عرض وقفات أسرار بلاغية

  • ﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴿٨﴾    [الإنسان   آية:٨]
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8)} {عَلَى حُبِّهِ} الأظهر أن الضمير في (حبّه) يعود على الطعام، أي أنهم يطعمون الطعام مع اشتهائه والحاجة إليه، نظير قوله تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] (1). وقيل: المعنى على حب الإطعام، بأن يكون ذلك بطيب نفس وعدم تكلف (2)، فالضمير يعود على مصدر (يطعمون) وهو الإطعام. وقيل: إن الضمير يعود على الله، والمعنى: أنهم يطعمون الطعام على حب الله، أي لوجهه وابتغاء مرضاته (2). وهذا المعنى مذكور فيما بعد في قوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ}. وقيل: إن المعنى الأول، أي (على حب الطعام) أمدح "لأن فيه الإيثار على النفس، وأما الثاني فقد يفعله الأغنياء أكثر" (3). وأعلاها أن يكون لكل ذلك، فهم يطعمون الطعام مع حاجتهم إليه واشتهائه فيكون ذلك من باب الإيثار، ويفعلونه بطيب نفس من غير تكدير ولا منة فيكون من باب الإحسان، مبتغين بذلك وجه الله تعالى ورضاه خالصًا عملهم له، فيكون من باب الإخلاص، فيجتمع بذلك الإيثار والإحسان والإخلاص. ثم إنه قال: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} فذكر الطعام، ولم يقل: (ويطعمون على حبه مسكينًا ويتيمًا وأسيرًا)؛ وذلك لأنه أراد أن يعود الضمير عليه، ولو لم يذكر الطعام لم يعد الضمير على مذكور، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أنه لو لم يذكر الطعام لانتفى المعنى الأول، وهو أولى المعاني وأظهرها وأهمها، والذي به ينال البر ولا ينال البر إلا به، كما قال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}. فذكر الطعام أفاد ثلاثة معان وهي المعاني التي ذكرناها، ولو حذفه لأفاد معنيين: الأول: أن يكون المعنى (على حب الله) وهو الأظهر، وهو ما أفادته الآية بعدها. والآخر: أن يكون المعنى (على حب الطعام) وهو ما يقدر من الفعل (يطعمون) فكان ذكره أولى على كل حال. جاء في (روح المعاني): "وذكر الطعام مع أن الإطعام يغني عنه لتعيين مرجع الضمير على الأول، ولأن الطعام كالعلم فيما فيه قوام البدن واستقامة البنية وبقاء النفس، ففي التصريح به تأكيد لفخامة فعلهم على الأخيرين" (4). ثم إنه قدم المسكين على اليتيم، واليتيم على الأسير. قدم المسكين على اليتيم؛ لأن المسكين محتاج على الدوام، وإطعامه قد يكون على الوجوب وقد يكون على التطوع، فهو من الأصناف المذكورين في مصارف الزكاة. أما اليتيم فقد لا يكون محتاجًا، وقد يكون غنيًّا، بخلاف المسكين، ولذا لم يدخل فيمن تصرف إليهم الزكاة. أما الأسير فإنه قد يكون كافرًا. فكان التقديم بحسب الرتبة، فقدم المسكين على اليتيم، واليتيم على الأسير. والمسكين واليتيم قد يكون إعطاؤهما من باب الواجب، بخلاف الأسير فإنه يدخل في باب التطوع، "وعند عامة العلماء يجوز الإحسان إلى الكفار في دار الإسلام، ولا تصرف إليهم الواجبات" (5). وبهذا يكون قد بدأ بالواجب وهو الفاء بالنذر، ثم بدأ بما هو أولى وهو المسكين وهو صاحب الحاجة الدائمة، وقد أدخله الله فيمن تجب لهم الزكاة، ثم اليتيم وهو قد يكون غير محتاج ويكون مكفولًا حتى يزول يتمه، ثم الأسير الذي لا تصرف إليه الواجبات من قبل الأفراد. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن التقديم جرى بحسب الكثرة. فإن المساكين أكثر من اليتامى، لأن اليتم يزول حتمًا بالبلوغ فلا يسمى بعد ذلك يتيمًا، بخلاف المسكين فإنه يكون صغيرًا أو كبيرًا، واليتامى أكثر من الأسرى؛ لأن الأسرى إنما يكونون من أوزار الحرب، وأما اليتامى فهم موجودون في كل وقت وعلى أية حال، فكان التقديم بحسب الكثرة. ثم إن التقديم أيضًا مرتب بحسب القدرة على التصرف. فالمسكين له الأهلية الكاملة على التصرف، وأما اليتيم فأهليته ناقصة حتى يزول يتمه، وأما الأسير فهو أقل تصرفًا لأنه كالمحجور عليه، فليس له أن يتصرف في ذهابه وإيابه وعمله حتى يتخير فيه الإمام؛ فالآية مرتبة بحسب القدرة على التصرف. وذكر الأسرى هنا مناسب لذكر السلاسل والأغلال مع الكافرين؛ لأن الأسير مقيد مغلول. ومن الملاحظ أنه قال: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ} ولم يقل: (يتصدقون) لئلا يخص ذلك الصدقات أو يخص من تجب عليهم الصدقة أو لهم، وإنما أراد فعل الخير عمومًا سواء كان صدقة أم إكرامًا، وسواء كان الفاعل غنيًّا أم فقيرًا، ممن تجب عليهم الصدقة أو لا. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 228 إلى ص 231. (1) الكشاف 3/296. (2) روح المعاني 29/155. (3) البحر المحيط 8/395، الكشاف 3/296، أنوار التنزيل 774. (4) البحر المحيط 8/395. (5) روح المعاني 29/155. (6) روح المعاني 29/155.
  • ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا ﴿٩﴾    [الإنسان   آية:٩]
{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)} ذكر أمرين في إطعامهم الطعام: أنهم يطعمون الطعام وهم محتاجون إليه وذلك قوله: {عَلَى حُبِّهِ}، وأنهم مخلصون لله في إطعامهم وذلك قوله: {لِوَجْهِ اللَّهِ} وهذا أعلى أنواع الإطعام. وقال: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} ولم يقل: (نحن نطعمكم لوجه الله) وذلك لإرادة تخصيص الإطعام بذلك، وأنهم لا يطعمون إلا لوجهه تعالى غير مبتغين شيئًا آخر. وهذا أعلى أنواع الإخلاص، فإنه ليس فيه شائبة شرك أو رباء. ولو قال (نحن نطعمكم لوجه الله) من دون (إنما) لأفاد أنهم يطعمون لوجه الله ولا ينفون الإطعام لغيره. أما في الآية فإنه أفاد الحصر، أي أنهم لا يفعلون ذلك إلا له سبحانه. وهذا يفيد أن الأعمال كلها ينبغي أن يبتغي بها وجه الله حصرًا لا لشيء آخر. وقد تقول: وإن قولك: (نحن نطعمكم لوجه الله) يفيد الحصر أيضًا؟ فنقول: نعم إنه يفيد الحصر ولكنه حصر بالفاعل، أي نحن لا غيرنا نطعمكم لوجه الله، فكأنه تعريض بآخرين، وهذا المعنى غير مطلوب ولا يصح أيضًا، فإن هناك غيرهم من يطعم لوجه الله. في حين قوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} إنما هو تخصيص الفعل بأنه لوجه الله لا تخصيص أنهم المطعمون دون غيرهم، فكان ما ذكره أولى. {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} أي لا نريد منكم مكافأة على إطعامنا بالعمل، ولا شكرًا باللسان، فإن الجزاء هو المكافأة بالعمل، والشكر هو الثناء باللسان، فهم لا يريدون منهم أن يكافئوهم ولا يشكروهم. وهذا تقرير لقوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ} فالذي يبتغي وجه الله وحده لا يريد شيئًا آخر. جاء في (فتح القدير): أن قوله: {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} تقرير وتأكيد لما قبله "لأن من أطعم لوجه الله لا يريد المكافأة ولا يطلب الشكر له ممن أطعمه" (1). ولم يقل: (يقولون أو قالوا إنما نطعمكم لوجه الله) وإنما حذف فعل القول، وذلك ليشمل القول بلسان الحال وبلسان المقال، فسواء قالوا بذلك بلسانهم أو حكى الله عما في نفوسهم فكل ذلك خير وأجره عظيم. جاء في (الكشاف): {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ} على إرادة القول. ويجوز أن يكون قولًا باللسان منعًا لهم عن المجازاة بمثله أو بالشكر؛ لأن إحسانهم مفعول لوجه الله، فلا معنى لمكافأة الخلق، وأن يكون قولهم لهم لطفًا وتفقيهًا وتنبيهًا على ما ينبغي أن يكون عليه من أخلص لله ... ويجوز أن يكون ذلك بيانًا وكشفًا عن اعتقادهم وصحة نيتهم وإن لم يقولوا شيئًا. وعن مجاهد: أما إنهم ما تكلموا به ولكن علم الله منهم فأثنى عليهم" (2). وجاء في (البحر المحيط): "لا نريد منكم جزاءً، أي بالأفعال، ولا شكورًا، أي ثناء بالأقوال" (3). وقال: {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} ولم يقل: (لا نريد جزاء ولا شكورًا) وذلك لأنهم يريدون الجزاء والشكور من رب العالمين، فهم لم ينفوا إرادة الجزاء والشكور، وإنما أرادوه ممن يطعمون لوجهه لا منهم، ولو لم يذكر (منكم) لنفى الإرادة على وجه الإطلاق، وهو ليس بمراد ولا ينبغي أن يراد. وقدم الجزاء على الشكور؛ لأن الجزاء بالفعل أهم من الشكر باللسان. والناس يعملون في هذه الحياة لأجل الجزاء، سواء تبعه شكر أم لا، والشكور ثناء اللسان ولا يعد جزاء على العمل. وجاء بـ (لا) مع الشكور فقال: {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} ولم يقل: (جزاء وشكورًا) ليفهم أنهم لا يريدون أي واحد من هذين، سواء كانا على وجه الاجتماع أم الافتراق، ولو قال: (لا نريد منكم جزاءً وشكورًا) لربما أفهم أنهم لا يريدونهما مجتمعين، ولو اكتفوا بواحد منهما لدخل في الإرادة. وقال: {لَا نُرِيدُ} ولم يقل: (لا نطلب) لأن الإنسان قد يريد ولا يطلب، فنفي الإرادة أبلغ من نفي الطلب، لأنه ينفي الطلب وزيادة. وقال: (شكورًا) ولم يقل: (شكرًا) ذلك أن (الشكور) يحتمل الجمع والإفراد، والجمع يدل على الكثرة والتعدد فقال: {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} أي لا نريد الشكر وإن كان كثيرًا متطاولًا، فقد يكون الشكر عن الفعل مرة واحدة، وقد يكثر ويعاد، ولا شك أن كثرة الشكر أدل على الاعتراف بالفضل والإحسان. ثم إن الإطعام قد يتكرر فيتكرر الشكر عن كل مرة فقال: {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} أي وإن كثر إطعامنا لكم وتكرر، فهذا أدل على الإخلاص. وإن كان الشكور مصدرًا فهو بزنة الجمع، وربما كانت زيادة المبنى دالة على زيادة المعنى ههنا وإن لم يكن ذلك مطردًّا. وقد يكون أتى بذلك ليتسع المعنى فيجمع بين الجمع والجنس، فالمصدر يدل على الجنس كله والجمع يدل على مجموع الأفراد، فنفوا إرادة الشكر على كل حال سواء كان على حال الجمع أم الجنس أم الأفراد، وذلك أعم وأشمل. هذا علاوة على موافقة هذا التعبير لخواتيم الآية. جاء في (لسان العرب): "وقوله تعالى: {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} يحتمل أن يكون مصدرًا مثل (قعد قعودًا)، ويحتمل أن يكون جمعًا مثل: برد وبُرود، وكفر وكفور" (4). والظاهر – والله أعلم – أن القرآن يستعمل (الشكور) لما هو أكثر من (الشكر)، فقد ورد لفظ (الشكور) مرتين في القرآن الكريم: إحداهما: هذه الآية التي وردت في سورة الإنسان، والأخرى: في قوله تعالى في سورة الفرقان: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 62]. وأما لفظ (الشكر) فقد ورد مرة واحدة، وذلك في سورة سبأ وهو قوله تعالى: {اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]. وبالنظر في هذه الآيات يتبين لنا ما يأتي: 1- إن كلمة (الشكر) استعملها مخاطبًا آل داود، فقال: {اعْمَلُوا آَلَ دَاوُودَ شُكْرًا} وآل داود قلة بالنسبة إلى عموم المؤمنين. 2- وأما ما في سورة الفرقان فهو يشمل عموم المؤمنين إلى قيام الساعة، وشكرهم في الليل والنهار فقال: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}. 3- وكذلك ما في سورة الإنسان فإنه ذكر من يُطِعم الطعام على حبه ومن يُطعَم، وهم كثرة متكاثرون إلى قيام الساعة. فاستعمل (الشكور) لما هو أكثر، ذلك أنه كلما كثر المؤمنون كثر الشكر فزاد في البناء لزيادة القائمين به، واستعمل البناء الأقل لمن هم أقل، فناسب بين البناء وصاحبه، ومثل هذه المناسبة كثير في القرآن الكريم (5). ثم لننظر من ناحية أخرى أنه قال في سورة الفرقان: {لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} فجاء بالفعل (يذّكر)، وهذا البناء في الاستعمال القرآني يدل على المبالغة في الفعل والإكثار منه لما فيه تضعيفين (6). فجاء بـ (الشكور) مع الفعل الذي يدل على المبالغة والكثرة في الفعل مما يدل على أنه يفيد المبالغة في الشكر، إذ لا شك أن المبالغ في التذكُّر مبالغ في الشكر أيضًا، والله أعلم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 231 إلى ص 236. (1) فتح القدير 5/337 – 338، وانظر روح المعاني 29/156. (2) الكشاف 3/297. (3) البحر المحيط 8/395، وانظر روح المعاني 29/156. (4) لسان العرب (شكر) 6/93، وانظر تاج العروس (شكر) 3/312. (5) انظر كتاب (بلاغة الكلمة في التعبير القرآني) صفحة 52 وما بعدها. (6) م. ن. ص 53 وما بعدها.
  • ﴿إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا ﴿١٠﴾    [الإنسان   آية:١٠]
{إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)} جملة مستأنفة تفيد التعليل، وهي تعلل الأمرين المذكورين في الآية قبلها، وهما قوله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ}، وقوله: {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}. فبالنسبة إلى القول الأول فالمعنى: إنما نطعمكم لوجه الله لأننا نخاف ذلك اليوم، فإن لم نطعمكم خفنا أن يعذبنا الله وألا يقينا شر ذلك اليوم، فهي تعليل للإطعام لوجه الله. وبالنسبة إلى قوله: {لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} فالمعنى: أننا لا نريد منكم الجزاء ولا الشكور خوفًا من ربنا أن يعذبنا لطلب المكافأة والشكر على ما قدمنا. فهذه الآية تعليل للآية قبلها بكل جزئياتها. وكسر همزة (إن) ليكون الخوف من هذا اليوم عامًا لا مخصصًا بالأمر المذكور. ولو فتح لكان الخوف تعليلًا لما قبلها فقط، أي إنا لا نريد منكم جزاءً ولا شكورًا لأننا نخاف من ربنا. وفتح الهمزة أيضًا يعني تعلـق المصدر المؤول بأحد الفعلين (نطعمكم) أو (نريد)، والأقرب أن يكون متعلقًا بقوله: (نريد) لئلا يفصل بين العامل والمعمول بأجنبي، فيكون الخوف من إرادة الجزاء لا من الإطعام، أي لا نريد منكم جزاء ولا شكورًا لأننا نخاف، فيقتصر المعنى على أمر واحد، فالكسر أولى على كل حال. جاء في (الكشاف): {إِنَّا نَخَافُ} يحتمل أن إحساننا إليكم للخوف من شدة ذلك اليوم لا لإرادة مكافأتكم، وإنا لا نريد منكم المكافأة لخوف عقاب الله تعالى على طلب المكافأة بالصدقة" (1). ووصف اليوم بالعبوس على المجاز، فكأنه هو عابس حقيقة فأضفى عليه الحياة والشعور، كما يقال: نهارك صائم وليلك قائم، وقوله: (وما ليل المطيّ بنائم)، أو هو على قصد إسناد العبوس لأهل ذلك اليوم، أي عابس أهله، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه. أو لإرادة الشمول والعموم والمبالغة، أي عابس هو وأهله، فيكون العبوس وصفًا عامًا لليوم ومن فيه، وجاء بالصفة على زنة المبالغة للدلالة على شدة العبوس والاتصاف به اتصافًا بليغًا. والقمطرير: الشديد العبوس، جاء في (الكشاف): "ووصف اليوم بالعبوس مجاز على طريقين: أن يوصف بصفة أهله من الأشقياء، كقولهم: نهارك صائم ... وأن يشبه في شدته وضرره بالأسد العبوس أو بالشجاع الباسل. و(القمطرير): الشديد العبوس الذي يجمع ما بين عينيه" (2). ومن الملاحظ أنه قال في هذه الآية: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا} فذكر الرب، وقال في الآية السابقة: {لِوَجْهِ اللَّهِ} فذكر (الله)، وذلك ليدل على أن الله هو الرب لا غيره، كما قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} فإن قسمًا يشركون بربهم، وقسمًا يرون أن الرب غير الله، كما قال تعالى: {إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ} [النحل: 54] فإن قسمًا من الناس يجعلون مع الله أربابًا فيشركون به كما دلت الآية السابقة، وقسمًا يتخذون من دون الله أربابًا كما قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ} [التوبة: 31] فأراد هنا أن يعلمنا أن الله هو الرب لا رب غيره وليس معه شريك فقال: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ .... إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا} فذكر (الله) وذكر أنه ربهم فجمع بين المعنيين. لقد ذكر في هذه الآيات عبادتين ظاهرتين وهما الوفاء بالنذر والإطعام، وعبادتين قلبيتين وهما الخوف من اليوم الآخر والإخلاص لله، ونفى عنهم إرادة شيئين وهما الجزاء والشكور، وذكر صنفين ممن يطعمون: صنفًا مسالمًا وصنفًا محاربًا وهو الأسير، وصنفين من المسالم وهما المسكين واليتيم وأحدهما بالغ والآخر قاصر. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 236 إلى ص 238. (1) الكشاف 3/297. (2) الكشاف 3/297.
  • ﴿فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا ﴿١١﴾    [الإنسان   آية:١١]
{فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11)} لما ذكر أنهم يخافون شر ذلك اليوم العبوس ذكر أنه تعالى وقاهم شره، ولقاهم بدل العبوس النضرة، والعبوس إنما يكون في الوجه، وكذلك النضرة، قال تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} [المطففين: ۲٤] وبدل الخوف السرور. والخوف محله القلب، وكذلك السرور، فقابل بين العبوس في الوجوه والنضرة فيها، وبين الخوف في القلب والسرور فيه. وقد تقول: إن مقابل الخوف هو الأمن وليس السرور، فنقول: إن السرور هو الأمن وزيادة، فقد يكون الإنسان آمنًا غير مسرور. وكذلك النضرة لا تقابل العبوس، وإنما هي زيادة في النعيم بادية على الوجه، فقد يكون الوجه غير عابس ولكنه غير نضر، ونضارة الوجه أدل على التنعم، وكذلك السرور. جاء في (التفسير الكبير): "اعلم أنه تعالى لما حكى عنهم أنهم أتوا بالطاعات لغرضين: طلب رضا ال له والخوف من القيامة، بيّن في هذه الآية أنه أعطاهم هذين الغرضين. أما الحفظ من هول القيامة فهو المراد بقوله: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ} ... وأما طلب رضاء الله تعالى فأعطاهم بسببه نضرة في الوجه وسرورًا في القلب ... والتنكير في (سرورًا) للتعظيم والتفخيم" (1). وجاء في (الكشاف): "أي أعطاهم بدل عبوس الفجار وحزنهم نضرة في الوجوه وسرورًا في القلب، وهذا يدل على أن اليوم موصوف بعبوس أهله" (2). وقد تقول: ولم قال في آية سابقة: {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} ولم يقل: (يخافون شر يوم كان مستطيرًا)؟ وبعبارة أخرى: لم قال: إنهم يخافون اليوم ولم يقل: يخافون الشر. في حين قال في هذه الآية: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ} فذكر هناك أنهم خافوا اليوم، وذكر هنا أنه وقاهم شر ذلك اليوم؟ والجواب: أنهم يخافون ذلك اليوم وما فيه من أهوال هائلة ومصاعب شديدة، فإن ذلك اليوم كما قال تعالى - يوم عسير تتقلب فيه القلوب والأبصار، فهم يخافون ذلك اليوم بما فيه من مصاعب وشرور وأهوال، وهو يوم لا مناص لهم من شهوده، فقال: إنه وقاهم شر ذلك اليوم، ولم يقهم مشهد ذلك اليوم الذي يجعل الولدان شيبًا وأحواله وأحداثه، وكل منها مهول، فحسبهم أن وقاهم شره. وفي هذا إنذار وتخويف عظيمان. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 238 إلى ص 240. (1) التفسير الكبير 30/245. (2) الكشاف 3/297، وانظر البحر المحيط 8/396.
  • ﴿وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ﴿١٢﴾    [الإنسان   آية:١٢]
{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)} قال هنا: (وجزاهم)، وقال في الآية السابقة: (ولقاهم) ؛ لأن ذلك ليس جزاء وإنما هو قبل الجزاء، فال لقاء أولًا، والجزاء بعد، فلقوا أولاً نضرة وسرورًا، وجزاهم بعد اللقاء جنة وحريرًا. وقوله: {بِمَا صَبَرُوا} يحتمل أن يكون معناه (بصبرهم) فتكون (ما) مصدرية، ويحتمل أن يكون (بالذي صبروا عليه) من الطاعات والإيثار والحاجة. وحذف العائد ليشمل الاثنين، أي بصبرهم وما صبروا عليه، فيكون من التوسع في المعنى والله أعلم. ولا أذهب إلى وجوب تماثل حرفي الجر الداخلين على الموصول والعائد ليجوز حذف العائد المجرور بالحرف، وإنما يكفي تعين الحرف وعدم اللبس، لورود ذلك في الفصيح. قال تعالى: {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ} [الشورى: 23] أي به، فقد حذف العائد مع حرف الجر ولم يدخل على الموصول مثله، وقال: {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا} [الفرقان: 60]. أي به (1). وقد اختلف الحرفان. وقوله : {جَنَّةً وَحَرِيرًا} جمع أمرين : الجنة والحرير. والجنة في اللغة هي البستان، قال تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} [القلم: 17]، وقال: {كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آَتَتْ أُكُلَهَا} [الكهف: 33]. ثم أطلقت الجنة على دار السعادة في الآخرة. والحرير معلوم. فالجنة للأكل، والحرير للبس، ذلك أنهم أطعموا لوجه الله، فجزاهم بذلك جنة يأكلون منها، وزاد عليه الحرير يلبسون منه تفضلاً منه، ذلك أن الله يجزي الحسنة بخير منها، قال تعالى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا} [النمل: 89]. جاء في (الكشاف): "{بِمَا صَبَرُوا} بصبرهم على الإيثار ... فإن قلت: ما معنى ذكر الحرير مع الجنة؟ قلت: المعنى: وجزاهم بصبرهم على الإيثار وما يؤدي إليه من الجوع والعري بستانًا فيه مأكل هني، وحريرًا فيه ملبس بهي" (2). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 240 إلى ص 241. (1) انظر شرح الرضي على الكافية 2/42. (2) الكشاف 3/297، وانظر البحر المحيط 8/396.
  • ﴿مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا ﴿١٣﴾    [الإنسان   آية:١٣]
{مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) } كرر (فيها) مرتين فقال: { مُتَّكِئِينَ فِيهَا ..... لَا يَرَوْنَ فِيهَا} وذلك لأن حذف الثانية يوقع في اللبس، فإنه لو قال: (لا يرون شمسًا ولا زمهريرًا) لأوهم أن عدم الرؤية هذه هي عند الاتكاء على الأرائك، فإذا غادروا مكان الجلوس رأوا فيها الشمس والزمهرير، فذكر (فيها) لإفادة أنه ليس في الجنة شمس ولا زمهرير، وليس نفى الرؤية عند الاتكاء فقط. وقوله: {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} قيل: المراد منه أنهم لا يذوقون فيها الحر ولا البرد؛ لأنها ليس فيها أشد شمس فتلفحهم بحرها، وليس فيها برد شديد، والزمهرير: هو أشدّ البرد (1). وقيل: إن المعنى ليس فيها شمس ولا قمر؛ لأن الزمهرير هو القمر بلغة بعض العرب (2). وعلى هذا يكون المعنى أنها نور يتلألأ فلا تحتاج إلى شمس أو قمر، فهي أضو من الشمس وأنور من القمر، وأنها ليس فيها ليل وإنما هي نور مستديم. والحق أن المراد كل هذه المعاني، فالجنة جوها معتدل لا فيها حر شديد ولا برد مؤذ، وأنها لا شمس فيها ولا قمر وإنما هي مشرقة بنور ربها. وقال: (زمهريرًا) ولم يقل: (قمرًا) ليجمع المعنيين: الاعتدال في الجو والنور المتلألئ، جاء في (الكشاف): "يعنى أن هواءها معتدل، لا حر شمس يحمى ولا شدة برد تؤذي ... وقيل الزمهرير: القمر ... والمعنى: أن الجنة ضياء فلا يحتاج فيها إلى شمس وقمر" (3). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 241 إلى ص 242. (1) الكشاف 3/297. (2) البحر المحيط 8/392. (3) الكشاف 3/297.
  • ﴿وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا ﴿١٤﴾    [الإنسان   آية:١٤]
{وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14)} جمع لهم بين دنو الظلال وتذليل القطوف، وهما صورتان متقاربتان، فتذليل القطوف يعني أن يكون ذلك في متناولهم كيف شاءوا، وفيه دلالة على دنوها منهم، كما قال تعالى: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة : ۲۳]. فتذليل القطوف يعني دنوها منهم، وأنه "لا يرد اليد عنها بعد ولا شوك" (1). فالظلال دانية عليهم، والقطوف مذللة لهم دانية منهم. وقد عطف الفعل (ذللت) على اسم الفاعل (دانية) ذلك أن الظلال ثابتة ودنوها متصل، فجيء به باسم الفاعل الدال على الثبوت، أما القطوف فهي متجددة، فتذليلها يتجدد بحسب الحاجة، فجيء بالفعل الدال على التجدد، جاء في (روح المعاني) أن نكتة التخالف بين الفعلية والاسمية هي: "أن استدامة الظل مطلوبة هنالك، والتجدد في تذليل القطوف على حسب الحاجة" (2). وجوز الزمخشري أيضًا أن يكون إعراب (دانية) صفة لجنة محذوفة، فيكون التقدير: وجزاهم جنة أخرى دانية عليهم ظلالها، فيكون المعنى على النحو الآتي: وجزاهم بما صبروا جنة وحريرًا، وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها، فيدل على أنه وعدهم جنتين. جاء في (الكشاف): "ودخلت الواو للدلالة على أن الأمرين مجتمعان لهم، كأنه قيل: وجزاهم جنة جامعين فيها بين البعد عن الحر والقرّ ودنوّ الظل عليهم ... ويجوز أن يكون (دانية) معطوفة على جنة، أي وجنة أخرى دانية عليهم ظلالها، على أنهم وعدوا جنتين، كقوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] لأنهم وصفوا بالخوف {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا} ... وتذليل القطوف أن تجعل ذلالًا تمتنع على قطـافهـا كيـف شاءوا" (3). ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 242 إلى ص 244. (1) البحر المحيط 8/396. (2) روح المعاني 29/159. (3) الكشاف 3/298.
  • ﴿وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا ﴿١٥﴾    [الإنسان   آية:١٥]
  • ﴿قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا ﴿١٦﴾    [الإنسان   آية:١٦]
{وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16)} لما ذكر أمر الفاكهة وأنها مذللة لهم يتناولونها كيفما شاءوا ذكر بعدها التنعم بالشراب، فذكر أنه يطاف عليهم به، وأنه مذلل لهم أيضًا لا يبذلون جهدًا للوصول إليه بل يطاف عليهم به، فقدم ذكر المطعوم وتلاه بذكر المشروب، وهذا شأن القرآن الكريم، فإنه يقدم الأكل على الشرب حيث اجتمعا، قال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24]، وقال: {كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ} [البقرة: 60]، وقال: {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 79]. ومعنى {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ}: "أنها مخلوقة من فضة، وهي مع بياض الفضة وحسنها في صفاء القوارير وشفيفتها. فإن قلت: ما معنى (كان)؟ قلت: هو من (يكون) في قوله: {كُنْ فَيَكُونُ} أي تكونت قوارير بتكوين الله تفخيمًا لتلك الخلقة العجيبة الشأن، الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين. ومنه (كان) في قوله: {كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا}" (1). ومعنى {قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} أنها جاءت على مقدار حاجتهم فلا يزيد عليها ولا ينقص عنها، فلا تقول: ليته لم يفضل أو ليته كان أكثر . جاء في (البحر المحيط): "ومعنى تقديرهم لها أنهم قدروها في أنفسهم على مقادير وأشكال على حسب شهواتهم، فجاءت كما قدروها. وقيل: الضمير للطائفين بها، يدل عليه قوله: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ} على أنهم قدروا شرابها على قدر الريّ، وهو ألذ الشراب، لكونه على مقدار حاجته لا يفضل عنها ولا يعجز" (2). وقد تقول: ولم ذكر هنا أن الآنية من فضة وأن أكوابها قوارير من فضة، في حين ذكر في مكان آخر أنه يطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب؟ فنقول: إن كل موضع يقتضي ما ذكر فيه، وإليك إيضاح ذلك: قال تعالى في سورة الإنسان: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآَنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَ (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} وقال في سورة الزخرف: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} [الزخرف: 67 – 73]. ومن النظر في آيات النصين يتبين ما يأتي: 1- أنه ذكر في آيات الزخرف أن هؤلاء متقون. ۲- وأضافهم إلى نفسه فقال: (يا عباد). 3- أنه طمأنهم من الخوف والحزن فقال مخاطبًا لهم: {لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ}. في حين قال في سورة الإنسان: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ} بصيغة الغائب، والخطاب بالطمأنة أعلى من الإخبار بصيغة الغيبة. 4- ذكر أنهم جمعوا بين الإيمان والإسلام {الَّذِينَ آَمَنُوا بِآَيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ}، وهذا يعني التصديق بالقلب والطاعة والانقياد لله بالعمل، ويدخل في هذا ما ورد في سورة الإنسان: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا .....} فإن هذا جزء من صفات المتقين الذين آمنوا بآيات الله وكانوا مسلمين. فما ذكره في الزخرف أعم وأشمل مما ذكره في سورة الإنسان. 5- ذكر في سورة الزخرف أنه سبحانه ناداهم مخاطبًا لهم بقوله: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ}. في حين ذكر ذلك بصورة الغائب في سورة الإنسان فقال: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} والتكريم بالخطاب أعلى من الإخبار بالغيبة. ٦- ذكر في آيات الزخرف أنه أدخلهم الجنة هم وأزواجهم زيادة في الإكرام والنعيم فقال: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ}. ٧- ثم قال في سورة الزخرف: (تحبرون)، وقال في سورة الإنسان: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا}، ومعنى الحبور: السرور والحسن والبهاء والجمال والنضارة والنعمة وأثرها والإكرام المبالغ فيه وسعة العيش. جاء في (لسان العرب): "الحَبْر والسَّبْر والحِبْر والسِّبْر كل ذلك الحسن والبهاء ... وقيل: هو الجمال والبهاء وأثر النعمة ... حبرني هذا الأمر حبرًا، أي سرني ... وأحبرني الأمر: سرّني ... وفي التنزيل العزيز {فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ} أي يُسرون، وقال الليث: يحبرون: ينعمون ويكرمون ... وقال الأزهـري: الحبـرة في اللغة: النعمة التامة ... الحَبرة بالفتح: النعمة وسعة العيش ... وقال الزجاج في قوله تعالى: {أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} معناه تكرمون إكرامًا يبالغ فيه" (3). وجاء في (الكشاف): "{تُحْبَرُونَ} تسرون سرورا يظهر حباره، أي أثره على وجوهكم، كقوله تعالى: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} ... والحبرة: المبالغة فيما وصف بجميل" (4). فشمل ذلك ما في سورة الإنسان وزيادة. ٨- قال في سورة الزخرف إن فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين. ۹- وإنهم فيها خالدون. ۱۰- وذكر أن لهم فيها فاكهة كثيرة. فكان ما ذكره في سورة الزخرف أعلى، فناسب ذلك ذكر الصحاف من الذهب والأكواب، وناسب في سورة الإنسان ذكر الآنية من الفضة وأن الأكواب قوارير من فضة، وإن كانت فضة الجنة لا تشبه ها فضة الدنيا، إذ ليس في الدنيا قوارير من فضة. وهناك أمر آخر حسن ذكر الذهب في آيات الزخرف وهو أن جو السورة شاع فيه ذكر الذهب والزينة والتنعم به. فقد قال في سورة الزخرف: {وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} [الزخرف: 33 – 35]. فإذا كان ذلك في الدنيا وهو أن يجعل لبيوت الكفرة سُقُفًا من فضة ومعارج عليها يظهرون، ويجعل لهم زخرفًا، والزخرف هو الزينة والذهب (5)، فلا يناسب أن يكون النعيم في الآخرة أقل من ذلك. ومن الظاهر أن سُقُف الفضة والمعارج أدل على النعيم من صحاف الفضة. ثم إنه لما قال في ختام هذه الآيات: {وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} ثم ذكر جزاءهم في الآخرة فقال: {الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ} ناسب أن يكون جزاء المتقين في الأخرة أعلى بكثير مما كان سيعطيه للكافرين في الدنيا. وجاء في السورة أيضًا أن فرعون استكبر في نفسه وقال: {أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي} واستخف بموسى قائلًا: {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} فلا يناسب أن يذكر أن صحاف الجنة من فضة، فناسب ذكر الصحاف من الذهب في الزخرف من كل وجه . والأظهر - والله أعلم - أنه يطاف عليهم أحيانًا بآنية من ذهب وأحيانًا بآنية من الفضة العجيبة، وقد يجمع بينهما زيادة في الإكرام والنعيم، غير أنه ذكر كل نوع فيما يناسبه من المقام. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 244 إلى ص 248. (1) الكشاف 3/298، وانظر البحر المحيط 8/397. (2) البحر المحيط 8/397. (3) لسان العرب (حبر) 5/229. (4) الكشاف 3/102، وانظر البحر المحيط 8/26. (5) انظر لسان العرب (زخرف) 11/32، البحر المحيط 8/15، الكشاف 3/96.
  • ﴿وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلًا ﴿١٧﴾    [الإنسان   آية:١٧]
  • ﴿عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا ﴿١٨﴾    [الإنسان   آية:١٨]
{وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18)} لما ذكر أنه يطاف عليه بالآنية والأكواب ناسب أن يقول: (ويسقّون) دون (يشربون)، ولما لم يذكر الآنية والطائفين بها في الآية قبلها وهي قوله: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} ناسب أن يذكر الشرب دون السقي، فإن الطائفين يسقونهم. جاء في (روح المعاني): عن قتادة: "يشرب منها المقربون صرفًا وتمزج لسائر أهل الجنة. والظاهر أنهم تارة يشربون من كأس مزاجها كافور، وتارة يسقون من كأس مزاجها زنجبيل، ولعل ذكر (يسقون) هنا دون (يشربون) لأنه الأنسب بما تقدمه من قوله تعالى: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ} ... الخ، ويمكن أن يكون فيه رمز إلى أن هذه الكأس أعلى شأنًا من الكأس الأولى" (1). ولفظ السلسبيل يوحي بالسلاسة وسهولة المساغ، وهو ما يقابل طعام الكفار الذي قال فيه سبحانه: {إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا} [المزمل: 12 – 13] وهو الطعام الذي ينشب في الحلق. جاء في (الكشاف): "{تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} لسلاسة انحدارها في الحلق وسهولة مساغها ... قال الزجاج: السلسبيل في اللغة: صفة لما كان في غاية السلاسة" (2). والذي يظهر - كما أشار إليه صاحب روح المعاني - أن هذا الشراب أعلى من الذي قبله، يدل على ذلك أمور منها: 1- أن هذا الشراب يُسقونه فيحمله الولدان المخلدون إلى أماكنهم. ۲- وصف آنية الشراب التي يطاف بها عليهم. 3- ذكر الطائفين به ووصفهم بأنهم كاللؤلؤ المنثور. ولم يذكر مثل ذلك في الشراب الأول، مما يدل على أن هذا الشراب أعلى. ومن الملاحظ أنه استوفي عناصر الطواف كلها، فقد ذكر الطائفين وهم الولدان المخلدون، والمطوف عليهم وهم الأبرار، والمطوف به وهي آنية الفضة وأكواب القوارير وما يسقون فيها من شراب. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 248 إلى ص 249. (1) روح المعاني 29/160. (2) الكشاف 3/298.
  • ﴿وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَّنثُورًا ﴿١٩﴾    [الإنسان   آية:١٩]
{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19)} بعد أن وصف الآنية والشراب وصف السقاة الذي يسقونهم، فذكر أن من رآهم حسبهم لؤلؤًا منثورًا، ووصفهم باللؤلؤ المنثور لأنهم منتشرون في كل مكان وليسوا في مكان واحد. جاء في (فتح القدير): "لما فرغ سبحانه من وصف شرابهم ووصف آنيتهم ووصفَ السُّقاة الذين يسقونهم ذلك الشراب ... {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا} ... قال أهل المعاني: إنما شبهوا بالمنثور لانتثارهم في الخدمة، ولو كانوا صفًّا لشبهوا بالمنظوم. قيل: إنما شبههم بالمنثور لأنهم سراع في الخدمة، بخلاف الحور العين، فإنه شبههن باللؤلؤ المكنون لأنهن لا يمتهنّ بالخدمة" (1). ووصف الولدان بأنهم مخلدون لئلا يسبق إلى الوهم أنهم يشيبون أو يكبرون أو يتغير حسنهم وصفاؤهم أو يعجزون عن الخدمة. وجاء بـ (إذا) الدالة على التحقق واليقين إخبارًا بأنه سيراهم حتمًا. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 250 إلى ص 250. (1) فتح القدير 5/341.
إظهار النتائج من 10921 إلى 10930 من إجمالي 11693 نتيجة.