عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴿١٧٠﴾    [البقرة   آية:١٧٠]
(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وقد وردت في سورة المائدة آية أخرى بالمعنى نفسه ولكن بخلاف في اللفظ، فهنا في سورة البقرة يقول الحق: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ ). وفي آية سورة المائدة يقول الحق:{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَىا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ }[المائدة: 104] وبين الآيتين اتفاق واختلاف، الخلاف الأول فى قوله الحق هنا: ( اتَّبِعُوا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ ) وهي تعني أن نمعن النظر وأن نطبق منهج الله. وآية سورة المائدة ( تَعَالَوْاْ إِلَىا مَآ أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ ) هذا هو الخلاف الأول. والخلاف الثاني في الآيتين هو في جوابهم على كلام الحق، ففي هذه السورة ـ سورة البقرة ـ قالوا: ( بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ ) وهذا القول فيه مؤاخذة لهم. لكنهم في سورة المائدة قالوا: ( حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ ) ، وهذه تعني أنهم اكتفوا بما عندهم؛ ونفوا اتباع منهج السماء، وهذا الموقف أقوى وأشد نفيا، لذلك نجد أن الحق لم يخاطبهم في هذه الآية بـ ( اتَّبِعُوا ) بل قال لهم: ( تَعَالَوْاْ ) أي ارتفعوا من حضيض ما عندكم إلى الإيمان بمنهج السماء. ومادمتم قد قلتم: حسبنا بملء الفم؛ فهذا يعني أنكم اكتفيتم بما أنتم عليه. وكلمة ( حَسْبُنَا ) فيها بحث لطيف؛ لأن من يقول هذه الكلمة قد حسب كلامه واكتفى، وكلمة الحساب تدل على الدقة، والحساب يفيد العدد والأرقام. فقولهم: ( حَسْبُنَا ) تعني أنهم حسبوا الأمر واكتفوا به ونجد كل ورود لهذه الكلمة في القرآن يفيد أنها مرة تأتي لحساب الرقم المادي، ومرة تأتي لحساب الإدراك الظني. فالحق يقول:{ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ }[العنكبوت: 2] ومعناها: هل ظن الناس أن يتركوا دون اختبار لإيمانهم؟. هذا حساب ليس بالرقم، وإنما حساب بالفكر، والحساب بالفكر يمكن أن يخطئ، ولذلك نسميه الظن. والحق سبحانه يقول:{ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ }[المؤمنون: 115]. إذن، فكلمة " حساب " تأتي مرة بمعنى الشيء المحسوب والمعدود، ومرة تأتي في المعنويات، ونعرفها بالفعل، فإذا قلت: حَسَبَ يَحسِب؛ فالمعنى عَدَّ. وإذا قلت: حَسِبَ يَحسَب؛ فهي للظن. وفيه ماضٍ وفيه مضارع، إن كنت تريد العد الرقمي الذي لا يختلف فيه أحد تقول: " حَسَبَ بفتح السين في الماضي وبكسرها في المضارع يَحسِب ". وإن أردت بها حسبان الظن الذي يحدث فيه خلل تقول: " حَسِبَ " بالكسر، والمضارع " يَحْسَبُ " بالفتح. وعندما يتكلم الحق سبحانه وتعالى عن حساب الآخرة، فمعنى ذلك أنه شيء محسوب، لكن إذا بولغ في المحسوب يكون حسبانا، وكما نقول: " غفر غفراً " و " شكر شكراً " ، يمكن أن نقول: " غفر غفراناً " و " شكر شكراناً ". كذلك " حسب حسباناً " ، والحسبان هو الحساب الدقيق جداً الذي لا يخطئ أبداً. ولذلك يأتي الحق سبحانه وتعالى بكلمة " حسبان " في الأمور الدقيقة التي خلقت بقدر ونظام دقيق؛ إن اختل فيها شيء يحدث خلل في الكون، فيقول:{ الرَّحْمَـانُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ البَيَانَ * الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ }[الرحمن: 1ـ5] أي أن الكون يسير بنظام دقيق جداً؛ لا يختل أبداً، لأنه لو حدث أدنى خلل في أداء الشمس والقمر لوظيفتيهما؛ فنظام الكون يفسد. لذلك لم يقل الحق: " الشمس والقمر بحساب " ، وإنما قال: ( بحسبان ) وبعد ذلك فيه فرق بين " الحسبان " و " المحسوب بالحسبان "؛ والحق سبحانه وتعالى حينما يقول:{ فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ الَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً }[الأنعام: 96] لم يقل: بحسبان، لأنها هي في ذاتها حساب وليست محسوبة، أي أن حسابها آلي. وتأتي الكلمة بصورة أخرى في سورة الكهف في قوله تعالى:{ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَآءِ }[الكهف: 40] المعنى هنا شيء للعقاب على قدر الظلم. تماما هذه هي مادة الحساب.. وقولهم: ( حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ { في ظاهرها أبلغ من قولهم: ( نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ ) لكن كل من اللفظين مناسب للسياق الذي جاء فيه فـ ( اتَّبِعُوا ) يناسبها ( نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا ) وقوله تعالى: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ ) يناسبها قولهم: ( حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ {؛ يعني كافينا ما عندنا ولا نريد شيئا غيره. ومن هنا نفهم لماذا جاء الحق في آية البقرة بقوله: ( اتَّبِعُوا ) ، وفي آية المائدة: ( تَعَالَوْاْ ) ، وجاء جوابهم في سورة البقرة: ( بَلْ نَتَّبِعُ ) ، وفي سورة المائدة: ( حَسْبُنَا ). وهناك خلاف ثالث في الآيتين: ففي آية البقرة قال: ( أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً ). وفي آية المائدة قال؛ ( أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً ). الخلاف في ( لاَ يَعْقِلُونَ ) و ( لاَ يَعْلَمُونَ ). وما الفرق بين " يعقلون " و " يعلمون "؟. إن " يعقلون " تعني ما ينشأ عن فكرهم وتدبرهم للأمور، لكن هناك أناس لا يعرفون كيف يعقلون، ولذلك يأخذون القضايا مسلماً بها كعلم من غيرهم الذي عقل. إذن فالذي يعلم أقل منزلة من الذي يعقل، لأن الذي عقل هو إنسان قد استنبط، وأما الذي علم فقد أخذ علم غيره. وعلى سبيل المثال، فالأمي الذي أخذ حكما من الأحكام هو قد علمه من غيره، لكنه لم يتعقله، إذن فنفي العلم عن شخص أبلغ من نفي التعقل؛ لأن معنى " لا يعلم " أي أنه ليس لديه شيء من علم غيره أو علمه. وعندما يقول الحق سبحانه: } لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً { فمعنى ذلك أنه من المحتمل أن يعلموا، لكن عندما يقول: } لاَ يَعْلَمُونَ { فمعناه أنهم لا يعقلون ولا يعلمون، وهذا يناسب ردهم. فعندما قالوا: } بَلْ نَتَّبِعُ { فكان وصفهم بـ } لاَ يَعْقِلُونَ {. وعندما قالوا: } حَسْبُنَا { وصفهم بأنهم } لاَ يَعْلَمُونَ { كالحيوانات تماما. ونخلص مما سبق أن هناك ثلاث ملحوظات على الآيتين: في الآية الأولى قال: ( اتَّبِعُوا ) ، وكان الرد منهم ( نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا ) والرد على الرد ( أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً ). وفي الآية الثانية قال: ( تَعَالَوْاْ ) ، وكان الرد منهم ( حَسْبُنَا ) ، فكان الرد عليهم ( أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً ). وهكذا نرى أن كلا من الآيتين منسجمة، ولا يقولن أحد: إن آية جاءت بأسلوب، والأخرى بأسلوب آخر، فكل آية جاءت على أسلوبها يتطلبها فهي الأبلغ، فكل آية في القرآن منسجمة كلماتها مع جملها ومع سياقها. وقوله تعالى: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ) مبنية للمفعول ليتضمن كل قول جاء على لسان أي رسول من الله من بدء الرسالات، فهي ليست قضية اليوم فقط إنما هي قضية قيلت من قبل ذلك. إن المعنى هو: إذا قيل لهم من أي رسول، اتبعوا ما أنزل الله قالوا: ( بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ). ويختم الحق الآية في سورة البقرة بقوله: ( وَلاَ يَهْتَدُونَ ). وكذلك كان ختام آية المائدة: ( وَلاَ يَهْتَدُونَ )؛ لنعلم أن هدى السماء لا يختلف بين عقل وعلم، فالأولى جاءت بعد قوله تعالى: ( أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ) والثانية جاءت في ختام قوله تعالى: ( أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ ) وذلك للدلالة على أن هدى السماء لا يختلف بين من يعقلون ومن يعلمون.