عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلَاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴿٤٩﴾    [البقرة   آية:٤٩]
(وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) والآية التي نحن بصددها وردت ثلاث مرات في القرآن الكريم. قوله تعالى: { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ } [البقرة: 49] { وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ }[الأعراف: 141] وقوله جل جلاله في سورة إبراهيم:{ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ }[إبراهيم: 6] الاختلاف بين الأولى والثانية هو قوله تعالى في الآية الأولى: { يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ }. وفي الثانية: { يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ }. " ونجينا " في الآية الأولى: " وأنجينا " في الآية الثانية. ما الفرق بين نجينا وأنجينا؟ هذا هو الخلاف الذي يستحق أن تتوقف عنده.. في سورة البقرة: { وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ }.. الكلام هنا من الله. أما في سورة إبراهيم فنجد { اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ }. الكلام هنا كلام موسى عليه السلام. ما الفرق بين كلام الله سبحانه وتعالى وكلام موسى؟.. إن كلام موسى يحكي عن كلام الله. إن الله سبحانه وتعالى حين يمتن على عباده يمتن عليهم بقمم النعمة، ولا يمتن بالنعم الصغيرة. والله تبارك وتعالى حين امتن على بني إسرائيل قال: { نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ }. ولم يتكلم عن العذاب الذي كان يلاقيه قوم موسى من آل فرعون. إنهم كانوا يأخذونهم أجراء في الأرض ليحرثوا وفي الجبال لينحتوا الحجر وفي المنازل ليخدموا. ومن ليس له عمل يفرضون عليه الجزية. ولذلك كان اليهود يمكرون ويسيرون بملابس قديمة حتى يتهاون فرعون في أخذ الجزية منهم. وهذا معنى قول الحق سبحانه وتعالى:{ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ }[البقرة: 61] أي أنهم يتمسكون ويظهرون الذلة حتى لا يدفعوا الجزية. ولكن الحق سبحانه وتعالى لم يمتن عليهم بأنه أنجاهم من كل هذا العذاب. بل يمتن عليهم بقمة النعمة. وهي نجاة الأبناء من الذبح واستحياء النساء. لأنهم في هذه الحالة ستستذل نساؤهم ورجالهم. فالمرأة لا تجد رجلا يحميها وتنحرف. كلمة نجَّى وكلمة أنجى بينهما فرق كبير.كلمة نَجَّى تكون وقت نزول العذاب. وكلمة أنجى يمنع عنهم العذاب. الأولى للتخليص من العذاب والثانية يبعد عنهم عذاب فرعون نهائيا. ففضل الله عليهم كان على مرحلتين. مرحلة أنه خلصهم من عذاب واقع عليهم. والمرحلة الثانية أنه أبعدهم عن آل فرعون فمنع عنهم العذاب. قوله تعالى: ( يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ) ما هو السوء؟ إنه المشتمل على ألوان شتى من العذاب كالجلد والسخرة والعمل بالأشغال الشاقة. ما معنى يسوم؟ يقال سام فلان خصمه أي أذله وأعنته وأرهقه. وسام مأخوذة من سام الماشية تركها ترعى. لذلك سميت بالسام أي المتروكة. وعندما يقال إن فرعون يسوم بني إسرائيل سوء العذاب. معناها أن كل حياتهم ذل وعذاب.. فتجد أن الله سبحانه وتعالى عندما يتكلم عن حكام مصر من الفراعنة يتكلم عن فراعنة قدماء كانوا في عهد عاد وعهد ثمود. بعد أن تحدثنا عن الفرق بين نجيناكم وأنجيناكم. نتحدث عن الفرق بين ( يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ ). و ( يُقَتِّلُونَ أَبْنَآءَكُمْ ).. الذبح غير القتل.. الذبح لابد فيه من إراقة دماء. والذبح عادة يتم بقطع الشرايين عند الرقبة، ولكن القتل قد يكون بالذبح أو بغيره كالخنق والإغراق. كل هذا قتل ليس شرطا فيه أن تسفك الدماء. والحق سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أن فرعون حينما أراد أن ينتقم من ذرية بني إسرائيل انتقم منهم انتقامين.. انتقاما لأنهم كانوا حلفاء للهكسوس وساعدوهم على احتلال مصر. ولذلك فإن ملك الهكسوس اتخذ يوسف وزيرا. فكأن الهكسوس كانوا موالين لبني إسرائيل. وعندما انتصر الفراعنة انتقموا من بني إسرائيل بكل وسائل الانتقام. قتلوهم وأحرقوا عليهم بيوتهم. أما مسألة الذبح في قوله تعالى: ( يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ ) فلقد رأى فرعون نارا هبت من ناحية بيت المقدس فأحرقت كل المصريين ولم ينج منها غير بني إسرائيل. فلما طلب فرعون تأويل الرؤيا. قال له الكهان يخرج من ذرية إسرائيل ولد يكون على يده نهاية ملكك. فأمر القوابل (الدايات) بذبح كل مولود ذكر من ذرية بني إسرائيل. ولكن قوم فرعون الذين تعودوا السلطة قالوا لفرعون: إن بني إسرائيل يوشك أن ينقرضوا وهم يقومون بالخدمات لهم. فجعل الذبح سنة والسنة الثانية يبقون على المواليد الذكور. وهارون ولد في السنة التي لم يكن فيها ذبح فنجا. وموسى ولد في السنة التي فيها ذبح فحدث ما حدث. إذن سبب الذبح هو خوف فرعون من ضياع ملكه. وفرض الذبح حتى يتأكد قوم فرعون من موت المولد. ولو فعلوه بأي طريقة أخرى كأن القوة من فوق جبل أو ضربوه بحجر غليظ. أو طعنوه بسيف أو برمح قد ينجو من الموت. ولكن الذبح يجعلهم يتأكدون من موته في الحال فلا ينجو أحد. والحق يقول: ( يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ ). كلمة الابن تطلق على الذكر، ولكن الولد يطلق على الذكر والأنثى. ولذلك كان الذبح للذكور فقط. أما النساء فكانوا يتركونهن أحياء. ولكن لماذا لم يقل الحق تبارك وتعالى يذبحون أبناءكم ويستحيون بناتكم بدلا من قوله يستحيون نساءكم. الحق سبحانه وتعالى يريد أن يلفتنا إلى أن الفكرة من هذا هو إبقاء عنصر الأنوثة يتمتع بهن آل فرعون. لذلك لم يقل بنات ولكنه قال نساء. أي أنهم يريدونهن للمتعة وذلك للتنكيل ببني إسرائيل. ولا يقتل رجولة الرجل إلا أنه يرى الفاحشة تصنع في نسائه. والحق سبحانه وتعالى يقول: ( وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ). ما هو البلاء؟ بعض الناس يقول إن البلاء هو الشر. ولكن الله تبارك وتعالى يقول: ( وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ ) إذن هناك بلاء بالخير وبلاء بالشر. والبلاء كلمة لا تخيف. أما الذي يخيف هو نتيجة هذا البلاء؛ لأن البلاء هو امتحان أو اختبار. إن أديته ونجحت فيه كان خيرا لك. وأن لم تؤده كان وبالا عليك. والحق سبحانه وتعالى يقول في خليله إبراهيم:{ وَإِذِ ابْتَلَىا إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً }[البقرة: 124] فإبراهيم نجح في الامتحان، والبلاء جاء لبني إسرائيل من جهتين.. بلاء الشر بتعذيبهم وتقتيلهم وذبح أبنائهم. وبلاء الخير بإنجائهم من آل فرعون. ولقد نجح بنو إسرائيل في البلاء الأول. وصبروا على العذاب والقهر وكان بلاء عظيما. وفي البلاء الثاني فعلوا أشياء سنتعرض لها في حينها.