أصحاب الرس
بسم الله الرحمن الرحيم
أصحاب الرس
بقلم : فهد بن سعد بن ثلاب السبيعي
للمشاركة في المادة العلمية : التواصل عن طريق الواتس آب
( أنقر هنا )

يعتَبِر كثير من العلماء أن وسط الجزيرة العربية هو منطلق الشعوب السامية ( أي العرب والفينيقيون والأشوريون والبابليون والكنعانيون والعبرانيون والأموريون والآراميون ) والذي انتقلت منه هذه الشعوب إلى أنحاء شتى من العالم القديم ، فأقموا الحضارات التي كان لها فضل كبير- بعد الله - في تقدم البشرية علميا ومعرفياً وإجتماعياً ، ومن هؤلاء المستشرقين [ سايس و أبرهرد شرادر، و دي كويه وهوبرت كرمه و كارل بروكلمن وكينغ و جول ماير و كوك وآخرين ] . ( 1/232 من كتاب المفصل في تاريخ العرب لـ أ.د جواد علي ) .
أرسل الله تعالى العذاب الأليم على قوم عاد بسبب كفرهم واستكبارهم في الأرض ، وأنجى الله نبيه هود عليه السلام ومن آمن معه، قال تعالى : { وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } هود 58 ، واستقر المقام بأحفاد من آمن مع هود في الحِجر، ومع تتابع القرون وسُنة الاستخلاف تكاثرت أعدادهم وسُموا قوم ثمود، ذكر ذلك الأصفهاني في إعراب القرآن : [وإنما سُمُّوا ثمود لأنّ الله تعالى لما أهلك عاد، بقيت منهم بقية تناسلوا فهم ثمود، فاشتق لهم من الثمد وهو الماء القليل؛ لأنَّهم قلوا عن عدد عاد الأولى ](1/297) ، وكذلك ابن منظور في لسان العرب: [ يُقال أن ثمود بقية عاد ] (215/4) . وجاء في تفسير السمعاني : [ فِي الْمثل: أشأم من أَحْمَر عَاد. يَعْنِي: على قومه. وَإِنَّمَا قيل: عاد لِأَن ثَمُود من نسب عَاد.].(5/314) ، وذكرالقرطبي في تفسيره : [ وَهُوَ ثَمُودُ بْنُ عَادِ بْنِ إِرَمَ بْنِ سَامَ بْنِ نُوحٍ ] (238/7)
فثمود هم أحفاد من نجا من قوم عاد ، ومع تطاول القرون عليهم ، عبدوا الأصنام وأتخذوها أرباب من دون الله ، فأرسل لهم الله -عز وجل - النبي صالح عليه السلام يدعوهم لعبادة الله وترك عبادة الأصنام ، وذكّرهم - عليه السلام - بنعم الله عليهم ، وكيف جعلِهم خلفاء من بعد قوم عاد قال تعالى : { وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ } الأعراف 74.
-1-
ولكن كذب أكثر قومه وتمسكوا بعبادة الأصنام فحق عليهم العذاب ، وأنجا الله نبيه صالح والذين أمنوا معه ، وأخذت الكفار الصيحة : { فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ * وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } الأعراف 91
وتذكر المصادر أن نبي الله صالح خرج بالمؤمنين من الحِجر ، ونزلوا موضع عُرف فيما بعد : بموضع أصحاب الرس ، ذكر ذلك ابن عاشور في تفسير التحرير والتنوير : [ قِيلَ: كَانَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَ صَالِحٍ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ إِهْلَاكَ ثَمُودَ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى صَالِحٍ أَنْ يَخْرُجَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ فَخَرَجُوا وَنَزَلُوا فِي مَوْضِعِ الرَّسِّ فَكَانَ أَصْحَابُ الرَّسِّ مِنْ ذُرِّيَّاتِهِمْ. ] ( 19/287). .
فأحفاد الذين نجوا من العذاب مع نبي الله صالح، عُرفوا بأصحاب الرس، جاء ذلك في تفسير البغوي عن أصحاب الرس : [وَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمْ بَقِيَّةُ ثَمُودَ قَوْمِ صَالِحٍ] ( 6/84) ، وجاء في كتاب نهاية الأرب للنويري : [ أصحاب الرسّ: أنّهم بقيّة ثمود وقوم صالح ] (13/ 89) وذكر الطبري في تفسيره : [ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: {وَأَصْحَابُ الرَّسِّ} قَرْيَةٌ مِنْ ثَمُودَ ](452/17)
فمن خلال ما سبق يتضح أن أصحاب الرس بقية قوم ثمود، وقوم ثمود أيضاً بقية قوم عاد، فهم في تسلسل نسب واحد ، وكل حقبة من التاريخ امتداد لسابقتها .
وبهذا التسلسل في النسب يتضح سبب ذكرهم مقترنين مع بعضهم البعض في القرآن الكريم قال تعالى : { وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا } الفرقان 38 .
وفي قوله تعالى { وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا } دلالة على أن أصحاب الرس متأخرين زمنياً عن عاد وثمود ، وبينهم قرون كثيرة، ذكر ذلك الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان : [ والأظْهَرُ أنَّ القُرُونَ الكَثِيرَ المَذْكُورَ بَعْدَ قَوْمِ نُوحٍ، وعادٍ، وثَمُودَ، وقَبْلَ أصْحابِ الرَّسِّ وقَدْ دَلَّتْ آيَةٌ مِن سُورَةِ ”إبْراهِيمَ“ عَلى أنَّ بَعْدَ عادٍ، وثَمُودَ، خَلْقًا كَفَرُوا وكَذَّبُوا الرُّسُلَ، وأنَّهم لا يَعْلَمُهم إلّا اللَّهُ جَلَّ وعَلا ، وَتَصْرِيحُهُ بِأنَّهم بَعْدَ عادٍ وثَمُودَ يُوَضِّحُ ما ذَكَرْنا، وذَلِكَ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ألَمْ يَأْتِكم نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكم قَوْمِ نُوحٍ وعادٍ وثَمُودَ والَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهم إلّا اللَّهُ جاءَتْهم رُسُلُهم بِالبَيِّناتِ فَرَدُّوا أيْدِيَهم في أفْواهِهِمْ وقالُوا إنّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وإنّا لَفي شَكٍّ مِمّا تَدْعُونَنا إلَيْهِ مُرِيبٍ﴾ إبراهيم: ٩] (53/6) وذكر ذلك البغوي :[ {وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا} أَيْ: وَأَهْلَكْنَا قُرُونًا كَثِيرًا بَيْنَ عَادٍ وَأَصْحَابِ الرَّسِّ.] (6/85) .
-2-
* موقع أصحاب الرس :
ذُكر في موضع أصحاب الرس أقوال عديدة ومنها : أنهم في الفلج في اليمامة أي الأفلاج حالياً، وقيل في اليمن ،وقيل في نجران، وقيل في أنطاكية، وقيل في أذربيجان، وقيل في أرمينيا .
وقيل في مدينة الرس في القصيم ، وهو قول حديث ذهب إليه الأستاذ فؤاد حمزة في كتابه قلب الجزيرة العربية و لم يسبقه أحد عليه كما يذكر الشيخ حمد الجاسر في صحيفة اليمامة عدد جمادى الأولى عام 1374هـ .

وأكثرها هذه الأقوال تداول في المصادر أنهم في الفلج في اليمامة أو في اليمن ، لذلك سيجري مناقشة هذين القولين أكثر من غيرهما ، وقد أبدع الأستاذ سامي المغلوث في جمع هذه المواضع في خريطة واحدة في كتابه القيم أطلس الأماكن في القران الكريم :

[ وللشيخ حمد الجاسر بحث عن الرس في القرآن نُشر في مجلة العرب في شهر رجب سنة 1390هـ وقد ذكر أن جملة الأقوال أن موقع الرس يطلق على البلاد المعروفة الآن باسم ( الأفلاج ) وكان هذا الرأي معروفاً إلى منتصف القرن الخامس الهجري ] (من كتاب تأريخ الأفلاج وحضارتها للشيخ عبدالله الجذالين ص 115).
وهو القول الذي ذهب إليه أكثر المفسرين في أن أصحاب الرس في ما يعرف الآن بالأفلاج في إقليم اليمامة، وذلك نقلا عن إثنين من علماء التابعين:
[ قال قتادة : الرسّ: قرية من اليمامة يقال لها الفلج،
وقال عكرمة: أصحاب الرسّ بفلج هم أصحاب يس .] انظر تفسيرالطبري (ص270/269،ج19) .
وذكر الرازي هذا القول : [الرَّسُّ قَرْيَةٌ بِفَلَجِ الْيَمَامَةِ قَتَلُوا نَبِيَّهُمْ فَهَلَكُوا وَهُمْ بَقِيَّةُ ثَمُودَ ] . (24/460) .
وعلى هذا سار أكثر المفسرين، قال ابن عاشور في تفسير التحرير والتنوير: [والأكْثَرُ عَلى أنَّهُ مِن بِلادِ اليَمامَةِ ويُسَمّى فَلْجًا ] ( 19/28).
وذكر ناصر خسرو عندما زار الأفلاج عام 443هـ متحدثاً عن أهلها: [وقد قالوا نحن من أصحاب الرسيم الذين ذكروا في القرآن الكريم ] (سفرنامة ص140) ، وذكر الشيخ حمد الجاسر في تعليقه على هذا النص: [وهو يعني الرس وقد جاء في بعض التفاسير أن الرس هو فلج الأفلاج ] (من كتاب مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ ص 54 ).
وهذا مقطع فيديو للشيخ حمد الجاسر - رحمه الله - يؤكد فيه أن الأفلاج هي موقع أصحاب الرس في إحدى محاضراته :
و نجد الطبري في تاريخه (1/ 558) يحدد إسم مدينتهم بأنها ( وبار ) فقد ذكر أن أصحاب الرس إنهزموا في أحد المعارك من أحد ملوك العراق وتحصنوا بمدينة وبار، ثم نكتشف حديثا تحديد مسمى مكان المعركة في أحد الكتابات الأشوريه، بأنه منطقة ( bare ) ( المفصل جواد علي 1/326 ) وهو تحريف من كلمة وبار التي النسبة إليه أباري [وَالنّسَبُ إلَيْهِ أَبَارِيّ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ] الروض الأنف للسهيلي (1/53) ، والتي حددنا موقعها سابقاً بالأدلة أنها بالقرب من عيون الأفلاج وذلك في بحث ( الموقع الحقيقي لـ إرم ذات العماد ) .
-3-
* معنى الرس /
ذُكر معنيان للرس في لسان العرب لابن منظور: [الرّسُّ: الْبِئْرُ الْقَدِيمَةُ أَو المَعْدِنُ،] (6/98) .
فالرس يطلق على الأبار المعروفه التي تحفر لجلب المياه، وكذلك يطلق على المعدن وهي المناجم التي تحفر لإستخراج الذهب والفضة ونحوها، ذكر ابن منظور في لسان العرب: [المَعادِنُ: الْمَوَاضِعُ الَّتِي يُسْتَخْرَجُ مِنْهَا جَوَاهِرُ الأَرض.] (13/279)
وذكر الزبيدي في تاج العروس: [ مَنْبِتُ الجَواهِرِ من ذَهَبٍ ونحوِهِ ] (381/35).
وقد جاء في صحيح البخاري تحديد المعنى المراد بـ { الرس } في قوله تعالى { وأصحاب الرس} : حيث ذكرأن المعنى المراد هو المعدن : [ الرَّسُّ : المَعْدِنُ، جَمْعُهُ رِسَاسٌ ] (6/109) .
وهذا ما ذهب إليه أبو عبيدة في مجاز القرآن : [ الرس : المعدن ] (2/75) .
وكذلك ابن قتيبة في غريب القرآن :[ {وَأَصْحَابَ الرَّسِّ} والرسُّ: المَعْدِن. قال الجعديُّ: تَنَابِلَةٌ يَحْفِرُونَ الرِّسَاسَا .أي آبارَ المعدن ] .
ومن الأدله على ذلك : أن العرب تسمي من يعمل في المعادن القيون أو الأقيان ( لسان العرب لابن منظور 13/350) وجاء في معجم ما إستعجم للبكري : [ فارانعلى وزن فاعال: معدن حديد بمنازل بنى سليم ، ينزله بنو الأخشم ابن عوف بن حبيب بن عصيّة بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم، ولذلك قيل لهم القيون ] (3/1013) ، وكما هو معلوم فأصحاب الرس يعرفون بالأقيون ، ذكر ذلك ابن الكلبي في نسب معد واليمن الكبير : [ الأَقيَّون وهم رَهْط حَنْظَلَة بن صَفْوانَ من أهل الرَّسِ ] (1/131) ، فيبدو أن هذه التسمية لحقت بهم بسبب عملهم في المعدن .
كما لو أن المعنى المراد بالرس في الآية هو: البئر، لما حصل لأصحابه تميّـزعن غيرهم ، لأن الأبار كثيرة عند الناس، وأما المعدن فهو أمر خاص وغير منتشر مثل الأبار، فيسهل تمييزهم عن الناس من خلاله.
وكذلك لأن إستخراج المعدن مثل الذهب والفضة ، من أسباب الغنى والترف ، وقد وصف الله أهل الرس بذلك فقال تعالى [ وأرجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم لعلكم تسألون ] سورة الأنبياء 13 .
فيتبين لنا بذلك أن أصحاب الرس برعوا بشكل كبير في حفر المناجم والتنقيب عن الذهب ونحت الصخور للوصول لعروق الذهب، وأصبحت هذه سمة من سماتهم الغالبة ، فأستحقوا أن يوصفوا بأصحاب المعدن .
-4-
(صور لعروق الذهب في الطبيعة )


وأما الزمن الذي أشتُهر فيه أصحاب الرس بالذهب فيبدو أنه كان في أواخر الألف الثاني وأوائل الألف الأول قبل الميلاد ، أي معاصرين للنبي سليمان عليه السلام الذي حدد المؤرخين وفاته بعام 937 ق.م ، وكانت نهاية دولة أصحاب الرس في أواخر القرن الثامن قبل الميلاد، وسنستعرض ذلك لاحق إن شاء الله.
وكانت الجزيرة العربية - ومازالت - تزخر بكميات كبيرة من المعادن، وقد إشتُهرت بذلك مما جعل المصادر الغربية القديمة تتحدث عن وفرة الذهب فيها، فيذكرالأديب شكيب أرسلان في كتاب الإرتسامات اللطاف: [ ومما يدلنا على كون هذه المعادن معروفة عند الإفرنج رسالة بالألمانية أطلعني عليها مؤخراً مؤلفها المستشرق الألماني الشهير الأستاذ مورينز واسمها المعادن في العربية القديمة die berwerke in alter alrathicen ، جاء فيها ما ملخصه : يظن الناس إجمالا أن جزيرة العرب هي من أفقر بلاد الدنيا، وحقيقة الحال أنها ليست كذلك ، بل إذا نظرنا إلى ما كانت عليه في القرون الوسطى نجدها كانت ذات ثروة تضرب بها الأمثال وكانت تلك الثروة آتية من منبعين أحدهما: كون الجزيرة طريق التجارة بين الشرق والبحر المتوسط ، والثاني : وفرة المعادن التي كانت فيها ، وأخصها الذهب، فقد كانت هذه المعادن في أواسط عهد الألف سنة قبل المسيح معروفة عند العبرانيين والفينيقيين والآشوريين ، وقد كان سليمان بن داود أرسل بعثه على حسابه إلى البحر الأحمر، وعادت بغنائم تدهش العقل ، وذكر سترابون - جغرافي يوناني مات في زمان طيباريوس قيصر - وديودور - مؤرخ يوناني يقال له دیودور الصقلي صاحب تاريخ عظيم ، وكان معاصرا لأغسطس قيصر - أنهراً في بلاد العرب كان فيها التبر وقد كانت جزيرة العرب قبل الإسلام وقبل دخولها في الفتوحات النائية ذات ثروة عظيمة بالزراعة والمعادن ].( 179).
بل أن الجغرافي اليوناني سترابو ( Strabo ) المولود عام 64 ق. م تحدث عن إنفراد العرب بالذهب عن غيرهم من الأمم :[ الذهب لا يعدن في بلاد العجم لكن في بلاد العرب ] ( I.XVI.STRABO. ) .
-5-
وقد أحصى الشيخ حمد الجاسر في بحث له في مجلة العرب عام 1388هـ مناجم الذهب والفضة التي ذكرتها المصادر القديمة في الجزيرة العربية فوجدها حوالي 70 منجم .
ونكتفي بوصف منجمين منها :
الأول : هو منجم صعاد ويقع في العقيق أي في وادي الدواسر حالياً ، ذكره الهمداني في صفة جزيرة العرب فقال : [ معدن صعاد على يوم أو يومين وهو أغزر معدن في جزيرة العرب وهو الذي ذكره النبي عليه السلام في قوله " مطرت أرض عقيل ذهبا ] ( 1/177) .
وقد توصل د.عيد اليحيى لإستنتاج هو الأقرب لفهم الأثر النبوي ( مطرت أرض عقيل ذهباً ) وهو أن وادي الدواسر يكثر فيها التبر وشذرات الذهب الخام بسبب السيول المنقولة له من جبال الدرع العربي وجبال السروات ، التي تشتهر بكثرة الذهب فيها ، لذلك وصفت في الأثر بأنها مطرت بالذهب ، وهذا الإستنتاج الدقيق يشهد له ما ذكره المؤرخ الإغريقي سترابو المولود عام 64 ق.م في كتابه (STRABO GEOGRAPHY Book XVI, Chapter 4) فقد ذكر أن الذهب يُجلب إلى اليمن على شكل شذرات وتبر يجلبه البدو الواقعة بلادهم شمال اليمن ، فيرى د.عيد اليحيى أن شذرات الذهب والتبر ينقل من هذه المنطقة إلى وبار لتذويبه ، ولما خربت وبار -كما سنوضح لاحقاً- أخذ البدو ينقلونه إلى السبأيين في اليمن كما ذكر سترابو في جغرافيته .
والثاني : منجم حِلّيت وهو أحد مواقع التعدين المهمة في نجد ، ويقع شمال محافظة الدوادمي ، فقد جاء في معجم ما أستعجم للبكري :[ وحلّيت: جبل أسود فى أرض الضباب، بعيد ما بين الطرفين، كثير معادن التّبر، وكان به معدن يدعى النّجّادىّ، كان لرجل من ولد سعد ابن أبى وقّاص يقال له نجّاد بن موسى، به سمّى، ولم يعلم فى الأرض معدن أكثر منه نيلا، لقد أثاروه والذهب غال بالآفاق كلّها، فأرخصوا الذهب بالعراق وبالحجاز. ثم إنّه تغيّر وقلّ نيله، وقد عمله بنو نجّاد دهرا، قوم بعد قوم.](3/875) .
فإذا كانت هذه غزارة مناجم الجزيرة العربية في بدايات العهد الإسلامي الذي جاء بعد أصحاب الرس بأكثر من ألف سنة ، فكيف كانت غزارة مناجم الجزيرة العربية في زمن أصحاب الرس !
-6-
وأما العدد الذي ذكره الشيخ حمد الجاسر لمواضع التعدين فهذا ما استطاع جمعه من كتب التراث ، أما مواضع التعدين القديمة التي تم رصدُ بقايا آثارها ولم تذكرها الكتب فيبلغ عددها ألف منجم ، يخبرنا عنها البرفيسور عبدالعزيز اللعبون إستاذ علم الجيولوجيا في جامعة الملك سعود بالرياض والمستشار السابق لشركة أرامكوا :
ومما يُشد الانتباه في ما ذكره البرفيسور اللعبون أنه مع تطور العلم في وقتنا الحاضر وتوفرالتقنية الحديثة إلا أننا لم نستطع اكتشاف مناجم تعدين جديدة غير ما اكتشفه العرب القدماء ، مما يدل على إمتلاكهم علم ومعرفة نادرة في اكتشاف مواضع الذهب ، مكّنتهم من الإحاطة بجميع مواضعه في الجزيرة العربية ولم يفتهم موضع واحد .
وقد أشارت إلى ذلك هيئة المساحة الجيولوجية السعودية في فيلم الكنز :
ومما تم اكتشافه حديثاً في بعض المناجم : آثار لتعدين وأنفاق حفرت في باطن الأرض بطرق حيّرت العلماء المعاصرين وبعد تحديد زمنها بالعناصر المشعة ، وُجد أنها نُـقبت في الحقبة الزمنية التي عاش فيها أصحاب الرس ، مما يُطلعنا على التقدم والتطور الذي أحرزه أصحاب الرس في صناعة التنجيم و يثبت لنا إستحقاقهم وبجدارة للقب أصحاب المعدن الذي لُقبوا به في القران الكريم ، وسنستعرض شاهدين لذلك :
-7-
ذكر المهندس خالد الشريف مدير منجم الأمار للذهب بمدينة القويعية : [ أن هذا المنجم كان معروفاً قبل الميلاد بثمانمئة عام ] وهذا يعني أنه في زمن أصحاب الرس ، ثم يصف المهندس خالد الشريف ما إكُتشف فيه من الطرق العجيبة لنحت الصخور وحفر الخنادق للتتبع عروق الذهب : [ كان هناك تقنيات تستخدم لاستخراجه غير معروفة الآن ، فقد اكتشفت ثقوب في الجبال لاستخراج الذهب بعرض 20 سم × 40 سم فقط. وبعمق يزيد عن الأربعين متراً، ولا يعلم ماذا كان الأولون يستخدمون من الآلات التي جعلتهم يستطيعون عمل مثل هذه الشقوق. وهذه تعتبر حلقة مفقودة من حلقات المعرفة. انقطعت بانقطاع الجيل الذي يحملها ولم يتعلمها الجيل اللاحق. ومثلها في نظري المومياء التي كان يحنط بها الفراعنة المصريون موتاهم. بحيث يبقوا على أشكالهم لقرون. فقد انقطعت وحيرت العلماء حتى هذا التاريخ ] جريدة الجزيرة عدد 14479 وتاريخ 28-6-1433هـ .
و يوجد مثل هذه الأنفاق العجيبة في منجم مهد الذهب وأثبت تحليل النظائرالمشعة لمخلفات التعدين أنها تعود لـ 961 ق.م ( ص89 من كتاب مهد الذهب دراسة إقليمية لـ على أبوعودة ) ، أي في نفس زمن أصحاب الرس المعاصرين لنبي الله سليمان عليه السلام ، مما دفع الناس لحياكة الأساطير حول منجم مهد الذهب وربطه بجن نبي الله سليمان وأنهم هم من قاموا بهذا العمل الباهر ، ومما جعل البرفيسور عبدالعزيز بن لعبون يتساءل عن القدرة والمعرفة التي يمتلكها من قام بحفر هذه الأنفاق :
ولا غرابة في إتقان أصحاب الرس نحت الصخور ونقبها لتتبع عروق الذهب فهم أحفاد قوم ثمود الذين نحتوا الجبال فأصحبت بيوتاً ، وجابوا- أي قطعوا- الصخور في الأودية ، جاء في تفسير القرطبي وغيره : [ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَوَّلُ مَنْ نَحَتَ الْجِبَالَ وَالصُّوَرَ وَالرُّخَامَ: ثَمُودُ. ] (20/48) . فإذا كان قوم ثمود هم أول من نحت الصخور فمن المؤكد أن إستخراج الذهب من الصخور غير معروف قبل قوم ثمود ، لأنه يحتاج إلى نحت وحفر في الصخور ، فقوم ثمود هم أول من إبتكر هذه الفكرة فنحتوا بها الجبال ، وعندما هلك الكفار منهم ، وهاجر من أمن مع نبي الله صالح من وادي القرى ، قام الناجون منهم بتحويل هذه المهارة إلى باطن الأرض فبرعوا في تتبع عروق الذهب في باطن الأرض فإستخرجوا بها الذهب الكثير، حتى أصبح ذهبهم يصدر للأمم الأخرى ، فقد كان أصحاب الرس معاصرين لنبي الله سليمان عليه السلام ( ت 937 ق.م ) وكانت شهرة ذهب دولتهم ( وبار / أوفير ) قد ملئت الأفاق ، جاء ذلك في التوراة في أكثر من موضع يقول أ.د جواد علي :[ وقد ضُرب المثل بكثرة تبر "أوفير"، وبحسن سبائك ذهبها، فورَد في سِفِر "أيوب" على لسان "اليفاز التيماني" مخاطباً "أيوب"، داعياً إياه إلى توجيه وجهه لله: "فإنك إن تبت إلى القدير، يعاد عمرانك وتنفي الإثم عن أخبيتك، فتجعل التبر مكان التراب وسبائك أوفير مكان حصى الأودية" وأنشأ سليمان -عليه السلام- خطًّا بحريّاً آخر ينتهي بأرض اشتهرت بالذهب كذلك ] (2/290)
وقد ورد في سفر الملوك 9:27 [ فَأَرْسَلَ حِيرَامُ فِي السُّفُنِ عَبِيدَهُ النَّوَاتِيَّ الْعَارِفِينَ بِالْبَحْرِ مَعَ عَبِيدِ سُلَيْمَانَ،
فَأَتَوْا إِلَى أُوفِيرَ، وَأَخَذُوا مِنْ هُنَاكَ ذَهَبًا أَرْبَعَ مِئَةِ وَزْنَةٍ وَعِشْرِينَ وَزْنَةً، وَأَتَوْا بِهَا إِلَى الْمَلِكِ سُلَيْمَانَ.]
-8-
[إلا أن هذا الموضع بعيد عن البحر, ولكن من يدري؟ فلعل كتاب التوراة لم يكونوا يعرفون مكان "أوفير"، وإنما سمعوا بذهبه، الذي يتاجر به العرب الجنوبيون من الموانئ الساحلية، فأرسل سليمان سفنه إلى مواضع بيعه في سواحل جزيرة العرب لشرائه، ومن هنا ظن كتاب "العهد القديم" أن "أوفير" على ساحل البحر ] (2/289) .
ومن الأدلة المادية الملموسة على شهرة دولة ( وبار/أوفير) بالذهب ، أنه في سنة ١٩٤٦م ، اكتشف علماء الأثار كسرة خزف شمال شرق تل ابيب عليها النقش التالي: «ذهب أوفير إلى بيت حورون، ثلاثون شاقلا». ويعود تاريخها للقرن الثامن قبل الميلاد. ( مجلة دراسات الشرق الادنى، ١٩٥١، المجلد ١٠، ص ٢٦٥، ٢٦٦).

كما تجدر الإشارة إلى أنه عُـثر على آثار لصناعة التعدين ومواقد لسبك الذهب بالقرب من عيون الأفلاج التي يُعتقد أنها موضع مدينة وبار الأثرية ، ذكر ذلك الشيخ عبدالله الجذالين في كتاب تأريخ الأفلاج وهو يتحدث عن موقع (سوق الفلج) الذي ذكرته الكثير من المصادر القديمة كالهمداني والأصفهاني وغيرهم : [حدثني أحد الإخوان أنه كان مع الماشية يافعاً في تلك المناطق وأنه عرف أصول الحيطان والفوارق بين الغرف ورأى مواضع الحدادين وعرفها بوجود خَبَث الحديد فيها وبجوارها مواقد صائغي الذهب بلا أثر للحديد وفتاته] (ص60) .
-9-
فيتضح لنا أن أصحاب الرس قد إكتشفوا وفرة الذهب في الجزيرة العربية فقاموا بإستخراجه وتنقيته وبيعه مما جعلهم أهل ثروة طائلة وترف طاغي ، وهذا متوافق مع السنن الإلهية ، فقد وعد الله من أمن بأن يفتح عليهم بركات الأرض قال تعالى : { ولو أن أهل القرى أمنوا وأتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض .. } الأعراف 96 وقد كانت تضحية ( المؤمنون مع النبي صالح عليه السلام) تضحية عظيمه ، فقد هاجروا و تركوا قصورهم المترفة المنحوته في الجبال ، وتركوا الجنات والعيون والنخيل كما جاء ذلك في قوله تعالى :{ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ * وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ } الشعراء 148، ففتح الله عليهم بركات الأرض بإستخراج الذهب وتجارته ، وعوضهم الله بقصور مشيده وجنات وعيون ، في بلدهم وبار الذي لم يمح من ذاكرة الناس إلى اليوم .
* جوانب من حضارة أصحاب الرس المعمارية /
إهتم أصحاب الرس ببناء القصور الفاخرة والمساكن ذات الترف الظاهر ، ويستدل على ذلك بأيتين من القرآن الكريم :
وهي قوله تعالى { وَكَمۡ قَصَمۡنَا مِن قَرۡیَةࣲ كَانَتۡ ظَالِمَةࣰ وَأَنشَأۡنَا بَعۡدَهَا قَوۡمًا ءَاخَرِینَ (١١) فَلَمَّاۤ أَحَسُّوا۟ بَأۡسَنَاۤ إِذَا هُم مِّنۡهَا یَرۡكُضُونَ (١٢) لَا تَرۡكُضُوا۟ وَٱرۡجِعُوۤا۟ إِلَىٰ مَاۤ أُتۡرِفۡتُمۡ فِیهِ وَمَسَـٰكِنِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تُسۡـَٔلُونَ (١٣)} سورة الأنبياء .
هذه الأية ذكر الكثير من المفسرين كالقرطبي(274/11) والبغوي(312/5) والشوكاني(473/3) و الرازي(396/18) وغيرهم أنها نزلت في أصحاب الرس .
ففي قوله تعالى { لَا تَرۡكُضُوا۟ وَٱرۡجِعُوۤا۟ إِلَىٰ مَاۤ أُتۡرِفۡتُمۡ فِیهِ وَمَسَـٰكِنِكُمۡ لَعَلَّكُمۡ تُسۡـَٔلُونَ } نجد في تخصيص المساكن بالذكر وقرنها بالترف { ما أترفتم فيه } ما يوحي أن مساكنهم كانت عظيمة وغير معتادة، وفيها ما يميزها عن غيرها ، ثم ختم ذلك بقوله تعالى {لعلكم تسألون} وهذا دليل على أنهم أهل ثروة ومال ، والناس يذهبون لمساكنهم الفارهه يسألونهم العطاء ، [ قَالَ قَتَادَةُ: لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ شَيْئًا مِنْ دُنْيَاكُمْ، فَتُعْطُونَ مَنْ شِئْتُمْ وَتَمْنَعُونَ مَنْ شِئْتُمْ، فَإِنَّكُمْ أَهْلُ ثَرْوَةٍ وَنِعْمَةٍ، يَقُولُونَ ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً بِهِمْ] . ( انظر تفسير القرطبي 275/11) .
كما نستدل على رفاهية منازلهم وقوتها وطولها في السماء بقوله تعالى :{ فَكَأَیِّن مِّن قَرۡیَةٍ أَهۡلَكۡنَـٰهَا وَهِیَ ظَالِمَةࣱ فَهِیَ خَاوِیَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئۡرࣲ مُّعَطَّلَةࣲ وَقَصۡرࣲ مَّشِیدٍ } الحج 45
فقد ذكر الكثير من المفسرين مثل البغوي(390/5) والزمخشري(161/3) والثعلبي(27/7) وغيرهم ، أن أصحاب الرس هم المقصودين بهذه الأية .
-10-
و نستفيد من هذه الآية إشارة إلى جانب من حضارتهم المعمارية وهو بناء [ القصور المشيدة ] ، فما هي هذه القصور ؟
الشيد في اللغة هو الجص ، جاء في لسان العرب :[ الشِّيدُ ، بالكسر : كلُّ ما طُليَ به الحائطُ من جِصٍّ أَو بَلاط ، وبالفتح : المصدر ، تقول : شاده يَشِيدُه شَيْداً : جَصَّحَه .وبناءٌ مَشِيدٌ : معمول بالشِّيد ](244/3)
-
وقَالَ طَرَفَةُ يَصِفُ نَاقَةً:
كَأَنَّهَا بُرْجٌ رُومِيٌّ تَكَفَّفَهَا ... بَانٍ بِشَيْدٍ وَآجُرٍّ وَأَحْجَارِ ...(الطبري288/5)
وقال ابن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير: [والمَشِيدُ: المَبْنِيُّ بِالشِّيدِ - بِكَسْرِ الشِّينِ وسُكُونِ الياءِ - وهو الجـِص ] (17/ 288)
فهذه الآية تدل على أن أصحاب الرس قاموا ببناء قصورهم من مادة الشيد ( الجص) وهي مادة لا تتوفر بكثرة وغزارة كبيرة في الجزيرة العربية ، وإن وجدت فتستخدم في تزيين واجهات المباني فقط أما أن تستخدم في مادة البناء نفسها وتكوين الِلبن ، فهذا نادر ، إذا يجب توفر الشيد بكميات كبيرة حتى يتم بناء قصر كامل به ، وهذا بالفعل ما هو موجود في منطقة عيون الأفلاج ، ففيها كميات هائلة من الجص ( الشيد ) تمتد لعشرات الكيلوا مترات، حتى أنه بالإمكان مشاهدتها من خلال الصور الملتقطه بالأقمار الصناعية من علو 200 كلم أو أكثر من خلال برنامج جوجل إيرث :
https://earth.app.goo.gl/VjgqkA

وبالنظر إلى ما بقي اليوم من القصور الأثرية الموجودة في منطقة عيون الأفلاج ، نجد أنها مبنية بالشيد ( الجص) والطين ، وذلك بسبب توفر الشيد في تربة المنطقة ، مما ساهم في بقاءها لقرون متعاقبة ، وكذلك ساهم في إرتفاع المباني بإرتفاعات كبيرة بسبب تماسك الجبس وثباته أكثر من الطين ، فأرى أن الآية الكريمة انطبقت بشكل دقيق عليها .
-11-
وهذا د. عيد اليحيى يشرح بناء القصور الأثرية بالشيد في منطقة عيون الأفلاج /
ولقد كشفت التنقيبات المقدمة لجامعة أدنبرة التي قام بها أ.د.عبدالله السعود بالقرب من عيون الأفلاج عن مسكن أثري يقدر عمره بـ 2300 سنة من الوقت الحاضر ، مدفون بالكامل تحت الأرض، وتم حفر أكثر من ثلاثة متر للوصول إلى الأرض الأساسية التي بني عليها المسكن ، وقد بُـني بالطوب المصنوع من تربة المنطقة الجبسية، كما وجد أن ثلاثة من الجدران الخارجية مطليه بالجبس كذلك ( انظر ص 120 من الرسالة) ، وهذا يدل على أن البناء في الأفلاج قديماً يعتمد بشكل كبير على الشيد ( الجبس) ، في مادة البناء وفي التكسية ( اللياسة) الخارجية للمسكن، وهي بهذا الاستعمال الكثير للشيد ( الجبس) يتوافق مع ماورد في الآية الكريمة { وقصر مشيد } .

-12-
* قصة أصحاب الرس مع نبيهم :
قبل وقوع العذاب على قوم ثمود أمر الله رسوله صالح عليه السلام بالخروج بالمؤمنين من الحِجر قال تعالى :{ فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ ﴿٦٦﴾ وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴿٦٧﴾ } سُّورَة هُود
وكان عدد المؤمنين الذين خرجوا مع نبي الله صالح أربعة الألاف ، جاء ذلك في عدد من التفاسير كتفسيرالبغوي (5/391) وتفسيرالجلالين (294) ، وذكره ابن عاشور في تفسير التحرير والتنوير : [ قِيلَ: كَانَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَ صَالِحٍ أَرْبَعَةَ آلَافٍ، فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ إِهْلَاكَ ثَمُودَ أَوْحَى اللَّهُ إِلَى صَالِحٍ أَنْ يَخْرُجَ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ فَخَرَجُوا وَنَزَلُوا فِي مَوْضِعِ الرَّسِّ فَكَانَ أَصْحَابُ الرَّسِّ مِنْ ذُرِّيَّاتِهِمْ. ] ( 19/287).ويعضد هذا القول مفهوم قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ ﴿ ٤٥﴾ } سُّورَة النَّمْل ، فتدل هذه الآية على انقسام قوم ثمود إلى فريقين ، فيُـشعر ذلك بكثرة كل فريق ، جاء في لسان العرب : [والفَرِيقُ الطائفة من الناس وهم أَكثر من الفِرْقِ] (10/301) بينما قال الله عن قوم نوح :{حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ ﴿٤٠﴾} سُّورَة هُود .
وذهب صالح عليه السلام بالمؤمنين - بعد هلاك قومه - إلى مدينة حاضوراء ذكر ذلك الزبيدي في تاج العروس : [وَقيل: إِنَّ حَاضُورَاءَ بَلدٌ بنَاه صالِحٌ، عَلَيْهِ السّلامُ، وَالَّذين آمنُوا بِهِ، ونَجّاها الله من الْعَذَاب ببرَكتِه.] (11/42) ويبدو أن مسمى ( حاضوراء ، حاصور ، حضور ، hazor ) هو اسم ( لبلد وقبيلة ) من أصحاب الرس ، وهذا الأمر كثير على مر التاريخ ، [ وممن جمع اسم القبيلة والمدينة : نجران وعُمان و حضرموت وسبأ ] (من كتاب الأفلاج كما رأها فيلبي – عبدالعزيز المفلح ) .
لذلك نجد الهمداني يذكر اسم (حضور) كمسمى لبلد وقبيلة في كتاب صفة جزيرة العرب (1/106) بينما إبن الكلبي يذكره كـإسم لـ قبيلة في كتاب نسب معد الكبير ( 2/539) وأما البكري فيذكره إسم لـ بلدة في كتاب معجم ما إستعجم (2/455) ، وسيتم لاحقاً مناقشة تحديد موقعها في أخر البحث -إن شاء الله -.
-13-
تعاقبت القرون الكثيرة على بقية ثمود - أصحاب الرس - وزادت أعدادهم وكثرت أموالهم ، وأصبحوا في نعمة و ثراء وترف وقصور فارهه ، ولكن مع طول الزمان فشا فيهم الجهل ، فعبّدوا غير الله ، وكفر أصحاب الرس النِعم التي يرفلون بها وتحولوا من الإيمان إلى الشرك ، فقيل أنهم عبدوا شجرة ضخمة ، [ وقال علي - رضي الله عنه -: هم قوم كانوا يعبدون شجرة صنوبر ] تفسير القرطبي (16/9) .
* من الموافقات أن هناك شجرة يتبرك بها أهالي الأفلاج قديماً في منطقة عيون الأفلاج تسمى شجرة صالح !! وتروى في ذلك القصص ، فمن المحتمل أن يكون ذلك متوارثاً عن أسلافهم وخصوصاً التوافق في ثلاث جوانب : في نوع المعبود ( شجرة ) والاسم (صالح ) وفي المكان (منطقة عيون الأفلاج ) .
أرسل الله لأصحاب الرس رسول منهم يدعى حنظلة بن صفوان ( وفي رواية شعيب بن ذي مهدم ) جاء ذلك تفسير البغوي وغيره : [ وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ لَهُمْ نَبِيٌّ يُقَالُ لَهُ حَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوَانَ فَقَتَلُوهُ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.] (6 /84) ، وكان زمن رسالته بعد نبي الله سليمان عليه السلام المتوفى عام (937 ق.م ) ، ذُكر ذلك في كتاب نشوة الطرب في تاريخ جاهلية العرب لابن سعيد المغربي :[ وكان مبعث هذا النبي وقتله بعد سليمان النبي عليه السلام ](50) كما ذكره أ.د جواد علي في كتاب المفصل في تاريخ العرب : ["حنظلة بن صفوان"، كان نبيًّا بعثه الله إلى "أهل الرس"، فكذبوه وقتلوه، عاش في أيام "بختنصر"] (11/84) وكما هو معلوم فإن الملك الكلداني بختنصر قد توفي عام 562ق.م .
وأما قصة العذاب الذي نزل بأصحاب الرس فقد سلط الله عليهم الملك الكلداني بختنصر فغزاهم بجيوش جرارة فاحتصدتهم السيوف وقـُـتلوا شر قتلة ، فكان عذابهم القتل ، وهو من جنس فعلهم مع نبي الله حنظلة بن صفوان ، ذكر ذلك العديد من المفسرين كالقرطبي(274/11) والبغوي(312/5) والشوكاني(473/3) و الرازي(396/18) وغيرهم ، والعديد من المؤرخين كالطبري (1/558) وابن الأثير (1/236) وغيرهم .
-14-
ونكتفي ببعض ما ذكره الطبري في تاريخه عن قصة غزو بختنصر للعرب : [ عدا أهل الرس على نبيهم فقتلوه، وعدا أهل حضور على نبيهم فقتلوه، فلما اجترءوا على أنبياء الله أذن الله في فناء ذلك القرن فبعث الله بختنصر على بني إسرائيل، فلما فرغ من إخراب المسجد الأقصى والمدائن وانتسف بني إسرائيل نسفا، فأوردهم أرض بابل ، أري فيما يرى النائم - أو أمر بعض الأنبياء أن يأمره - أن يدخل بلاد العرب فلا يستجبى فيها إنسيا ولا بهيمة، وأن ينتسف ذلك نسفا، حتى لا يبقي لهم أثرا فنظم بختنصر ما بين إيلة والأبلة خيلا ورجلاً، ثم دخلوا على العرب فاستعرضوا كل ذي روح أتوا عليه وقدروا عليه ] إلى أن ذكر الطبري [ فالتقى عدنان وبختنصر بذات عرق، فهزم بختنصر عدنان، وسار في بلاد العرب، حتى قدم إلى حضور واتبع عدنان، فانتهى بختنصر إليها، وقد اجتمع أكثر العرب من أقطار من عربة إلى حضور، فخندق الفريقان، وضرب بختنصر كميناً- وذلك أول كمين كان فيما زعم - ثم نادى منادٍ من جو السماء: يا لثارات الأنبياء! فأخذتهم السيوف من خلفهم ومن بين أيديهم، فندموا على ذنوبهم، فنادوا بالويل، وافترق من لم يشهد حضور، ومن أفلت قبل الهزيمة فرقتين: فرقة أخذت إلى ريسوب وعليهم عك، وفرقة قصدت لوبار وفرقة حضر العرب، قَالَ: وإياهم عنى الله بقوله: «وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً» ، كافرة الأهل، فإن العذاب لما نزل بالقرى وأحاط بهم في آخر وقعة ذهبوا ليهربوا فلم يطيقوا الهرب، «فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا» انتقامنا منهم «إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ» يهربون، قد أخذتهم السيوف من بين أيديهم ومن خلفهم «لا تَرْكُضُوا» لا تهربوا «وَارْجِعُوا إِلى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ» الى العيشه على النعم المكفورة «وَمَساكِنِكُمْ» مصيركم «لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ» .فلما عرفوا أنه واقع بهم أقروا بالذنوب، فقالوا: «يَا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ» ، موتى وقتلى بالسيف فرجع بختنصر إلى بابل بما جمع من سبايا عربة فألقاهم بالأنبار، فقيل أنبار العرب، وبذلك سميت الأنبار ](1/558).
ويذكر المسعودي في مروج الذهب عن أصحاب الرس : [ وقد ذُكرت هذه القبائل في التوراة ] (2/52) .
فقد ذُكرت في سِفر إرميا في الإصحاح 49 في تعداده لمن قام نبوخذ نصر بالفتك بهم :
[ 28 عن قيدار وعن ممالك حاصور التي ضربها نبوخذنصر ملك بابل: هكذا قال الرب: قوموا اصعدوا إلى قيدار. اخربوا بني المشرق
29 يأخذون خيامهم وغنمهم، ويأخذون لأنفسهم شققهم (ستائرهم) وكل آنيتهم وجمالهم، وينادون إليهم: الخوف من كل جانب
30 اهربوا. انهزموا جدا. تعمقوا في السكن يا سكان حاصور، يقول الرب، لأن نبوخذنصر ملك بابل قد أشار عليكم مشورة، وفكر عليكم فكرا
31 قوموا اصعدوا إلى أمة مطمئنة ساكنة آمنة، يقول الرب، لا مصاريع ولا عوارض لها. تسكن وحدها
32 وتكون جمالهم نهبا، وكثرة ماشيتهم غنيمة، وأذري لكل ريح مقصوصي الشعر مستديرا، وآتي بهلاكهم من كل جهاته، يقول الرب
33 وتكون حاصور مسكن بنات آوى، وخربة إلى الأبد. لا يسكن هناك إنسان، ولا يتغرب فيها ابن آدم .] .
-15-
* الكتابات المسمارية :
[هي نوع من الكتابة تنقش فوق ألواح الطين والحجر والشمع والمعادن وغيرها ، كتبتها الامم السابقة ، وقد جمعت بريطانيا منها حوالي 130000 لوح ، ولكن لم يتمكن العلماء من فك رموز لغتها ، إلى أن أتى شخص يُدعى "كروتفند" الذي كان يدرس اللغة الأغريقية في مدرسة ألمانية في فرانكفورت وأبوه كان إسكافياً ، وكان هذا الشاب مولعاً بحل الألغاز والكلمات الغامضة، وكان يراهن أصدقاءه على حل رموز هذه اللغة ، وفعلاً حلّ من هذه الرموز جزء ، ثم تابع العلماء بعده أستكمال حلها ، مما شكل ثروة تاريخية كبيرة فتحت باب كبير للإطلاع على تاريخ الأمم السابقة ] .(ويكيبديا)

وقد جاء ذكر هذا الغزو في الكتابات المسمارية الأثرية التي عُـثر عليها مؤخراً ، ففي أحد الألواح وجد مكتوب ذكر لغزو الملك الكلداني بختنصر للعرب وذلك عام 599 ق.م : [ في العام السادس من شهر (كيسلو) تحرك ملك آكاد بجيشه إلى داخل بلاد حيتي و وزع ملك آكاد جيشه في الأراضي الحيثية فغزوا الصحراء وأخذوا كثيرا من الغنائم من أرض العرب كما كانت أيضا الأغنام التي أخذوها و (أصنام) آلهتهم المقدسة بأعداد كبيرة ثم بعد ذلك عاد الملك إلى بلاده في شهر ادنى ].(ص213 من كتاب العلاقات بين شمال غرب شبه الجزيرة العربية وبلاد الرافدين د. عبدالمعطي سمسم)
كانت هذه نهاية قصة أصحاب الرس فقد سلط الله عليهم أحد ملوك العراق فأفناء أكثرهم، و قام بتهجير البقية الباقية خارج الجزيرة العربية ، وأصبحت ديارهم خراب لا يسكنها أحد ، يذكر ذلك الهمداني في صفة جزيرة العرب : [وأرض العرب يومئذ خاوية وليس فيها بتهامتها ونجدها وحجازها وعروضها كثير أحد لإخراب بخت نصرّ آيها وإجلاء أهلها إلا من كان اعتصم منهم برؤوس الجبال وشعابها ولحق بالمواضع التي لا يقدر عليه فيها أحد ] ( 1/46) .
ومما ذكره الهمداني نستنتج إمتداد دولة أصحاب الرس في جزيرة العرب ، فلو كان أهل الرس أهل قرية قتلوا رسولهم لخصهم الله بالعذاب ، ولكن نجد أن العذاب شمل أغلب بلاد العرب في ذلك الزمان ، مما يدل على إمتداد دولة أصحاب الرس إلى مواضع شاسعة من الجزيرة العربية ، كما أشار الطبري إلى قوة أصحاب الرس فقد قاوموا هذا الغزو بشراسة ، وخندقوا الخنادق ، وكانت لهم صولة وجولة مع أحد أقوى الجيوش على وجه الأرض في ذلك الزمان ، كما نستفيد مما ذكر في التوراة عنهم : [ قوموا إلى أمة أمنه مطمئنة ] استباب الأمن في دولة أصحاب الرس مما مكنهم من إستخراج الذهب من المناجم ، ونستفيد أيضاً مما ذكر في التوراة : [ويأخذون لأنفسهم شققهم (ستائرهم) وكل آنيتهم ] أن في خص الأنية والستائر وذكرها من ضمن الغنائم ما يدل على غنى أصحاب الرس ، فلو لم تكن أنيتهم وستائرهم ثمينة لما عُدت من الغنائم ، وقد ذكرت التوراة في مواضع أخرى، أواني الذهب وأقمشة الحرير والكتان الملون لدى الملوك في ذلك الوقت .
-16-
* حدود دولة أصحاب الرس /
ذكر ابن الكلبي في كتاب نسب معد واليمن الكبير: [ والرَّسُ فيما بين نَجْران واليمن من حضرمَوتٍ الى اليَمامة. ] . (1/131) ،
[ ذكر "الهمداني" أيضاً نقلاَ عن "ابن هشام" أن "حنظلة بن صفوان ابن الأقيون"، هو، نبي الرَّسِّ، والرس بناحية صيهد، وهي بلدة منحرفة ما بين بيحان ومأرب والجوف، فنجران فالعقيق فالدهناء، فراجعاً إلى حضرموت.] (المفصل لجواد علي 1/364)
ونستدل أيضاً بوقوع معارك لهم في الحجاز (تاريخ الطبري 1/ 558) في ذات عرق وغيرها على اتساع نفوذهم ، وبسطهم أيديهم إلى مناطق أوسع مما ذكره إبن الكلبي .
كما لو كان أصحاب الرس أهل قريه صغيرة لما جهّز لها الملك الكلداني بختنصر جيش جرار قاده بنفسه ليحاربهم - علماً أنه يمتلك أقوى جيش في العالم في زمانه - و لما نقلت لنا المصادر التاريخية كثرة المعارك بينهم وشراستها ، مما يدل على قوة دولة أصحاب الرس وأنها ذات شوكة ونفوذ واسع ، فلو كانوا أهل قرية أو قريتين لإكتفى بختنصر بإرسال سرية تحت إمرة أحد قواده لتنهي أمر هذه القرى الضعيفة .
ويشهد لذلك أيضاً ما ذكره الهمداني من خلو ديار العرب من السكان بعد معارك أصحاب الرس مع بختنصر مما يدل على إتساع دولتهم لتشمل مناطق واسعه من الجزيرة العربية :[وأرض العرب يومئذ خاوية وليس فيها بتهامتها ونجدها وحجازها وعروضها كثير أحد لإخراب بخت نصرّ آيها وإجلاء أهلها ] ( 1/46).
ولا يستغرب الباحث في التاريخ أن تقوم لأصحاب الرس دولة كبيرة في الجزيرة العربية ، فقد قامت بعدهم ممالك كبيرة إمتلكت أجزاء كبيرة من الجزيرة العربية مثل دولة كندة :

فهذه الخارطة المأخوذة من كتاب مملكة كندة في وسط الجزيرة العربية لـ أ.د عبدالعزيز الغزي ، توضح إمتداد لدولة كندة شملت أغلب الجزيرة العربية في زمنها .
ومما تجدر الإشارة إليه أنه يحدث أحيانا أن تتسمى الممالك والدول بإسم العاصمة ، وهو أمر معروف للباحثين في التاريخ ، وكما هو مشاهد في وقتنا الحاضرلعدد من الدول العربية كالكويت وتونس ، فيحتمل أن دولة أصحاب الرس تسمت بإسم عاصتهم وبار ويشهد لذلك أمرين :
1- أننا نجد أن تحديد ابن الكلبي للرس يتوافق مع موقع وبار المذكور في المصادر القديمة ، فقد ذكر ابن الأثير في ( الكامل في التاريخ ) عن تحديد وبار : [ وَهِيَ بَيْنَ الْيَمَامَةِ وَالشِّحْرِ، ]ٍ (1/72) والطبري في تاريخه ( 1/208) .
2- ولأننا نجد أن الملك سرجون الثاني سمى مكان المعارك التي خاضها مع أصحاب الرس في مناطق مختلفة في جزيرة العرب بـمنطقة (باري bare)( المفصل جواد علي 1/326 ) ، مما يدل على اتساع مملكة وبار إلى مناطق واسعه في الجزيرة العربية .
* سبب نسبة الذهب إلى وبار/
اشتهرت وبار بكثرة الذهب وتصديره للأمم الأخرى ، وقد ذكُر ذلك في المصادر القديمة العربية والغربية ، فنجد التوراة ذكرت ( ذهب أوفير ) و تم وعد الأنبياء والصالحين من بني إسرائيل بشيء من هذا الذهب ،وقد وصل إلى نبي الله سليمان كميات كبيرة منه ، فقام بزخرفة الهيكل به -كما تذكر التوراة -.
وبالنظر إلى سبب نسبة الذهب إلى وبار دون غيرها من مدن أصحاب الرس فإن ذلك يرجع إلى احتمالين، فقد يكون سبب ذلك أن دولة اصحاب الرس تسمت باسم عاصمتها كما وضحنا ذلك سابقاً ومثلنا لذلك بدولة الكويت وتونس فقد تسمت هذه الدول باسم العاصمة ، وقد يكون أنه نسبةً إلى مدينة وبار نفسها ، فهي عاصمة هذه الدولة الكبيرة التي بسطت إيديها على مناجم الذهب في الجزيرة العربية ، فمن الطبيعي أن يجلب الذهب من المناجم إلى التجار في سوقها الضخم الذي وصفه الهمداني في صفة جزيرة العرب : [ وسوق الفلج عليها أبواب الحديد وسمك سورها ثلاثون ذراعاً ومحيط به الخندق وهو منطّق بالقضاض والحجارة والصاروق قامة وبسطة فرقاً أن، يحصر أو يرسل للعدو السيوح عليه وفي جوف السوق مئتان وستون بئراً ماؤها عذب فرات يشاكل ماء السماء ولا يغيض وأربعمئة حانوت ] ، فهذه التحصينات القويه للسوق والتي انفرد بها عن جميع أسواق الجزيرة العربية من عرض الجدار الضخم والغير معهود ، وأبواب الحديد ، والخندق والصاروق، والحجارة ، يدل على أهمية ما يحتويه من بضاعه ، وكما هو مشاهد في وقتنا الحاضر أن أسواق الذهب حاليا فيها من التحصين في جدرانها ما ليس في غيرها من الأسواق ، مما يُشير إلى أن سوق الفلج قد يكون السوق الرئيسي للذهب في وقت أصحاب الرس ، وليس بغريب أن تبقى تحصينات هذا السوق إلى وقت الهمداني ت 336 هـ ، أي بعد حوالي 1600سنة من زمن أصحاب الرس ، ففي وقتنا الحاضر نشاهد سوق مدينة الفاو الأثريه مازالت جدرانه قائمة منذ 2300 سنة تقريباً ، وذلك بسبب عرض جداره الذي يقارب الستة أمتار ، فكيف بسوق الفلج الذي عرض جداره ثلاثون ذراعاً أي أربعة عشر متراً . ( هذا في اقل تقدير أن الذراع 46 سم وهناك تقديرات تجعله 61 سم تقريباً فيكون عرض الجدار 18 متر تقريباً )
-17-

( صورة لسوق مدينة الفاو الأثري ويحتوي على تسع حوانيت وبئر واحده فقط )
كما يشهد لإشتهار سوق الفلج بالذهب : آثار مواقد الذهب في موقع سوق الفلج الأثري التي ذكرها مؤرخ الشيخ عبدالله الجذالين في كتاب تأريخ الأفلاج : [حدثني أحد الإخوان أنه كان مع الماشية يافعا في تلك المناطق وأنه عرف أصول الحيطان والفوارق بين الغرف ورأى مواضع الحدادين وعرفها بوجود خَبَث الحديد فيها وبجوارها مواقد صائغي الذهب بلا أثر للحديد وفتاته] (ص60) .
وهذه المواقد تستخدم لتشكيل السبائك الذهبية القادمة من المناجم ، وكذلك لسبك التبر وشذرات الذهب التي توجد في مجاري الأودية ، وقد تم العثور في غرب بلدة السيح بالأفلاج على قلعة أثرية قديمة ذات جدران عريضة تتجاوز الثلاثة متر ، وقد عُثر فيها على أكثر من عشرين فرن منحوته في جدار القلعة ، ورجح د.عيد اليحيى أن هذه القلعة كانت أحد مصانع الذهب في مدينة وبار التاريخية ، وأعتقد أن هذا هو الصحيح وذلك لعدة اسباب : أن هذه الأفران لو كان المقصود منها الطبخ وإعداد الطعام لوجدنا شبيه لها في القلاع والقصور المجاورة ، ولكن هذه الأفران تنفرد بها هذه القلعة عن غيرها ، ثم إن هذه القلعة يكفيها فرن أو إثنان لتحضير الطعام ، أما أن يوجد فيها أكثر من عشرين فرن فمن الصعب ان يقال أنها للتحضير الطعام وخصوصا أن بعضها في الطابق الثاني من القلعة ، فإذا أضفت أن هذه القلعة بها ميزة أخرى تنفرد بها عن غيرها ، وهي أنه تم نحت جدار القلعة بطريقة هندسية لإدخال جدول مياه من العيون ، لتزويد القلعة بمصدر مائي متجدد ، تدرك أن المقصود به هو هدف صناعي وليس المقصود تزويد القلعه بمياه الشرب إذ أن النظام السائد في القلاع المجاورة هو حفر بئر في داخل القلعه ، فإذا نظرت إلى تحصينات القلعة تدرك أن ما يصنع فيها هو أمر غالي وثمين ، فقد تم إحاطتها بجدار بعرض يتجاوز الثلاثة متر وبإرتفاع يتجاوز المتبقي منها الآن العشرة متر ، ومبني بمادة صلبه وهي الجص المخلوط بالطين والحجارة ، ثم يحيط بها خندق يملئ بالمياه ، وبعد الخندق سور أخر ، تدرك أن هذه الأفران إنما وضعت لصناعة الذهب فهو التي إعتاد الناس إلى وقتنا الحاضر تحصين أماكن صناعته وبيعه بشكل مبالغ فيه ، وخصوصا أن هذه القلعة مجاورة لسوق الفلج العظيم الذي ذكر مؤرخ الأفلاج الشيخ عبدالله الجذالين وجود مواقد الذهب فيه .

وكذلك ما إشتهر في المحافظة من قصص العثور على الكنوز ، وهي كثيرة ومستفيضة ، ولا تسأل أحد كبار السن في المحافظة إلا ويذكر لك العديد من القصص ممن يعرفهم أوعاصرهم عثروا على هذه الكنوز ، وسنكتفي ببعض القصص الموثقة أما برواية ثقات أو نشرت في الكتب والمجلات :
* ذكر أ.د عبدالله السعود عثوره -في مكان غير بعيد عن سوق الفلج - على عملات أثرية أثناء تنقيبه لتحضير رسالة الدكتوراة لجامعة أدنبرة ، وبعد عرضها على أحد العلماء في العملات القديمة في أحد المتاحف في بريطانيا ، أخبره بأنه يعود تاريخها لأكثر من 2300 سنة من وقتنا الحاضر ، وأن بعضها سُكّت في مقدونيا وبعضها سُكت في بابل ، وبعضها لا تعرف ولكن عُـثر على ما يشابهها في أحد الكنوز في مدينة دمنهور في مصر . . ( انظر 214 -216 من رسالة الدكتوراة )

2- ذكر الأستاذ عبدالله الحمدان في تحقيق عن محافظة الأفلاج في مجلة الفيصل شهر جمادى الأخرة عام 1400هـ قصص عن كنوز الأفلاج ومنها : [ والثالثة بينما كان أحد الأهالي يبني منزله عثر على كنز من الفضة وهو عبارة عن نقود مجهولة ... والقصة واقعية وبطلها مازال حي يرزق ] ص46.
3- كما ذكر لي الشيخ مرضي بن محمد الحبشان الرئيس السابق للمجلس البلدي وعضو العديد من الجمعيات الخيرية بالأفلاج أن والده الشيخ محمد بن مرضي الحبشان إمام وخطيب جامع الجفيدرية رحمه الله أخبره أنه عثر على أحد هذه الكنوز وهو في ريعان شبابه .
-18-
وقد وصلت شهرت هذه المنطقة بالكنوز إلى خارج الجزيرة العربية فيذكر الشيخ عبدالله الجذالين رحمه الله في كتابه تأريخ الأفلاج وحضارتها : [ أن رجلا من أهل الأفلاج يقال له : مرجان الضرغام قد ذهب إلى البصرة لطلب الرزق ، ولما قصد مكة للحج مع أهل البصرة وجد هناك رجلا كبيرا فسأله عن بلدته فلما علم أنها الأفلاج قال : أنت من أهل الأفلاج وتذهب لطلب العيش في البصرة . والله لو تعلمون يا أهل الأفلاج ما في قصور النقية من الكنوز والأموال لأغنتكم عن بكرة أبيكم . فهذه القصة - إن صحت - دليل كافي على عظمة القوم وحضارتهم العميقة ] ص 68 .
كما ورد في مجلة الفيصل عدد جمادى الأخرة عام 1400هـ : [وقصة أوردها الأستاذ وقيان بن عمر اللحيان في مقالاته في مجلة المنهل وهي أن رجلاً من حجاج الخرفة قبل أربعين سنة تقريباً قابلهم رجل طاعن في السن في أحد شوارع مكة المكرمة وقال لهم لما عرف أنهم من أهالي الأفلاج أن بين أثلتين هناك بئر صغيرة مملوءة بالذهب ومسقفة بسيوف ورماح ، وإن أردتموها فاذهبوا بي معكم أدلكم على موضعها .. ولكن اشترط عليكم أن تردوني إلى مكة ولو جنازة فأبوا شرطه وتركوه ] ص45.
وهذه القصص والشهادات تثبت أمر تاريخي أن منطقة سوق الفلج وما جاورها عاش فيها أمم ذات ثراء عظيم، بقيت أثارمواقد ذهبهم وبقايا كنوزهم لتدل على حضارة كبيرة أعطاها الله من الذهب والثراء مالم يعطيه أحد غيرهم من العالمين .
* مناقشات وإستنتاجات محتملة /
وبعد التأمل في قصة أصحاب الرس مع الغزو الخارجي نجد أن هناك أربع نقاط تستحق البحث والدارسة :
* هل الذي قام بغزو أصحاب الرس الملك البابلي بختنصر أم الملك الأشوري سرجون الثاني ؟ وما الذي جرى على بقية أصحاب الرس الذين تم تهجيرهم إلى السامرة ؟
* مناقشة القول أن أصحاب الرس في اليمن من خلال التوراة والكتابات المسمارية ؟
* ما علاقة أهل الرس بطسم وجديس ؟
* ذكر الطبري في تاريخه أن الذين قتلوا انبيائهم أهل الرس وأهل حضور ؟ فأين تقع حضور ؟
-19-
* هل الذي قام بغزو أصحاب الرس الملك البابلي بختنصر أم الملك الأشوري سرجون الثاني ؟
تم العثورعلى كتابة مسماريه كُتبت في عهد الملك الأشوري سرجون الثاني ت 705 ق.م في وصفه لحملة عسكرية هاجم بها الجزيرة العربية عام 715 ق.م كُتب فيها التالي : [ إعتماد على الوحي الأتي والمعطى إلي بواسطة سيدي أشور أنا سحقت قبائل تامودا (TAMUD) وأباديد (IBADIDI) مرسيماني (MARSIMANU) خابايا والعرب القاطنين بعيدا في الصحراء ، وكذلك لا يعرفون المراقبين ولا الموظفين والذين لم يقدموا الجزية إلى أي ملك ، أنا أحضرت أتباعهم وجعلتهم يستقرون في ساماريا (السامرة) ...] ، ( ص 137-139 من كتاب العلاقات بين شمال شبه الجزيرة العربية وبلاد الرافدين د. عبدالمعطي سمسم )
وجاء في ترجمة ثانية للفقرة الأخيرة من هذه الكتابة المسمارية الهامة : [....... نقلت من بقي حياً منهم إلى سماريا ( السامرة ) وأسكنتهم هناك ] ( من الساميين إلى العرب للشيخ نسيب الخازن ص 154) .
وجاء في المفصل لـ أ.د جواد علي توضيح لاسم المنطقة التي وقعت فيها المعركة (1/326) : [ وقد عُرفت المنطقة التي حارب بها قوم ثمود والشعوب الأخرى الأشوريين باسم "بري" "bari"] .
إذا قارنت ما كُـتب عن غزوة الملك سرجون الثاني للعرب وما كتبه مؤرخي العرب عنها ، تجد توافق كبير في التفاصيل والأحداث و الموقع الجغرافي للمعركة ، كما تجد تباين مع ما كُـتب في عهد بختنصر من كتابات مسماريه وذلك من عدة نواحي :
* صرح الملك سرجون الثاني باسم قبيلة ثمود : [أنا سحقت قبائل تامودا ( TAMUD)] ، وكما هو معلوم أن أصحاب الرس بقية قوم ثمود ، بينما الملك بختنصر لم يصرح باسمهم.
* وقفة : صرح الملك سرجون كذلك بإسم إحدى القبائل وهي (IBADIDI) أباديدي ، ولم يصل إلى معرفتها الباحثين والمستشرقين ، وقد ذكر الرحالة الإنجليزي عبدلله فيلبي أن في الأفلاج موضع قديم لعبادة الأصنام في الجاهلية يكاد يطابق هذا المسمى هو (abu didi) وذلك في كتابة قلب الجزيرة العربية : ( والصخور التي تشكل ملجأ من حرارة الشمس أسفل امتدادتها المعلقة ، يعرفها الناس هنا باسم أبو ديـِـديِ Abu Didi ، ويقال إنها كانت مركزا من مراكز للعبادة والتقديس عند سكان هذه البلاد أيام الجاهلية . وهذه هي المرة الوحيدة التي صادفت فيها أثرا من آثار عصر عبادة الأصنام ) .ترجمة صبري محمد (2/313 ) ، وكما هو معلوم فإن القبائل في الجاهلية أحياناً كانت تتسمى بأسماء أصنامها ذكر ذلك أ.د جواد علي في المفصل : [ ولا بد لنا من الإشارة هنا إلى أن الأصنام -في إعتقادهم- كانت تدافع عن قبائلها وتذب عنها وتحامي عنها في الحرب، كما يدافع سيد القبيلة عن قبيلته، وأن أبناء القبيلة أبناؤها وأولادها، ولذلك كانوا يقولون عنها "آب" "أب" في كتاباتهم، ويكتبون عن أنفسهم "أبناء الصنم...."] (11/62) وذكر كذلك :[ و"قيس" اسم صنم قديم. نسيت عبادته، وصار اسم أشخاص. ودليل كونه صنم قديم وروده في الأعلام المركبة، مثل "عبد القيس"، فإن في هذه التسمية دلالة على أن قيسًا اسم إله التسمية دلالة على أن قيسًا اسم إله ] [وأما "عوف"، فقد استدل من التسمية بـ"عبد عوف" على أنه اسم صنم ](11/288) ، فيحتمل أن إسم قبيلة أباديدي مأخوذه من موضع الأصنام الذي ذكره فيلبي (أبودِيـِدِيِ ) ونطقه الغريب يدل على قدِمه فهو إسم غير معهود لا في اللغة العامية الدارجة ولا في اللغة الفصحى ، وهو موضع معروف بالقرب من سد الغيل بمحافظة الأفلاج ، فيحتمل أنه موضع آلهة لإحدى قبائل أصحاب الرس التي تسمت بإسم معبودها .
-20-
* الرؤيا : صرح الملك سرجون الثاني أن سبب المعركة وحي ( أي رؤيا ) : [إعتماد على الوحي الأتي والمعطى إلي بواسطة سيدي أشور]، وكذلك ذكر مؤرخي العرب أن سبب الغزو رؤيا : [ أُري في ما يرى النائم ] الطبري (1/558).
*الإبادة : صرح الملك سرجون الثاني بأنه سحق الطرف الثاني في المعركة [ أنا سحقت قبائل تامودا ( TAMUD)] [نقلت من بقي حياً منهم إلى السامرة وأسكنتهم هناك ] ، وهذا ما ذكره مؤرخي العرب : [وأن ينتسف ذلك نسفا، حتى لا يبقي لهم أثرا ]،[ثم دخلوا على العرب فاستعرضوا كل ذي روح أتوا عليه وقدروا عليه ] الطبري (1/558) ، بينما كتابة الملك بختنصر فتفيد فقط جمعه للغنائم فقط : [فغزوا الصحراء وأخذوا كثيرا من الغنائم] .
*سمى الملك سرجون اسم المنطقة الي وقعت فيها المعركة مع ثمود باسم (bari) وهو مسمى قريب وبار التي النسبة إليها أباري [وَالنّسَبُ إلَيْهِ أَبَارِيّ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ] الروض الأنف للسهيلي (1/53) ، بينما الملك بختنصر لم يسم مكان المعركة .
* وصف الملك سرجون موقع المعركه :[ القاطنين بعيدا في الصحراء ، وكذلك لا يعرفون المراقبين ولا الموظفين والذين لم يقدموا الجزية إلى أي ملك ]، فقد وصف موقع المعركة بأنها بعيد في الصحراء بحيث لم تصلهم يد الملوك الأشوريون قبله فلم يعطوا الجزية لأحد من ملوك أشور ، بل حتى لم تصلهم أيدي المراقبين والموظفين ، لأن الأشوريون كما يذكر أ.د جواد علي في المفصل (2/257) وضعوا مراقبين في مواطن سكان سادات البادية لمراقبة حركة القبائل واخبار الأشوريون بأي تحرك أو نوايا معادية ، وهذا الوصف يصدق على موقع فلج اليمامة فهو في قلب صحراء الجزيرة العربية ، وبعيد أن أيدي ملوك العراق ومراقبيها ، بينما نجد وصف كتابات الملك البابلي بختنصر موقع المعركة : [حرك ملك آكاد بجيشه إلى داخل بلاد حيتي ووزع ملك آكاد جيشه في الأراضي الحيثية فغزوا الصحراء وأخذوا كثيرا من الغنائم من أرض العرب ] ، فالغزوة كما يذكر بختنصر متجه للأراضي الحيثيثة وهي تقع ( شمال الشام وشرقه إلى تركيا ) ، وأثناء الغزو وزع الجيش على العرب وأخذوا الغنائم ، فيدل ذلك أن المقصود هي الصحراء القريبة من الشام ما يسمى ( بادية الشام) ، لأن الهدف كان الأراضي الحيثية في شمال الشام وشرقه ، ويؤيد ذلك أ.د جواد علي في المفصل :[ وكانت غاية "بختنصر" من إرسال حملته هذه على العرب، هو حماية حدود "حماة" وبقية مشارف فلسطين وبلاد الشام من الأعراب وإخضاعهم لحكمه، ثم تأديب بعض القبائل التي تحرشت به على ما يظهر حين دخوله بلاد الشام وفي جملة ذلك فلسطين.] (2/261) .

-21-
* وصف المعركة : من وصف المعركة في المصادر التاريخية أنه كانت عدة معارك قوية وشرسه ، يذكر الطبري :[ وقد اجتمع أكثر العرب من أقطار من عربة إلى حضور، فخندق الفريقان ] ويذكر الطبري كذلك :[ فإن العذاب لما نزل بالقرى وأحاط بهم في آخر وقعة ذهبوا ليهربوا فلم يطيقوا الهرب] ، بينما ذُكر في الكتابة المسارية التي في عهد بختنصر أنه فرق جيشه ووزعه في الأراضي الحيثية وهذا لا يناسب المعارك القوية التي يلزمها إتحاد الجيش وتماسكه :[ ووزع ملك آكاد جيشه في الأراضي الحيثية فغزوا الصحراء وأخذوا كثيرا من الغنائم ] فيتبين لنا أن القبائل التي غزاها بختنصر لم تكن ذات شوكه ومنعه .
* الأسرى : صرح الملك سرجون الثاني بأنه قام بتهجير العرب الأسرى ومن تبقى بعد المعركة وأسكنهم في أراضي دولته : [نقلت من بقي حياً منهم إلى السامرة وأسكنتهم هناك ]، وذكر الطبري ذلك : [ جمع من سبايا عربة فألقاهم بالأنبار] ، بينما بختنصر ذكر أنه رجع بالغنائم والأصنام ولم يذكر أسرى أو عملية تهجيرللسكان الباقين بعد المعركة .
* زمن المعارك وترتيبها : صرح الطبري : بأن الغزو وقع على بني إسرائيل أولا ثم العرب ثانياً ،، وأن الغزوتين وقعتا متتاليتين أي في وقت واحد : [فبعث الله بختنصر على بني إسرائيل، فلما فرغ من إخراب المسجد الأقصى والمدائن وانتسف بني إسرائيل نسفا، فأوردهم أرض بابل ، أري فيما يرى النائم- أو أمر بعض الأنبياء أن يأمره- أن يدخل بلاد العرب فلا يستجبى فيها إنسيا ولا بهيمة، وأن ينتسف ذلك نسفا، حتى لا يبقي لهم أثرا ] ، وهذا ينطبق على الملك الأشوري سرجون الثاني فإنه غزا مملكة إسرائيل ثم غزا العرب ، وكان ذلك في سنة واحده وهي عام 715 ق.م أما بختنصر فقد غزا أولاُ العرب عام 599ق.م ثم غزا بني إسرائيل بعدهم بـ 13 سنة وذلك عام 586 ق.م ، وهذا لا يتطابق مع ماذكره مؤرخي العرب لا في ترتيب الغزو ولا زمنه .
* من آثار المعركة : قام الملك سرجون الثاني بغزو القبائل العربية وإبادتهم وتهجير من بقي منهم عام 715 ق.م بينما المعركة التي ذُكرت لبختنصر ضد العرب كانت عام 599 ق.م أي متأخره زمنياً بقرابة المائة سنة ، فإذا كان الملك سرجون الثاني قد سبقه وسحقهم وهجرهم ، فعلى هذا فلن يجد الملك بختنصر أمامه في جزيرة العرب من هو ذا بال وشأن يستحق الغزو .
فمما سبق يتبين أن من غزا أصحاب الرس فأباد أكثرهم وقام بتهجير البقية منهم إلى مدينة السامرة ( شمال القدس بـ 70 كيلوا) ، هو الملك الأشوري سرجون الثاني وليس الملك الكلداني بختنصر ، وبهذا يتبين لنا أن ما ذكره المؤرخون العرب عن الغزو القادم من العراق للجزيرة العربية وتهجير الناجون منه إلى خارج الجزيرة العربية له نصيب كبير من الصحة وعلى جانب كبير من الحقيقة ، فقد ذكروا تفاصيل دقيقة للمعركة لم تكن موجودة في التوراة ، و أثبتت صحتها الكتابات المسمارية المكتشفه حديثاً والتي كُتبت في وقت المعركة مثل رؤيا الملك ، وتهجير الناجين من الغزو إلى خارج الجزيرة العربية ، فهذه التفاصيل لم تكن موجوده في التوراة مما يثبت خطأ ما ذهب إليه أ.د جواد علي في المفصل :[ إن رواته أخذوا مادته من أهل الكتاب وأضافوا إليها مادة جديدة أنتجها إبتداعهم له فصار نسيجا جديدا هو المدون في الكتب ، وهو حديث لا قيمة تأريخية له ] (2/258) ، ولا ننكر أنه أضيف لها بعض الإضافات والزيادات مثل إقحام إسم عدنان وقصة البُراق والنبي برخيا وغيره، إلا أن الغزو وأحداثه وتهجير القبائل العربية كان صحيح ، وهذا بلا شك له قيمة تاريخية كبيرة ، ويترتب عليه فهم الأحداث التاريخية اللاحقة .
-22-
وقد يكون سبب الخلط الذي وقع بين الملك الأشوري سرجون الثاني والملك الكلداني بختنصر أن كلا الملكين قاما بسبي بني إسرائيل وقاما كذلك بغزو العرب ، فقرأ مؤرخو العرب التوراة فظنوا أن المقصود هو بختنصر لشهرة السبي الذي قام به لليهود فنسبوا إبادة العرب وتهجّيرهم كذلك له ، [ وكما هو معروف فقد إنقسمت مملكة سليمان -عليه السلام- من بعده إلى ولديه رحبعام ويربعام مملكة إسرائيل في الشمال -"عاصمتها السامرة"- ومملكة يهوذا في الجنوب -"وعاصمتها القدس"- وضعفت الدولتان خطوة خطوة إلى أن انهارت الشمالية وسُبي أهلها إلى أشور عام 715 ق.م وانهارت الجنوبيه وسُبي أهلها إلى بابل على عهد نبوخذ نصر ]( أديان العرب قبل الإسلام لـ جرجس داوود 33) .
و ذكرت الكتابات المسمارية التي كُتبت في زمن الملك سرجون الثاني سبب تهجير أسرى أصحاب الرس ( بقية ثمود) إلى مدينة السامرة ، وهو الثورة التي قام بها اليهود في السامرة فقام بتهجيرهم منها وإحلال غيرهم فيها :
[ لقد حاربت أهالي السامرة الذين أتفقوا وتأمروا مع ملك معادٍ لي على ان لا يتحملوا الخدمة ، وأن لايقدموا الأتاوة لأشور وخضت المعارك مستعينا بقوة الألهة العظيمة ، أربابي ، لقد عددت 27280 نسمة أخذوا كغنائم مع عرباتهم وألهتهم التي وثقوا بها ، وشكلت وحدة من مائتين من عرباتهم لقواتي الملكية ، وأعدت إحلال الناس في السامرة أكثر من ذي قبل . لقد جلبت إليها أناساً من البلدان التي فتحتها بيدي ، وعينت عليهم مفوضى كحاكم عليها ، وأعتبرهم كأشوريون ] ( ص169 من كتاب : تبيان الحدود بين تاريخ بني إسرائيل وتاريخ اليهود في العصور القديمة للأستاذ هشام أبوحاكمة ) .
وسياسة التهجير التي اتبعها الأشوريون مع خصومهم كانت منتشرة في تلك الفترة الزمنية وقام بها الفراعنه والكلدانيون والحيثيون ، وليس المراد منها السبي والإستعباد بل المقصود منها إبعاد المجموعة التي يخشى منها إثارة القلاقل والفتن عن أرضيهم وإسكانهم أرض أخرى وفي وسط مجتمع أخر مما يقلل اللحمة بينهم ويفتت تماسكهم العرقي ليعيشوا فيها بسلام ، وكذلك يقصد منها سبب جوهري أخر وهو تأمين طرق التجارة وهو هدف رئيسي لدى الأشوريين ولو أدى ذلك إلى تهجير منطقة بأكملها ما دام ذلك يحقق مصلحه تجارية لهم ، وقد كانوا يعاملون المهجّرين معاملة حسنة ، فقد نصت القوانين على تأمين الغذاء لهم وكذلك الأحذية بل وحصلوا أحياناعلى مساعدات على الزواج . ( من كتاب : تبيان الحدود بين تاريخ بني إسرائيل وتاريخ اليهود في العصور القديمة للأستاذ هشام أبو حاكمة ص 170 ) .
ولكن الثموديين لم يستجيبوا للتوطين والاستقرار القسري في السامرة ، بل سرعان ما تحولوا إلى حياة البادية في ( بادية الشام ) فقد ورد أن الأنباط ( وهم فرع من الثموديين كما أثبته أ.د. عبدالرحمن الأنصاري وآخرين بدليل نقش روافه ونقش رقوش وغيره ) قد تعاهدوا فيما بينهم أن يتحولوا إلى حياة البادية وذلك لأنهم عرفوا أن الغاية من (التهجير القسري ثم توطينهم في السامرة ) هو تسهيل السيطرة عليهم إذا إستقروا في المدن وارتبطوا بالمباني والزراعه ، يذكر ذلك المورخ اليوناني ديدور الصقلي المتوفى عام 30 ق.م : [ ولقد آلوا على أنفسهم الا يبذروا حبا ، ولا يغرسوا شجرة يؤتي ثمرة ، ولا يعاقروا خمرة ، ولا يشيدوا بيت ، ومن فعل ذلك كان عقابه الموت ، وهم يلتزمون بهذه المباديء لأنهم يعتقدون أن من تملك شيئة استمرا ما ملك ( وعزّ عليه التخلي عنه ) واضطر من أجل ذلك أن ينصاع لما يفرضه عليه ذوو القوة والجبروته ( ۸۷:۱۰ ).] ( تاريخ الأنباط د. إحسان عباس ص 29 ) .
-23-
وإذا رجعنا لما قبل 300 سنة مما ذكره هذا المؤرخ ، نرى أن هذا الموقف كان راسخ لدى الأنباط مما يدل على تواصيهم به جيل بعد جيل فقد كان ردهم على قائد الجيش اليوناني ديمتريوس عام 312 ق.م في مفاوضات الصلح معه فقالوا : [ ليس من الحكمة في شيء أن يعلن اليونان حربا على شعب لا يملك ماء أو خمرا أو حبا ، نحن لا نعيش كما يعيش أبناء اليونان ، ولا نرغب في أن نصبح عبيدا لهم ، نعيش في الصحراء مثلنا مثل الحيوانات البرية ، ولن نسبب لكم الأذى مطلقا ولن تستطيعوا إجبارنا على العيش بطريقة أخرى ( 99.Diodonus , 1961 , 14 , 96 , 498 , p ) ] ( تاريخ الأنباط السياسي لـ أ.د سليمان الذييب ) .
وقد نصل إلى نتيجة أخرى أن الثموديين (أصحاب الرس وحضور) بقوا كقبائل بدويه تتنقل في الصحراء في أطراف الشام ، وبعد مئة وستة عشر سنة من التهجير القسري غزاهم الملك الكلداني بختنصر وذلك عام 599 ق.م ، وهذا الغزو هو الذي ذكرته التوراة وكذلك الكتابات المسمارية المكتوبه في عهد بختنصر فمن يقرأها ويتأمل فيها يجدها تتحدث عن غزو قبائل لها ارتباط بمسمى ( حضور ) .
ومما يدل على بقاءهم في بادية الشام وعدم رجوعهم للجزيرة العربية أنه في عام 552 ق.م قام الملك البابلي نابونيد بحملة كبيرة على جزيرة العرب واستقر في تيماء واتخذها عاصمة له لمدة عشر سنين و وصلت فتوحاته إلى فدك وخيبر ويثرب، وخلال تلك الإقامة الطويلة التي قضها في جزيرة العرب لم يذكر قبيلة ثمود في الكتابات المسارية ، مما يدل على خلوا المنطقة منهم : [ لم يذكر الملك البابلي نابونيدس - أخر ملك بابلي- شيئا عن ثمود أثناء إحتلاله شمال جزيرة العرب ] (ص 80 من كتاب طرق القوافل وآثارها في شمال جزيرة العرب لسالم العنزي ).
وبعد قرون بدأت حركة رجوع الثموديون إلى الجزيرة العربية ، فقد بدأ يظهر إسم قوم ثمود في شمال الجزيرة وكذلك في شمال الحجاز وذلك في القرن الأول قبل الميلاد والقرن الأول ميلادي ، يذكر ذلك أ.د جواد علي : [ لقد وصف مؤلف كتاب: "الطواف حول البحر الأريتري" مواضع الثموديين "thamudeni" مستندًا إلى مورد آخر، أخذ منه، أقدم عهدًا منه فذكر أن "thamudeni"، كانوا يقيمون على ساحل صخري طويل، لا يصلح لسير السفن، وليست فيه خلجان تستطيع أن تأوي إليه القوارب فتحتمي بها من الرياح، ولا ميناء تتمكن من الرسو فيه، ولا موضع أو جزر عنده تقبل إليه القوارب الهاربة من الأخطار. فيظهر من وصف هذا المؤلف أن مواطن ثمود كانت في الحجاز على ساحل البحر الأحمر.
وقد ذكر هذا الوصف، ولكن بشيء من التحوير" ديودورس"(ت 30 ق.م ) . وأما "بلينيوس" (ت 79 م) ، فذكر "tamudaei" بين "domata"و "haegra" ومدينة دعاها "badanatha" "baclanaza". وأما "بطلميوس"( ت 150 م)، فقد جعل قوم ثمود "thamuditae" "thamudeni" بين ال "sarakenoi" وبين "apatae" ويظهر من كل ذلك أن ديارهم في شمال غربي "العربية السعيدة"، أي في المواضع التي عينتها المصادر العربية.] ، [ وقد كان الثموديون يقطنون بعد الميلاد في مواطنهم المذكورة في أعالي الحجاز في "دومة الجندل" و "الحجر" وفي غرب "تيماء". وقد ذكر أنهم كانوا يمتلكون في منتصف القرن الثاني للميلاد حَرّتّيْ "العوارض" و "الأرحاء" ] المفصل ( 1/ 325-326).
أما أخر ما ورد من ذكر للثموديين في المصادر التاريخية فكان ذلك في القرن الخامس الميلادي [ أن فرقتين من العرب كانت في خدمة الأباطرة الرومان ، ومنهم فرسان ثموديون ، لا سيما وأن القائد الروماني جستنيانوس ، كان في جيشه فرسان مهرة من الذين يعرفون طبيعة الصحراء العربية ومفازاتها والصبر على مناخها وما فيها من تقلبات ومشاق ]. ( ص 7 من كتاب القبائل الثمودية والصفوية دراسة مقارنة لمحمود الروسان ) .
-24-
وأشير إلى أنه يحتمل أن الثموديين بعد إنتقالهم إلى الشام انتقلت معهم مهارة التعدين والبحث عن مناجم الذهب التي برعوا فيها في الجزيرة العربية ، فنجد أن الكثير من المؤرخين يذكرون ثراء هذه القبائل البدوية !! ، ثم إن اشتغالهم بالتعدين قد يفسرلنا سبب تسمية الأنباط بهذا المسمى ، فهم بقية من أصحاب المعدن ( الرس) أي أنه لحق بهم الإسم من : ( نبط المعدن إي إستخرجه من الأرض ) ، فيبدو أنهم استمروا في إستخراج المعادن من الأرض فسموا الأنباط ، جاء في تاج العروس للزبيدي :[ وَقَالَ ابْن الأَعْرَابِيّ: رَجُلٌ نُبَاطِيٌّ، بضَمّ النُّونِ، ونَبَاطِيّ وَلَا تَقُلْ نَبَطيّ، ويُقَالُ: إِنَّمَا سُمُّوا نَبَطاً لاسْتِنْبَاطِهم مَا يَخْرِجُ من الأَرْضِينَ،](20/131) ، وجاء في لسان العرب لابن منظور :[ والنبَط: مَا يتَحَلَّبُ مِنَ الجَبل كأَنه عَرَق يَخْرُجُ مِنْ أَعْراض الصَّخْرِ] (7/411) وهذا قد يفسر لنا سر ثروتهم الطائلة التي تحدث عن المؤرخين ، كما يدعم هذا الاستنتاج وجود المناجم القديمة في مناطق نفوذهم جنوب البتراء في الجبال الواقعة شرق خليج العقبة ، وثبوت قِدم تاريخ التعدين فيها حسب ما ذكره المستشرق الألماني موريتس (ت 1939م ) في بحثه ( المعادن العربية القديمة ) فقد ذكر مناطق التعدين في الجزيرة العربية وعدّ شمال الحجاز أولها فقال : [ 1- مدين هي الأرض بين البحر الأحمر وسلسلة الجبال الساحلية من العقبة في الشمال حتى وادي الحمض في الجنوب] إلى أن قال [ وقد جاء شرح مستفيض لهذه المناجم في الفصل (28، 1-11) من كتاب ( هيوب ) الذي يرجع عهده إلى 500 سنة قبل الميلاد ، ويُعتقد أن مؤلفه من سكان مدين نفسها .] ( مجلة العرب 1387هـ 2/7 ص 582 ) ، و يدعم ذلك أيضاً : اشتهار الأنباط بالتعدين وصناعاته المتعددة : [ لقد أظهر هؤلاء الرعاة مقدرة فائقة وكفاية لا تقدر في تكييف أنفسهم وفي أخذهم بالأساليب الحديثة في الحياة. تمكنوا من استغلال أرضهم وما فيها من موارد طبيعية، وتعلموا استغلال مناجم النحاس والحديد القديمة في "أدوم"، واستخدام هذين المعدنين المهمين في صنع المواد اللازمة لشؤون الحياة ] ( المفصل لـ أ.د جواد علي 5/18).
أما اللحيانيون فقد عدّهم بعض المؤرخين والعلماء أنهم إحدى قبائل ثمود ذكر ذلك أ.د عبدالرحمن الأنصاري في بحث بعنوان ( لمحات عن القبائل البائدة في الجزيرة العربية ) : [ إلا إذا أخذنا في الإعتبار ما يقوله بعض المؤرخون من أن النبيطين واللحيانيين أصولهم ثمودية ] (مطبوعات جمعية الآثار والتاريخ 1/ 89 ) ، وقد يدعم نسبتهم لثمود الاسم الوارد في أقدم نقش لحياني فقد ذكر فيه ما يشابه إسم ( حضور ) كأب أو قبيلة لصاحب النقش : [ ويظن أن النص اللحياني الموسوم بـjS 349 من نهاية القرن الثاني قبل الميلاد على رأي بعضهم، هو من أقدم النصوص اللحيانية، دونه رجل اسمه "نرن بن""حضرو" "ناران بن حاضرو" "نوران بن حاضر"، وذلك بأيام "جشم بن شهر" و "عبد" الذي كان واليًا على "ددان" يومئذ ] ( المفصل لـ أ.د جواد علي 3/248) .
* موقع أهل الرس ؟
كما ذكرنا سابقا أن موقع أصحاب الرس في الفلج في اليمامة استناداً على ماقاله إثنان من علماء التابعين كقتادة وعكرمة ، وتابعهم على ذلك أكثر المفسرين كما يقول ابن عاشور : [والأكْثَرُ عَلى أنَّهُ مِن بِلادِ اليَمامَةِ ويُسَمّى فَلْجًا ] (التحرير والتنوير 19/28).
إلا أن هناك قول أخر أن أصحاب الرس في اليمن في قرية جبل حضور ، وتسمى كذلك جبل النبي شعيب وبه قبر ومقام ( بناء على الرواية التي تقول أن نبي أصحاب الرس هو شعيب بن ذي مهدم ) .
-25-
وعند المقارنة بين هذين الموقعين بناء على المعطيات من النصوص الواردة في الكتابات المسمارية وفي التوراة وكذلك بالنظر للطبيعة الجغرافية للمنطقتين ، نجزم أن أصحاب الرس لا يمكن أن يكونوا في (جبل حضور) في اليمن وان اليمامة هي الأقرب لذلك للأسباب التالية :

1- البيئة الصحراوية :
جاء وصف حضور (التي تم غزوها) أنها تقع في بيئة صحراوية ، فقد ذكرت الكتابات المسمارية عند الملك الأشوري سرجون الثاني : [ والعرب القاطنين بعيدا في الصحراء] ، وكذلك الكتابات في عهد الملك الكلداني بختنصر : [ وتجوب الصحراء أخذوا الكثير من النهب. من العرب ، جلساتهم ، الحيوانات والآلهة. ] ، و أشارت التوراة أن حضور التي تم غزوها يربي أهلها الإبل والماشية ويسكنون الخيام مما يدل على أن بيئتهم صحراوية: [ يأخذون خيامهم وغنمهم، ويأخذون لأنفسهم شققهم (ستائرهم) وكل آنيتهم وجمالهم ].
وهذا ينطبق على إقليم اليمامة فهو إقليم صحراوي و أهله يربون الإبل ، أما حضور اليمن فهي تقع في قمة أعلى جبل في الجزيرة العربية ،الذي يبلغ إرتفاعه 3670 م وهي بارده و مغطاه بالغيوم طوال السنة وطبيعة المنطقة ليست صحراوية وغير مناسبة للإبل ، فلا يمكن تكون هي التي ذُكرت في النصوص السابقة .

2- البعد المكاني عن بلاد الرافدين :
فاليمن بعيدة جداً عن العراق فيُستبعد أن (بختنصر/ او سرجون الثاني ) قد قطع هذه المسافات ليصل إلى أصحاب الرس لو كانوا فيها ، بينما إقليم اليمامة أقرب للعراق من اليمن بكثير، وقد ذكر ذلك الأستاذ جواد علي في كتاب المفصل في تاريخ العرب :[ ثم إن اليمن بعيدة جدًّا عن "بختنصر"، ولا يعقل أن يكون في إمكان جيوشه الوصول بسهولة إلى هناك ] (1/368) .
وقد استبعد الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في أضواء البيان أن يكون نبي الله صالح ومن آمن معه ذهبوا لليمن ثم وقعت قصة أصحاب الرس هناك ، فقال : [ ومِنَ المُسْتَبْعَدِ أنْ يَقْطَعَ صالِحٌ، ومَن آمَنَ مِن قَوْمِهِ هَذِهِ المَسافَةَ الطَّوِيلَةَ البَعِيدَةَ مِن أرْضِ الحِجْرِ إلى حَضْرَمَوْتَ مِن غَيْرِ داعٍ يَدْعُوهُ ويَضْطَرُّهُ إلى ذَلِكَ، كَما تَرى، والعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعالى.](274/5).
-26-
3- وجود الآبار بشكل ظاهر قال تعالى :{ فَكَأَیِّن مِّن قَرۡیَةٍ أَهۡلَكۡنَـٰهَا وَهِیَ ظَالِمَةࣱ فَهِیَ خَاوِیَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا وَبِئۡرࣲ مُّعَطَّلَةࣲ وَقَصۡرࣲ مَّشِیدٍ } الحج 45
فهذه الأية تدل على أن آبار حضور واضحة وظاهره للعيان ، بدليل عطفها على القصور المشيدة ، فمن شاهد القصور شاهد الأبار ، فحصلت له العظة والعبرة مما وقع بأهلها ، ولو نظرنا إلى طبيعة بلدة حضور باليمن لوجدناها في قمة أعلى جبل في الجزيرة العربيه وهي دائمة المطر ويلفها السحاب طوال العام ، فزراعتهم تعتمد على نظام المدرجات الزراعية التي تسقيها الأمطار ، فلا يستخدمون الأبار في زراعتهم ، وإن وجدت فهي قليلة وغير ظاهرة للعيان ، بخلاف إقليم اليمامة التي لا تجد قصراً إلا والبئر قريبه منه .
4- أن الله قال بعد ذكره لأثار أصحاب الرس من بئر معطلة وقصر مشيد : ﴿أَفَلَمۡ یَسِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَتَكُونَ لَهُمۡ قُلُوبࣱ یَعۡقِلُونَ بِهَاۤ أَوۡ ءَاذَانࣱ یَسۡمَعُونَ بِهَاۖ فَإِنَّهَا لَا تَعۡمَى ٱلۡأَبۡصَـٰرُ وَلَـٰكِن تَعۡمَى ٱلۡقُلُوبُ ٱلَّتِی فِي ٱلصُّدُورِ﴾ (الحج ٤٦)
الخطاب في هذه الأيات لكفار قريش ، وفي هذا دليل على أن آثار أصحاب الرس ( أي القصر المشيد والبئر المعطلة ) كانت على طرق القوافل والمسافرين ، وليست في أعلى قمة جبل في الجزيرة العربية !! ، فهو مكان شاهق الارتفاع لا تطرقه القوافل ويصعب على الإبل صعوده ، بينما إقليم اليمامة في مكان منبسط على طريق المسافرين وملتقى لطرق القوافل وبه الأسواق الشهيرة التي يرودها التجار من كل أرجاء الجزيرة العربية .
فنستنج من ذلك كله أن حضورا اليمن لا يمكن أن تكون هي المقصودة في قصة أصحاب الرس ، وقد ذهب إلى ذلك أ.د.جواد علي في كتابه المفصل في تاريخ العرب فقال [ "ويظهر أن حربًا قديمة ماحقة، أو كارثة طبيعية مثل زلزال أو هياج حرة، وقعت في "حضور" اليمن، سبب تلفها وإنزال خسائر كبيرة بها وبأهلها، فترك ذلك أثرًا عميقًا في ذاكرة الناس، رواه كابر عن كابر، فوجد الأخباريون الذين وقفوا على أخبار التوراة، أو كانوا يجالسون أهل الكتاب ويسائلونهم، شبهًا بين "حاصور" و "حضور"، وظنوا جهلًا بالطبع بما ورد في "أرميا" عن "حاصور"، أن "حاصور" التوراة "حضور" اليمن، ثم أضافوا إلى ذلك ما شاءوا على طريقتهم في أمثال هذه المناسبات.](352/1).
-27-
* علاقة أهل الرس بطسم وجديس :
* قصة هلاك طسم وجديس /
ذكرالإخباريون قصة هلاك طسم وجديس برويات متعددة، وسننقل لكم القصة من كتاب الكامل في التاريخ لابن الأثير :
[ كانَتْ مَسَاكِنُهُمْ مَوْضِعَ الْيَمَامَةِ، وَكَانَ اسْمُهَا حِينَئِذٍ جَوَا، وَكَانَتْ مِنْ أَخْصَبِ الْبِلَادِ وَأَكْثَرِهَا خَيْرًا، وَكَانَ مَلِكُهُمْ أَيَّامَ مُلُوكِ الطَّوَائِفِ عِمْلِيقْ، وَكَانَ ظَالِمًا قَدْ تَمَادَى فِي الظُّلْمِ وَالْغَشْمِ وَالسِّيرَةِ الْكَثِيرَةِ الْقُبْحِ، وَإِنَّ امْرَأَةً مِنْ جَدِيسٍ يُقَالُ لَهَا هَزِيلَةُ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَأَرَادَ أَخْذَ وَلَدِهَا مِنْهَا فَخَاصَمَتْهُ إِلَى عِمْلِيقْ وَقَالَتْ: أَيُّهَا الْمَلِكُ حَمَلْتُهُ تِسْعًا، وَوَضَعْتُهُ دَفْعًا، وَأَرْضَعْتُهُ شَفْعًا، حَتَّى إِذَا تَمَّتْ أَوْصَالُهُ، وَدَنَا فِصَالُهُ، أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَهُ مِنِّي كُرْهًا، وَيَتْرُكَنِي بَعْدَهُ وَرِهًا. فَقَالَ زَوْجُهَا: أَيُّهَا الْمَلِكُ إِنَّهَا أُعْطِيَتْ مَهْرَهَا كَامِلًا، وَلَمْ أُصِبْ مِنْهَا طَائِلًا، إِلَّا وَلِيدًا خَامِلًا، فَافْعَلْ مَا كُنْتَ فَاعِلًا. فَأَمَرَ الْمَلِكُ بِالْغُلَامِ فَصَارَ فِي غِلْمَانِهِ، وَأَنْ تُبَاعَ الْمَرْأَةُ وَزَوْجُهَا فَيُعْطَى الزَّوْجُ خُمْسَ ثَمَنِهَا وَتُعْطَى الْمَرْأَةُ عُشْرَ ثَمَنِ زَوْجِهَا، فَقَالَتْ هَزِيلَةُ:
أَتَيْنَا أَخَا طَسْمٍ لِيَحْكُمَ بَيْنَنَا ... فَأَنْفَذَ حُكْمًا فِي هَزِيلَةَ ظَالِمَا
لَعَمْرِي لَقَدْ حَكَّمْتَ لَا مُتَوَرِّعَا ... وَلَا كُنْتَ فِيمَنْ يُبْرِمُ الْحُكْمَ عَالِمَا
نَدِمْتُ وَلَمْ أَنْدَمْ وَأَنَّى بِعِتْرَتِي ... وَأَصْبَحَ بَعْلِي فِي الْحُكُومَةِ نَادِمَا
فَلَمَّا سَمِعَ عِمْلِيقْ قَوْلَهَا، أَمَرَ أَنْ لَا تُزَوَّجَ بِكْرٌ مِنْ جَدِيسٍ وَتُهْدَى إِلَى زَوْجِهَا حَتَّى يَفْتَرِعَهَا، فَلَقُوا مِنْ ذَلِكَ بَلَاءً وَجَهْدًا وَذُلًّا، وَلَمْ يَزَلْ يَفْعَلُ ذَلِكَ حَتَّى زُوِّجَتِ الشَّمُوسُ، وَهِيَ عَفِيرَةُ بِنْتُ عَبَّادٍ أُخْتُ الْأَسْوَدِ، فَلَمَّا أَرَادُوا حَمْلَهَا إِلَى زَوْجِهَا انْطَلَقُوا بِهَا إِلَى عِمْلِيقْ لِيَنَالَهَا قَبْلَهُ، وَمَعَهَا الْفِتْيَانُ، فَلَمَّا دَخَلَتْ عَلَيْهِ افْتَرَعَهَا وَخَلَّى سَبِيلَهَا، فَخَرَجَتْ إِلَى قَوْمِهَا فِي دِمَائِهَا وَقَدْ شَقَّتْ دِرْعَهَا مِنْ قُبُلٍ وَدُبُرٍ وَالدَّمُ يَبِينُ وَهِيَ فِي أَقْبَحِ مَنْظَرٍ تَقُولُ:
لَا أَحَدَ أَذَلُّ مِنْ جَدِيسِ ... أَهَكَذَا يُفْعَلُ بِالْعَرُوسِ
يَرْضَى بِذَا يَا قَوْمِ بَعْلٌ حُرُّ ... أَهْدَى وَقَدْ أَعْطَى وَسِيقَ الْمَهْرُ
وَقَالَتْ أَيْضًا لِتُحَرِّضَ قَوْمَهَا:
أَيَجْمُلُ مَا يُؤْتَى إِلَى فَتَيَاتِكُمْ ... وَأَنْتُمْ رِجَالٌ فِيكُمُ عَدَدُ النَّمْلِ
وَتُصْبِحُ تَمْشِي فِي الدِّمَاءِ عَفِيرَةٌ جَهَارًا ... وَزُفَّتْ فِي النِّسَاءِ إِلَى بَعْلِ
وَلَوْ أَنَّنَا كُنَّا رِجَالًا وَكُنْتُمُ ... نِسَاءً لَكُنَّا لَا نُقِرُّ بِذَا الْفِعْلِ
فَمُوتُوا كِرَامًا أَوْ أَمِيتُوا عَدُوَّكُمْ ... وَدِبُّوا لِنَارِ الْحَرْبِ بِالْحَطَبِ الْجَزْلِ
وَإِلَّا فَخَلُّوا بَطْنَهَا وَتَحَمَّلُوا ... إِلَى بَلَدٍ قَفْرٍ وَمُوتُوا مِنَ الْهَزْلِ
فَلَلْبَيْنُ خَيْرٌ مِنْ مُقَامٍ عَلَى الْأَذَى ... وَلَلْمَوْتُ خَيْرٌ مِنْ مُقَامٍ عَلَى الذُّلِّ
وَإِنْ أَنْتُمُ لَمْ تَغْضَبُوا بَعْدَ هَذِهِ فَكُونُوا ... نِسَاءً لَا تُعَابُ مِنَ الْكُحْلِ
دُونَكُمُ طِيبُ النِّسَاءِ فَإِنَّمَا خُلِقْتُمْ .... لِأَثْوَابِ الْعَرُوسِ وَلِلْغُسْلِ
فَبُعْدًا وَسُحْقًا لِلَّذِي لَيْسَ دَافِعًا .... وَيَخْتَالُ يَمْشِي بَيْنَنَا مِشْيَةَ الْفَحْلِ
فَلَمَّا سَمِعَ أَخُوهَا الْأَسْوَدُ قَوْلَهَا، وَكَانَ سَيِّدًا مُطَاعًا، قَالَ لِقَوْمِهِ: يَا مَعْشَرَ جَدِيسٍ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ لَيْسُوا بِأَعَزَّ مِنْكُمْ فِي دَارِكُمْ إِلَّا بِمُلْكِ صَاحِبِهِمْ عَلَيْنَا وَعَلَيْهِمْ، وَلَوْلَا عَجْزُنَا لَمَا كَانَ لَهُ فَضْلٌ عَلَيْنَا، وَلَوِ امْتَنَعْنَا لَانْتَصَفْنَا مِنْهُ، فَأَطِيعُونِي فِيمَا آمُرُكُمْ فَإِنَّهُ عِزُّ الدَّهْرِ.
وَقَدْ حَمِيَ جَدِيسٌ لِمَا سَمِعُوا مِنْ قَوْلِهَا فَقَالُوا: نُطِيعُكَ وَلَكِنَّ الْقَوْمَ أَكْثَرُ مِنَّا! قَالَ: فَإِنِّي أَصْنَعُ لِلْمَلِكِ طَعَامًا وَأَدْعُوهُ وَأَهْلَهُ إِلَيْهِ، فَإِذَا جَاءُوا يَرْفُلُونَ فِي الْحُلَلِ أَخَذْنَا سُيُوفَنَا وَقَتَلْنَاهُمْ. فَقَالُوا: افْعَلْ. فَصَنَعَ طَعَامًا فَأَكْثَرَ وَجَعَلَهُ بِظَاهِرِ الْبَلَدِ وَدَفَنَ هُوَ وَقَوْمُهُ سُيُوفَهُمْ فِي الرَّمْلِ وَدَعَا الْمَلِكَ وَقَوْمَهُ، فَجَاءُوا يَرْفُلُونَ فِي حُلَلِهِمْ، فَلَمَّا أَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ وَمَدُّوا أَيْدِيَهُمْ يَأْكُلُونَ، أَخَذَتْ جَدِيسٌ سُيُوفَهُمْ مِنَ الرَّمْلِ وَقَتَلُوهُمْ وَقَتَلُوا مَلِكَهُمْ وَقَتَلُوا بَعْدَ ذَلِكَ السَّفَلَةَ.
ثُمَّ إِنَّ بَقِيَّةَ طَسْمٍ قَصَدُوا حَسَّانَ بْنَ تُبَّعٍ مَلِكَ الْيَمَنِ فَاسْتَنْصَرُوهُ، فَسَارَ إِلَى الْيَمَامَةِ، فَلَمَّا كَانَ مِنْهَا عَلَى مَسِيرَةِ ثَلَاثٍ قَالَ لَهُ بَعْضُهُمْ: إِنَّ لِي أُخْتًا مُتَزَوِّجَةً مِنْ جَدِيسٍ يُقَالُ لَهَا الْيَمَامَةُ تُبْصِرُ الرَّاكِبَ مِنْ مَسِيرَةِ ثَلَاثٍ، وَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تُنْذِرَ الْقَوْمَ بِكَ، فَمُرْ أَصْحَابَكَ فَلْيَقْطَعْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْهُمْ شَجَرَةً فَلْيَجْعَلْهَا أَمَامَهُ.
فَأَمَرَهُمْ حَسَّانُ بِذَلِكَ، فَنَظَرَتِ الْيَمَامَةُ فَأَبْصَرَتْهُمْ فَقَالَتْ لِجَدِيسٍ: لَقَدْ سَارَتْ إِلَيْكُمْ حِمْيَرُ. قَالُوا: وَمَا تَرَيْنِ؟ قَالَتْ: أَرَى رَجُلًا فِي شَجَرَةٍ مَعَهُ كَتِفٌ يَتَعَرَّقُهَا أَوْ نَعْلٌ يَخْصِفُهَا، وَكَانَ كَذَلِكَ، فَكَذَّبُوهَا، فَصَبَّحَهُمْ حَسَّانُ فَأَبَادَهُمْ، وَأُتِيَ حَسَّانُ بِالْيَمَامَةِ فَفَقَأَ عَيْنَهَا، فَإِذَا فِيهَا عُرُوقٌ سُودٌ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَتْ: حَجَرٌ أَسْوَدُ كُنْتُ أَكْتَحِلُ بِهِ يُقَالُ لَهُ الْإِثْمِدُ، وَكَانَتْ أَوَّلَ مَنِ اكْتَحَلَ بِهِ. وَبِهَذِهِ الْيَمَامَةِ سُمِّيَتِ الْيَمَامَةُ، وَقَدْ أَكْثَرَ الشُّعَرَاءُ ذِكْرَهَا فِي أَشْعَارِهِمْ. ] ( 1/321) .
-28-
فهذه القصة التي يتناقلها الإخباريون هي أقرب للإسطورة منها للواقع وفيها مالا يقبله العقل ، و مثل تسليم جديس بناتهم لعمليق ملك طسم لينتهك أعرضهن ، و قصة زرقاء اليمامة التي تبصر مسيرة ثلاث أيام ، ووضوح الإختلاق في الأشعارالتي قيلت على ألسنتهم .
وعلق الشيخ حمد الجاسر في كتاب مدينة الرياض عبر أطوار التاريخ على قصة طسم وجديس : [ويروي المؤرخون في سبب هلاك هاتين الأمتين قصة هي إلى الخرافة أقرب منها إلى الحقيقة ] (23) ، ورأى د.محمد مهران بيومي في كتابه دراسات في تاريخ العرب القديم : [ ومن هنا، فإننا نرفض هذه القصة هنا وهناك، نرفضها لأنها لا تتفق مع الخلق العربي والكرامة العربية، نرفضها لأنها تتعارض تمامًا وأخلاق العرب الذين كانوا يشعلون نار الحرب لأقل كلمة يمكن أن تفسر على أنها إنما تسيء إلى الشرف والعرض الذي كان -وما زال وسوف يظل إن شاء الله- من أقدس ما يحافظ العربي عليه، ثم هل هذا الشعر العربي الفصيح يمكن أن يكون من قول "عفيرة" جديس، وأخيرًا فإن قصة زرقاء اليمامة هذه، إنما رويت في مكان آخر عند حديث الإخباريين عن تفرق ولد معد، وقريب منها ما جاء في قصة "الزباء" ملكة تدمر المشهورة ] (152).
وجاء في كتاب موجز دائرة المعارف الإسلامية لمجموعة من المستشرقين : [وهذه القصة ؛ وهي فى كثير من سماتها مجرد أسطورة، ولكنها قد تمُت إلى حادثة تاريخية فى بعض أجزائها والراجح أن الشذرات التى بقيت منها فى المصادر مقطعات من الشعر القديم فى صورة الأغنية الشعبية، هى بقايا أسطورية لأغنية قصصية ] .(22/868).
ولِما في القصص التي تتناقلها العرب عن طسم وجديس من مبالغات نجد أن العرب تضرب بها المثل فيقال : أَحَادِيثُ طَسْمٍ وَأَحْلاَمُها. فهذا المثل يضرب للقصص المكذوبة . ( مجمع الأمثال لأبو الفضل الميداني ص 204 ) .
فبناء على ما سبق يتبين بأن القصة المتناقلة عن طسم وجديس في مجملها أسطورة مكذوبة ، وقد تكون بُنيت على شذرات من الحقيقة فزاد فيها الإخباريون وأنقصوا .
وأما القول بأن سبب إبادة طسم و جديس هو امتناعهم عن دفع الخراج ، فهذا -في اعتقادي- غير صحيح ، لأنه يتبين لنا على هذا القول بأن هدف الغزو مادي ، فإذا أفناهم وأبادهم الملك الحميري كما يزعمون ، وصل هذا الحاكم إلى نفس النتيجة المسببه للحرب وهي انقطاع الخراج بفناء طسم وجديس ، فما الفائدة إذاً في أن يتكلف هذا الجهد الشاق ويقطع الصحاري والمفازات بحملة ضخمة ومكلفة مادياً ليصل إلى نفس النتيجة السابقة ، فهذا السبب في نظري غير مقنع .
وهنا نتسأل : ما هي القصة الأقرب والأوفق للحقيقة وللسنن الإلهية ؟
[ ومما لا شك فيه أن ما حصل لطسم وجديس من النهاية المؤلمة كان عقوبة لهم من الله عز وجل بسبب كفرهم لنعمته وغمطهم إياها فقد كانت بلادهم أفضل البلاد وأكثرها خيراً ، فيها صنوف الشجر والأعناب وهي حدائق ملتفه وقصور مصطفة ، ولكنهم لم يشكروا نعمة الله بل أطغتهم النعمة ] ( 106/2 من كتاب منطقة الرياض دراسة تاريخية وجغرافية وإجتماعية لمجموعة من المؤلفين )
-29-
فالمتأمل في ما وقع لطسم وجديس من إهلاك وفناء ، يجد أنه يشير إلى أنه عقوبة إلهية ، وقد أكد هذا ابن عاشور في تفسيره : [ وَأَهْلُ الْمُدُنِ الَّذِينَ أَهْلَكَهُمُ اللَّهُ لِظُلْمِهِمْ كَثِيرُونَ، مِنْهُمْ مَنْ ذُكِرَ فِي الْقُرْآنِ مِثْلُ عَادٍ وَثَمُودٍ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُذْكَرْ مِثْلَ طَسْمٍ وَجَدِيسٍ وَآثَارُهُمْ بَاقِيَةٌ فِي الْيَمَامَةِ ] (17/ 286 ) ، وكذلك المسعودي في مروج الذهب : [ وهم أهل مظالم وقد غمطوا النعمة ، وأنتهكوا الحرمة ] (2/136) .
فمن المؤكد أن ما حدث لهم هو عقوبة إلهية كما حصل لغيرهم من الأمم الظالمة ، وهنا ننتقل إلى أمر أخر:
من سنن الله الثابتة التي أكدها القرآن الكريم أن الله لا يهلك أمة إلا بعد أن يبعث فيها رسول ، وذلك حتى تنقطع حجتهم :
قال تعالى : ﴿ وما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرى حَتّى يَبْعَثَ في أُمِّها رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آياتِنا وما كُنّا مُهْلِكِي القُرى إلّا وأهْلُها ظالِمُونَ﴾ القصص59 ،
وكذلك قال تَعالى: ﴿ذَلِكَ أنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرى بِظُلْمٍ وأهْلُها غافِلُونَ﴾ الأنعام 131
وكذلك قال : ﴿ وَإنْ مِن أُمَّةٍ إلّا خَلا فِيها نَذِيرٌ﴾ فاطر: ٢٤
وقوله : ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنا في كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطّاغُوتَ﴾ النحل:36
وبناء على هذه القاعدة الإلهية ، فإنها تُشير إلى أن الله أرسل لطسم وجديس رُسل قبل وقوع العذاب عليهم ، فهذا مقتضى العدل الإلهي .
هنا نتسأل هل ذُكر في التاريخ أو المصادر القديمة رُسل أرسلوا في إقليم اليمامة ، وقد يكون لهم علاقة بطسم وجديس ، وفي فترة قريبه من زمنهم .
ذكر الهمداني في الإكليل أن الأقيون ( أصحاب الرس ) كانوا يسكنون في حَجَر اليمامة مع طسم جديس : [ وفيها يقول إمرؤالقيس :
وألحق ال أقيان بحُجر ولن ينفعهم عدد و مال
وأما بني الحرث بن الأقيون بن قحطان فكانوا إلى قِـدِم بحجر اليمامة متواسين على طسم وجديس ] (8/85)
وهذا نص واضح يدل على ( علاقة ما ) تجمع الأقيون (أصحاب الرس) بطسم وجديس فهم مع بعضهم البعض في نفس الحقبة الزمنية وفي نفس المكان أي حَجر اليمامة .
إلا أننا نجد أن الهمداني يُزعم أن العلاقة بينهم هي علاقة جِوار فقط ( متواسين ) وليست علاقة نسب ! فالأقيون من قحطان !
و رفض هذا الزعم الشيخ حمد الجاسر في ندوة بعنوان ( تاريخ مدينة الرياض ) بتاريخ 1402/3/7 هـ بجامعة الرياض ( جامعة الملك سعود حالياً ) :
-30-
قال الشيخ حمد الجاسر : [هذه الأمم القديمة سكن اليمامة - وحديثنا عن مدينة الرياض - سكنَ اليمامة منها طسم وجديس ،
أولاً سكن اليمامة هزان الأولى ، زهران الأولى ، زهران وهزان ،
ليست زهران الأزدية القحطانية
زهران الأولى ، وهزان الأولى
زهران الأولى أولاً
وسكن اليمامة الأقيون الذين يرى بعض المؤرخين أنهم أهل الرس الذين ذكرهم الله في القرآن الكريم ، ويفسرون الرس بأنه الأفلاج ، ومن المعروف أن المفسرين اختلفوا في هذا ، وعلى كل حال ، فما ذهب إليه بعض المفسرين من هذه الناحية هو على أقل تقدير يرشدنا ، إلى أن هناك أمة يقال لهم أهل الرس وأنهم سكنوا في اليمامة ، سواء كانوا المذكورين في القرآن أو غيرهم ، ومن الأمم التي سكنت أيضاً اليمامة غير الأقيون ، ويلاحظ أن بعض النسابين ، وخاصة من اليمنيين يرجعون الأقيون إلى قحطان ، وأعتقد أن هذا متأثر بالعصبية بين العدنانيين والقحطانيين ، فالهمداني وهو علامة اليمن و الذي نال من كل علم في عهده طرفاً وألف فيه مؤلفاً هذا العالم الذي عاش في أول حياته جمالاً ينقل الحجاج من صعدة إلى مكة ، لو سلم من تعصبه في كتبه ، لكانت كتبه من أجل ما يعتمد عليه ، هو في كتبه يرجع زهران الأولى ويرجع الأقيون ويرجع كثيراً من الأمم البائدة إلى قحطان، ولكنني أعتقد أن هذا من أثر العصبية للقحطانيين لأنه قحطانيين ليس إلا ] .
فنلاحظ ان الشيخ حمد الجاسر أثبت أن أصحاب الرس (الأقيون) سكنوا حَجر اليمامة ،
ثم ذكر إشكال : أن أصحاب الرس كانوا يسكنون فلج اليمامة ( الأفلاج) .
والجواب على هذا الاشكال : أن أصحاب الرس (الأقيون) كان لهم دولة واسعة وكان من ضمن مدنهم الفلج و حجر اليمامة ، ذكر ذلك ابن الكلبي : [ والرَّسُ فيما بين نَجْران واليمن من حضرمَوتٍ الى اليَمامة. ] . كتاب نسب معد واليمن الكبير(1/131)
فلا إشكال في ورود إسمهم في حجر اليمامة ، وفي الفلج كذلك ، فكلا المدينتين تقع في دولتهم الواسعة .
وأما رفض الشيخ حمد الجاسر نسبة الأقيون إلى قحطان، فهو مبني على معرفته بطغيان العصبية القبلية على الهمداني !!
وقد توسع الشيخ حمد الجاسر في نقد الهمداني نقداً علمياً دقيقاً في حفل في النادي الأدبي عام 1408هـ فذكر ما للهمداني من مأثر وما عليه من مأخذ ، وذكر من المأخذ عليه العصبية القبلية والهوى الذي يعمّي ويصمّ :
-31-
هنا نتسأل هل علاقة الأقيون بطسم وجديس علاقة جوار ؟!!
دعونا نتأمل قصيدة إمرؤ القيس كاملة ( انظر الإكليل للهمداني ص 31) :
لشيء ما بقيت وكل شيء **** سيوديِ مثل ما اودت هُمال
وأبرهةُ الذي زالت قواه **** على ريدان إذ حال الزوال
تمكن قائما ونبا طمراً **** على ريدن أعيط لا ينال
ودار بني سواسة في رُعين **** تـُحط إلى جوانبها الرحال
وألحق ال أقيان بحجر **** ولم ينفعهم عدد ومال
فالقصيدة كاملة تتحدث عن صروف الدهر وتقلب الزمان بأهله ، وذكر إمرؤ القيس الأمثلة على ذلك ، فذكر ما حصل لأبرهة الحبشي وغيره ، وختم بما حصل على الأقيون أهل حجر اليمامة إذ لم ينفعهم كثرتهم ولا أموالهم ..
هنا نتوقف قليلاً : لماذا ذكر إمرؤ القيس الأقيون ، ولم يذكر طسم وجديس ، مع أنه كلا الأمتين أصابهم الفناء !!
ونتوقف كذلك عند وصف إمرؤ القيس الأقيون بأنهم كانوا أصحاب عدد ومال ، فإذا كانوا كذلك ، لماذا لم يأخذوا الحكم من طسم وجديس بل بقوا ( كما يزعم الهمداني ) متواسين أي مجاورين لطسم وجديس !!
ثم إن الشيخ حمد الجاسر يؤكد أن الأقيون ليسوا من قحطان ،،، هنا نتسأل إلى من ينتسب الأقيون ؟
بعد تأمل واستقراء للمعطيات : وجدت أن الأدلة تؤكد أن الأقيون ماهم إلا طسم وجديس ، أي مسميان لأمة واحدة ، لذا نجد الشاعر إمرؤ القيس إكتفى بذكر الأقيون عن ذكر طسم وجديس .
ويدل على ذلك :
أولا : وجود الكثير من القواسم المشتركة بين أصحاب الرس ( الأقيون) وطسم وجديس وهي :
1- النسب :
فجميعهم يُـنسبون لقوم عاد .
فأصحاب الرس من عاد ، كما وضحنا ذلك سابقاً ،
وكذلك طسم وجديس : فهما قبيلتان يرجع نسبهما إلى قوم عاد .
ذكر ذلك ابن منظور في لسان العرب :[وجَدِيسٌ: حَيٌّ مِنْ عادٍ وَهُمْ إِخوة طَسْمٍ. وَفِي التَّهْذِيبِ: جَديسٌ حَيٌّ مِنَ الْعَرَبِ كَانُوا يُنَاسِبُونَ عَادًا الأُولى ] (6/35) وذكر كذلك :[ طَسْمٌ قَبِيلَةٌ مِنْ عَادٍ ] .(12/363)
2- توزيع القبيلة :
وينقسم أصحاب الرس إلى قبيلتين هما : أدمان ويامن ذكر ذلك المسعودي في مروج الذهب عن أصحاب الرس: [ وهم قبيلتان: أدمان ويامن ] (1/65)
وكما هو معلوم أن طسم وجديس قبيلتان كذلك .ذكر ابن منظور في لسان العرب : [وجَدِيسٌ: حَيٌّ مِنْ عادٍ وَهُمْ إِخوة طَسْمٍ] (6/35).
3- الزمان :
عاش الأقيون (أصحاب الرس) مع طسم وجديس في نفس الفترة الزمانية : [ وأما بني الحرث بن الأقيون بن قحطان فكانوا إلى قِـدِم بحجر اليمامة متواسين على طسم وجديس ] الإكليل(8/85)
-32-
4- المكان :
كلاً من أصحاب الرس ( الأقيون) و طسم وجديس عاشوا في أقليم اليمامة ، وكان لهم تواجد:
* في الأفلاج /
قال ابن عاشور عن أصحاب الرس : [والأكْثَرُ عَلى أنَّهُ مِن بِلادِ اليَمامَةِ ويُسَمّى فَلْجًا ] (التحرير والتنوير 19/28).
وذكر الهمداني في صفة جزيرة العرب في وصفه للفلج : [ القصر العادي من عهد طسم وجديس ] (160) .
* وفي حجر اليمامة /
ذكر ذلك الهمداني في الإكليل : [ وأما بني الحرث بن الأقيون بن قحطان فكانوا إلى قِـدِم بحجر اليمامة متواسين على طسم وجديس ] (8/85)
5- تتصف قصورهم ومساكنهم بالعظمة والضخامة في البناء :
وقد ذكرنا ذلك عن أصحاب الرس فقد قال الله عنهم [ وبئر معطلة وقصر مشيد ] وكذلك أشار الله تعالى إلى مساكنهم فقال [وَٱرۡجِعُوۤا۟ إِلَىٰ مَاۤ أُتۡرِفۡتُمۡ فِیهِ وَمَسَـٰكِنِكُمۡ ] فالإشارة إلى المساكن وقرنها بالترف تدل على أنهم كانوا يمتلكون مساكن فارهه وقصور عظيمة .
وأما طسم وجديس فقد نقلت لنا المصارد القديمة وصف مساكنهم الفارهة وقصورهم العظيمة ، فقد كتب الهمداني في صفة جزيرة العرب عن قصر عظيم في الافلاج : [القصر العادي : من عهد طسم وجديس ، وصفته أن بانيه : بنى حصناً من طين ثلاثين ذراعاً دكّه ، ثم بنى عليه الحصن ، وحوله منازل الحاشية للرئيس الذي يكون فيه ، والأثل والنخل ](ص160)
وذكر ابن الفقيه في كتاب البلدان جانب من قصورهم في حجر اليمامة : [قصر مشيّد عجيب من بناء طسم، ومعنق : قصر عبيد بن ثعلبة وهو أشهر قصور اليمامة من بناء طسم على أكمة مرتفعة، والثّرمليّة حصن من حصون طسم] (87).
وكتب الشيخ حمد الجاسر عن طسم : [ ويفهم من كلام المتقدمين أن قبيلة طسم كانت أمة عمرانية متحضرة ] (الرياض عبر أطوار التاريخ 18-20).
6- إستخدامهم للشيد ( الجص) في قصورهم :
قال الله في منازل أصحاب الرس { وبئر معطلة وقصر مشيد } والشيد هو الجص ،
ووصف ابن الفقيه قصر لطسم في حجر اليمامة فقال : [ وبتيل حجر عليه قصر مشيّد عجيب من بناء طسم ] .
و قال عبيد الحنفي عندما نزل منازل طسم وجديس ابيات منها :
حللنا بدار كان فيها أنيسها ... فبادوا وخلّوا ذات شيد حصونها . ( معجم ما إستعجم ص84)
7- تعرضوا لغزو خارجي من بعيد :
فأصحاب الرس تعرضوا لغزو من العراق .
وطسم وجديس - كما يروي الإخباريون - تعرضوا لغزو من اليمن .
8- نتيجة الغزو : الهلاك وزوال الدولة :
فأصحاب الرس هلكوا نتيجة الغزو وزالت دولتهم ، وكذلك طسم وجديس .
-33-
فهذا التشابه العجيب بينهم في :
نسبهم لقوم عاد ، وفي توزيعهم وإنقسامهم إلى قبيلتين ، وكذلك تواجدهم نفس في الأماكن ، وفي نفس الحقبة الزمنية ، وفي إهتمامهم بالحضارة المعمارية ، وفي تعرضهم لغزو خارجي ، وفي النهاية الأليمة وزوال الدولة ، تشير إلى نتيجة شبه مؤكدة أن أصحاب الرس ما هم إلا طسم وجديس والله أعلم .
ثانياً : وجود بعض القرائن والإشارات تؤكد لنا إنتقال بقية من طسم وجديس إلى الشام ، كما حصل مع أصحاب الرس ( الأقيون):
1- ذكرت المصادر التاريخية و النقوش الصخرية تواجد لطسم وجديس في الشام ، بالقرب من السامرة التي هُجر لها أصحاب الرس :
أ- ذكر الهمداني في صفة جزيرة العرب :[ وإن أخذت يسرة وقعت في الحيانيات وما يليها ديار القين حيث كانت بقية من جديس إخوة طسم ] (245) والحيانيات تقع في تخوم الشام .
ب- تم العثور بالقرب من السامرة ( التي تم تهجير أصحاب الرس لها ) على نقش يذكر طسم !
[عثر في "صلخد" أقصى جنوب سوريا ، على نص يوناني يرجع إلى عام 322م، جاء فيه "أنعم طسم"] ( دراسات في تاريخ العرب القديم د.محمد بيومي مهران ص 179)
والتفسير الأقرب لهذا التواجد لطسم وجديس في تلك الجهات والأمكنة البعيده عن إقليم اليمامة هو ما ذكرنا من تهجير طسم وجديس في الحملة العسكرية على أصحاب الرس .
2- تشابه اسم طسم مع مسميات القبائل الثمودية في النقوش المكتشفة شمال الجزيرة العربية :
أ- تم العثور على نقش في قصر تمرة بالقرب من تبوك يذكر مسمى لـقبيلة ثمودية تسمى ( تشم ) واعتقد أنه تحريف لمسمى قبيلة طسم :[ حدال من قبيلة تشم ] .(ص127 من كتاب القبائل الثمودية والصفوية لمحمود الروسان) .
ب- تم العثور على نقش في وداي السرحان يذكر قبيلة ثمودية تسمى ( أنعم ) : [ من قبيلة أنعم . وحزن على أخيه وعلى أخته وعلى صلل ] .( القبائل الثمودية والصفوية .دراسة مقارنة لمحمود الروسان ص 94) وكما ذكرنا سابقاً أنه عُثر على نقش في صلخد ينسب ( أنعم ) إلى قبيلة طسم [ أنعم طسم ] ( دراسات في تاريخ العرب القديم د.محمد بيومي مهران ص 179) .
3- ورد اسم طسم في التوراة باسم ( لتوشيم ) كبطن من قبيلة ديدان : يذكر ذلك د. محمد بيومي مهران في كتاب دراسات في تاريخ العرب القديم : [ لقد حدثتنا التوراة عن كثير من القبائل العربية، ومن بينها قبيلة "طسم" التي دعتها "لتوشيم" وأنها إحدى بطون قبيلة "ديدان" الموجودة في العلا ] (148).
وتواجد طسم في العلا مع قبيلة لحيان قد يفسره لنا تهجّيرهم للشام ثم نزوحهم إلى العلا ، وهذا يشير إلى صحة ما ذهب إليه بعض المؤرخين أن لحيان فرع من ثمود ، بدليل ذكر قبيلة طسم الثمودية في فروع قبيلتهم .
-34-
4- ذكر الزبيدي في تاج العروس أن أحد أفراد قبيلة طيّ - التي تقطن شمال الجزيرة العربية - أسلم وقام بتحطيم ( كَثرَى) صنم طسم و جديس و قَـدِم على الرسول صلى الله عليه وسلم : [كَثرَى، كسَكْرى: صَنَمٌ كَانَ لجَديسٍ وطَسْمٍ، كَسَرَهُ نَهْشَلُ بنُ الرُّبَيْسِ بن عَرعَرَةَ، ولحِقَ بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وسلَّم، فأَسلمَ، وكتبَ لَهُ كِتاباً: قَالَ عَمْرو ابْن صَخْرِ بن أَشنع:
(حَلَفْتُ بكَثْرَى حَلْفَةً غَيرَ بَرَّةٍ ... لتُسْتَلَبَنْ أَثوابُ قُسِّ بنِ عازِبِ] (14/20).
فبقاء صنم طسم وجديس في شمال الجزيرة العربية يشير إلى صحة انتقال طسم وجديس إلى تلك المناطق أثناء التهجير السابق الذكر .
* موقع حضور ( إستنتاج محتمل ) /
سار أكثر المفسرين والمؤرخين أن حضور هي بلدة أصحاب الرس ، كابن كثير في تاريخه (1/227) وابن خلدون في تاريخه (2/26) تبصير المنتبه بتحرير المشتبه لابن حجر العسقلاني ( 4/1327) وغيرهم .
وذهب اخرون إلى التفريق بين أهل الرس وبين أهل حضور ، كالطبري في تاريخه (1/558) والسهيلي في الروض الأنف (1/37) والقرطبي في تفسيره (11/274) و البغدادي في المحبر (132) وكذلك أ.د جواد علي في المفصل (11/84) ، يذكر ذلك الطبري بقوله : [ عدا أهل الرس على نبيهم فقتلوه، وعدا أهل حضور على نبيهم فقتلوه] (1/558)، فلو أخذنا بهذا القول فمعلوم أن أصحاب الرس بفلج اليمامة ، ولكن أين هي [ حضور ] التي يبدو أن لها ارتباط بأصحاب الرس ؟
يظهر من النص أن أهل حضور كذلك في اليمامة ، لأن النص قد جمع بينهم ، فيشير ذلك إلى قربهم منهم ، ولو إستعرضنا بلدان اليمامة فإننا لا نجد إسم حضور أو حتى إسم قريب منه ، إلا أنه يوجد نص للهمداني كأنه يشير لإسم قديم لأحد بلدان اليمامة بإسم حضورعندما كانت بأيدي طسم وجديس ، فقد ذكر الهمداني في صفة جزيرة العرب [ "خضراء حجر"، التي إلتقطها عبيد بن ثعلبة الدول ولم يشرك فيها أحد وهي حضور طسم و جديس، وفيها آثارهم وحصونهم وبتلهم ] (308) .

انظر للمخطوطة من جامعة الملك سعود
وقد وهِم بعض محققي الكتاب فظن أن كلمة ( حضور ) أنها تحريف من النساخ لكلمة ( حصون ) وهذا غير صحيح لأن الهمداني ذكر كلمة حصون بعدها فقال [ وهي حضور طسم وجديس وفيها أثارهم وحصونهم ] فلو جعلنا كلمة حضور : حصون ، لإختل المعنى وسبك العبارة فكيف يقال : حصون طسم وفيها حصونهم !! فالصحيح هي ما كُتب ، وهو حضور ، أي مدينة (حضور طسم وجديس) كما يقال عقيق عُقيل أو هجر عبد القيس ، وقد نسب الهمداني حضور لطسم وجديس للتفريق بينها وبين حضور أخرى ذكرها في كتابه وهي حضور بني أزاد . ( أنظر ص185 ، 235 ،426 ) .
-35-
وبعض المحققين أثبتها ( حضور ) ولكن ذهب إلى أن معناها ( عاصمة ) وهذا في نظري غير صحيح لأنه باستعراض إسلوب الهمداني في كتابه لا تجد أنه وصف عاصمة بأنها ( حضور) بل يصفها بأوصاف أخرى مثل قوله [ صنعاء وهي أم اليمن وقطبها ] (55) [جرش وهي كورة نجد العليا ](117) [ صعدة وهي كورة بلاد خولان ](67) ، كذلك باستعراض إسلوب الهمداني في كتابه لا تجد كلمة حضور يستعملها كصفة لمدينة ، بل نجدها اسم لموضع كما في الصفحات ( 122 ، 123 ، 133 ،157 ، 158 ،210 ،211 ، 212، 213 ،216 ، 226 ،238 ،239، 310 ، 366 )، فمما سبق قد يتبين لنا أن حضور هو اسم قديم لمدينة خضراء حجر في زمن طسم وجديس .
كما أن النظر في مدلول كلمة [حاصور] وأصلها اللغوي ، نجدها بنفس معنى [ حَجَر ] فهي مطابقة لها في المعنى ، يذكر أ. د جواد علي في المفصل في تاريخ للعرب : [وتعني كلمة "حاصور" "hazor" "hasor" وجمعها "hazerim" "haserim" ما تعنيه لفظة "حيرتا" "herta" في الإرمية و "الحيرة" في العربية، من معنى "محاط" أي "محصور" "محاصر"، بمعنى الحصن أو الأمكنة المحاطة المحصورة أو "المضرب" و "الحمى". ] (352/1) .
وذكر ياقوت الحموي في معجم البلدان [ الحجر وهو في اللغة ما حجرت عليه أي منعته من أن يوصل إليه، وكل ما منعت منه فقد حجرت عليه] (220/2) فهذا المعنى كذلك مطابق لمعنى لكلمة حاصور ، زد على ذلك أن كلمة حَجَر من ضمن تصريفها اللغوي [ حاجور ] على وزن [ حاصور ] تماماً وبنفس معناها ، جاء في لسان العرب لابن منظور في شرح كلمة حجر : [ وأَنشد:
حتى دعونا بأَرحام لها سلفت*****وقال قائلهم: إِني بحاجور
يعني بِمَعاذ؛ يقول: أَنا متمسك بما يعيذني منك ويَحْجُرك عني ] .
وعلى هذا فحاصور هي حضور طسم وجديس أي حجر اليمامة .
وهنا تتضح لنا الصورة العامة لأهم مدينتين في اليمامه لطسم وجديس (أصحاب الرس ) فهما :
الفلج وتسمى في عهد طسم وجديس بـ ( وبار) و حَجر اليمامة وتسمى في عهد طسم وجديس بـ ( حضور )
واندثرت هذه الأسماء وتغيرت بسبب خلو أرض العرب من السكان إلا ما قلّ بسبب الإبادة التي قام بها الملك الأشوري سرجون الثاني لطسم وجديس وتهجير من بقي منهم إلى السامرة كما ذكر الهمداني : [وأرض العرب يومئذ خاوية وليس فيها بتهامتها ونجدها وحجازها وعروضها كثير أحد لإخراب بخت نصرّ آيها وإجلاء أهلها إلا من كان اعتصم منهم برؤوس الجبال وشعابها ولحق بالمواضع التي لا يقدر عليه فيها أحد ] صفة جزيرة العرب( 1/46) .
وأخيراً : ذكر الطبري في تاريخه : [ عدا أهل الرس على نبيهم فقتلوه، وعدا أهل حضور على نبيهم فقتلوه] فقد أشار الطبري إلى رسولين إرسلوا إلى أصحاب الرس وأهل حضور ، وقد يمكن التعرف على اسمائهم من هذه النصوص :
* رسول وبار: هو حنظلة بن صفوان جاء ذلك تفسير البغوي وغيره عند الحديث عن أصحاب الرس: ( وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كَانَ لَهُمْ نَبِيٌّ يُقَالُ لَهُ حَنْظَلَةُ بْنُ صَفْوَانَ فَقَتَلُوهُ فَأَهْلَكَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى.) .(6/84) ، وذكر ذلك أ.د جواد علي في كتاب المفصل في تاريخ العرب : ["حنظلة بن صفوان"، كان نبيًّا بعثه الله إلى "أهل الرس"، فكذبوه وقتلوه، عاش في أيام "بختنصر"] (11/84) .
* رسول حضور: هو شعيب بن ذي مهدم ، جاء ذلك في تفسير الطبري وغيره : [ أَرَادَ أَهْلَ حَضُورَ وَكَانَ بُعِثَ إِلَيْهِمْ نَبِيٌّ اسْمُهُ شُعَيْبُ بْنُ ذِي مَهْدَمٍ ](11/274) ، وذكر ذلك أ.د جواد علي في المفصل في تاريخ العرب : [وذكر أهل الأخبار اسم نبي أرسل إلى أهل "حضور" اسمه "شعيب بن ذي مهدم" فقتلوه. فاستأصلهم "بختنصر ] (11/84) .
-36-
بعد أن عرفنا قصة أصحاب الرس (طسم وجديس) ، وما كان من مصيرهم المروع والإبادة الشاملة التي أفنتهم ، نعود للأيات التي تحدثت عنهم ونرى ما مدى توافقها مع القصة التي سقناها من بطون الكتب المصادر التاريخيه ، ومدى توافقها مع قصتهم في القران الكريم الذي لا يـأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فهو الحَكَم في مثل هذه القصص ، قال تعالى :
{وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَىٰ مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّىٰ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)}
هذه الأية ذكر الكثير من المفسرين كالقرطبي(274/11) والبغوي(312/5) والشوكاني(473/3) و الرازي(396/18) وغيرهم أنها نزلت في أصحاب الرس :
فلو تأملناها واستنتجنا منها بعض اللمسات البيانية لوجدنا أنها تشير بالفعل إلى صدق القصة التي ذكرتها الكتابات المسمارية لملوك العراق وما ذكرته المصادر العربية لمصير أصحاب الرس من الهلاك بالإبادة بالسيف وليس بما ذكره بعض المؤرخين أنهم أهلكوا بخسف أو بسحابة سوداء :
* مما يشير إلى أن الآيات السابقة نزلت في أصحاب الرس : أن سورة الأنبياء ذكر الله فيها الكثير من الأقوام والأنبياء تصريحاً ، ولم يصرح بذكر أصحاب الرس ، مما يدل على صحة ما ذكره العلماء أنهم هم المذكورين في الأيات السابقة .
*في ذكر تفاصيل موقفهم عند نزول العذاب : من الركض وهو ضرب الراكب للدابة برجله { إذا هم يركضون } ، ثم التوبيخ الذي تعرضوا له أثناء ركضهم { لا تركضوا وارجعوا إلى ما أترفتم فيه ومساكنكم } ، ثم قولهم { إنا كنا ظالمين } وتردديدهم لها { وما زالت تلك دعواهم } ، ثم ذكر النتيجة النهائية { جعلناهم حصيداً خامدين } : فذكر هذه التفاصيل وترتيب تسلسلها ما يشير إلى أن هذه الأيات نزلت في قصة معينه وهذا ما ذهب إليه ابن عباس (الألوسي 9/16) وليست عامة لجميع الأمم المعذبه كما ذهب له بعض المفسرين .
*في قوله تعالى { وكم قصمنا من قرية }
فـ (كم) [ تَنْبِيهٌ عَلى كَثْرَتِهِمْ فَكَمْ خَبَرِيَّةٌ مُفِيدَةٌ لِلتَّكْثِيرِ ] تفسير الألوسي (16/9) : وفي هذا إشارة إلى كثرة قرى أصحاب الرس ، فليست قرية واحدة أو اثنتان ، مما يدل على صحة ما ذكره ابن الكلبي والهمداني في أن دولة أصحاب الرس من حضرموت إلى اليمامة.
*وفي قوله ( قصمنا ) : [ أَصْلُ الْقَصْمِ: أَفْظَعُ الْكَسْرِ؛ لِأَنَّ الْكَسْرُ يُبَيِّنُ تَلَاؤُمَ الْأَجْزَاءِ، بِخِلَافِ الْفَصْمِ - بِالْفَاءِ - فَهُوَ كَسْرٌ لَا يُبَيِّنُ تَلَاؤُمَ الْأَجْزَاءِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَالْمُرَادُ بِالْقَصْمِ فِي الْآيَةِ: الْإِهْلَاكُ الشَّدِيدُ.](أضواء البيان للشنقيطي 4/138)
ففي هذا دلالة على الزوال النهائي للأمة بما لا يمكن جمعها وإمكانية قيامها كدولة مره أخرى وهذا يناسب ما حصل مع (طسم وجديس أي أصحاب الرس) فقد أبيدوا وتقطعوا بما لا يمكن جمع دولتهم وقيامها مره أخرى .
* وفي قوله تعالى { وأنشأنا بعدها قوماً أخرين } : [فيه تَنبيهٌ على استئصالِ الأوَّلينَ، وقطْعِ دابِرِهم بالكُلِّيَّةِ] (تفسيرابيالسعود 6/58)
وهذا يناسب ما حصل (لطسم وجديس أي أصحاب الرس) فقد تم استئصالهم وأبيدوا بالكلية لذلك سموا بالعرب البائدة .
-37-
* وكذلك في قوله تعالى { وأنشأنا بعدها قوماً آخرين } :
[{وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا} أي بعد إهلاكها {قوما آخرين} أي ليسوا منهم نسباً ولا ديناً ] (تفسير أبي السعود 6/58)
وهذا ما حصل فقد إستخلف الله في ديار أصحاب الرس أقوام أخرين ليسوا من العرب البائدة بل من العرب الحاليين .
* وفي قوله تعالى ( وأنشأنا بعدها قوماً أخرين ) : فيه دلاله على أن ديار أصحاب الرس أنشأ الله أقوام أخرين فيها وأسكنهم فيها مما يدل على أنها ليست ديار عذاب يُمنع السكن فيها كما وقع لديار ثمود ، وكذلك يدل على أن هذه القرية بقيت ولم تصاب بخسف كما ذهب إليه البعض .
* مناسبة الأية لما قبلها : لو تأملنا الأيات التي قبل أيات أصحاب الرس لوجدناها خطاب تهديدي لمشركي مكة قال تعالى : {ٱقۡتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمۡ وَهُمۡ فِی غَفۡلَةࣲ مُّعۡرِضُونَ(1)مَا یَأۡتِیهِم مِّن ذِكۡرࣲ مِّن رَّبِّهِم مُّحۡدَثٍ إِلَّا ٱسۡتَمَعُوهُ وَهُمۡ یَلۡعَبُونَ} سورة الأنبياء
[قَالَ الضَّحَّاكُ: مَعْنَى "اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ" أَيْ عَذَابُهُمْ يَعْنِي أَهْلَ مَكَّةَ، لِأَنَّهُمُ اسْتَبْطَئُوا مَا وُعِدُوا بِهِ مِنَ الْعَذَابِ تَكْذِيبًا، وَكَانَ قَتْلُهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ.]( القرطبي 11/267)
وقد ذكر الله عز وجل أن أصحاب الرس -عند نزول العذاب بهم- قالوا : { يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} ثم تهدد كفار قريش بعذاب يقولوا بعده نفس ما قاله أصحاب الرس {وَلَىِٕن مَّسَّتۡهُمۡ نَفۡحَةࣱ مِّنۡ عَذَابِ رَبِّكَ لَیَقُولُنَّ یَـٰوَیۡلَنَاۤ إِنَّا كُنَّا ظَـٰلِمِینَ (46)} سورة الأنبياء مما يشيرإلى اتحاد نوع العذاب للجميع وهو القتل بالسيف .
وبالفعل وقع العذاب على مشركي مكة يوم بدر، وكان مشابهاً لعذاب أصحاب الرس من ناحيتين :
1- فجميعهم كان عذابهم بالقتل بالسيف في المعركة .
2- وكذلك كان للملائكة دور في المعارك .
ففي قصة أصحاب الرس سمعوا منادي يقول: {لا تركضوا وأرجعوا إلى ما أترفتم فيه لعلكم تسألون} ،[قالَ المُفَسِّرُونَ: هَذا قَوْلُ المَلائِكَةِ لَهم] (تفسير زاد المسير لابن الجوزي 3/186) وذكر الطبري في تاريخه [ثم نادى مناد من جو السماء: يا لثارات الأنبياء! فأخذتهم السيوف من خلفهم ومن بين أيديهم،](1/560) وجاء في تفسير النسفي : [فنودي من السماء يالثارات الأنبياء وأخذتهم السيوف ] (2/397)
ففي هذا إثبات لحضور الملائكة لمعركة أصحاب الرس وسماعهم لصوت الملائكة ومخطابتها لهم .
أما دور الملائكة في معركة بدر فمعروف ، فقد سمع المشاركين في المعركة صوتهم وشاهدوا قتلهم للمشركين : روى مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس، [ قَالَ: بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ فِي أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أَمَامَهُ، إِذْ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَهُ وَصَوْتَ الْفَارِسِ يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُومُ، فَنَظَرَ إِلَى الْمُشْرِكِ أَمَامَهُ فَخَرَّ مُسْتَلْقِيًا، فَنَظَرَ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ، وَشُقَّ وَجْهُهُ، كَضَرْبَةِ السَّوْطِ -[1385]- فَاخْضَرَّ ذَلِكَ أَجْمَعُ، فَجَاءَ الْأَنْصَارِيُّ، فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: «صَدَقْتَ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ»] (3/1383)
وإذا نظرنا إلى العذاب الذي وقع بأصحاب الرس نجد أنه إبادة واستئصال ، فهو أقوى بكثير مما وقع بالمشركين يوم بدر فقد قتل منهم سبعين رجل فقط ، لذلك نجد أن في قوله تعالى {وَلَىِٕن مَّسَّتۡهُمۡ نَفۡحَةࣱ مِّنۡ عَذَابِ رَبِّكَ لَیَقُولُنَّ یَـٰوَیۡلَنَاۤ إِنَّا كُنَّا ظَـٰلِمِینَ (46)} ثلاثُ مُبالَغاتٍ؛ الأُولى: ذِكْرُ المَسِّ وإسنادُه إلى النَّفحةِ دونَ فِعْلٍ آخَرَ، والمَسُّ أقَلُّ شَيءٍ، بل هو شَيءٌ رَقيقٌ جِدًّا؛ فكيف إذا انثالَ عليهم؟! الثَّانيةُ: ما في النَّفحةِ من معنى القِلَّةِ والنَّزارةِ، وتَنكيرُها. الثَّالثةُ: بِناءُ المرَّةِ مِن النَّفحِ، فمصدَرُ المرَّةِ يأْتي على (فَعْلَةٍ)، أي: نَفحةٌ واحدةٌ لا ثانِيَ لها تَكْفي لتَشتيتِ أمْرِهم، وتَوهينِ كِيانِهم، وتَصدُّعِ صُفوفِهم؛ فكيف إذا عُزِّزَت بثانيةٍ أو ثالثةٍ ؟! (تفسير الدرر السنية ).
* في قوله {حَتَّىٰ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ } : تأكيد أن العذاب هو بالقتل بالسيف وليس بالخسف أو بسحابة سوداء كما ذهب بعض المؤرخين ، لأن الحصد هو قطع الشيئ ومنه القتل بالسيف جاء في تاج العروس للزبيدي : [وَمن الْمجَاز: حَصَدَهم بالسَّيْفِ يَحْصُدُهُم حَصْداً: قَتَلَهم، أَو بالَغَ فِي قَتْلِهِمْ، واستأْصلَهم، مأْخُوذٌ مِن حَصْدِ الزَّرع.].
* قال تعالى { وَارْجِعُوا إِلَىٰ مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ } : دليل على بقاء مساكنهم ولم تصاب بخسف أزالها عن الوجود.
-38-
وقبل الختام أود أن أعطي لمحة بسيطة عن أقدم قصر مبني في تاريخ العرب ومازال قائم على هيئته وصفته التي وصفتها به الكتب ، وهو الأثر الوحيد لطسم وجديس ، والأعجب من هذا القصر هو عدم بروزه إعلامياً مع مكانته التاريخية العظيمة !!
يقول الهمداني عنه : [ القصر العادي : من عهد طسم وجديس ، وصفته أن بانيه : بنى حصناً من طين ثلاثين ذراعاً دكّه ، ثم بنى عليه الحصن ، وحوله منازل الحاشية للرئيس الذي يكون فيه ، والأثل والنخل ](ص160) أي بنى قاعدة ارتفاعها ٣٠ ذراع ثم بنى الحصن عليه . وهذا الحصن ما زال بهيئته التي ذكرها الهمداني ، وهو مرتفع عن الأرض بشكل عجيب ، فعندما تريد أن تدخل له لابد من أن تصعد إليه بصعوبة لارتفاع أرضيته عن سطح الأرض ، ومازالت جدرانه واقفة على هيئتها ، وقد قمت بقياس ارتفاع أحد جدرانه فوجدتها ترتفع حالياً عن سطح الأرض أكثر من خمسة عشر متراً، ومن المؤكد أنها أعلى من ذلك بكثير .


كانت هذه نهاية البحث التي أرجوا أن أكون وفقت في النتائج التي توصلت إليها ، ولا أعتبرها نهاية المطاف، بل أعرضها لكم للوصول إلى نتائج أدق وذلك بمشاركتكم البناءة بالنقد والتوجيه ، ولزيادة الفائدة العلمية أتمنى ممن يرى عدم صحة نتائج البحث أن يزود القراء بالرأي الأرجح في أصحاب الرس ويبين أدلته ، أما رفض النتائج بدون توضيح البديل لها وبلا أدله ، فلا أرى كثير فائدة منه .
* التوصيات /
ومن المناسب إدراج بعض التوصيات ، التي لاحظت أهميتها أثناء البحث والإطلاع على جوانب الموضوع :
1- سؤال يتكرر دائماً على علمائنا ومفكرينا:
ماهي أبرز إنجازات العرب قبل الإسلام إلتي أضافوها إلى الحضارة الإنسانية ؟
وقد تابعت إجاباتهم في كتبهم ومقابلاتهم وهي بلا شك كانت إجابات قيمة ومفيدة ، فقد تطرقوا جوانب متعددة من حضارة العرب قبل الإسلام ، إلا أنه هناك جانب مهم لم أجد أحد منهم تحدث عنه بتوسع ، وهو جانب اشتهر به العرب عن غيرهم من الأمم ، بل قد ذهب البعض إلى إنفرد العرب به ، ألا وهو صناعة الذهب وإستخراجه ، فقد ذكرالجغرافي اليوناني سترابو ( Strabo ) المولود عام 64 ق. م :[ الذهب لا يعدن في بلاد العجم لكن في بلاد العرب ] ( I.XVI.STRABO. ) .
فأرى أنه من الضروري وضع برنامج شامل ومتكامل لرصد معالم هذا الجانب الحضاري للعرب ، ومن أبرز ما يتم تسليط الضوء عليه هي الأنفاق العجيبة التي تم رصدها في منجم مهد الذهب ومنجم الأمار ، ومن شبه المؤكد أنه سيعثر على الكثيرمثلها في الـ 1000 منجم القديمة في الجزيرة العربية ، فهي بحق من عجائب الدنيا ، إذ كيف تم حفرها بهذا المقاس الصغير 20*40 سم ، ثم كيف تم التعمق بها إلى عمق كبير يصل إلى 80م تحت سطح الأرض ، مما يثير الدهشة والكثير من التساؤلات ، فكيف كانوا يتنفسون في هذه الأنفاق الضيقة والعميقة ، وكيف كانوا يحفرون ، ثم كيف كانوا يخرجون ما يحفرونه من حجارة وتربه ،، إنها بالفعل إحدى المعجزات للإنسان العربي القديم التي لم تأخذ نصيبها في الإعلام والنشر .
ومن محاسن الصدف أن هيئة المساحة الجيولوجية قد أطلقت هذه الأيام برنامج ضخم بلغت ميزانيته ملياري ريال في المسح الجيولوجي لاكتشاف فرص التعدين في الدرع العربي :
أنقر هنا لمشاهدة تقرير عن هذا البرنامج في جريدة الشرق الأوسط
-39-
فأرى أن يتم توجيه القائمين على البرنامج بأن يدرجوا في مهام المسح : رصد مواقع هذه الأنفاق وأعدادها ومقاساتها ، وتزويد قسم الأثار والمتاحف وأقسام الأثار بالجامعات بمواقعها لدراستها أثرياً ، وتزويد هيئة السياحة بها للترويج لها ولتغطيتها إعلاميا وتهيئة بعض المواقع للسواح والزوار .
2- تكثيف عمليات التنقيب في منطقة عيون الأفلاج الأثرية ، والتي من المؤكد أنها تحتضن الكثير من آثار الأمم السابقة ، والتي ستكشف عن جزء كبير من تاريخ الجزيرة العربية كمدينة وبار التاريخية وغيرها ، بل قد نكون في سباق مع الزمن مع لصوص الأثار والكنوز فبين الفينة والأخرى يكتشف سكان المحافظة حفرة أوهدم لبعض الأثار للبحث عن الكنوز ، ولعل أخره ما نشرته صحيفة سبق بتاريخ 5-3-1442 . أنقر هنا لمشاهدة التقرير .
فلا بد من تكثيف عمليات التنقيب وسرعة إنجازها ، وهو ما دعا إليه الغيورين والمهتمين بالأثار، كما في برنامج الذاكرة التاريخية الذي يقدمه أ.د فهد العتيبي على قناة الإخبارية السعودية، فقد إستضاف أ.د سليمان الذييب وأكدوا وبشدة على أهمية تكثيف عمليات التنقيب والبحث عن الأثار حماية لها ولمواكبة رؤية 2030 في دعم السياحة لتنويع مصادر الدخل في الإقتصاد الوطني .
3- التأهيل السياحي للأثار:
فمحافظة الأفلاج من أغنى المحافظات في تنوع الأثار لمختلف العصور، ففيها أثار الأمم البائدة كالقصر العادي وقصيرات عاد ، وفيها الأثار التي تعود للعصور الإسلامية كجبل التوباد الذي إحتضن الحب الشهيرة لقيس بن الملوح وليلى العامريه ، وفيها بعض الآثار للمؤسس الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه كقصر النشمي بالسيح الذي تزوج فيه الملك عبدالعزير وأقام فيه فترة من الزمان ، وكذلك آثار قصر صبحا بالهدار الذي هاجر منه آل صباح وال خليفة حكام الكويت والبحرين ، وغيرها الكثير من الأثار والمعالم الجغرافية المميزة ، ولقرب الأفلاج من العاصمة فإنها مؤهله أن تلعب دورا سياحياً كبيرا لكثرة المقومات السياحية فيها .
4- إعادة المياه لعيون الأفلاج لتدب فيها الحياة من جديد ، وتعود القنوات المائية للجريان ، فتعود الخضرة للبساتين المجاورة لها ، وقد تم مناقشة بعض الأفكار في رابطة الأفلاج الخضراء كان من أهمها الأتي :
أ- تعديل مجرى وادي الثوير ليصب في العيون ، وذلك بطول خمسه كيلو فقط .

ب - يتم العمل حالياً حفر خزان ضخم جدا لدرء أخطار السيول تقدر تكلفته بـ 150 مليون ريال ويقع إلى الغرب من عيون الأفلاج بـ 25 كلم فلو تم تركيب مضخة وأنابيب كبيرة لدفع المياه إلى عيون الأفلاج ، لإنتهت المشكلة بكل تأكيد ، وسيتم التحكم بكمية المياه الخارجه من العيون إلى القنوات المائية بكل كفاءة ، وذلك من خلال التحكم بعمل هذه المضخة وما تدفعه من مياه إلى عيون الأفلاج .
هذا وصلى الله وسلم على محمد وعلى أله وصحبه وسلم
12-4-1442هـ
-40-
التعليقات
إضافة تعليق