لكن الذي يرسب في صفه هو راسب أي سيعيد العام ولا يوجد راسب 40 وراسب 30 هو راسب وسيعيد الفصل الدراسي.
  • ﴿أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ﴿٥﴾    [البلد   آية:٥]
  • ﴿يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا ﴿٦﴾    [البلد   آية:٦]
بعد قوله تعالى (لقد خلقنا الإنسان في كبد) وذكرنا أن من معاني الكبد المشقة والشدّة والصلابة ثم قال تعالى (أيحسب أن لن يقدر عليه أحد) هذا الحسبان موجه لمن؟ قسم من المفسرين يقول هو موجّه للذي يستضعف المؤمنين (وأنت حلُ بهذا البلد) بمعنى يحلل دمك ويعذّب جماعتك، والذي يفتن المؤمنين ويعذبهم. وقسم من المفسرين قال أنه الخطاب ليس مقصوراً  على هذا الجنس بالذات وإنما هو موجه للإنسان عموماً فالإنسان الذي خلقه الله تعالى مكابداً للشدائد ينبغي أن يكون قادراً على تحمل الشدائد فالذي خُلق صلباً شديداً مكابداً أيحسب أن لن يقدر عليه أحدوهذا الحسبان يكون في نفوس البشر لأن البشر يظنون أن لن يقدر عليهم أحد فيظلم بعضهم بعضا ويضرب بعضهم رقاب بعض. فالبشر يرون أن لن يقدر عليهم أحد والذين يستضعفون المؤمنين يظنون أن لن يقدر عليهم أحد. والله تعالى سبحانه ذكر في هذه الآية والآية التي بعدها أمرين عظيمين يعتصم بهما الإنسان ويعتقد أن لا أحد يتمكن منه وهذان الأمران هما المال والقوة يعتصم بهما الإنسان ويرى أنهما أداتا الضغط والتسلط على الآخرين. وقد جمع القرآن الكريم بين هذين الأمرين للدلالة على التسلط كما في قوله تعالى: (همّاز مشّاء بنميم* منّاع للخير معتد أثيم* عتلٌ بعد ذلك زنيم* أن كان ذا مال وبنين) سورة القلم آية 11 – 14. فالشعوب المستعمرة يجتمع لها عادة هذين الأمرين كما جاء في قوله تعالى مخاطباً بني إسرائيل في سورة الإسراء (ثم رددنا لكم الكرّة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيرا) آية 6. (أيحسب أن لن يقدر عليه أحد  يقول أهلكت مالاً لبدا) هذا الخطاب موجّه للإنسان عموماً الذي خلقه الله تعالى لإصلاح الحياة. أهلكت: تأتي بمعنى الإنفاق فما اللمسة البيانية في استخدام كلمة أهلكت بدل أنفقت؟ هذه هي الآية الوحيدة في القرآن كله التي استعمل فيها الإهلاك مع المال، عادة تأتي الإنفاق لكن اختيار كلمة أهلكت في هذه السورة مناسب لجو السورة ومناسب لما تقدمها ولما يعانيه الرسول  وأصحابه في لحظات الشدائد التي أدت إلى إهلاك بعضهم ومناسب للعقبة ومناسب ليوم ذي مسغبة لأن الذين لم يطعموا في ذلك اليوم أهلكوا ومناسب مع أصحاب المشئمة الذين أهلكوا ومناسب لكل إنفاق بغير وجه مناسب لأنه يعتبر إهلاكاً للمال وليس إنفاقاً في الخير. إذن جو السورة هكذا في إهلاك المال بغير وجهه وكل السورة مشقة وإهلاك (الكبد، سلوك النجدين، اقتحام العقبة، المشئمة والمسغبة) فكان استخدام كلمة إهلاك أنسب وأفضل كلمة تؤدي المعنى المطلوب الذي يقتضيه جو السورة وسياق الآيات فيها. كلمة لُبدا: لبد معناها الكثير المُجتمِِع. وفيها احتمالان: قد تكون مفرد صيغة مبالغة (صيغة فاعل) مثل هُمز وحُطم أو جمع (لُبدة) مثل نقطة نقط. ليس معناها الكثير فقط لكن الكثير المجتمِع وهي مناسبة لاجتماع الكفرة على الرسول  مثل قوله تعالى في سورة الجن (وأنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لُبدا) وهو مناسب للإهلاك وجو الإجتماع في أكثر من موطن في جو السورة (ووالد وما ولد، العينين في آلة الإبصار، اللسان والشفتين في آلة النطق، النجدين، تفسير العقبة بجملة أمور منها اجتماع الذين آمنوا على التواصي بالحق والتواصي بالمرحمة، واجتماع الكفرة في النار واوصاد النار عليهم) لو قال تعالى (كثيرا) لا يؤدي المعنى المطلوب لجو الإجتماع في السورة. الكثرة لا تنفي الإجتماع لذلك اختيار الإهلاك واللبد متناسب جداً من الناحية البلاغية والفنية لجو السورة.
  • ﴿يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُّبَدًا ﴿٦﴾    [البلد   آية:٦]
*ما الفرق بين لِبداً ولُبداً؟ الآن نتكلم عن قوله تعالى لُبدا ولِبدا (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا ﴿19﴾ الجن) بكسر اللام والثانية (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴿4﴾ أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ﴿5﴾ يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا ﴿6﴾ البلد) بضم اللام في الحقيقة هناك فرق بالفتحة والكسرة المعنى يختلف. تكديس الأموال بعضها على بعض من لبد يلبد فهو لُبدا بضم اللام إذا كدست أموالك وأنفقت أموال كثيرة يقال أهلكت مالاً لبدا كان ملبداً وكثيراً والخ عندما يكون اجتماع الناس من لبد يلبِد نحن بلغتنا نقول إلبد يعني إجلس مع صاحبك. لِبداً اجتماع كثيرين من البشر من المخلوقات الحية ملائكة شياطين إنسان المخلوقات الحية إذا اجتمعوا اجتماعاً كما في الحديث والنبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف وقد فعلوا به ما فعلوا وهو جريحٌ ومدمي والخ وصلى في وادي قبل مكة حينئذٍ الجن تكدسوا عليه بشكل غير معقول، لما صلى الصبح  في وادي نخلة ووادي نخلة قبل مكة والنبي صلى الله عليه وسلم خاف أن يدخلها فقريش أقسموا أن يقتلوه حتى أجاره المطعِم وأولاده فصلى الصبح فتقاطر عليه الجن من كل مكان كما قال تعالى (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا) أي أنهم كانوا من الكثرة والزحام بحيث أوشكوا أن يقعوا عليه. هذا الفرق بين لُبدا ولِبدا بالكسرة.
  • ﴿أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ ﴿٧﴾    [البلد   آية:٧]
(يقول أهلكت مالاً لبدا) هذا الذي يدّعي إهلاك المال أيحسب أن لم يره أحد أنه أنفق المال في أمور لا يحبّ أن يطّلع عليها الآخرين وقد تكون في أمور سرّية؟ قال لم يره أحد أي راقب الشخص لم يقل أيحسب أن لم يعلم به أحد لكنه قال يره لأن الرؤية أهمّ وأخصّ من العلم وهناك فرق بين العلم بالشيء ورؤيته. فالرؤية هي التي تدلّ على تفاصيل الأمور ومراقبتها لذا فالرؤية أخصّ. ويره هنا من المراقبة لأن الله تعالى يراقب ويعلم كل ما يقوم به المخلوقات. لماذا جاءت هنا (لم يره أحد) وسابقاً (لن يقدرعليه أحد) : ألم يره أحد في هذا الإنفاق والمفروض أن هذا الحسبان والإدّعاء أنه فعل ماضي (ماضي فيما فعل وما ادّعى أنه فعل)  وتأتي الآية فيما بعد (أيحسب ألن يقدر عليه أحد) بعد استكمال الأمور أي في المستقبل بعد أن يغتّر بقوته واستكمال قوته أي تأتي مستقبلاً (أيحسب أن يعتصم بهذه الأمور وأيحسب أن هذه الأمور تنجيه) لذا جاء التعبير بالمضارع وهذا ما يقتضيه السياق.
إظهار النتائج من 5661 إلى 5670 من إجمالي 12316 نتيجة.