التدبر

١٢١ ﴿ يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ رغم متاعب الأمر وتضحياته نصح به الأب الحنون ابنه. الوقفة كاملة
١٢٢ اعمل لدينك وفق منهاج النبوة، وأحسن الظن بالله، واحذر الاستعجال أو اليأس، فكثير مما بشر به النبي ﷺ لم يتحقق في حياته، كفتح فارس والروم: {فاصبر إن وعد الله حق ولا يستخفنك الذين لا يوقنون}. الوقفة كاملة
١٢٣ {أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً} هكذا بلاغة القرآن فقد بيَّن في جمل يسيرة منهج التعامل مع الخلق مؤمنهم وكافرهم، والتعامل مع الخالق بإخلاص وعلوِّ غاية. الوقفة كاملة
١٢٤ كم يعيش بعض الناس في أوهام من تخويف الشيطان، تحزنهم وتفسد عليهم حياتهم: {وظننتم ظن السوء وكنتم قومًا بورًا}، وكم يعيش آخرون في راحة وسعادة تسعدهم وتسعد من حولهم: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}. الوقفة كاملة
١٢٥ جاء بالميزان في هذه الآيات، لتنبيه الإنسان الذي يريد أن تستقيم حياته كما استقامت كواكب الكون بانتظام أن يقيم العدل ولا يظلم أحداً فتستقيم له الحياة كما استقامت هذه الكواكب . (في المطبوع 24/14813) الوقفة كاملة
١٢٦ ما قرأتُ ( ودخل معه السجن فتيان ) إلا هان عليَّ ما يُصيبني من هَم وبلاء ، فلستَ وحدك من يشكو ويتألم . —— وكذلك الأنبياء فتهون على الإنسان همومه وأحزانه إذا تذكر الابتلاءات التي مر بها سيدنا محمد ﷺ ، تصور أنه دفن ستة من أبنائه في حياته ! ‏وفي عام واحد توفيت زوجته وعمه ، وهما من هما في نصرته وحمايته ! ‏وفي أقل من أربعة أشهر فقد ١٤٠ من أصحابه ، سبعين في أُحد وسبعين في بئر معونة ، منهم عمه حمزة ! الوقفة كاملة
١٢٧ (يقول يا ليتني قدمت لحياتي) ما أتعس من أضاع (حياته) بــ (حياتهِ) . . الوقفة كاملة
١٢٨ {وأصلحنا له زوجه} قد يكون أحد الزوجين صالحًا في نفسه، لكنه غير صالح لشريك حياته، فالتوجه إلى الله بصدق ويقين من أعظم سبل إصلاح كل منهما لصاحبه: {إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما}. الوقفة كاملة
١٢٩ قد يكون أحد الزوجين صالحًا في نفسه، لكنه غير صالح لشريك حياته، فالتوجه إلى الله بصدق ويقين من أعظم سبل إصلاح كل منهما لصاحبه: {إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما}. الوقفة كاملة
١٣٠ {قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم} كم في هذه الآية من تسلية وفرج لمن أحاطت بهم المصائب واشتدت عليهم الكروب، بأن يوقنوا بأن الذي فرج كربة إبراهيم -عليه السلام- وجعل النار المحرقة بردًا وسلامًا قادر على أن يكشف كربهم ويذهب همهم، ويقلب حياتهم إلى سعادة وهناء. الوقفة كاملة

أسرار بلاغية

١٢١ ﴿إِنَّمَآ أَمۡوَٰلُكُمۡ وَأَوۡلَٰدُكُمۡ فِتۡنَةٞۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥٓ أَجۡرٌ عَظِيمٞ﴾ * * * أي: إن الأموال والأولاد اختبار وامتحان من الله للعبد ليعلم من يطيعه ممن يعصيه. وقدمت الأموال على الأولاد؛ لأنها أعظم ابتلاء واختبارًا، كما قال تعالى: ﴿لَا تُلۡهِكُمۡ أَمۡوَٰلُكُمۡ وَلَآ أَوۡلَٰدُكُمۡ عَن ذِكۡرِ ٱللَّهِۚ﴾ [المنافقون: 9] قد الأموال على الأولاد؛ لأن الالتهاء بها أكثر. جاء في (تفسير ابن كثير): ((إنما الأموال والأولاد فتنة، أي: اختبار وابتلاء من الله تعالى لخلقه؛ ليعلم من يطيعه ممن يعصيه)). وجاء في (فتح القدير): ((﴿إِنَّمَآ أَمۡوَٰلُكُمۡ وَأَوۡلَٰدُكُمۡ فِتۡنَةٞ﴾ أي: بلاء واختبار يحملونكم على كسب الحرام ومنع حق الله فلا تطيعوهم في معصية الله)). وجاء في روح (روح المعاني): ((أي: بلاء ومحنة؛ لأنهم يترتب عليهم الوقوع في الإثم والشدائد الدنيوية وغير ذلك. وفي الحديث: ((يؤتى برجل يوم القيامة فيقال: أكل عياله حسناته)). وعن بعض السلف: العيال سوس الطاعات. وقدمت الأموال، قيل: لأنها أعظم فتنة ﴿كَلَّآ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَيَطۡغَىٰٓ٦ أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰٓ٧﴾ [العلق: 6-7] وكأنه لغلبة الفتنة في الأموال والأولاد لم تذكر (من) التبعيضية كما ذكرت فيما تقدم)). والحق أنها لا تحتاج إلى ذكر (من) لأن الأموال كلها والأولاد كلهم اختبار وامتحان من الله، بل إن الحياة كلها اختبار، كما قال تعالى: ﴿ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلۡمَوۡتَ وَٱلۡحَيَوٰةَ لِيَبۡلُوَكُمۡ أَيُّكُمۡ أَحۡسَنُ عَمَلٗاۚ وَهُوَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡغَفُورُ٢﴾ [الملك: 2]. ﴿وَٱللَّهُ عِندَهُۥٓ أَجۡرٌ عَظِيمٞ﴾. لقد قال في موطن آخر: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥٓ أَجۡرٌ عَظِيمٞ﴾ [التوبة: 22] فأكد ذلك ب(إن) ولم يؤكده في آية التغابن؛ ذلك لأن الأجر في التوبة أعظم؛ لأن العمل أعظم. قال تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَٰهَدُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ بِأَمۡوَٰلِهِمۡ وَأَنفُسِهِمۡ أَعۡظَمُ دَرَجَةً عِندَ ٱللَّهِۚ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلۡفَآئِزُونَ٢٠ يُبَشِّرُهُمۡ رَبُّهُم بِرَحۡمَةٖ مِّنۡهُ وَرِضۡوَٰنٖ وَجَنَّٰتٖ لَّهُمۡ فِيهَا نَعِيمٞ مُّقِيمٌ٢١ خَٰلِدِينَ فِيهَآ أَبَدًاۚ إِنَّ ٱللَّهَ عِندَهُۥٓ أَجۡرٌ عَظِيمٞ٢٢﴾. فإنه لم يذكر عملًا في التغابن، وإنما قال: ﴿إِنَّمَآ أَمۡوَٰلُكُمۡ وَأَوۡلَٰدُكُمۡ فِتۡنَةٞۚ﴾ بخلاف ما ورد في سياق آية التوبة، فقد ذكر الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم. وذكر الأجر لهؤلاء، وهو أنه يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان وجنات لهم فيها نعيم مقيم خالدين فيها أبدًا. ولاشك أن هذا الأجر أعظم؛ لأن العمل أعظم، فناسب التوكيد في آية التوبة دون آية التغابن. (من كتاب: قبسات من البيان القرآني للدكتور فاضل السامرائي- صـ 216: 219) الوقفة كاملة
١٢٢ (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) معنى (حق القول) في القرآن الكريم ثبت لهم العذاب ووجب، والقول هو قوله تعالى (ولَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)– السجدة (13). جاء في (الكشاف): "(القول) قوله تعالى (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ ) يعني تعلق بهم هذا القول وثبت عليهم ووجب لأنهم ممن علم أنهم يموتون على الكفر (1). وجاء في (فتح القدير): "ومعنى (حق) ثبت ووجب القول. أي العذاب على أكثرهم .... وقيل المراد بالقول المذكور هنا هو قوله سبحانه (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ" ) (2). وجاء في (التفسير الكبير): "في قوله تعالى (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ) وجوه: (الأول) وهو المشهور أن المراد من القول هو قوله تعالى (حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ)" (الثاني) هو أن معناه لقد سبق في علمه أن هذا يؤمن أن هذا لا يؤمن فقال في حق البعض إنه لا يؤمن وقال في حق غيره إنه يؤمن (فحق القول) أي وجد وثبت بحيث لا يبدل بغيره. (الثالث) هو أن يقال: المراد منه لقد حق القول الذي قاله الله على لسان الرسل من التوحيد وغيره وبأن برهانه فأكثرهم لا يؤمنون بعد ذلك .... (على أكثرهم) فإن أكثر الكفار ماتوا على الكفر ولم يؤمنوا" (3). ولا شك أن سبق قوله لسبق علمه فلا اختلاف بين القولين الأول والثاني مما ذكره الرازي. وكذلك أن المعنى الذي ذكره في القول الثالث صحيح لكن الذي يظهر أن المراد من معنى (حق القول) في القرآن هو ثبوت العذاب ووجوبه كما ذكرت، والذي يرجح ذلك إنه لم يرد في القرآن الكريم (حق القول) إلا لهذا المعنى وكذلك (حقت كلمة ربك) فإسناد الفعل (حق) إلى القول أو إلى الكلمة لا يعنى إلا ثبوت العذاب ووجوبه وذلك في ثلاثة عشر موضعاً، قال تعالى: (قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا)– القصص 63 وقال:(وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ) – فصلت 25. وقال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ) – الأحقاف 18. وقال: (وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)– السجدة 13. وقال: ( لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)– يس 7. وقال: ( فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا)– الإسراء 16. وقال: (لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ) – يس 70. وقال: ( فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ)– الصافات 31. وقال:(أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ) – الزمر19. وقال: (حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ)– الزمر 71 وقال: (كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ)– ىونس33 وقال: (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آَيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ) – يونس 96، 97. وقال: (وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ)– غافر6. وبذا يترجح ما ذكرناه. وذكر في آية يس أنه حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون، وهذا ما حصل فإن أكثر الكفار لم يؤمنوا وماتوا على الكفر (4) وبذا تحقق ما أخبر به القرآن، وهو من الإعجاز لأنه أخبر بالشيء قبل حصوله فحصل. وقد تقول: وما أدرانا أن هذا الأمر قد تحقق وأن أكثرهم ماتوا على الكفر؟ والجواب: يكفي وروده في القرآن الكريم فإن القرآن أصدق وثيقة تاريخية عما أخبر في وقته، ولو لم يتم هذا الأمر لكان ذلك دليلا على كذب ما أخبر به ولأعترض عليه الكفار بأن ما أخبر به لم يحصل، فإن القرآن يتلى عليهم ليل نهار وهذه الآية يسمعونها دوماً فلو لم يحصل ذلك لكذبوه ولارتدوا عنه. ثم لنلاحظ أن الآية مصدرة بــ(لقد) وهذه الــلام واقعة في جواب قسم عند النحاة سواء كان القسم مذكوراً أم مقدراً، و(قد) حرف تحقيق وقد دخلت على الفعل الماضي ومعنى ذلك أن ما أخبر به قد حصل وتحقق فعلاً. وقال (فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) ولم يقل (فهم لم يؤمنوا) ليدل على أنهم سيموتون على الكفر وأنهم لا يؤمنون في مستقبل حياتهم ولو قال (فهم لم يؤمنوا) لكان إخباراً عن أمر قد مضى. وكذلك لو قال (فهم غير مؤمنين) لاحتمل أنه يخبر عن حالتهم التي هم عليها وقت نزول الآية وقد يتغير ذلك في المستقبل فقد يكون أشخاص غير مؤمنين وقت نزول هذه الآية وسيؤمنون بعد ذلك، فلا يكون عند ذاك إخباراً عن أمر غيب، فكان قوله الذي قاله أمثل شيء وأنسبه. وقد تقول: ولم قدم (القول) على الجار والمجرور فقال (لقد حق القول على أكثرهم) مع أنه في مواطن أخرى يقدم الجار والمجرور على القول وذلك نحو قوله تعالى( وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ) – فصلت 25. وقوله (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ) – يونس (96)، والجواب أن التقديم والتأخير إنما هو لغرض معنوي كما هو مقرر في علم البلاغة فما كانت العناية به أكثر قدم في الكلام. فإذا كان الاهتمام بالقول أكثر قدم وإذا كان الاهتمام بمن حق عليهم القول أكثر قدموا، وإليك إيضاح ذلك: قال تعالى: (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ) – فصلت (25). فقدم (عليهم) على (القول) ذلك أن السياق فيمن حق عليهم القول أي على الأقوام الذين حق عليهم العذاب ذلك أن الكلام على أعداء الله ابتداء من الآية التاسعة عشرة إلى الآية التاسعة والعشرين، قال تعالى:(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآَيَاتِنَا يَجْحَدُونَ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ) – فصلت (19 – 29). فناسب تقديم ضمير هؤلاء على (القول) لأن الكلام يدور عليهم. في حين قال (كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) – يونس (33)، فقدم الكلمة على (اللذين فسقوا) لأن الاهتمام ليس منصرفاً إل هؤلاء وإنما الكلام على الله ونعمه واستحقاقه للعبادة فناسب تقديم كلمته سبحانه، قال تعالى: ( فَكَفي بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ) – يونس (29-35(. فأنت ترى أن الكلام على الله واستحقاقه للعبادة. والأمر كذلك في آية يس فإن العناية بقول الله عليهم أكثر من الكلام على القوم وأفعالهم، فإنه لم يذكر عن القوم إلا أنهم غافلون لأن آباءهم لم ينذروا، ولم يذكر شيئا عن أفعالهم وإنما ذكر تفسير استحقاق القول عليهم فذكر أنه سبحانه جعل من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً ...الخ فذكر ما فعله ربنا ولم يذكر ما فعلوه هم فقال: ( إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا) فجاعل الأغلال هو الله. (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) وجاعل السد هو الله (فأغشيناهم) والذي أغشاهم هو الله. فناسب تقديم قوله عليهم وهو المناسب للسياق. فالجعل جعله والإغشاء إغشاؤه والقول قوله. هذا من حيث السياق والمقام. وهناك أمر آخر لفظي في هذه الآيات وهو إنه إذا كان حرف الجر داخلاً على الضمير نحو (عليهم) و(علينا) تقدم الجار والمجرور على القول وإلا تأخر وهذا لم يتخلف في جميع هذه الآيات. قال تعالى (حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) في ثلاث آيات: القصص 63، فصلت 25، الأحقاف 18. وقال (فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ) – الإسراء 16. قال (فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا) – الصافات 31. وقال (أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ) – الزمر 19. وقال (إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) – يونس 96. بتقديم الجار والمجرور على الفاعل في كل ذلك. في حين قال (لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ) – يس 7. وقال (كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا) – ىونس33. وقال (وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ) – الزمر 71. وقال (وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ) – يس 70. بتقديم الفاعل على الجار والمجرور. فناسب تقديم القول في سورة يس من ناحية اللفظ إضافة إلى المعنى وأود أن أشير إلى أمر آخر وهو أن كل تعبير قدم فيه ما قدم إنما كان لغرض تقتضيه البلاغة ويقتضيه السياق والمقام إضافة إلى اللفظ، فليس اللفظ وحده الداعي إلى التقديم، فازداد ذلك حسناً على حسن. **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص17 إلى ص22 1- الكشاف 2/582 2- فتح القدير 4/394 3- التفسير الكبير 26/43 وأنظر البحر المحيط 7/323 – 324، روح المعاني 2 /213. 4- أنظر التفسير الكبير 26/44 الوقفة كاملة
١٢٣ (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ بعدما ذكر أنه جعل في أعناقهم أغلالاً ذكر أنه جعل من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً. وقال (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ) و(وَمِنْ خَلْفِهِمْ) ولم يقل (وجعلنا بين أيديهم سداً وخلفهم سدً) ذلك أن (من) تفيد ابتداء الغاية ومعنى ذلك أنه جعل السد ابتداء من بين أيديهم ولم يترك بينه وبينهم فراغاً وكذلك من خلفهم فإن السد ملتصق بهم من الأمام وكذلك من الخلف فلا يستطيعون أن يخطوا خطوة واحدة أو حركة بخلاف ما إذا لم يذكر (من) فإنه يحتمل أن يكون بينهم وبين السد مسافة بعيدة أو قريبة وذلك نحو قوله تعالى (أفلم يروا إلى السماء فوقهم) فإن بينهم وبين السماء مسافة بعيدة وكذلك قوله (أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ) فإن بينهم وبين الطير مسافة غير قليلة في حين قال عن الأرض (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا) – فصلت (10) فجاء بـ (من) ليدل على أن الرواسي ملتصقة بالأرض ليس بينها وبينها فراغ. ثم قدم الجار والمجرور على السد فقال (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) ولم يقل (وجعلنا سداً من بين أيديهم وسداً من خلفهم) وذلك لأن الكلام عليهم لا على السد فكان تقديم ما تعلق بهم أولى ونحوه قوله تعالى (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا) كما ذكرنا. وقد تقول: هذا أمر السد من أمامهم فلماذا جعل من خلفهم سداً وما الغرض منه؟ فنقول: كما إنه منعهم من السير إلى أمام منعهم من العودة والرجوع إلى أماكنهم الأولى، فإن الشخص إذا قطع عليه الطريق عاد إلى مكانه الأول ومقامه الذي كان فيه، وهنا قد منعه من ذلك فبقي في مكانه من الطريق في غير مأمن وفي غير مقام فهلك. ثم أغشى أبصارهم وغطاهم فمنعهم من الرؤية فهم لا يبصرون ولا يتحركون فكيف يهتدون؟ وقوله (فَأَغْشَيْنَاهُمْ) يحتمل أنه أغشاهم بالسدين أي غطاهم فلا يستطيعون الإبصار ولا الحركة أو أغشى أبصارهم علاوة على السدين، وفي كلتا الحالتين لا يستطيعون الحركة ولا الإبصار. وقد تقول: ولم ترك الجانبين وهما جهتا اليمين واليسار فلم يذكر إنه جعل فيهما سدين. فنقول: 1- إن قوله (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) منعهم من الحركة البتة إلى أية جهة كانت ذلك لأن السدين ملتصقان بهم. 2- قوله (فَأَغْشَيْنَاهُمْ) أي غطيناهم والتغطية تشمل جميع الجسم وليس جانباً منه أو جانبين فلا يستطيعون الحركة لإغشائهم. 3- قوله (فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) يمنعهم من معرفة ما هم عليه من السبيل. 4- إذا اتجهوا إلى جهة اليمين كان السد من بين أيديهم أيضا ومن خلفهم لأن هذه الجهة ستكون هي الأمام فتكون مسدودة عليهم وإن أية جهة سيتجهون إليها ستكون هي ما بين أيديهم فيجعل سداً من بين أيديهم ومن خلفهم، فقوله (من بين أيديهم ومن خلفهم) يشمل جميع الجهات لأن أية جهة يتجهون إليها ستكون ما بين أيديهم فلا حاجة إلى ذكر جهتي اليمين واليسار فما ذكره يغنى عن ذكرهما، وإسناده الجعل والإغشاء إلى الله تعالى بيان إنه لا يمكن لأحد أن يزيل السدين أو يرفع الغشاوة. جاء في (التفسير الكبير): "وعلى هذا فقوله تعالى(وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) يكون متمما لمعنى جعل الله إياهم مغلولين لأن قوله (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا) إشارة إلى أنهم لا ينتهجون سبيل الرشاد فكأنه قال: لا يبصرون الحق فينقادون له لمكان السد ولا ينقادون لك فيبصرون الحق فينقادون له لمكان الغل. وفيه وجه آخر وهو أن يقال: المانع إما أن يكون في النفس وإما أن يكون خارجاً عنها، ولهم المانعان جميعاً من الإيمان، أما في النفس فالغل وأما من الخارج فالسد، ولا يقع نظرهم على أنفسهم فيرون الآيات التي في أنفسهم كما قال تعالى (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ ) وذلك لأن المقمح لا يرى نفسه ولا يقع بصره على يديه، ولا يقع نظره على الآفاق لأن من بين السدين لا يبصرون الآفاق فلا تبين لهم الآيات التي في الآفاق وعلى هذا فقوله (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا) ) (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا) إشارة إلى عدم هدايتهم لآيات الله في الأنفس والآفاق. وفي تفسير قوله تعالى (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا) مسائل: (المسألة الأولى) السد من بين الأيدي ذكره ظاهر الفائدة فإنهم في الدنيا سالكون وينبغي أن يسلكوا الطريقة المستقيمة (مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا ) فلا يقدرون على السلوك، وأما السد من خلفهم فما الفائدة فيه؟ فنقول: الجواب عنه من وجوه. (الأول) هو أن الإنسان له هداية فطرية والكافر قد يتركها وهداية نظرية والكافر ما أدركها فكأنه تعالى يقول (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا) فلا يسلكون طريقة الاهتداء التي هي نظرية (وجعلنا من خلفهم سداً) فلا يرجعون إلى الهداية الجبلية التي هي الفطرية ... (الثالث) هو أن السالك إذا لم يكن له بد من سلوك طريق فإن انسد الطريق الذي قدامه يفوته المقصد ولكنه يرجع وإذا انسد الطريق من خلفه ومن قدامه فالموضع الذي هو فيه لا يكون موضع إقامة لأنه مهلك، فقوله (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ) إشارة إلى إهلاكهم. (المسألة الثانية) قوله تعالى (فأغشيناهم) بحرف الفاء يقتضي أن يكون للإغشاء بالسد تعلق ويكون الإغشاء مرتباً على جعل السد فكيف ذلك؟ فنقول: ذلك من وجهين: أحدهما أن يكون ذلك بيانا لأمور مترتبة يكون بعضها سبباً للبعض فكأنه تعالى قال (إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا ) فلا يبصرون أنفسهم لإقماحهم (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) فلا يبصرون ما في الآفاق وحينئذ يمكن أن يروا السماء وما على يمينهم وشمالهم فقال بعد هذا كله (وجعلنا على أبصارهم غشاوة) فلا يبصرون شيئاً أصلاً. وثانيهما: هو أن ذلك بيان لكون السد قريبا منهم بحيث يصير ذلك كالغشاوة على أبصارهم فإن من جعل من خلفه ومن قدامه سدين ملتزقين به بحيث يبقى بينهما ملتزقاً بهما تبقى عينيه على سطح السد لا يبصر شيئا، أما غير السد فللحجاب، وأما عين السد فلكون شرط المرئي أن لا يكون قريبا من العين جداً. (المسألة الثالثة) ذكر السدين من بين الأيدي و من خلف ولم يذكر من اليمين والشمال ما الحكمة فيه؟... لأنهم إن قصدوا السلوك إلى جانب اليمين أو جانب الشمال صاروا متوجهين إلى شيء ومولين عن شيء فصار ما إليه توجههم ما بين أيديهم فيجعل الله السد هناك فيمنعه من السلوك، فكيفما يتوجه الكافر يجعل الله بين يديه سداً. ووجه آخر أحسن مما ذكرنا وهو أنا لما بينا أن جعل السد صار سبباً للإغشاء كان السد ملتزقاً به، وهو ملتزق بالسدين فلا قدرة له على الحركة يمنة ولا يسرة فلا حاجة إلى السد عن اليمين وعن الشمال، وقوله تعالى (فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) يحتمل ما ذكرنا إنهم لا يبصرون شيئاً، ويحتمل أن يكون المراد هو أن الكافر مصدود وسبيل الحق عليه مسدود وهو لا يبصر السد ولا يعلم الصد فيظن إنه على الطريقة المستقيمة وغير ضال (1) وقد تقول: ولم لم يقل كما قال في سورة البقرة (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ) ؟ فنقول: إن كل موطن اقتضى ما ذكر فيه علاوة على أن ما ذكر في سورة يس يفيد ما أفاده في سورة البقرة، ذلك أن قوله (فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ) هو بمعنى قوله (وعلى أبصارهم غشاوة)، وأن قوله (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ) يفيد أنهم لا يسمعون فإن من كان بين سدين مغطى بهما لا يسمع، وإذا كان كذلك فهو لا يفقه لآن منافذ العلم مسدودة فأفاد إنهم لا يبصرون ولا يسمعون ولا يفقهون. ثم إن ما ذكره في كل موطن هو المناسب من جهة آخري ذلك أنه قال في سورة يس (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) والصراط إنما يكون للسير فيه وسلوكه فذكر ما يمنع الكفرة من سلوك الصراط المستقيم والسير فيه وهو الأغلال في أعناقهم والسد من بين أيديهم ومن خلفهم، والسد إنما هو لمنعهم من السير، أما المؤمنون فإنهم على الصراط المستقيم يسلكونه ويتخذونه سبيلاً، ولم يذكر مثل ذلك في البقرة فكان ذكر السد مناسباً في سورة يس. وأما في سورة البقرة فقد قال إن هذا الكتاب لا ريب فيه وهو هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة وينفقون مما رزقهم الله، الذين يؤمنون بما أنزل إلى محمد وما أنزل من قبله ويوقنون بالآخرة. فالمسألة متعلقة بالإيمان والتقوى فذكر أن الكفرة مختوم على قلوبهم وعلى سمعهم وأن على أبصارهم غشاوة فانسدت منافذ الإيمان والتقوى، ومنافذ الإيمان والتقوى والعلم لدفع الريب هي السمع والبصر والقلب فذكر أن هذه كلها مغلقة. فأغلق منافذ السير على الصراط المستقيم في سورة يس وأغلق منافذ الإيمان والهدى في سورة البقرة، فناسب كل تعبير مكانه الذي هو أليق به. وقد تقول: ولم لم يكرر (جعلنا) من الخلف فيقول (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا) كما قال في سورة النبأ (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا )– 10،11. والجواب أن التكرار يفيد التأكيد، والسدان ليسا بمنزله واحدة فإن السد الذي من بين أيديهم يمنعهم من السير إلى أمام وهو أهم لأنه هو الموصل إلى الهدى وإلى الفلاح، وأما السد من خلف فهو مانع من الرجوع، والعود ليس أحمد. ولما لم يكن السدان بمنزلة واحدة من حيث الأهمية لم يجعلهما في التعبير بمنزله واحدة، فذكر الفعل في المهم وحذفه مما هو أقل أهمية، وأما تكراره في سورة النبأ فإن الليل والنهار كلاهما مهم للإنسان وحياته فلا تصلح الحياة بليل لا نهار فيها ولا تصلح بنهار لا ليل فيها، قال تعالى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) – القصص (71، 72). فلما كانت الحياة إنما تستقيم بالليل والنهار معاً جعلهما بمنزلة واحدة في التعبير فكرر الجعل مع كل واحد منهما والله أعلم. **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص24 إلى ص29 1- التفسير الكبير 26/45-46 الوقفة كاملة
١٢٤ (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) في هذا الوقت المتأزم والظرف العصيب الذي كثر فيه التهديد والتوعد واشتد فيه الإرهاب جاء من أقصى المدينة رجل يسعى ليعلن إتباعه للرسل وإيمانه بهم ويبين ضلال قومه غير مبال بما سيحدث له. وفي التعبير دلالات مهمة في هذا الخصوص. 1- فقد ذكر أنه جاء من أقصى المدينة أي من أبعد مكان فيها لا يثنيه شيء حاملاً همّ الدعوة. 2- قال (مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) ولم يقل (من أقصى القرية) وقد سماها قرية بادئ ذي بدء فقال (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ) ذلك للدلالة على أنها واسعة، فالقرية إذا كانت متسعة تسمى مدينة أيضاً. فأفاد أن هذه القرية كبيرة متسعة ولذا أطلق عليها مدينة أنه جاء من مكان بعيد وذلك يدل على اهتمامه الكبير بمعتقده الجديد. 3- قال (يسعى) أي يعدو ويسرع في مشيه وليس متباطئاً يقدم رجلاً ويؤخر أخرى وهو توجيه للدعاة يعدم التواني في أمر الله. 4- لم يسكت عن الحق ولم يجامل أو يهادن بل دعا قومه إلى الإيمان بما جاءت به الرسل وأتباعهم وأعلن عن إيمانه هو. 5- إن مجيئه من أقصى المدينة يدل على وصول البلاغ إلى أبعد مكان فيها مما يدل على جديتهم في التبليغ وتوسعهم فيه، وهو تصديق لقولهم (وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ.) وقال هنا (وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) - القصص (20) بتقديم (رَجُلٌ) على (مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ). ذلك أن القصد في آية يس أن يبين أن مجيء الرجل كان من أبعد مواضعها. وأما في القصص فإنه يفيد أن الرجل من أقصى المدينة أي هو من أهل المواضع البعيدة غير أنه لا يلزم أن يكون مجيئه من أقصى المدينة. وهو كما تقول (جاءني من القرية رجال) أي جاءوك من القرية، وتقول (جاءني رجال من القرية) فالرجال هم من أهل القرية لكن لا يقتضي أن مجيئهم إليك كان من القرية بل قد يكونون في المدينة ثم جاءوك. وقد يكون المجيء من القرية. فقولك (جاءني رجال من القرية) يحتمل معنيين بخلاف قولك (جاءني من القرية رجال). وعلى أية حال فإن قوله وجاء رجل من أقصى المدينة) يحتمل ذلك ويحتمل أنه من أهل الأماكن البعيدة وإن لم يكن مجيئه من هناك. وفي تقديم (مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) في سورة يس فائدة أخرى حتى لو كان مجيئها كليهما من أقصى المدينة. فإن قوله (وجاء من أقصى المدينة) يدل على أن الاهتمام أكبر لأكثر من سبب: 1- ذلك أن مجيء الرجل من أقصى المدينة إنما كان لغرض تبليغ الدعوة في حين أن مجيء الرجل إلى موسى كان لغرض تحذيره. والأمر الأول أهم. 2- ثم إن مجيء الرجل من أقصى القرية إنما كان لإشهار إيمانه أمام الملأ ونصح قومه، في حين أنه كان المجيء إلى موسى ليسرّ إليه كلمة في أذنه، فمجيء رجل يس إنما كان للإعلان والإشهار ومجيء رجل موسى إنما كان للإسرار. وفرق بين الأمرين. 3- إن مجيء رجل يس فيه مجازفة ومخاطرة بحياته، وليس في مجيء رجل موسى شيء من ذلك وإنما هو إسرار لشخص بأمرٍ ما ليحذر. 4- إن المجتمع في القرية كله ضد على الرسل وعقيدتهم مكذب لهم متطير بهم فإعلان الرجل أنه مؤمن بما جاء به الرسل مصدق لهم فيه ما فيه من التحدي لهم، بخلاف مجتمع سيدنا موسى عليه السلام فإنه ليس فيه فكر معارض أو مؤيد وليست هناك دعوة أصلاً. 5- إن نصر رسل الله وأوليائه ودعاته أولى من كل شيء فإن تعزيزهم تعزيز لدعوة الله. وإنما موسى عليه السلام فإنه كان رجلاً من المجتمع ليس صاحب دعوة آنذاك ولم يكلفه الله بعد حمل الرسالة. فتقديم (مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) دل على أن الموقف أهم وأخطر. ومع ذلك أفادنا أن تحذير شخص من ظالم أمر مهم ينبغي أن يسعى إليه ولو من مكان بعيد. فإن كلا الموقفين مهم غير أن أحدهما أهم من الآخر فقدم ما قدم ليدل على الاهتمام. جاء في (التفسير الكبير) في قوله تعالى (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى) "وفي فائدته وتعلقه بما قبله وجهان: أحدهما – أنه بيان لكونهم أتوا بالبلاغ المبين حيث آمن بهم الرجل الساعي. وعلى هذا فقوله (مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) فيه بلاغة باهرة. وذلك لأنه لما جاء من (أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ) وهو قد آمن دل على أن إنذارهم وإظهارهم بلغ إلى أقصى المدينة... وفي التفسير مسائل: (المسألة الأولى) قوله (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ) في تنكير الرجل مع أنه كان معروفاً معلوماً عند الله فائدتان: (الأولى) أن يكون تعظيماً لشأنه أي رجل كامل في الرجولية. (الثانية) أن يكون مفيداً لظهور الحق من جانب المرسلين حيث آمن رجل من الرجال لا معرفة لهم به فلا يقال إنهم تواطؤا. (المسألة الثانية) قوله (يَسْعَى) تبصرة للمؤمنين وهداية لهم يكونوا في النصح باذلين جهدهم. وقد ذكرنا فائدة قوله (مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) وهي تبليغهم الرسالة بحيث انتهى إلى من في أقصى المدينة"(1). وجاء في (روح المعاني) (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) أي من أبعد مواضعها (رَجُلٌ) أي رجل عند الله تعالى فتنويه للتعظيم. وجوز أن يكون للتنكير لإفادة أن المرسلين لا يعرفونه ليتواطؤا معه.... (يَسْعَى) أي يعدو ويسرع في مشيه حرصاً على نصح قومه، وقبل إنه سمع أن قومه عزموا على قتل الرسل فقصد وجه الله تعالى بالذب عنهم... وجاء (مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) هنا مقدماً على (رَجُلٌ) عكس ما جاء في القصص وجعله أبو حيان من التفنن في البلاغة. وقال الخفاجي: قدم الجار والمجرور على الفاعل الذي حقه التقديم بياناً لفضله إن هداه الله تعالى مع بعده عنهم وأن بعده لم يمنعه عن ذلك. ولذا عبر بالمدينة هنا بعد التعبير بالقرية إشارة إلى السعة وأن الله تعالى يهدي من يشاء سواء قرب أو بعد. وقيل قدم للاهتمام حيث تضمن الإشارة إلى أن إنذارهم قد بلغ أقصى المدينة فيشعر بأنهم أتوا بالبلاغ المبين. وقيل أنه لو تأخر توهم تعلقه بيسعى فلم يفد أنه من أهل المدينة مسكنه في طرفها وهو المقصود"(2). يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ(اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ) قال لهم يا قوم ليعطف قلوبهم. وذكر لهم ثلاثة أكور تدعوهم إلى إتباع هؤلاء الدعاة: 1- كونهم مرسلين من الله وهذا أهم ما يستوجب أتباعهم فكونهم مرسلين من ربهم يدعو إلى أتباعهم لأنهم لا يدعون إلى أنفسهم ولا إلى معتقدات شخصية ولا إلى آراء خاصة ولا إلى أفكار بشرية وإنما يدعونهم إلى ما أراده ربهم وخالقهم. 2- وأنهم لا يسألون أجراً على هذا التبليغ ولا يبتغون مصلحة خاصة كما هو شأن كثير من أصحاب الدعوات الأرضية مما يدل على أنهم مخلصون في دعوتهم لهم. 3- أنهم مهتدون وهذا يقتضي الأتباع وهو بغية كل متبع مخلص. جاء في (الكشاف) "(مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ) كلمة جامعة في الترغيب فيهم أي لا تخسرون معهم شيئاً من دنياكم وتربحون صحة دينكم فينتظم لكم خير الدنيا وخير الآخرة"(3). وقد كرر الأتباع بقوله (يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ) لأكثر من غرض، فالتكرار يفيد التوكيد ويفيد أمراً آخر وهو: أن المرسلين ينبغي أن يتبعوا أصلاً، فإذا ثبت أن شخصاً ما مرسل من ربه كان ذلك داعياً إلى أن يتبع قطعاً وهذه دلالة قوله (اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ). أما أتباع غير المرسلين فيكون لمن فيه صفتان: 1- أن يكون مهتدياً. 2- أن لا يسأل أجراً ولا يطلب منفعة ذاتية. وهذا توجيه لعموم المكلفين، ولو قال (اتبعوا المرسلين. من لا يسألكم أجراً وهم مهتدون) لكان ذلك خاصاً بأتباع الرسل. ولا يشير إلى أتباع غيرهم من المصلحين والداعين إلى دعوتهم. فتكرار: (اتَّبِعُوا) أفاد الإتباع للرسل في حالة وجودهم. والإتباع الثاني لمن يحمل هاتين الصفتين. جاء في (روح المعاني): "تكرير للتأكيد وللتوسل به إلى وصفهم بما يتضمن نفي المانع عن أتباعهم بعد الإشارة إلى تحقق المقتضى"(4). واختار (مَنْ) على (الذين) لكونها أعلم فإنها تشمل كل داع إلى الله واحداً كان أو أكثر. **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 67 إلى ص 71: 1- التفسير الكبير 26/54 2- روح المعاني 22/225 – 226 3- الكشاف 2/582 4- روح المعاني 22/226. الوقفة كاملة
١٢٥ (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ) أي ما كانت العقوبة أو الأخذة إلا صيحة واحدة(1) واسم كان ضمير مستتر ونفي بإنْ ولم ينف بـما، ذلك لأن (إن) أقوى من (ما)(2) ولذلك كثيراً ما تقترن بـإلا لإفادة القصر. ويتبين من مواطن اجتماعهما. قال تعالى (مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ)- يوسف (31) فإثبات الملكية ليوسف يحتاج إلى قوة ولذلك نفى بـما أولاً ثم نفى بإنْ وإلا لما هو أقوى. ونحو ذلك ما ذكرناه في قوله (قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) فنفى أولاً بـما ثم نفى وأثبت بـإنْ وإلا. ونحوه ما مرّ قريباً وهو قوله تعالى (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً9 فنفى بمَا أولاً ثم نفى وأثبت بـإنْ وإلا. وقوله (واحدة) نعت مؤكد وقد أفاد أمرين: بيان بالغ قدرة الله، وبيان هوانهم وضعفهم فإنهم لم يحتاجوا إلى أكثر من صيحة واحدة. وأضمر اسم كان لظهوره ووضوحه فإنه دل عليه القيام وإن لم يجر له ذكر. وجاء بالفاء وإذا الفجائية للدلالة على سرعة هلاكهم. فإن الفاء تفيد الترتيب والتعقيب. وإذا تفيد المفاجأة وجاء بهما معاً للدلالة على سرعة المفاجأة بحيث لم تكن بين الصيحة وخمودهم مهلة. ولا يؤدي أي حرف هذا المؤدى فلو جاء بثم فقال (ثم إذا هم خامدون) لدلّ على أن خمودهم إنما حصل بعد مدة من الصيحة نظير قوله تعالى (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ) - الروم (20). ولو جاء بالواو لم يدل ذلك على التعقيب أيضاً ولم يدل أن ذلك إنما كان بسبب الصيحة فإن الواو لا تفيد السبب بل تفيد الإتباع. فجاء بالفاء للدلالة على معنيين السبب والسرعة ولا يؤدي أي حرف مؤداها. جاء في (التفسير الكبير): "وقوله (وَاحِدَةً) تأكيد لكون الأمر هيناً عند الله. وقوله (فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ) فيه إشارة إلى سرعة الهلاك فإن خمودهم كان مع الصيحة وفي وقتها لم يتأخر"(3). وجاء في (البحر المحيط) في قوله (فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ): "أي فاجأهم الخمود إثر الصيحة لم يتأخر"(4). وجاء في (روح المعاني): "وإن نافية وكان ناقصة واسمها مضمر وصيحة خبرها أي ما كانت هي أي الأخذة أو العقوبة إلا صيحة واحدة... و (إذا) فجائية وفيها إشارة إلى سرعة هلاكهم بحيث كان مع الصيحة وقد شبهوا بالنار على سبيل الاستعارة المكنية"(5). وقال (خَامِدُونَ) إشارة إلى سرعة هلاكهم وانطفاء حياتهم كانطفاء السراج. واختيار هذا الوصف أحسن اختيار. فإنه مأخوذ من خمود النار وهو سكون لهبها وذهاب حسيسها يقال: "خمدت النار تخمد خموداً سكن لهبها ولم يطفأ جمرها. وهمدت هموداً إذا أطفئ جمرها البتة. وأخمد فلان ناره وقوم خامدون لا تسمع لهم حساً. جاء في التنزيل العزيز (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ). قال الزجاج: "فإذا هم ساكتون قد ماتوا وصاروا بمنزلة الرماد الخامد الهامد"(6). وفي (القاموس المحيط): "خمدت النار كنصر وسمع خمداً وخموداً سكن لهبها ولم يطفأ جمرها"(7). وفي (المصباح المنير): "خمدت النار خموداً من باب قعد ماتت فلم يبق منها شيء قيل سكن لهبها وبقي جمرها"(8). وفي (أساس البلاغة): "نار خامدة وقد خمدت خموداً سكن لهبها وذهب حسيسها"(9). يتضح مما مر أن الفعل خمد يحمل المعاني الآتية: 1- يقال خمدت النار أي سكن لهبها ولم يطفأ جمرها. 2- وقيل أيضاً خمدت النار إذا ماتت ولم يبق منها شيء. 3- ويقال خمد القوم إذا سكتوا فلم يسمع لهم حساً. 4- وخمد القوم سكتوا وماتوا وصاروا بمنزلة الرماد الخامد الهامد. 5- أما همود النار فهو انطفاؤها وعدم بقاء أثر منها. جاء في (لسان العرب): "همدت النار تمهد هموداً طفئت طُفوءاً وذهبت البتة فلم يبن لها أثر... الأصمعي: خمدت النار إذا سكن لهبها وهمدت هموداً إذا طفئت البتة"(10). وجاء في (القاموس المحيط): "الهمود الموت وطفوء النار أو ذهاب حرارتها"(11). وجاء في (المصباح المنير): "همدت النار هموداً من باب قعد ذهب حرها ولم يبق منه شيء"(12). واختيار الخمود على الهمود أنسب من عدة نواح منها: 1- أن في ذلك إشارة إلى سرعة سكونهم وانقطاع حركتهم فإن الخمود أسرع من الهمود ذلك أن إطفاء السراج والشعلة إنما يكون في أسرع وقت. جاء في (التفسير الكبير): "والخمود في أسرع زمان فقال (خامدين) بسببها فخمود النار في السرعة كإطفاء سراج أو شعلة"(13). 2- وبيان أن حركتهم وأصواتهم قد خمدت فلا تسمع لهم حساً وذلك بعد التوعد والتهديد والضجيج والصخب الذي ملأ القرية وبعد البطش والتنكيل بالرجل الناصح. بعد كل ذلك إذا هم ساكتون خامدون لا تحس منهم من أحد ولا تسمع لهم ركزاً. 3- ثم إن اختيار الخمود مناسب لقوله (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً) وذلك أنه إذا كان في موضع ما ضجيج وصياح وصخب فإنه لا يسكته إلا صوت أو صيحة أعلى منه فصاح بهم صيحة أسكتتهم وأخمدتهم. 4- إن في اختيار الخمود على الهمود إشارة إلى البعث بعد الموت فإن الخمود لا يعني الفناء وإنما يعني ذهاب اللهب والحرارة وبقاء الجمر فكأن ذلك إشارة إلى مفارقة الأرواح للأبدان وليس فناءها. جاء في (روح المعاني): "ولعل في العدول عن (هامدون) إلى (خَامِدُونَ) رمزاً خفياً إلى البعث بعد الموت"(14). 5- اختيار الخمود على الهمود فيه صورة فنية أخرى. وهي صورة الجمر الذي يغطيه الرماد وهي شبيهة بحالة الجثة التي يعلوها تراب القبر وفيها إشارة إلى أنهم يخترقون بالنار في داخلها وإن كان لا يظهر ذلك للناظرين. 6- ومن معاني الخمود الموت أيضاً كالهمود. فأعطى الخمود معنى الهمود مع معان أخرى لا يؤديها الهمود كسرعة الهلاك والسكوت بعد الصيحة والرمز الخفي إلى البعث بعد الموت وأن ظاهرهم ساكن بارد وحقيقتهم نار تحرق. فكان اختيار الخمود أولى والله أعلم. **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 101 إلى ص104: 1- الكشاف الكبير 26/61 2- أنظر معاني النحو 4/576 3- التفسير الكبير 26/62 4- البحر المحيط 7/332 5- روح المعاني 23/02 6- لسان العرب (خمد) 4/144 7- القاموس المحيط (خمد) 1/292 8- المصباح المنير (خمد) 1/181 9- أساس البلاغة (خمد) 250 الوقفة كاملة
١٢٦ برنامج لمسات بيانية (وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ) بعد أن ذكر الأرض واستدل بأحوالها على التوحيد والحشر استدل بالليل والنهار على ذلك فكان استدلاله بالمكان والزمان. فالمكان هو الأرض التي يعيشون عليها والزمان هو الليل والنهار اللذان يتعاقبان عليهم. جاء في (التفسير الكبير): "لما استدل الله بأحوال الأرض وهي المكان الكلي استدل بالليل والنهار وهو الزمان الكلي فإن دلالة المكان والزمان مناسبة. لأن المكان لا تستغني عنه الجواهر والزمان لا تستغني عنه الأعراض لأن كا عرض فهو في زمان"(1). وقد تقول: لقد قدم الاستدلال بالأرض على الاستدلال بالليل والنهار، وفي موطن آخر قدم اللي والنهار على الأرض فقد قال في سورة (فصلت): (وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (37 – 39). فما السبب؟ والجواب أن السياق في سورة يس هو في الاستدلال على الحشر، وقد وقعت الآية بعد قوله (وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ). والاستدلال بإحياء الأرض الميتة أدل على ذلك من الاستدلال بالليل والنهار وإن كان فيهما استدلال من طريق آخر. أما الكلام في سورة (فصلت) فهو في توحيد الله وإفراده بالعبادة والنهي عن عبادة غيره. وقد كان قسم من المشركين يعبدون الشمس والقمر ويسجدون لهما فقال (لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ) فكان تقديم الليل والنهار وآيتيهما اللتين يسجد لهما طائفة من الناس أولى. بل إن السباق هو في عبادة الله وتوحيده. فإنه بعد أن نهى عن السجود للشمس والقمر وعبادتهما ذكر أن الذين عند ربك يعبدون الله ويسبحونه باللي والنهار. بل إن الأرض التي يعيشون عليها إنما هي خاضعة خاشعة لرب العالمين. واستعمال الخشوع أنسب شيء في هذا المقام فإنه المناسب لمقام العبادة(2). فكان كل تعبير مناسباً لمكانه الذي ورد فيه. جاء في (التفسير الكبير) أن المقصود في سورة (فصلت) "إثبات الوحدانية بدليل قوله تعالى (لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ ) ثم الحشر بدليل قوله تعالى (إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَ) وههنا المقصود أولاً إثبات الحشر لأن السورة فيها ذكر الحشر أكثر. يدل عليه النظر في السورة وهناك ذكر التوحيد أكثر بدليل قوله تعالى (قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) إلى غيره، وآخر السورتين يبين الأمر"(3). والليل والنهار آية دالة على الموت والنشور فإن الليل كالموت والنهار كالحياة والناس في الليل أموات ينشرهم ربهم في النهار كما أخبر سبحانه بقوله (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا) الفرقان (47). فكان ذلك مناسباً للسياق من جهة ثانية. جاء في (التفسير الكبير): "لو قال قائل إذا كان المراد منه الاستدلال بالزمان فلم اختار الليل حيث قال (وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ)؟ نقول: لما استدل بالمكان الذي هو المظلم وهو الأرض وقال (وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ) استدل بالزمان الذي فيه الظلمة وهو الليل. ووجه آخر وهو أن الليل فيه سكون الناس وهدوء الأصوات وفيه النوم وهو كالموت ويكون بعده طلوع الشمس كالنفخ في الصور فيتحرك الناس فذكر الموت كما قال في الأرض (وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) فذكر من الزمانين أشبههما بالموت كما ذكر من المكانين أشبههما بالموت"(4). ومعنى (نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ) نزيله منه من (سلخ جلد الشاه) إذا كشطه وأزاله"(5). ومعنى (مُّظْلِمُونَ) داخلون في الظلام(6) كما يقال: أصبحنا أي دخلنا في الصباح وأعتمنا أي دخلنا في العتمة. والمعنى أن الليل نزيل عنه النهار فيكون الناس في ظلام. ويفيد هذا التعبير أن الليل مغطى بالنهار ذلك أنه جعل الليل كالشاة ونحوها والنهار كالجلد الذي يغطيها ويعلوها. فيسلخ منه النهار كما يسلخ الجلد فيكون تحته الليل، فجعل الليل أصلاً والنهار غلافاً له أو جلداً. وقد فهم المفسرون ذلك فقالوا إنه جعل اللي أصلاً. جاء في (البحر المحيط) "واستدل قوم بهذا على أن الليل أصل والنهار فرع طارئ عليه"(7). وجاء في (روح المعاني): "وفي الآية على ما قال غير واحد دلالة على أن الأصل الظلمة والنور طارئ عليها يسترها بضوئه"(8). والأمر كذلك فإن النهار إنما يأتي بسبب الشمس فإن ضوء الشمس يعلو الأرض ويغطيها فيكون النهار فهو يأتي من فوق. فإذا زالت الشمس وذهب ضوئها ظهر الأصل وهي الظلمة فالظلمة هي الأصل والنهار طارئ. ولم يقل (وآية لهم النهار نسلخ منه الليل فإذا هم مبصرون) أو فإذا هم (منهرون) أي داخلون في النهار لأن ذلك لا يصح لأن معنى ذلك أن الليل يأتي من فوق ويغطي النور فإذا زال الليل ظهر النور الذي تحته وهو ضوء الأرض وهذا لا يصح لأن الأرض مظلمة وليست مضيئة. ثم من المعلوم أن الضوء هو الذي يزيل الظلمة وليست الظلمة هي التي تزيل النور وتمحوه. ولو قال (وآية لهم النهار نسلخ منه الليل فإذا هم مبصرون) لكان يعني أن الظلمة تزيل النور ولا يصح ذلك. وقال (نَسْلَخُ)بإسناد الفعل إلى نفسه ولم يقل (ينسلخ) ليدل على أن ذلك يجري بفعل الله وقدرته ولم يحصل من نفسه من دون تدبير مدبر ولا فعل فاعل فيكون ذلك آية على توحيد الله وقدرته. وقال (فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ) ولم يقل (فإذا الأرض ظلمة) ليبين أثر ذلك فيهم وفي حياتهم فإنهم هم الذين يدخلون في الظلام بعد النهار فيكون ذلك آية لهم. وليبين أثر النعمة عليهم في الضياء والإظلام. فذكر نعمتي الضياء والإظلام عليهم. والنعمة إنما تكون بتعاقبهما لا أن يكون واحد منهما سرمداً إلى يوم القيامة، كما قال تعالى (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) القصص (71 – 72). وجاء بـــ (إذا) التي تفيد المفاجأة للدلالة على سرعة التغير. جاء في (التفسير الكبير): "فإن قيل: فالليل في نفسه آية فأية حاجة إلى قوله (نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ)؟ نقول: الشيء تتبين بضده منافعه ومحاسنه. ولهذا لم يجعل الله الليل وحده آية في موضع من المواضع إلا وذكر آية النهار معها. وقوله (فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ) أي داخلون في الظلام. و (إِذَا) للمفاجأة أي ليس بيدهم بعد ذلك أمر ولابد لهم من الدخول فيه"(9). الوقفة كاملة
١٢٧ (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) أجمل حقيقة ما يعيشه الناس في هذه الحياة بما ذكر في الآية. وقد رتب هذه الأشياء بحسب ترتيبها في حياة الناس مبتدئاً باللعب واللهو منتهياً بالجد. نبدأ باللعب وهو ما يقع في دور الطفولة والصبا. هذا هو الأصل وإن كان يطلق اللعب أحياناً على نقيض الجد كقوله تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ ۚ) - التوبة (65) (فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّىٰ يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) - الزخرف (83) وقوله (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ) - الدخان (9) وقوله( قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ ) - الأنبياء (55). ثم ذكر اللهو وهو ما يكون في دور الفتوة والشباب. ثم إن اللهو أعم من اللعب. فاللهو يقع للصغير والكبير. ثم ذكر الزينة وهو مقصد من مقاصد الشباب والنساء في دور بداية اكتمال أنوثتهن. وذكر بعدها التفاخر وهو أكثر ما يكون من شأن الرجال فيفتخرون بمآثر أفعالهم وأحسابهم وأنسابهم ومآثر آبائهم وأجدادهم. ثم يأتي بعد ذلك دور التكاثر في الأموال والأولاد وهو التباري في جمعها وهو المقصد الأهم في الحياة إذ بالمال والأولاد تدوم الحياة وبهما ينشغل الناس وفيها يجدّون. أما ما قبلها من الأمور فهي ليست بتلك المنزلة والمكانة. وقدم الأموال على الأولاد لأن التكاثر في الأموال أكثر. وختم بالأولاد لأنهم أجل ما ذكر ولهم يترك المال. جاء في (نظم الدرر): لعب: فهو باطل كلعب الصبيان ولهو أي شيء يفرح الإنسان به فيلهيه ويشغله عما يعنيه ثم ينقضي كلهو الفتيان. ثم أتبع ذلك عظم بما يلهى في الدنيا فقال (وَزِينَةٌ) : أي شيء يبهج العين ويسر النفس كزينة النسوان. وأتبعها ثمرتها فقال (وَتَفَاخُرٌ) ، أي كتفاخر الأقران يفتخر بعضهم على بعض (1). وجاء في (تفسير الرازي): المقصود الأصلي من الآية تحقير حال الدنيا وتعظيم حال الآخرة... ثم إنه تعالى وصفها بأمور: (أولها) أنها لعب وهو فعل الصبيان الذي يتعبون أنفسهم جداً. ثم إن تلك المتاعب تنقضي من غير فائدة. و (ثانيها) أنها لهو وهو فعل الشبان ... و(رابعها) تفاخر بينكم بالصفات الفانية الزائلة (2). جاء في (التحرير والتنوير): وهي أيضاً أصول أطوار آحاد الناس في تطور كل واحد منهم. فإن اللعب تطورين: الطفولة والصبا، واللهو طور الشباب. والزينة طور الفتوة، والتفاخر طور الكهولة والتكاثر طور الشيخوخة... واللعب هو الغالب على أعمال الأطفال والصبيان فطور الطفولة طور اللعب ويتفاوت غيرهم في الإتيان منه فيقل ويكثر بحسب تفاوت الناس في الأطوار الأولى من الإنسان وفي رجاحة العقول وضعفها. والإفراط فيه من غير أصحاب طوره يؤذن بخسة العقل ولذلك قال قوم إبراهيم له (أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ)... واللهو اسم لفعل أو قول يقصد منه التذاذ النفس به وصرفها عن ألم حاصل من تعب الجسد أو الحزن أو الكمد يقال: لها عن الشيء أي تشاغل عنه... ويغلب اللهو على أحوال الشباب فطور الشباب طوره ويكثر اللهو في أحوال الدنيا من تطلب اللذات والطرب. والزينة تحسين الذات والمكان بما يجعل وقعه عند ناظره مسراً له. وفي طباع الناس الرغبة في أن تكون مناظرهم حسنة في عين ناظريهم وذلك في طباع النساء أشد... ويغلب التزيين على أحوال الحياة فإن معظم المساكن والملابس يراد منه الزينة... والتفاخر الكلام الذي يفخر به. والفخر حديث المرء عن محامده والصفات المحمودة منها فيه بالحق أو الباطل. وصيغ منه زنة التفاعل لأنه شأن الفخر أن يقع بين جانبين كما أنبأ به تقييده بظرف (بَيْنَكُمْ ) .... والتكاثر تفاعل من الكثرة وصيغة التفاعل هنا للمبالغة في الفعل بحيث ينزل منزلة من يغالب غيره في كثرة شيء... ثم شاع إطلاق صيغة التكاثر فصارت تستعمل في الحرص على تحصيل الكثير من غير مراعاة مغالبة الغير ممن حصل عليه (3). وقد اقتصر في مواضع أخرى من القرآن الكريم على اللعب واللهو ولم يذكر الزينة وما بعدها. قال تعالى: (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۖ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) - الأنعام (32). وقال: (إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۚ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ) محمد (36) وقال: (وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) - العنكبوت (64). فاقتصر كما ترى على اللعب واللهو ذلك لأن ما ذكره في آية الحديد من زينة وتفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد قد يندرج تحت اللهو. فالزينة قد تلهي والتفاخر قد يلهي والتكاثر في الأموال والأولاد قد يلهى. فقد سمى الله المال والبنين زينة فقال (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ ) - الكهف (46) وقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ۚ - ) المنافقون (9) وقال( أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) التكاثر (1، 2). وتندرج كثير من أمور الحياة في معنى اللعب بمعناه الواسع وهو ما كان نقيض الجد وما لا يقصد به من الأعمال قصداً صحيحاً كما ورد في القرآن مما سماه لعباً. ولا فصل في آية الحديد في حقيقة الحياة الدنيا فصل في وصفها وعاقبتها. ولما أجمل في الآيات الأخرى لم يذكر شيئاً آخر يتعلق بها وإنما ذكر الآخرة أو أموراً أخرى لا تتعلق بوصف الحياة. وقدم اللعب على اللهو فيما مر من الآيات إلا في آية واحدة قدم فيها اللهو على اللعب وهو قوله: (وَمَا هَٰذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ ۚ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) - العنكبوت (64) وذلك لأن السياق يقتضى هذا التقديم ذلك أنه تقدم الآية قوله: (اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ ۚ ) - (62) والرزق مدعاة إلى الالتهاء به والمشغلة لجمعه لا إلى اللعب ولذا قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ) - المنافقون (9) فالذي بسط له رزقه ملته بجمعه والذي قدر عليه رزقه ملته بالحصول عليه. ثم قال: (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا به الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ ۚ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ ۚ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ) (36) ومع معرفتهم وإقرارهم بذاك التهوا بالدنيا عن الله وعبادته وعن الآخرة. فناسب تقديم اللهو. ولم يتقدم أية الأنعام ولا آية محمد ما يدعو إلى اللهو فكان تقديمه في آية العنكبوت أنسب. (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ) شبه الحياة الدنيا بغيث أعجب الكفار نباته، والكفار هم الكافرون بالله الجاحدون لنعمة. وقال بعضهم إن الكفار هم الزراع لأن الزارع قد يسمى كافراً لأنه يكفر البذر الذي يبذره بتراب الأرض أي يغطيه (4). ويترجح عندي المعنى الأول فإن الكافرين هم الذين يغترون بالدنيا وهم أشد إعجاباً بها وبزينتها. ولا مانع من أن يكون المعنيان مقصودين فإنه من التوسع في المعنى الذي يراعيه القرآن كثيراً. وقد ذكر القرآن الزراع باسمهم في سورة الفتح حين وصف أصحاب محمد فقال (... وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ) - الفتح (29). واختيار الزراع هنا أنسب كما أن اختيار الكفار هناك أنسب ذلك أن التشبيه في سورة الفتح وقع لصورة محدودة فناسب ذكر الزراع لا الكفار بخلاف ما في سورة الحديد. ثم إنه قال في آية الفتح (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ) فلا يناسب أن يقول: يعجب الكفار ليغيظ بهم الكفار. ثم إنه قال (الزُّرَّاعَ) في آية الفتح للدلالة على أنه زرع مقصود لأن الزارع يزرع ما ينتفع به وينتفع به الآخرون بخلاف ما ذكر في آية الحديد فإنه قال (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ) وهو ما يخرج بسبب المطر من أنواع مختلفة منها ما لا فائدة فيه للإنسان ومنها الأدغال والحشائش، فكان كل تعبير في مكانه أنسب. (ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ ) ذكر مآل الزرع وناسب ذلك ذكر الزينة والأموال فذكر زوالهما وذهابهما وذلك شأن الدنيا. لقد قال فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ولم يقل (ثم يكون مصفرًا) كما قال (ثُمَّ يَهِيجُ) و(ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ) بإسناد الفعل إلى النبات. أي يراه الناظر مصفراً وذلك للدلالة على زوال الزينة وذهابها فإن الزينة تتعلق بالناظر كما قال تعالى (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ ) - الحجر (16)، ومن ناحية أخرى ليدل على موطن العبرة والاتعاظ فإن ذلك يحصل بالرؤية. وقال (ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ ) أي هذا مآله ولم يقل (ثم تراد حطامًا) فلم يعلق ذلك بالرؤية وإنما أراد أن يبين أن يكون كذلك إذ ربما يكون الشيء غير ذي زينة للناظر ولكنه ثمين نافع وهو من كرائم الأموال. فقال (ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا) فيذهب المال ويزول فلا يبقى مال ولا تكاثر ولا تفاخر ولا زينة لأن الحطام ليس مالاً ولا يتفاخر أو يتكاثر به. بل سيذهب اللعب واللهو معه فإن الذي لم يبق له إلا الحطام لا يلعب ولا يلهو وكيف يلهو ويلعب وقد أصبح ما لديه حطاماً؟ وقد تقول: ولم لم يقل (ثم يجعله حطامًا) كما قال في سورة الزمر؟ والجواب: إن السياق مختلف في الآيتين. ففي آية الزمر الأفعال مسندة إلى الله، قال تعالى (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ) - (21). فالله هو الذي أنزل من السماء ماء. وهو الذي سلكه ينابيع في الأرض. وهو الذي أخرج به الزرع. فناسب أن يقول (فيَجْعَلُهُ حُطَامًا) لأن الذي أخرجه هو الذي يجعله حطاماً. وليس كذلك التعبير في آية الحديد فإنه قال (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ) ثم يهيج فتراه مصفراً ثم يكون حطاماً فلم يسند حدثاً إلى نفسه سبحانه فناسب كل تعبير موضعه. (وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ) قدم العذاب على المغفرة لأنه ذكر قبله اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر ما ليس محموداً على العموم. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن العذاب يسبق المغفرة والرضوان. فعذاب الموقف قبل الحساب وقبل القضاء وقبل الدخول في الجنة أو النار. وورود النار لجميع الخلق قبل الدخول في الجنة كما قال تعالى (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا ۚ) - مريم (71). ومن الناس من يعذب أولاً ثم يدخل الجنة. ووصف العذاب بأنه شديد. وذكر أن المغفرة والرضوان من الله ولم يذكر مثل ذلك في العذاب للدلالة على سعة رحمته، وقدم المغفرة على الرضوان لأنها أسبق منه وهي قبله، جاء في (روح المعاني): (وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ) لأنه من نتائج الانهماك فيما فصل من أحوال الحياة الدنيا و(مَغْفِرَةٌ) عظيمة من الله و(رِضْوَانٌ) عظيم لا يقادر قدره. وفي مقابلة العذاب الشديد بشيئين إشارة إلى غلبة الرحمة وأنه من باب (لن يغلب عسر يسرين). وفي ترك وصف العذاب بكونه من الله تعالى مع وصف ما بعده بذلك إشارة إلى غلبتها أيضاً(5). وقال (مَغْفِرَةٌ) ولم يقل (غفران) ذلك أن كلمة (غفران) لم ترد في القرآن الكريم إلا في موطن واحد لمعنى واحد وهو طلب المغفرة من الله وهو قوله (غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ ) - البقرة (285)، وأما المغفرة فتأتي في غير الطلب كالإخبار بها والدعوة إليها وغير ذلك. قال تعالى (وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ ۖ ) - البقرة (221)، وقال(وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا ۗ ) - البقرة (268) وقال (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَىٰ ظُلْمِهِمْ ۖ ) - الرعد (6). وقد تكون المغفرة من غير الله قال تعالى: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ ) - البقرة (263). وقال (رِضْوَانٌ) ولم يقل (مرضاة) لأن الرضوان معناه الرضا الكثير ولما كان أعظم الرضا رضا الله تعالى خص لفظ الرضوان في القرآن بما كان من الله تعالى (6). قال تعالى: (أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ) - آل عمران (162) وقال (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ) - التوبة (21) وقال: أَ( فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ) - التوبة (109). وأما المرضاة فإنها تستعمل له ولغيره قال تعالى (تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ۚ ) - التحريم (1) وقال (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ ) - البقرة (207). ثم إن (المرضاة) لم تستعمل إلا في ابتغاء الرضا وأما الرضوان فهو عام يستعمل في ابتغاء الرضا وغيره. قال تعالى في المرضاة: (وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ) - البقرة (265) - وقال( وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) - النساء (114). وقال في الرضوان (يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ ) - التوبة (21) - هذا في غير ابتغاء الرضا. وقال في ابتغاء الرضا (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) - الحديد (27) وقال (يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ ) - الفتح (29). ومن هذا يتبين أن المغفرة: 1- تستعمل في المغفرة من الله وغيره فهي عامة من حيث الغافر. 2- انها عامة في غير الطلب فهي عامة من حيث الدلالة بخلاف (الغفران) فإنه خاص بمعنى واحد وهو طلب المغفرة وخاص في الغافر وهو الله. وأن المرضاة: ۱- خاصة في ابتغاء الرضا فهي لم تستعمل في غيره. ۲- وأنها عامة في المبتغى منه الرضا فهو الله أو غيره. وأن الرضوان: 1- خاص في أنه من الله. ۲- عام في ابتغاء الرضا وغيره فهو عام من حيث الدلالة. فخصص المغفرة وقال وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ لتقابل الرضوان لأن الرضوان مخصص في كونه من الله. وكلاهما مطلق من حيث الدلالة. فتناظرا من حيث كونهما خاصين بالله عامين من حيث الدلالة. والله أعلم. **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 275 إلى ص 281. (1) نظم الدرر 7/452. (2) تفسير الرازي 29/233 – 234. (3) التحرير والتنوير 27/401 – 403. (4) أنظر تفسير اليازي 29/235، الكشاف 4/65. (5) روح المعاني 27/283 – 284. (6) مفردات الراغب. مادة: (رضي). الوقفة كاملة
١٢٨ برنامج لمسات بيانية (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) أي إذا طلب منهم الإنفاق مما رزقهم الله امتنعوا واحتجوا بأن الله هو الذي أفقرهم ولو شاء أن يغنيهم لأغناهم فكيف يجيعهم ربهم ونحن نطعمهم؟ إن طلبكم هذا مخالف لمشيئة الله وهو ضلال ظاهر. والظاهر أن المقصور بقوله (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ إطعام المحتاجين بدليل قولهم أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ ) إلا إنه أخرجه مخرج العموم في الطلب والخصوص في الجواب، ذلك أن قوله (أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) يدخل فيه الإطعام وغيره من أفعال الخير فكان الطلب عاماً. غير إنهم امتنعوا عن أي شيء من الإنفاق حتى إطعام المحتاج وهو ما تدعو إليه المروءة فدل امتناعهم عن هذا امتناعهم عما هو أكبر وأعظم وفي هذا مبالغة في الامتناع عن الإنفاق، جاء في (التفسير الكبير) "ما الفائدة في تغيير اللفظ في جوابهم حيث لم يقولوا: أننفق على من لو يشاء الله رزقه وذلك لأنهم أمروا بالإنفاق في قوله (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا) فكان جوابهم أن يقولوا: أننفق، فلم قالوا: أنطعم؟ نقول فيه بيان غاية مخالفتهم ذلك لأنهم إذا أمروا بالإنفاق والإنفاق يدخل فيه الإطعام وغيره لم يأتوا بالإنفاق ولا بأقل منه وهو الإطعام وقالوا لا نطعم، وهذا كما يقول القائل لغيره أعط زيداً ديناراً يقول (لا أعطيه درهماً) مع أن المطابق هو أن يقول: لا أعطيه ديناراً ولكن المبالغة في هذا الوجه أتم فكذلك ههنا" (1) وجاء في (البحر المحيط): "أمروا بالإنفاق مما رزقكم الله وهو عام في الإطعام وغيره فأجابوا بغاية المخالفة لأن نفي إطعامهم يقتضي نفي الإنفاق العام فكأنهم قالوا لا ننفق ولا أقل الأشياء التي كانوا يسمحون بها ويؤثرون بها على أنفسهم وهو الإطعام الذي به يفتخرون، وهذا على سبيل المبالغة كمن يقول لشخص أعط لزيد ديناراً فيقول: لا أعطيه درهماً، فهذا أبلغ من لا أعطيه ديناراً (2). والملاحظ من الآيتين إنهم أمروا بالاتقاء وذلك قوله (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ) وهو أمر عام يتعلق بالعبادة الفردية والحياة الشخصية ويتعلق بالآخرين فإن وجوه الاتقاء متسعة. وأمروا بالإنفاق في وجوه الخير وذلك قوله (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا) وهو أمر يتعلق بالآخرين، ومنه إطعام المحتاجين الذي هو ضرورة من ضرورات الحياة، وهذا يدلنا على أن أوامر الله قسمان: قسم يتعلق بالقيام بحقوق الله وهو يدخل في التقوى، وقسم يتعلق بحقوق العباد ومنه الإنفاق. وقد امتنعوا عنهما جميعاً، جاء في (روح المعاني): "والكلام على ما قيل لذمهم على ترك الشفقة على خلق الله تعالى آثر ذمهم على ترك تعظيمه عز وجل بترك التقوى، وفي ذلك إشارة إلى أنهم أخلوا بجميع التكاليف لأنها كلها ترجع إلى أمرين: التعظيم لله تعالى والشفقة على خلقه سبحانه" (3). والملاحظ من الآية: 1- إنها بدأت بأداة الشرط (إذا) فقال (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا) إشارة إلى أن هذا القول قد قيل لهم فعلاً بل إنه لقد قيل لهم كثيراً لما سبق أن ذكرنا في دلالة (إذا) في قوله (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا). 2- وقد بنى الفعل (قيل) للمجهول في الآيتين فقال (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا) لأكثر من سبب: من ذلك أن القائل معلوم وهم المؤمنون. ومن ناحية آخري إنه لا يتعلق غرض بذكر القائل فإنه لا يتغير الحكم بتغيير القائل فإن المقصود هو المقول وليس القائل. ومن ذلك الإشارة إلى ضرورة النظر في المقول لا في القائل، فالقول الحق ينبغي الأخذ به أيا كان قائله، فهو توجيه إلى الأخذ بالقول الحق دون النظر إلى قائله وهو بمعنى (خذ الحكمة ولا تضرك من أي وعاء خرجت) . ثم إنه لو ذكر القائل لظن أن هذا الموقف من الكفرة بسبب القائل ولو كان القائل شخصاً آخر لتغير الموقف، فإن الناس كثيراً ما يرفضون القول من قائل ويقبلونه من قائل آخر، فلو ذكر القائل لظن أن رفضهم بسبب القائل، فبين أن موقفهم هذا إنما هو من المقول لا من القائل. 3- وقد جاء بمن التبعيضية للدلالة على أنه طلب منهم إنفاق شيء مما أنعم الله به عليهم ليسهل ذلك عليهم. 4- أسند الرزق إلى الله، أي أن الله هو الذي رزقكم وتفضل عليكم، فأنفقوا شيئاً مما أعطاكم وتفضل عليكم "أي أعطاكم سبحانه بطريق التفضل والإنعام من أنواع الأموال، وعبر بذلك تحقيقاً للحق وترغيباً في الإنفاق على منهاج قوله تعالى (وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) وتنبيهاً على عظم جنايتهم في ترك الامتثال بالأمر، وكذلك الإتيان بمن التبعيضية" (4). 5- بين القائل والمقول له في الآية بعد البناء للمجهول فقال (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ). فبين قوله (قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا ) أن القائل (انفقوا)هم المؤمنون وأن الذين قيل لهم هم الكفار، ولذا ذكر أن الذين كفروا ردوا على المؤمنين قولهم. ومن هذا يتضح أن الآية بنيت على الإيضاح بعد الإبهام. فقد قال (قيل) فبنى الفعل للمجهول ثم بين القائل بقوله (قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آَمَنُوا ) . وقال (لهم) فذكر الضمير ثم أوضح الضمير بأنه يعود على الذين كفروا (قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ) ثم قال (أنفقوا) وهو عام ثم بين المقصود بالإنفاق ههنا وهو إطعام المحتاجين. 6- لم يبين القائل في الآية الأولى وهي قوله (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) وقد بينه في هذه الآية ذلك لأن القائل في الآية الأولى معلوم وهو لا يحتاج إلى إيضاح، فإنه معلوم أنه لا يقول هذا القول إلا مؤمن ولا يصدر عن كافر وذلك لأن الكفار لا يؤمنون بالآخرة ولذا ذكر بعد ذلك قولهم (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ). أما الآية الثانية وهي قوله (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) فيحتاج القائل إلى تبيين ذلك لأن هذا القول قد يصدر عن شخص غير مسلم يقوله مروءة ذلك أن الله حكى عن كفار قريش أنهم يؤمنون بأن الله هو الذي يرزق الخلق قال تعالى (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ) – يونس31. فبين أن الذي قال هذا القول ودعا إلى الإنفاق هم المؤمنون. فكان كل تعبير أنسب في مكانه هذا علاوة على أنه ذكرنا أن الآية الأولى بنيت على الإيجاز وهذه بنيت على البيان بعد الإبهام. واستبان من ذلك أن الذي يدعو إلى الخير والمكرمة إنما هو المؤمن، وأن المشفق على خلق الله الطالب لإعانتهم وإغاثتهم إنما هو المؤمن، فالمؤمن منبع كل خير ويمن وبركة. 7- لم يبين وجوه الإنفاق في الآية بل أطلقها فقال ( أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ) ذلك ليشمل وجوه الخير كلها وليشمل عموم خلق الله مؤمنهم وكافرهم فهو لم يقل (أنفقوا على المؤمنين) بل أطلق ذلك ليشمل الجميع فتتسع دائرة الخير. 8- لما أسند الرزق إلى الله بقوله (مما رزقكم الله) أسندوا الإطعام إليه فقالوا (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ) ففكأنهم قالوا: الله الذي رزقنا هو الذي حرمهم. 9- لم يذكر اللام في جواب (لو) فلم يقل (لو يشاء الله لأطعمه) ذلك أن الإطعام سهل ميسور فلا يحتاج إلى توكيد، والملاحظ في القرآن الكريم أن المنزوع اللام من جواب لو أقل توكيداً مما ذكرت فيه اللام. فيؤتى باللام فيما هو أكد، فما كان أصعب في ميزان البشر يؤتى معه باللام وما كان أيسر تنزع منه اللام مع أنه من المعلوم أن ليس شيء أصعب على الله من شيء. قال تعالى (فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ) فجاء باللام لأن الهداية صعبة، وقال (لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ) فلم يذكر اللام لأن الإهلاك مقدور عليه وليس كالهداية، وقال (وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ) وهذا صعب عسير فجاء باللام غير أنه قال (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ) فلم يذكر اللام لأنه مقدور عليه من كثير من الناس وليبينوا أن ذلك من الأمور اليسيرة على الله فلو شاء ذلك فعل ولكن الله لم يشأ ذلك فكيف نطعمهم نحن؟ الوقفة كاملة
١٢٩ برنامج لمسات بيانية (مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) معنى النظر ههنا وقوع الشيء من غير ترقب له فلا يرونه إلا واقعاً، وقد فسره المفسرون بالانتظار ولما كان الكفار غير منتظرين للصيحة بل ينكرونها فسروها بالانتظار الفعلي، جاء في (التفسير الكبير): "(ما ينظرون إلا صيحة واحدة) أي لا ينتظرون إلا الصيحة المعلومة .. فإن قيل: هم ما كانوا ينتظرون بل كانوا يجزمون بعدمها، فنقول: الانتظار فعلي لأنهم كانوا يفعلون ما يستحق به فاعله البوار وتعجيل العذاب وتقريب الساعة لولا حكم الله وقدرته وعلمه" (1) وجاء في (البحر المحيط): "ما ينظرون أي ما ينتظرون ولما كانت هذه الصيحة لابد من وقوعها جعلوا كأنهم منتظروها" (2) والحق أن ثمة فرقاً بين (ينظرون) و(ينتظرون) فمعنى (ينظرون) يرون الأمر واقعاً بغتة من غير ترقب له أو توقع، أما الانتظار فهو ترقب وقوع الأمر. وأكثر الاستعمال القرآني على هذا فهو يستعمل (النظر) لما يفاجئ من الأحداث والانتظار لما فيه ترقب وتوقع. قال تعالى (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ) الزخرف 66 فذكر إنها تأتيهم بغتة أي من غير ترقب. وقال (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا ) محمد 18 وهي مثل ما قبلها. وقال: (هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ) الأعراف 53 والكلام واضح أنه في اليوم الآخر وهو يأتيهم من غير ترقب له أو انتظار لأنهم كافرون به كما يدل على ذلك الكلام. في حين قال: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ) الأحزاب 23 أي منهم من ينتظر ذلك ويترقبه. وقال: (فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ) السجدة 30 فأمره بالانتظار وهو الترقب. وقال هود لقومه (قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاءٍ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا نَزَّلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ ) الأعراف 71 فهو قد توعدهم وتهددهم وأمرهم بانتظار ذلك وترقبه. ثم إن بناء كل من الفعلين يقوى ما ذكرناه فإن بناء (انتظر) أطول من (نظر) وذلك يدل على زيادة الانتظار وطوله إذ كثيراً ما يناسب اللفظ المعنى. ومعنى الآية – أي آية يس- أنهم لا ينظرون إلا صيحة واحدة تبغتهم وهم يختصمون في حياتهم ومعاشهم، والمقصود بالصيحة هذه صيحة القيامة. واختار (ينظرون) على (ينتظرون) لأن في ذلك فزعاً أكبر فإن الذي تفجؤه الصيحة يرجف فؤاده ويفزع أكثر ممن ينتظرها "لأن الصيحة المعتادة إذا وردت على غافل يرجف فإن المقبل على مهم إذا صاح به صائح يرجف فؤاده بخلاف المنتظر للصيحة، فإذا كان حال الصيحة ما ذكرناه من الشدة والقوة وترد على الغافل الذي هو مع خصمه مشغول يكون الارتجاف أتم والإيجاف أعظم" (3) وذكر الصيحة ههنا كما ذكرها في أصحاب القرية فإن كلاً من الصنفين لم يتق ما بين يديه وما خلفه فلم يرحمه ربه وأخذته الصيحة، غير أن هناك فرقاً بين البناء في الآيتين: فقد قال في أصحاب القرية (إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً) بالفعل الماضي لأن الصيحة قد وقعت. وقال ههنا (مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً) بالفعل المضارع لأنها لم تقع وقال في أصحاب القرية (فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ) . وقال ههنا (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) وذلك أنه لما قال إن الصيحة تأخذهم أي كأنها تأخذهم من أهلهم قال (وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) لأن الصيحة أخذتهم بعيداً عن أهلهم ولم يقل مثل ذلك مع قوله (فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ) لأنها أخمدتهم جميعاً هم وأهلهم. وناسب ذلك أيضاً قوله (وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) أي يختصمون في أمور الدنيا ومعنى ذلك أنهم ليسوا بين أهلهم ولا في مساكنهم فناسب أن يقول (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) . ومعنى (يخصمون) (يختصمون) غير أنه أبدل من التاء صاداً وضعفها وكسر الخاء لالتقاء الساكنين فصار يخصمون، وسبب هذا الإبدال والتضعيف – والله أعلم- إن التضعيف يدل على المبالغة فأبدل وضعف للدلالة على المبالغة في الاختصام، أي أن الساعة تأخذهم وهم منهمكون في الاختصام مبالغون في أمور الدنيا لا يشغلهم عن ذلك شاغل فتأخذهم الصيحة فلا يستطيعون توصية ولا ينطقون بشيء، جاء في (بلاغة الكلمة في التعبير القرآني): "وأصل (يخصمون) يختصمون فأبدلت التاء صاداً وأدغمت في الصاد فصار (يخصمون)، والتضعيف يفيد القوة والتكثير والمبالغة. فأفاد ههنا المبالغة في الاختصام، والمعنى أن الساعة تأخذهم وهم منهمكون في معاملاتهم منشغلون في خصومات الدنيا على أكثر ما يكون وأشد ما يكون غير منشغلين بشيء آخر عن الدنيا، فالساعة لا تقوم على رجل يقول: لا إله إلا الله. وفي الحديث (شرار الخلق الذي تدركهم الساعة وهم أحياء) فتصيح الساعة صيحة تقطع الاختصام فلا يكون نبس ولا حركة ولا خصومة ولا كلام بل صمت مطبق وسكون مطلق (فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) ، فعبر عن ذلك بقوله (يخصمون)، ولا يدل الأصل (يختصمون) على هذه المبالغة والقوة ... في حين قال (ثُمَّ إِنَّكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ) الزمر 31 من غير إبدال، ذلك أن الاختصام أمام رب العالمين لا يكون مثل الاختصام في الدنيا، فاٌختصام في الدنيا عام يشمل المخاصمات التي تستدعى القضاء والفصل بين المتخاصمين كما يشمل غيرها مما لا يستدعى قضاء ولا فصلاً. أما الاختصام عند الرب فهو مما يستدعى القضاء والفصل، فبالغ في البناء فيما استعمله في الدنيا بخلاف ما استعمله في الآخرة والله أعلم" (4) واختيار الصيحة هو المناسب في هذا المقام إذ هي التي تقطع الاختصام والقيل والقال فبينما هم يختصمون في معاملاتهم وهم في صخب الدنيا إذ تأتيهم الصيحة فتقطع ذلك كله كما يكون في مكان ما ضجيج وصخب فتقطع ذلك بصيحة واحدة فإذا هو صمت مطبق وسكون رهيب. وذكر أن الصيحة واحدة ذلك لأنهم لا يحتاجون إلى آخري فإن الصيحة الواحدة تأخذهم جميعاً فلا حاجة إلى ثانية، ثم إنه إذا تتابعت الصيحات ألفها السامع فلا تكون لها تلك الرهبة، أما هذه فصيحة واحدة ليس لها نظير تخلع قلوبهم فيموتون جميعاً. أما الصيحة الثانية فلجمعهم عند رب العالمين الوقفة كاملة
١٣٠ (ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا) أي على آثار نوح وإبراهيم ومن بعدهما من الذرية الذين جعل فيهم النبوة والكتاب. (وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) أي واتبع الرسل بعيسى بن مريم وذكر عيسى لأنه آخر الرسل قبل الرسول الخاتم ولأنه ذكر الكتاب الذي أنزل إليه وذكر أتباعه وحالهم. واقتضى ذكره أيضا لأنه تفرد عن بقية الرسل بأنه ليس من ذرية إبراهيم من جهة الأب وإنما من جهة الأم. والمعروف في ذرية الشخص من ينتسب إليه من جهة الأب إلا أنه عده الله من ذريتهما في أية أخرى وهي قوله( وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَىٰ وَهَارُونَ ۚ وَكَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَىٰ وَعِيسَىٰ وَإِلْيَاسَ ۖ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) - الأنعام (84-85). والله سبحانه ينسبه إلى أمه رداً على النصارى الذين يزعمون أنه ابن الله. جاء في (التحرير والتنوير): وضمير الجميع في قوله (عَلَىٰ آثَارِهِمْ) عائد إلى نوح وإبراهيم وذريتهما الذين كانت فيهم النبوة والكتاب. فأما الذين كانت فيهم النبوة فكثيرون وأما الذين كان فيهم الكتاب فمثل بني إسرائيل. و(عَلَى) للاستعلاء، وأصل (قفي على أثره) يدل على قرب ما بين الماشيين أي حضر الماشي الثاني قبل أن يزول أثر الماشي الأول. وشاع ذلك حتى صار قولهم (على أثره) بمعنى بعده بقليل أو متصلاً شأنه شأن سابقه ... وفي إعادة (قفينا) وعدم إعادة (على آثارهم) إشارة إلى بعد المدة بين آخر رسل بني إسرائيل وبين عيسى فإن آخر رسل بني إسرائيل كان يونس بن متى أرسل إلى أهل نينوى أول القرن الثامن قبل المسيح (1). وقد تقول: لقد قال ههنا (وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) وقال في المائدة: (وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) - (46) فقال في المادة (عَلَىٰ آثَارِهِمْ) ولم يقل مثل ذلك في الحديد. فما السبب؟ والجواب أن الأمر مختلف فإن آية الحديد في تقفية الرسل. وآية المائدة في تقفية الربانيين والأحبار. قال تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ) ثم قال (وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) فالربانيون والأحبار لم ينقطعوا فقفى على آثارهم بعيسى بن مريم. أي ليس بينهم وبينه مدة فاصلة بخلاف ما بينه وبين الرسل فإن بينه وبينهم مدة ليست بالقليلة. (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) الرأفة أخص من الرحمة وأرق (2). جاء في (تاج العروس): الرأفة أشد الرحمة أو أرقها... والذي في المجمل: أنها مطلق الرحمة وأخص ولا تكاد تقع في الكراهية، والرحمة قد تقع في الكراهية للمصلحة. وقال الفخر الرازي: الرأفة مبالغة في رحمة مخصوصة من دفع المكروه وإزالة الضر وإنما ذكر الرحمة بعدها ليكون أعم وأشمل (3). فالرأفة تتعلق بدفع الأذى والضر فهي رحمة خاصة والرحمة عامة في ذلك وغيره. قال تعالى (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) - الأنبياء (۱۰۷) وقال: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا ۖ) - الروم (36) وقال : (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ) - النحل (۸۹) وقال : (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) - الأعراف (204) وقال: (فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ ۚ) - الأنعام (157) وقال (أَهَٰؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ۚ) - الأعراف (49) وقال (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) - هود (۲۸) وقال (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) - الكهف (65) فذلك ونحوه لا تصح فيه الرأفة فالرحمة أعم. وحيث اجتمعت الرأفة والرحمة قدمت الرأفة على الرحمة. (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) أي وابتدعوا رهبانية لم نكتبها عليهم إلا أنهم ابتغوا بابتداعها رضوان الله غير أنهم لم يرعوها حق الرعاية فهم لم يقوموا بها حق القيام. جاء في (الكشاف) في قوله (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا) : وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره (وابتدعوا رهبانية) (ابتدعوها) يعني وأحدثوها من عند أنفسهم ونذروها (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) . لم نفرضها نحن عليهم. (إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) استثناء منقطع أي ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله. (فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ۖ) كما يجب على الناذر رعاية نذره لأنه عهد مع الله لا يحل نكثه. (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ) يريد أهل الرحمة والرأفة الذين اتبعوا عيسى. (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) الذين لم يحافظوا على نذرهم. ويجوز أن تكون الرهبانية معطوفة على ما قبلها و(ابْتَدَعُوهَا) صفة لها في محل النصب أي وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة من عندهم بمعنى وفقناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهبانية واستحداثها ما كتبناها عليهم إلا ليبتغوا بها رضوان الله ويستحقوا بها الثواب على أنه كتبها عليهم وألزمها إياهم ليتخلصوا من الفتن ويبتغوا بذلك رضا الله وثوابه. فما رعوها جميعاً حق رعايتها ولكن بعضهم. فآتينا المؤمنين المراعين منهم الرهبانية أجرهم وكثير منهم فاسقون وهم الذين لم يرعوها (4). والظاهر أن التفسير الأول أرجح من وجهين: الوجه الأول: أنه قال (ابْتَدَعُوهَا) ومعنى (ابْتَدَعُوهَا) أنه لم يكتبها عليهم. والوجه الثاني: أنه قال: (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً) ، والرهبانية أمر بدني سلوكي وليس قلبياً فلا يصح عطفها على ما قبلها (5) والله أعلم. وفي الإخبار عنهم بقوله (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا) ذم من وجهين: الوجه الأول: أنهم ابتدعوا الرهبانية. والدين لا يؤخذ بالابتداع حتى لو كان ذلك لغرض رضوان الله فإن رضوان الله يتوصل إليه بما شرع هو لا بابتداع البشر كائناً من كان. والوجه الثاني أنهم لم يقوموا بما عاهدوا عليه أنفسهم حق القيام ولم يلتزموا بما شرعوه تقرباً لله - كما زعموا - فهم كالناذر الذي لم يوف بنذره. جاء في (تفسير ابن كثير): (مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ) أي ما شرعناها لهم وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم. وقوله (إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ) فيه قولان: أحدهما أنهم قصدوا بذلك رضوان الله ... والآخر: ما كتبنا عليهم ذلك إنما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله. وقوله (فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا ) أي فما قاموا بما التزموه حق القيام. وهذا ذم لهم من وجهين: أحدهما في الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله. والثاني في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عز وجل (6). (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ ۖ 9 دل قول ربنا هذا على أن مناط الأمر هو الإيمان وليس غير ذلك من رهبانية مبتدعة، فهو لم يقل (فآتينا الذين رعوها حق رعايتها أجرهم) لئلا يظن أنه يرضى عن الابتداع لأي غرض كان حتى لو قصد بذلك رضوان الله وإنما مناط الأمر ورأس النجاة هو الإيمان. كما لم يقل كما قال في الآية السابقة (فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ ۖ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) لئلا يظن أن الذين ابتدعوا الرهبانية أو قسماً منهم يوصف بالهداية ولئلا يحتج محتج بأن قسماً من الابتداع فيه هداية وإنما قسمهم على قسمين: من آمن منهم فلهم أجرهم. وقسم أخر فاسق، وذكر أن الفاسقين كثير. قد تقول: لقد قال في موطن آخر (وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) - المائدة (46).وواضح أن بين الآيتين تشابها واختلاف فمن ذلك: 1- أنه قال في آية الحديد (وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) وقال في المائدة: (وَقَفَّيْنَا عَلَىٰ آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) وقد ذكرنا سبب الاختلاف بين التعبيرين. ۲- قال في المائدة (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ) ولم يقل مثل ذلك في آية الحديد. 3- قال في المائدة (وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ) وقال في الحديد (وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ) ولم يزد على ذلك. 4- ذكر في آية الحديد أتباع عيسى عليه السلام وحالتهم. وذكر في آية المائدة صفة الإنجيل فقال (وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) فما سبب الاختلاف؟ فنقول: لقد اقتضى كل تعبير السياق الذي ورد فيه: ١- فإنه قال في المائدة (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ) لما تقدم ذكر التوراة قبل هذه الآية ففال (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ.. ) (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ... ) (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ....) [43 – 45]. ولم يجر في سياق آية الحديد ذكر لموسى ولا للتوراة فناسب ذكر ذلك في المائدة دون الحديد. ۲- وقال في المائدة . (وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ) لما ذكر قبله التوراة وقال (فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ) فقد قال: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ) فناسب ذكر ذلك في الإنجيل أيضاً. ولم يجر ذكر للتوراة في الحديد كما أسلفنا. 3- ذكر الكتب السماوية في المائدة وضرورة الحكم بها فقد ذكر التوراة والإنجيل ثم ذكر القرآن بعد ذلك فقال (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ...) - (48) وطلب من أهل كل كتاب أن يحكموا بما أنزل إليهم فناسب أن يختم الآية بصفة الإنجيل فقال (وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ) وجرى في الحديد ذكر حال الذرية والأتباع وهو السياق الذي وردت فيه آية الحديد فقد قال قبل هذه الآية: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ ۖ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ ۖ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) ثم ذكر أتباع عيسى وحالهم ثم انتهى إلى خطاب المؤمنين بسيدنا محمد وما أعد لهم. فناسب ختام كل آية السياق الذي وردت فيه. والحمد لله رب العالمين. **من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الأول من ص 298 إلى ص 302. (1) التحرير والتنوير 27/420 – 421. (2) لسان العرب (رأف). (3) تاج العروس (رأف). وأنظر التحرير والتنوير 27/421. (4) الكشاف 4/67 – 68. (5) أنظر التحرير والتنوير 13/423. (6) تفسير ابن كثير 4/373. الوقفة كاملة


إظهار النتائج من 121 إلى 130 من إجمالي 314 نتيجة.